كل مقالات شفيق اكّريكّر

كيفية إنجاز مطلب التحليل في صيغة القولة المذيلة بسؤال

كيفية إنجاز مطلب التحليل في صيغة القولة المذيلة بسؤال

أهلا بكم
هذا تدوين آخر لأجزاء من حصص أنجزتها مع تلامذتي أنشرها تعميما للفائدة..

كما هو معلوم، تُطرح عليكم يوم الامتحان ثلاث مواضيع تحتارون من بينها واحدا لتجيبوا عنه. سأركز اليوم على الموضوع الثاني وهو القولة المذيلة بسؤال، وسأركز بشكل خاص على مهارة أو مطلب التحليل
أولا، ماهي القولة؟ وبم تتميز عن النص أو السؤال:
للقولة خاصيتان:
1-الإيجاز الشديد: القولة هي عبارة فلسفية موجزة تتكون في الغالب من جملة إلى ثلاث جمل. وإيجازها يعني أن معانيها مكثفة أو شديدة التكثيف ! إنها تقول أشياءا كثيرة في كلمات قليلة !! بمعنى أن المفردة أو المفهوم الواحد يحيل على معان ودلالات وأفكار شتى (يتعين التفطن إليها وعرضها)
2- غياب الحجاج: القولة ثانيا هي عبارة عن اطروحة بدون حجاج. تتضمن موقفا فلسفيا من قضية أو إشكالية ما، لكن لم تتح لصاحبها المحاججة على أطروحته وموقفه نظرا لضيق الحيز (وعليه يتعين إعادة بناء الحجاج المفترض. كيف؟ سأخصص لذلك موضوعا مستقلا)

سأركز اليوم على الخاصية الأولى أي على خاصية الإيجاز الشديد
ماالمطلوب منك إزاء الإيجاز الشديد للقولة؟
المطلوب منك قبل أن تهرع وتسرع إلى المواقف المؤيدة والمعارضة أن تتوقف قليلا وبكل هدوء لكي “تتوسع في القولة” كما يقال، أي أن تشرحها وتكشف عن مختلف دلالالتها بحيث إذا كانت القولة تمتد على سطر أو سطرين فعليك بسطها في حوالي 10 أسطر. وهذا هو جوهر التحليل
والمعضلة هي: كيف أقوم ببسطها والتوسع يها!؟ :icon_scratch: كيف أستخرج من سطر واحد 10 أسطر !؟ :icon_eek:

لأجل ذلك، أقدم لك هذه التوجيهات المبسطة التالية لتستعين بها على إنجاز هذه المهمة
لكل مفهوم فلسفي ثلاث أنواع من الدلالات، نستحضرهاا كلها أو بعضها من أجل فهم معناه:
أ- ما يشير إليه المفهوم
ب- ما يستدعيه إما على سبيل الاقتضاء أو التلازم..
ج- ما يستبعده على سبيل التناقض
لا تفزع ! سأشرح لك ليس من خلال مثال واحد بل عدة أمثلة:

المثال الأول:
وردت في الامتحان التجريبي الذي بعثت به النيابة القولة التالية:
“لكي تبرر الدولة حقها في مطالبة الرعية بالطاعة، عليها أن تحقق لهم السعادة الدنيوية وتصون كرامتهم”
لنتوقف عند مفهوم الطاعة مثلا، ولاحظوا أننا سنستخرج منه العجب العجاب ! :icon_biggrin:
أ- ما يشير إليه المفهوم: تشير الطاعة إلى الامتثال والخضوع وتنفيذ أوامر
ب- ما يستدعيه إما على سبيل الاقتضاء أو التلازم: تستدعي الطاعة مفهوم السلطة، لاطاعة لمن لاسلطة له ! كما أن تعريف السلطة هو الصفة أو القدرة التي يملكها طرف من أجل إجبار طرف آخر على الخضوع والامتثال وتنفيذ أوامر..
تطوير محتمل أستثمره في التحليل أو المناقشة: لماذا أطيع وأمتثل؟ مامبرر الطاعة؟ أنواع المشروعية..إلخ
ج- ما يستبعده على سبيل التناقض: يستبعد مفهوم الطاعة مفاهيم العصيان، التمرد، الاحتجاج..
تطوير محتمل أستثمره في التحليل أو المناقشة: ماذا لو حدث عصيان أو احتجاج؟ ماهي أساليب الدولة لفرض الطاعة؟ هل تكتفي الدولة بمطالبة المواطنين بالطاعة أم تفرض عليهم الطاعة؟ بأية أساليب؟..إلخ

المثال الثاني:
أثناء الدرس، وبالضبط أثناء البناء الإشكالي في حور العدالة بين المساواة والانصاف، وقفنا عند قولة آلان: “مالحق؟ إنه المساواة ، ولقد ابتُكر الحق ضد اللامساواة”
لنتوقف عند مفهوم قد لا تعيرونه أي اهتمام عند تحليل الفولة ألا وهو مفهوم الابتكار (ابتُكر الحق…)
أ- ما يشير إليه المفهوم: الابتكار هو اختراع وإيجاد شيء لم يكن..
ب- ما يستدعيه إما على سبيل الاقتضاء أو التلازم: الحق الذي هو المساواة حسب آلان هو ابتكار بشري، إنتاج من إنتاجات الثقافة والعقل البشري، ظهر في فترة من الفترات ولم يكن موجودا منذ الأزل
ج- ما يستبعده على سبيل التناقض: ليست المساواة إذن معطى طبيعيا أو أوليا ! بالعكس ماهو طبيعي هو اللامساواة. الأصل هو اللامساواة بين الناس في القدرات الجسمانية (القوة، الجمال..) وفي القدراتا لعقلية… والدليل على ذلك تتمة الجملة: “ابتُكر الحق ضد اللامساواة”

المثال الثالث:
في بداية درس السعادة وفقنا على التعريف التالي:
“ألسعادة حالة إرضاء وإشباعتام للذات في كليتها، اشباعا يتسم بالديمومة..”
لنركز هنا على مفهوم “الكلية” و “ديمومة” مكتفين ب
ج- ما يستبعده على سبيل التناقض:مفهوم الكلية يستبعد الإشباعات الجزئية من قبيل لذة الظل في يوم حار أو لذة شراب أو طعام… أما مفهوم الديمومة فيستبعد أشكال الإشباع والإرضاء التي تتميز باللحظية مثل الفرح حتى وإن بلغت أحيانا درجة تفوق الوصف.. (أطير فرحا :icon_bounce: )

ملاحظة عامة: ما ذكرته سابقا تقنيات من أجل تحليل مفاهيم القولة. ولكن لابد من تنبيه مفاده أن التحليل يتم في الغالب بفضل توظيف المعرفة الفلسفية التي اكتسبناها أثناء الدرس أو دوناها في الدفتر أو قرأناها في ملخص او أي مصدر مكتوب آخر..
لايعني التحليل أن تنسى كل ما درسته في مادة الفلسفة وتتناطح مع القولة أعزلا ! ستنطحك القولة بدون شك وتلقيك أرضا !! :icon_biggrin: وستكتفي باجترار سطحي لمفردات القولة! المعرفة الفلسفة تجعل شرحنا لقولة فلسفية شرحا فلسفيا بدوره !

في المرة القادمة، سأتحدث عن البنية المنطقية للقولة.. التي ينبغي الانتباه إليها من أجل فهم سليم لأطروحة القولة

أتمنى لكم التوفيق :warda:

Facebooktwitterredditmailby feather

كيفية إنجاز مطلبي التحليل والمناقشة في صيغة السؤال المفتوح

كيفية إنجاز مطلبي التحليل والمناقشة في صيغة السؤال المفتوح

التلاميذ الأعزاء
كما هو معلوم، تطرح عليكم في الامتحان الوطني ثلاثة مواضيع تختارون من بينها موضوعا واحدا تجيبون عليه
سأركز اليوم على الموضوع الأول فقط أي السؤال الإشكالي المفتوح
وإذا كان الإنشاء يتكون من مقدمة وعرض وخاتمة، فسأتحدث اليوم بالتحديد عن العرض فقط
كنا تعرفون فالعرض هو المكان المخصص للتحليل والمناقشة
ولكن ماذا سنحلل وماذا سنناقش؟
بشيء من التبسيط سنحلل مفاهيم السؤال لكي نقف على الإشكال الذي ينطوي عليه السؤال ونستكشف مختلف دلالات والأبعاده التي يدعونا السؤال إلى التفكير فيها ثم نناقش مختلف إمكانيات الجواب/الحل التي يحتملها، وكل ذلك بشكل مندمج ومنسجم ثم نخرج في الأخير بحل للإشكال

مثال: هل هناك طريقة واحدة لبلوغ الحقيقة؟
لمعالجة هذا السؤال ينبغي الانتباه في العرض إلى قاعدتين منهجيتين:

القاعدة الأولى: استعراض مختلف الأجوبة الممكنة
أي أن أفحص مختلف الإمكانيات وأقلب الأمر على مختلف وجوهه

لكن قبل ذلك، سنقوم بتحليل مفاهيم السؤال: الطريقة يعني المنهج، الحقيقة تعني .. إلخ
وننتبه إلى أن السؤال يفترض أن بإمكاننا بلوغ الحقيقة، ويتساءل فقط عما إذا كانت الطريق إلى الحقيقة طريقا واحدا أم طرقا متعددة؟
لكن بما أن السؤال يبدأ ب "هل" وهي أداة استفهام ، ولانحتاج إلى أى تفلسف لكي نعرف أنها أداة استفهام تستدعي جوابا بالإثبات أو النفي
لكن انتبه: ليس مطلوبا منك أن تقول "نعم، هناك طريقة واحدة" أو أن تقول:" لا، هناك عدة طرق". حبذا لو كانت الأجوبة الفلسفية بهذه البساطة :icon_biggrin:
ثم إن السؤال المبتدئ بهل: يتضمن دائما نصف جملة محذوف
مثلا، لدينا سؤال: هل كنت حاضرا؟
السؤال في الواقع هو: هل كنت حاضرا أم غائبا؟
لكننا نستغني عن الشق الثاني لأنه في العادة معلوم عند السائل والمسؤول

ماذا يعني كل هذا؟ يعني أن عليك أن تتفحص كلا الاحتمالين، أي:

1- كيف تكون هناك طريقة واحدة لبلوغ الحقيقة؟ مثلا:
-مادامت الحقيقة واحدة فمن المفترض ان تون طريقة بلوغها واحدة
– إذا تعلق الأمر بالعلوم التجريبية، فطريقة بلوغها واحدة، المنهج التجريبي؛ إذا تعلق الأمر بالرياضيات والمنطق، فالطريقة هي الاستنباط
-هنا يمكننا الاستئناس بموقف ديكارت بشأن منهج اكتشاف الحقيقة: الحدس والاستنباط
– للحقيقة عن المتصوفة طريقة واحدة هي الحدس، الذوق والزهد..
باختصار إلى نظرنا إلى كل حقيقة أو كل مجال معرفي في حد ذاته، فهناك طريقة واحدة لبلوغ الحقيقة.
.. إلخ إلخ

2- كيف تكون طرق بلوغ الحقيقة متعددة ؟ مثلا:
– (بالنسبة لتلامذة الشعبة الأدبية) إذا تعلق الأمر بحقيقة الظواهر الإنسانية ، هناك على الأقل طريقتان: الفهم والتفسير
– إذا نظرنا إلى الحقيقة في تعدد أنواعها ومجالات انطباقها: تجريبية، رياضية منطقية، دينية.. فلاشك أن الطرق متعددة
– يمكننا أيضا الاستئناس بموقف كانط الذي ينكر إمكانية وجود معيار صوري وكوني للحقيقة. هناك على الأقل نوعان من الحقيقة: مادية وصورية..
.. إلخ إلخ

القاعدة الثانية: ترتيب الأجوبة الممكنة ترتيبا منطقيا
قلنا أن لدينا على الأقل جوابين محتملين على السؤال، لكن يبقى المشكل هو :
بأي إمكانية أو كما يقال بأي موقف سابدأ؟ الموقف القائل بتعدد الطرق ام القائل بوحدة الطريقة!؟ :icon_scratch:
في الواقع لست حرا في أن تبدأ بما تشاء ! :icon_biggrin:
هناك مبدأ ينبغي الالتزام به عند ترتيب الموقفين:
لو أن أباك سألك عن الظالم والمظلوم، أخوك أم أختك؟
بم ستجيب!؟
للو أنك -أيها العفريت- كنت منحازا أو متعاطفا مع أختك، من المحتمل أن تجيب أباك: أخي يقول كذا وكذا، لكن أختي تقول…
أما لو كنت -أيها العفريت- منحازا أو متعاطفا مع أخيك، من المحتمل أن تجيب أباك: أختي تقول كذا وكذا، لكن أخي يقول…
ماذا أقصد؟ أقصد أننا عادة نبدأ بالموقف الي لا نتفق معه لنعقب عليه وننتقده وربما نهدمه بالموقف الذي نعتقد أنه صائب
إذن الفيصل في ترتيب المواقف في الإنشاء الفلسفي هو النتيجة التي يريد أن تخلص إليها ايها التلميذ !!
لقد تعلمنا من نصوص الفلاسفة الذين درسنا نصوصهم أثناء البناء الإشكالي للدروس، أن الفيلسوف غالبا مايعمد أولا إلى عرض الأطروحة المنافسة، قبل ان ينتقل ثانيا إلى دحضها لكي يؤسس على أنقاضها أطروحته الخاصة. مثال نص ميرلوبونتي في درس الغير بالنسبة لمن يستعمل منكم كتاب منار الفلسة، وهو نص يبدأ هكذا: يقال أن الغير يحولني إلى موضوع وأنفيه.. إلخ

وعليه، انصح تلامذتي بما يلي:
إذا كنت أيها التلميذ لسبب او لآخر، إما لأنك تميل وجدانيا وشخصيا إلى الموقف الأول، أو لأن ما برصيدك من حجج واستدلالات على الموقف الأول أقوى مما بحوزتك فيما يخص الموقف الثاني، فعليك وجوبا أن تبدأ بعرض الموقف الثاني. لماذا؟ لأنه:
– لايعقل ان تقدم أولا الموقف الأقوى حجاجيا ثم تعترض عليه بموقف أضعف منه، بل العكس أولى!!
– يستحسن أن يكون موقفك الذي ستخلص إليه في التركيب هو نفسه آخر شيء أكدت عليه في العرض. ذلك أن الإنشاء الفلسفي في حالة السؤال المفتوح يتخذ غالبا بنية "نعم.. ولكن.." أو "لا.. ولكن..". وفي كل جملة على نمط: "نعم.. ولكن.." أو "لا.. ولكن.." يكون ما يأتي بعد الاستدراك (لكن..) أٌقوى مما قبله في السلم الحجاجي.
.
كما تلاحظون، لابد أن تحشروا وتقحموا أنفسكم في الموضوع وفي القضية التي يطرحها السؤال :icon_bounce: لا أن تظلوا مجرد متفرجين وكأن الأمر لايعنيكم
عليك أن تسأل نفسك قبل ترتيب الإمكانيات: ماذا أريد أنا شخصيا بالضبط؟ إلام أريد أن أخلص؟
ومن اجل إفهام تلامذتي وإقناعهم بهذه القاعدة المنهجية، أضرب لهم مثلا من رواية أليس Alice في بلاد العجائب، حيث تقف أليس Alice على مفترق طرق وتسأل أحد الحيوانات: رجاءا، إنني حائرة! أي طريق اختار ؟ :icon_scratch:
فيسألها: يتوقف ذلك على الوجهة التي تقصدين. إلى أين تريدين الذهاب؟
تجيب أليس: في الحقيقة، لا أعرف :icon_redface:
فيجيبها: في هذه الحالة، لايهم أي طريق تسلكين !! :icon_biggrin:
فيضحك التلاميذ !! لكنني أؤكد لهم أن الأمر ينطبق عليهم تماما. فبالمثل، إذا لم تكن أيها التلميذ تعرف إلام تريد أن تخلص، فلايهم بم تبدأ وإلى أين تنتهي !!!

أتمنى لكم التوفيق :warda:
ملاحظة: ما قدمته أعلاه مجرد تحرير وتوثيق وتدوين لمجريات جزء من حصة (حوالي 15 دقيقة) أنجزتها مع تلامذتي ذات يوم أثناء إنجاز الدرس… ربما بسبب سؤال طرحه أحد التلاميذ..

Facebooktwitterredditmailby feather

كيف أختار موضوعا من المواضيع الثلاثة يوم الامتحان الوطني؟

كيف أختار موضوعا من المواضيع الثلاثة يوم الامتحان الوطني؟

أعزائي التلاميذ
زملائي الكرام
أنجزت مع تلامذتي حصة خاصة عنوانها: كيف أختار موضوعا من المواضيع الثلاثة يوم الامتحان الوطني؟
لماذا؟
لأن النجاح في الامتحان يتوقف -كما هو معروف- على عاملين: الإعداد المعرفي والإعداد النفسي، أو بلغة الكفايات على نوعين من الكفايات: كفايات معرفية-منهجية وكفايات استراتيجية
لن نتحدث عن الإعداد المعرفي والكفايات المعرفية-المنهجية (مراجعة الدروس والملخصات، توسيع دائرة الاطلاع على كتب ومجلات، التمرن على إنجاز إنشاءات..)، بقدر ما سنقتصر على الإعداد النفسي والكفايات الاستراتيجية

لئلا تكون حرية الاختيار حرية عمياء:
يحظى تلميذ الباكالوريا في الفلسفة بفرصة ربما لايحظى بمثلها في مواد أخرى، وهي اختيار موضوع واحد من بين ثلاثة مواضيع تعرض عليه في الامتحان الوطني: سؤال إشكالي، قولة مذيلة بسرال ونص للتحليل والمناقشة.
لكن كيف يمكن لتلميذ أن يحسن الاختيار!؟
ألاحظ أحيانا أن بعض تلامذتي يخرجون من قاعة الامتحان، فأسأله عما صنع، ويلخص لي ما كتب، فأجد جوابه متواضعا وأنه اختار موضوعا ما كان ينبغي له اختياره؟ :icon_confused: وأناقشه في الموضوع الآخر لأكتشف -دون إخباره حتى لا أحبطه- بأنه كان قادرا على الكتابة فيه بشكل جيد أفضل من ذاك الذي اختاره!!
هناك إذن اختيارات سيئة ! وأخطاء بسيطة ما كان لها أن تؤثر على سنة كاملة من الإعداد المعرفي.
رأينا في درس الحرية نوعا من الحرية يمكن تسميته الحرية العمياء: وهي حرية الاختيار دون علم! اختيار نلقيه على عاتق الصدفة والحظ ، مثل من يطلب منه أن يقول هل العملة النقدية ستسقط على الوجه أم الظهر pile ou face !!؟ إنه حر في أن يختار “وجه” أو “ظهر” ولكن هناك حقا سبب وجيه لاختيار هذا أو ذاك !!؟

لكي لاتكون حرية الاختيار يوم الامتحان حرية عمياء، ينبغي الالتزام ببعض القواعد:

القاعدة الأولى: لا تكبل نفسك.
لا أدخل قاعة الامتحان وقد قررت مسبقا وقبليا أن أكتب في القولة أو النص أو السؤال، لأن هذه أسهل من تلك كما يشاع.. بهذا القرار،إنما تُضيق الخناق على نفسك :icon_pale: وتحرمها من حرية الاختيار؛

القاعدة الثانية: لا لرد الفعل القطيعي:
صحيح ان لدى الإنسان شيئا من “غريزة القطيع” بحيث يستشعر الأمان كلما وجد نفسه مع الجماعة: يمضي حيث يمضي الآخرون ويختار ما يختاره الآخرون. إذ حتى لو كان القرار خاطئا وأصاب اجماعة البلاء، فإن البلاء إذا عم هان! لكن هذا الانحياز إلى الجماعة لا يكون موقفا حكيما دائما! ولا يعقل أن اختار موضوعا من المواضيع الثلاثة وليكن النص أو السؤال أو القولة فقط لأن كل رفاقي في قاعة الامتحان قد اختاروا الكتابة فيه !!.
بالعكس، الامتحان شأن فردي، فيه يتقرر مصير الفرد وليس مصير الجماعة، لذا ينبغي أن اختار الموضوع الذي أراه الأسهل بالنسبة لي والملائم لكفاءاتي وقدراتي ومراجعاتي، لا ما يعتقده رفاقي سهلا وملائما

القاعدة الثالثة: قراءة المواضيع االثلاثة:
بالنسبة للمسالك الأدبية مثلا، يمنح المترشحون ثلاث ساعة، فلا بأس من تخصيص ربع ساعة الأولى لاستكشاف المواضع الثلاثة. 5 دقائق لكل موضوع
أقرأ السؤال الإشكالي، أتمعن في مفاهيميه، وأفكر في إمكانيات الجواب وما إذا كنت أملك معطيات معرفية تسمح لي بتقديم هذه الإمكانيات (مواقف فلسفية، استشهادات، امثلة..) وأدون كل ذلك على شكل إشارات مقتضبة في المسودة
أقرأ القولة ، أتمعن في مفاهيمها، والتقابلات التي تستدعيها وأحدد أطروحتها، وأسأل نفسي: هل أملك معطيات معرفية (مواقف فلسفية، استشهادات، امثلة..) تسمح لي بشرح القولة وتبرير موقفها ثم مناقشته وفحصه وأدون كل ذلك على شكل إشارات مقتضبة في المسودة
أقرأ النص وهذه هي المهمة الأصعب، أحدد المفاهيم الأساسية، وأضع افتراضا أوليا حول أطروحته، وأحسب جيدا عدد جمل النص التي أستطيع فعلا فهمها وتلك الذي لم أفهم منها شيئا. وأسأل نفسي: هل أملك معطيات معرفية (مواقف فلسفية، استشهادات، امثلة..) تسمح لي بشرح جمل النص وأفكاره وأدون كل ذلك على شكل إشارات مقتضبة في المسودة

القاعدة الرابعة: لكل صيغة ما لها وما عليها
اعلم أنه لا توجد صيغة سهلة! ليس صحيحا أن النص أسهل من القولة أو أن السؤال أسهل من النص..كلا. فلكل واحدة من الصيغ الثلاثة جوانب سهولة وصعوبة. بمعنى أن كل صيغة تمنحني شيئا وتطالبني بأشياء

ما يقدمه السؤال المفتوح: الإشكالية واضحة تقريبا وهي نفسها التي يعبر عنها السؤال
ما لا يقدمه السؤال المفتوح: لا وجود لمعارف في السؤال، عليّ بناء الأجوبة الممكنة على السؤال

ما تقدمه القولة: الأطروحة واضحة تقريبا، والمفاهيم محدودة العدد
ما لاتقدمه القولة: لا تتضمن حجاجا ولاتقدم لي معطيات معرفية لتبريرها أو مناقشتها ونقدها،

ما يقدمه النص: معطيات معرفية غنية يمثل الاشتغال عليها وشرحها نصف العرض تقريبا
ما لايقدمه النص: لايتضمن النص إعلانا صريحا عن الأطروحة، بل ينبغي استنباطها من خلال تحديد شبكة المفاهيم الأساسية في النص.

القاعدة الخامسة: الاختيار عن علم
اعود إلى الإشارات والتخطيطات السريعة التي كتبتها أثناء تمعني في المواضيع الثلاث، لأحددها لموضوع الذي أحس أنني قد فهمته جيدا ولدي معطيات معرفية كافية لمعالجته (مواقف فلسفية، استشهادات، امثلة..)
مع العلم أن تفاصيل وأفكارا أخرى لن تحضر إلى الذهن إلا بعد الشروع في الكتابة في المسودة

نصائح أخيرة: موضوع سهل وموضوع ضعب . كيف !!؟
نعلم جيدا -كمدرسين- أن أول سؤال يطرحه التلميذ على نفسه عند قراءته لنص الموضوع يوم الامتحان هو: في أي درس وربما في أي محور يتحدث الموضوع؟ :quoi:
لذلك نستطيع أيضا كمدرسين أن نقول
بالنسبة للنص
الموضوع الأسهل هو:
– عندما يعالج النص بشكل مباشر إشكالية سبق تناولها في الملخص، ويتضمن تقريبا فكرة واحدة يقوم يتكرارها طوال النص. (نقول عنه إنه نص يتضمن وحدة إشكالية)
وأصعب نص هو الذي يتضمن مفاهيما كثيرة متنوعة يعجز معها الذهن عن التقاط الخيط الناظم أو الفكرة العامة (مثال: أنظر النص الثاني في المسابقة الوطنية للإنشاء 2010،) أو يتضمن جملا وتعابير كثيرة نعجز عن فهمها وشرحها بأسلوبنا شخصي وضرب أمثلة لتوضيحها

بالنسبة للسؤال:
– عندما يعالج السؤال بشكل مباشر إشكالية سبق تناولها في الملخص (مثال: هل القيام بالواجب نفي للحرية؟) محور الواجب والإكراه، أليس كذلك !؟ :icon_biggrin:
وان أصعب سؤال هو الذي يتطلب من التلميذ:
– تفكيرا شخصيا (مثال سؤال: هل تنحصر هوية الشخص وقيمته في الجسد؟)
– التركيب بين معطيات متفرقة في عدة دروس ومجزوءات (مثال: هل يقود تطور العلوم إلى إنكار قيام حقيقة نهائية؟)

بالنسبة للقولة:
أصعب قولة هي تلك التي لا نعرف بالضبط الإشكال أو التقابل الذي يحيل عليه (مثال: “إننا لانرى العالم بأعيننا بل ننظر إليه بمفاهيمنا”)
أسهل قولة هي تلك تعالج بشكل مباشر إشكالية سبق تناوله في الملخص (مثال: لايصنع التاريخ بمعزل عن إرادة الإنسان، ومع ذلك فإنه يصنع في جزء كبير منه خارج هذه الإرادة وضدها.”) دور الإنسان في التاريخ ألس كذلك !؟ :icon_biggrin:

مع متمنياتي لأعزائي التلاميذ بالتوفيق :warda:

Facebooktwitterredditmailby feather

تقريب منهجية الإنشاء الفلسفي للجذع والسنة1، مع تطبيقات

منهجية الإنشاء الفلسفي للجذع والسنة1، مع نموذج تطبيقي

أولا، فقرة موجهة لزملائي الأساتذة، أما التلاميذ، فيمكنهم الانتقال مباشرة إلى قراءة الفقرة الموالية
أقتسم معكم اليوم هذه الاجتهاد ويتعلق بكيفية تدريس تلامذة الجذع والسنة الأولى منهجية الإنشاء الفلسفي.. :icon_bounce:
لماذا؟ لأنني اعتقد أنه إضافة إلى الكتابة الجزئية التي يفترض ان يتمرس بها تلامذة هاتين السنتين، لابد لهم من اكتشاف الإنشاء ككتابة تركيبية، ولكن بطريقة مختلفة طبعا عن الطريقة التي سيكتشفونها بها في السنة الختامية (قبل أن تجتاح عقولهم مقولات المواقف المؤيدة والمواقف المعارضة!)
ثم إن الكتابة الجزئية شيء والكتابة الكلية شيء آخر ! فإنجازات التلاميذ وتعثراتهم تُظهر جيدا أننا باقتحامنا لعالم الإنشاء الفلسفي ككتابة كلية تركيبية، نقفز فقزة كيفية وليس فقط قفزة كمية، وهذا ما يفسر حيرة تلامذة السنة الختامية الذين يظهرون كمن أخذ على حين غرة :icon_eek: ، وكأن تمارين السنيتن السابقتين لم ينجحا في تهدئة روعهم وتوجيه بوصلتهم.. وأن الإنشاء الفلسفي “فن سري خاص” شبيه إلى حد كبير بفنون الخيميائيين !
تكمن فكرتي باختصار في أنه ينبغي لمنهجية الإنشاء أن تعرض أولا بصيغة تبسيطية على أساس أن يتم تدقيق هذه الصيغة مع تقدم التلاميذ في دراسة الفلسفة.
وكما ستلاحظون، فقد ارتأيت أن أبدا حقا من البداية، متسائلا مع تلامذتي عن “ماالإنشاء الفلسفي أولا؟” وقد كان هذا التساؤل خير مثال لما نطالبهم به في منهجية الإنشاء: أي الاشتغال على دلالات المفاهيم !!!!
ملاحظة تقنية أخيرة للزملاء الكرام: تمت أولا دراسة مضمون الجزء الأول الذي أعرضهم عليكم اليوم مع التلاميذ بطريقة تفاعلية، قبل طباعته وتوزيعه عليهم بعد انتهاء الحصة؛ أما الجزء الثاني الذي سأنشره في مشاركة مقبلة، فقد طبع ووزع عليهم ليشتغلوا عليه في منازلهم تمهيدا لدراسته في القسم

أولا-تعريف الإنشاء الفلسفي:
ربما كنت واحدا من الذين تستهويهم الفلسفة أو ينخرطون في النقاشات الشفوية داخل القسم، ولكن عليك أن تعلم أن تقييم واختبار قدراتك الفلسفية –وخصوصا في الامتحان الوطني- يتم من خلال عمل مكتوب تنجزه على شكل كتابة مقالية نسميها الإنشاء الفلسفي، فما الإنشاء الفلسفي؟
إنه أولا “إنشاء” وثانيا “فلسفي”
أ-معنى كونه إنشاءا: الإنشاء في اللغة يعني البناء، لذلك نسمي المباني بالمنشآت. والبناء كما تعلم يحتاج إلى مواد أولية، وتصميم ومراحل للإنجاز.
فالمواد الأولية هنا هي ثقافتك العامة والمعارف الفلسفية والمهارات المنهجية والأساليب اللغوية التي تتوفر عليها
والتصميم هو تلك البنية الثلاثية التي نسميها المقدمة- عرض-خاتمة، وهو أيضا الخطة التي ستعالج من خلالها الموضوع المطروح عليك لكي تخرج في النهاية بنتيجة ما.
ما ينبغي أن ننتبه إليه هو إن الذي يستنسخ ما هو موجود أصلا في الدرس أو الملخص ولا يبذل أي مجهود في بناء الموضوع وانتقاء المعلومات وترتيب الفقرات مثله مثل ذلك الذي يراكم الرمل بجانب الحصى والإسمنت بجانب الآجر والماء ..دون خلط وتصميم معتقدا أنه قد أنجز إنشاءا أي بناءا !! كذلك لا يمكن أن نضع المواد كيفما اتفق بل لابد من تصميم وخطة.

والإنشاء في اللغة يعني أيضا الخلق والابتكار مصداقا لقوله تعالى: “هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم”
بمعنى أن لا إنشاء دون شيء من الإبداع.ولايمكن أن “ننقل” أو ننسخ الإنشاء من مكان ما. لو سئلت اسئلة مباشرة، مثل: ما هو تعريف الأنا الأعلى؟ لكان الجواب طبعا جاهزا موجودا في مكان ما! بيد أن الإنشاء دائما ابتكار لشيء غير موجود ! صحيح ان مواده موجودة سلفا، لكن إنشاءنا ينسق بين هذه المواد ويقدمها بصورة مبدعة !
ب-معنى كونه فلسفيا: لكنك تعلم من جهة أخرى أنك مطالب في المواد الدراسية الأخرى بإنجاز إنشاءات. فما الذي يميز إنشاءنا عن غيره؟ يتميز بكونه فلسفيا. وفلسفي لا تعني أنك مطالب بأن تكتب مثل أرسطو أو ابن رشد، بقدر ما تعني أن عليك أن تبرهن عن بعض القدرات الفلسفية مثل
-الحرص على تسلسل الأفكار واحترام الروابط المنطقية وعدم الوقوع في التناقض؛
-عدم التوقف عند ظاهر الموضوع أو القضية، والسعي إلى الكشف عن خلفيات الأمور وبواطنها؛
-الاستخدام الدقيق للكلمات ومحاولة تعريفها لتغدو مفاهيم لا مجرد مفردات نحسب معناها واضحا في حين أنه ضبابي وغير واضح في أذهاننا. ولعلك ترى كيف وقفنا عند كلمة “إنشاء” نفسها وتعمقنا ففي فهم دلالاتها !
-النقد والتساؤل والشك ومساءلة الحقائق عوض الاكتفاء بقبول الأفكار، ومحاولة والدخول في جدل وحوار حتى مع الفلاسفة أنفسهم؛
-دعم أفكاري بحجج واستدلالات لتحظى بموافقة عقل القارئ واقتناعه
– لإقحام ذاتي في الإنشاء عوض الاختباء وراء أقوال الفلاسفة وفقرات الملخص. لأن التفلسف يقتضي العودة إلى الذات. أضف إلى ذلك أن القضايا الفلسفية تهمني وتخاطبني في المقام الأول مثل الرغبة، الوعي، الحق، العنف، المجمتع..

ثانيا-صيغ الإنشاء وأنواعه
اعلم أنك مطالب في فروض المراقبة المستمرة وفي الامتحان الوطني بكتابة إنشاءات فلسفية تختلف في ما بينها من حيث موضوع الانطلاق. فهناك:
-صيغة النص للتحليل والمناقشة:إنشاء فلسفي نكتبه انطلاقا من نص يقترح علينا (حوالي عشرة أسطر) مذيلا بسؤال: حلل وناقش
-صيغة القولة المذيلة بسؤال: إنشاء فلسفي نكتبه انطلاقا من قولة (من سطر إل ثلاث أسطر) تقترح علينا مذيلة بسؤال مثل: حلل هذه القولة وبين قيمتها..
-صيغة السؤال الإشكالي المفتوح: إنشاء فلسفي نكتبه جوابا على سؤال مباشر يطرح علينا. مثلا: هل يمكن تبرير العنف؟

رغم اختلاف هذه الصيغ الثلاثة، فإن بينهما قواسم مشتركة يجدر بك أن تعرفها منذ البداية
القاسم المشترك الأول هو المقدمة. كيفما كان الموضوع الذي ننطلق منه، فلابد لإنشائنا من مقدمة تتضمن:
-تمهيدا، وظيفته إشعار القارئ بوجود مشكلة أو غموض أو مفارقة أو تناقض تستدعي طرح الإشكال
-طرح الإشكال من خلال سؤال أو مجموعة من الأسئلة المترابطة

القاسم المشترك الثاني هو الخاتمة أو التركيب. كيفما كان الموضوع الذي ننطلق منه، فلابد لإنشائنا من خاتمة نلخص فيها بإيجاز نتائج التفكير الذي قمنا به في العرض وكذا الخلاصة التي خرجنا بها بعد أن فكرنا في الموضوع وقلبناه من مختلف الأوجه.

إذا كانت الصيغ الثلاثة تخضع لنفس المقتضيات والمطالب فيما يتعلق بالمقدمة والخاتمة، فإنها تختلف فيما بينها عندما يتعلق الأمر بالعرض، وسنخصص حديثنا الآن لصيغة النص للتحليل والمناقشة، مركزين على العرض فحسب.

ثالثا-صيغة الإنشاء المكتوب انطلاقا من نص للتحليل والمناقشة.
يتكون العرض في هذه الحالة من تحليل ومناقشة.
التحليل: الهدف من التحليل هو فهم النص وتفسيره، و للتحليل عدة أشكال ويمكن أن ننظم تحليلنا بطرق مختلفة، المهم أن نبرهن أثناء التحليل على حسن فهمنا للنص وفي مايلي تنظيم مقترح للعرض:
-تحديد الأطروحة؛
-تتبع لحظات تشكل هذه الأطروحة داخل النص؛
-الإشارة في نفس الوقت إلى الأساليب الحجاجية لأن تشكل الأطروحة يتم طبعا ضمن كتابة حجاجية؛
-الوقوف كلما دعت الضرورة عند أهم مفاهيم النص والتوسع في دلالالتها. دلالتها السيفقية أو دلالتها العام بحسب ما يقتضيه المقام.
المناقشة: للمناقشة هدفان:
– تطوير أفكار النص و
– الحكم على قيمته أطروحته ودعواه.
ونقوم فيها بالعمليات التالية كلها أو بعضها:
أ-الحكم على قيمة أطروحة النص وأفكاره من حيث أهميتها ويسمى هذا التثمين. وفيها نسعى أيضا إلى تطوير أفكار النص وإظهار المعاني والنتائج والفوائد النظرية أو العملية المترتبة عن الأخذ بما جاء به صاحب النص..
ب-الحكم على قيمة أطروحة النص وأفكاره من حيث حدودها و ويسمى هذا بالنقد. كتناقضها مع الواقع أو إغفالها لجوانب عالجتها مواقف فلسفية أخرى…

رابعا-نموذج تطبيقي.
لمساعدتك على فهم واستيعاب التوجيهات السابقة، سنشتغل الآن على نموذج تطبيقي. وستلاحظ ان ما سنقوم به وما يسمى تحليلا ومناقشة للنص لايختلف كثيرا عما نقوم به في الفصل الدراسي عند اشتغالنا على النصوص
تأمل النص التالي:
“كل البشر، بمن فيهم البلهاء، قادرون على التأليف بين مفردات مختلفة، ليركبوا منها كلاما يجعلون به أفكارهم مفهومة. و على العكس من ذلك، فما من حيوان آخر مهما كان كاملا و مهما نشأ نشأة سعيدة، يستطيع أن يفعل ذلك. و هذا لا ينشأ عن نقص في الأعضاء، لأن المرء يرى و الببغاء تستطيع أن تنطق ببعض الكلمات مثلنا، ولكنها مع ذلك لا تستطيع أن تنطق مثلنا، أي (أن تنطق) نطقا يشهد بأنها تعي ما تقول، في حين أن الذين ولدوا صما و بكما، فحرموا الأعضاء التي يستخدمها غيرهم للكلام مثل حرمان الحيوان أو أشد، اعتادوا أن يستنبطوا من تلقاء أنفسهم بعض إشارات يتفاهمون بها مع من يجدون فرصة لتعلم لغتهم. و هذا لا يشهد أن للحيوان من العقل أقل مما للإنسان، بل يشهد بأنه ليس للحيوان عقل مطلقا. فإننا نشهد أن معرفة الكلام لا تحتاج إلا إلى قدر قليل جدا من العقل…. و لا ينبغي أن يخلط بين الكلام و بين الحركات الطبيعية التي تعبر عن الانفعالات، و يمكن أن تجيد تقليدها الآلات كما تقلدها الحيوانات”. حلل وناقش

قبل أن نحرر موضوعنا في صيغته النهائية على شكل مقدم-عرض خاتمة، لابد من إنجاز بعض العمليات التمهيدية في مرحلة المسودة. وقبل المسودة، لابد من قراءة متأنية ومتكررة للنص من أجل فهم وتمثل أفكاره واسنتتاج أطروحته واستدعاء مكتسباتنا المعرفية التي لها علاقة بموضوع النص او إشكاليته..
وهذا مثال:
1-العمل التحضيري في المسودة:

يتبع ..

ودمتم محبين للحكمة :warda:

Facebooktwitterredditmailby feather

التاريخ – مجزوءة الوضع البشري

ا

I-المحور الأول: إشكالية المعرفة التاريخية

بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال) يواجه علم التاريخ ومعه المعرفة التاريخية وضعية فريدة بين العلوم الإنسانية: فهو علم دراسة الماضي، مما يعني أن المؤرخ يدرس واقعا ولى وانقضى كما يقول ريمون آرون، واقعا تفصله عنه مسافة زمنية وثقافية، واقعا لم يعد له وجود! فما يوجد اليوم وجودا ماديا فيزيائيا ينحصر في الآثار والوثائق. يتعين على المؤرخ إذن أن ينطق ويستنطق وينتقي هذه “المخلفات” ليعيد بناء الوقائع التاريخية مما يجعل من المعرفة التاريخية معرفة مبناة بامتياز

طرح الإشكال: ضمن أية شروط تكون المعرفة التاريخية المبناة مطابقة لموضوعها أي للحدث كما وقع فعلا؟ ما هي شروط إمكان المعرفة التاريخية كمعرفة علمية؟ هل يمكن للمؤرخ أن يستفيد من المسافة الزمنية التي تفصله عن الواقعة التاريخية وعن الفاعلين التاريخيين ليتناول مادة علمه بموضوعية بعيدا عن الذاتية أم أن دراسة الماضي لاتتم إلا بدافع من انشغالات الحاضر وضمن ايديولوجياته؟ كيف للمعرفة التاريخية أن تستعيد ليس فقط الواقعة التاريخية في بعدها الحدثي المادي بل وأيضا “أحداث الوعي”أي نيات الفاعلين ومقاصدهم ومحتويات وعيهم؟

معالجة الإشكال:

1- المعرفة التاريخية ورهان الدقة والموضوعية: المنهج النقدي

مثلما حذر بورديو من السوسيولوجيا العفوية أي تلك المعرفة الاجتماعية التلقائية التي يملكها الفاعل الاجتماعي حول الظواهر الاجتماعية من حوله، يتعين على المؤرخ أيضا أن يحذر من المعرفة التاريخية العفوية التي يدعوها ابن خلدون بظاهر علم التاريخ وهي تلك المعرفة التي يملكها كل واحد عن الماضي في شكل روايات وأخبار تتداولها وتتناقلها الأجيال. لايكون التاريخ علما إلا بوصفه نقدا وتفسيرا. فالنقد يتجلى في تمحيص وتحقيق هذه الروايات وسبرها بمعيار الحكمة و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار وفحصها على ضوء أصول العادة و قواعد السياسة و طبيعة العمران و الأحوال في الاجتماع الإنساني و الوقوف على طبائع الكائنات وقياس الغائب على الشاهد.
ولكن تحقيق الخبر التاريخي يحتاج أيضا إلى تفسيره للكشف عن علة ومنطق الأحداث التاريخية المتضمنة فيه والمبدأ المتحكم في حدوثها وتعاقبها…

2- حدود المنهج النقدي في التاريخ:

ماهي حدود المنهج النقدي في التاريخ؟ ألا يواجه علم التاريخ نفس الصعوبات الميتودلوجية ونفس الإشكالات الإبستملوجية التي تواجهها باقي العلوم الإنسانية؟
ربما يوحي النقد بأن المؤرخ منكب على موضوعه بتجرد وقد وضعه على طاولة البحث تحت مجهر النقد، ولكن الموضوع ظاهرة إنسانية. والمعركة كما يقول آرون ليست فقط حدثا ماديا فحسب ذلك أن لتصرفات المحاربين دلالاتها ولتصرفات الضباط مقاصد وغايات ونيات…، وباختصار فالمؤرخ يدرس أحداث الوعي أيضا. الا تستدعي المعرفة التاريخية بهذا المعنى نوعا من التعاطف والتفهم من قبل المؤرخ للنفاذ إلى دلالات الواقعة بالنسبة للفاعل التاريخي؟ ولكن ألا تتعارض هذه الذاتية مع مطلب الدراسة العلمية الموضوعية كما يلح عليها الوضعانيون؟ وماهي حدود الدقة التفسيرية التي التي يطمح إليها المؤرخ؟ يرى مارو أن بناء الواقعة التاريخية ثمرة تلاقح بين المنهج النقدي والتعاطف، بحيث يصحح أحد الطرفين إفراط الآخر. والتعاطف أو المشاركة الوجدانية عند مارو خروج المؤرخ من ذاته لملاقاة الغير (التاريخي)، بحيث تقوم بينه وبين موضوعه ضرب من الصداقة لايصح الفهم والتفسير بدونها. إن التعاطف هو مرحلة البناء التي تعقب الهدم الذي يمثله المنهج النقدي

I-المحور الثاني: التاريخ وفكرة التقدم

بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال) أوضح ابن خلدون بأن ظاهر علم التاريخ لا يختلف عن باطنه في التحقيق والتمحيص فحسب بل يزيد عليه بالتعليل والتفسير أي الكشف عن علل الأحداث ومبادئها. وبذلك يكون التصور الخلدوني جامعا لعلم التاريخ وفلسفة التاريخ معا، لأن هذه الأخيرة تتجاوز تحقيق الوقائع إلى البحث في علة حدوثها ومبدأ تعاقبها بل في منطق ومعنى السيرورة التاريخية ككل.

طرح الإشكال: هل هناك منطق ثاو خلف تعاقب الأحداث التاريخية أم أن التاريخ هو مملكة الصدفة والعرضي؟ هل هناك معنى لهذه السيرورة وهل التاريخ قابل للتعقل؟ وإذا كانت ثمة منطق للسيرورة التاريخية فهل يمكن أن نستخلص منها غاية التاريخ ونتنبأ بوجهته التي يمضي نحوها ؟ وإذا وجدت غاية للتاريخ أفلا يعني أن صيرورة التاريخ يمضي نحو نهاية التاريخ؟

معالجة الإشكال:

1- التاريخ الدوري والغياب التام لفكرة التقدم

السيرورة التاريخية في المستوى الخام وقبل كل تفسير هي تعاقب لأحداث. وأبسط أنواع الظواهر المتعاقبة التي يسهل الكشف عن منطقها هي الظواهر الطبيعية الكبرى ( تعاقب الليل والنهار، الفصول، أطوار حياة الكائن…) ولقد اتضح للإنسان مبكرا أن منطقها منطق دوري إذ أن الظواهر تتالى وتتعاقب وتنمو وتندثر لتعود مجددا إلى طورها الأول . لقد استعير هذا المنطق لفهم السيرورة التاريخية فيما يعرف بالعود الأبدي الذي نجده في الكثير من الميثلوجيات وبعض الفلسفات كفلسفة نيتشه.
تمثل فلسفة التاريخ الخلدونية ونظريته في العصبية نموذجا للتصور الدوري للتاريخ الذي تغيب عنه فكرة التقدم والتراكم. لقد استطاع ابن خلدون أن يلتقط المبدأ المفسر للسيرورة التاريخية أو للعمران البشري متمثلا في أهم مظاهره وهي الظاهرة السياسية أو الدولة. إن العصبية هي العامل المفسر لقيام الدول وانهيارها. والعصبية كما الدولة يبدآن بالفتوة ثم القوة فالهرم والشيخوخة والإندثار: تبدأ الدولة الجديدة كدعوة تتخد من العصبية مصدرا لقوتها داخل قبيلة واحدة تتقوى لتضم تحت سيطرتها قبائل أخرى وبمقدار ماتتسع سطوتها تتحول إلى طور الدولة وما يصاحب ذلك من استقرار وتشييد وتنظيم إداري ومالي وعسكري… ولكن بقدر ما تتوسع مظاهر العمران، تضعف وظيفة العصبية والحاجة إليها لممارسة السلطان. وكأن تطور الدولة يحمل في ذاته بذور تلاشيه: ذلك إن اتساع الرقعة الجغرافية للدولة وعدد جيوشها ودواوينها وتنوع أصناف البذخ يرهق ميزانيتها فيدفعها إلى فرض المزيد من المكوس والضرائب وممارسة صنوف الجور والإفراط… فتدب الإنشقاقات والثورات والوهن في جسمها، مما يوفر الشروط لنشوء دعوة جديدة لاتزال العصبية فيها فتية قوية، تنقض على الدولة الواهنة… وهكذا دواليك ليبدأ دور أو طور جديد

2 -التاريخ وفكرة التقدم

ألا يمكن أن نجد للصيرورة التاريخية منطقا آخرا غير التكرار الدوري الارتدادي الذي يعيد إنتاج نفسه ولا يضيف شيئا؟ ألا تتضمن السيرورة التاريخية نوعا من التراكم بحيث يحتفظ الدور اللاحق بشيء من الدور السابق ويضيف له ويتجاوزه؟ وإذا صح شيء من ذلك فإلى أية وجهة يمضي هذا التراكم والتجاوز؟
يرى “تيودور شانين” أن جاذبية فكرة التقدم تعود إلى بساطتها وتفاؤليتها، فهي تعني أن كل مجتمع يسير نحو الأعلى على طريق طويل بيتعد فيه تدريجيا عن الفقر والبربرية والاستبداد والجهل ليمضي نحو الثراء والحضارة والديموقراطية والعقل.
يظهر التصور التراكمي للتاريخ في كتابات باسكال (1662-1623) وبالخصوص في مقدمته لكتاب “عن الفراغ” حيث تصور تاريخ البشرية كرجل واحد، عمره كل هذه القرون، لايتوقف خلالها عن التعلم المستمر ؛ كوندورسيه (1743-1794) في كتابه ذي العنوان الدال: ” جدول تاريخي لتقدم الجنس البشري”
تعكس لنا فلسفة التاريخ مع هيغل هذا التفاؤل الذي ميز بالخصوص عصر الأنوار في امكانية تقدم مطرد للجنس البشري نحو مزيد من المعرفة والحرية والسيطرة على الطبيعة، وقد استدمج التصور الهيجيلي مفهوم السلب والنفي ضمن صيرورة جدلية يتجاوز فيها اللاحق السابق و في نفس الوقت يحتفظ في مركب أعلى بما هو جوهري فيه. ولكن هذا “الرقي” يفترض غائية للتاريخ، ومادام التاريخ ليس سوى تجليات لفكرة أو روح تسعى لوعي نفسها وللتطابق مع ذاتها بدءا من أبسط مظاهر الطبيعة وصولا إلى أعقد مظاهر التاريخ وأرقى أشكال المعرفة، فإن التاريخ الكوني هو سيرورة التقدم الذي يحرزه وعي الحرية، ولامناص من الاعتراف بالطابع الضرروري لهذا التقدم والتي هي ضرورة منطقية في العقل قبل أن تكون ضرورة واقعية في التاريخ. بهذا المعنى فحتى مشاهد الدمار وظواهر الحرب ولحظات الكبوات ليست سوى انتكاسات سطحية تخفي التقدم العميق والصامت الذي تخوضه الفكرة وهي تتقدم نحو غايتها المتمثلة في الحرية. ونجد نفس هذه النظرة التفاؤلية وتأويلها “الإيجابية للكوارث” لدى لايبنز أيضا

3- نقد فكرة التقدم – ريمون آرون

قلنا إن فكرة التقدم بنت عصر الأنوار، ولذلك فقد ورثت هذه الفكرة النزعة الإنسية الكونية لذلك العصر ، مما يعني أن كل المجتمعات البشرية تتقدم بوتائر متفاوتة، ولكن على نفس المسار الخطي التراكمي، وهو مايؤدي حسب ليفي ستروس إلى إذابة الاختلافات بين المجتمعات والثقافات والحكم عليها بمنطق التقدم الغربي العلمي،التقني، الصناعي والقيمي.
أما بالنسبة لريمون آرون،فإن فكرة التقدم تتضمن حكما معياريا قيميا ينتقص من علميتها، مفاده أن المجتمع اللاحق أفضل من السابق، علاوة على أنه حكم ذو صلاحية قطاعية لايمكن أن تنسحب على التاريخ برمته: فإذا كنا نعاين في مجالي العلم والتقنية تراكما وتقدما لاسبيل إلى انكارهما لأن طبيعتهما تفرض تقدما يمكن قياسه دون تقييم، فإن إثبات التقدم في مجالات الفن والدين والاقتصاد والسياسة يظل قضية إشكالية.
ويمضي ريمون آرون في نقده لفكرة التقدم إلى إبراز خلفيتها الميثولوجية وكذا استعمالاتها السيئة داخل فلسفة التاريخ، الهيغيلية منها أو الماركسية،وكذا الأطروحات اللاحقة لفوكوياما حول نهاية التاريخ. ذلك أن فكرة التقدم لاتنفصل عن فكرة نهاية التاريخ: فالقول بفكرة التقدم يفترض أولا وجود غائية تاريخية وحتمية ترسم للسيرورة التاريخية مسارها المحدد سلفا بهذه الغائية، ويفترض ثانيا وجود نهاية للتاريخ تمضي نحوها هذه السيرورة بما هي مسيرة نحو الخلاص.
بيد أن فلسفات التقدم تسقط بشكل لامفر منه في نزعة محافظة وتبريرية وذلك في خلطها بين فكرة عقلية ليس لها سوى استعمال معياري وبين شكل متعين قائم من أشكال النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي ( مثلما فعل هيغل حين طابق بين الدولة البروسية والعقل، أو ماركس حين جعل من المرحلة الشيوعية وسيطرة البروليتاريا نهاية الصيرورة التاريخية، أو فوكوياما حين جعل من الديموقراطية الليبرالية نهاية التاريخ…)

 

المحور الثالث: دور الإنسان في التاريخ:

بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال) إن البحث في دور الإنسان في التاريخ لهو استمرار للتساؤل حول منطق التاريخ وغايته، ذلك أن القول بوجود منطق وغاية للتاريخ يقتضي أن الصيرورة التاريخية تمضي وفق مبادئ وقوانين موضوعية مادية أو عقلية بعيدا عن الذاتية المتقلبة للإنسان المفرد أو المسارات المباغتة للصدفة العمياء، أي إحلال عامل أو مبدأ ما محل الإنسان في توجيه دفة التاريخ.
فمن جهة يبدو الإنسان هو صانع تاريخه من خلال بطولة الأبطال وتضحيات المحاربين و ثورات الشعوب، ومن جهة أخرى يبدو أن بطولة هؤلاء وثورات أولئك قد صنعتها ظروف مواتية. هل يمكن مثلا أن نرجع توسع الدولة الإسلامية ماضيا إلى استبسال المسلمين وقوة إيمانهم وشجاعتهم ونفسر إنحسارها اليوم بتخاذلهم وجبنهم أم أن ذاك التوسع وهذا الإنحسار إنما يرجع إلى عوامل اقتصادية وسياسية عالمية تتجاوز الإطار المحلي. من قبيل الاكتشافات الجغرافية والنهضة الأروربية…

طرح الإشكال: إذا كان المؤرخ لا يعتني بهبوب الرياح قدر اعتنائه بمجهود الإنسان في استخدام قوتها لتوجيه سفنه للتجارة أو شن الحروب، ولايهتم بفيضانات الأنهار إلا من حيث أنها تتقاطع أو تؤثر على حياة إنسانية قائمة بجوارها… فلأن أحداث الماضي لاتكون موضوعا للتاريخ إلا من حيث أن الإنسان هو مُحدثها أو محورها على الأقل. ما حقيقة كون الإنسان “مُحدثا” للحدث التاريخي؟ هل يعني ذلك أن الإنسان هو من يصنع تاريخه ويوجه دفة صيرورته؟ أم أن الصيرورة التاريخية مشروطة بعوامل موضوعية تفوق إرادة الإنسان نفسه الذي ليس سوى جزء من بنية تتجاوز وعيه وإدراكه؟

معالجة الإشكال:

1- الإنسان مجرد أداة عرضية لتحقق الفكرة – هيغل

تاريخ العالم عند هيغل مجرد تمظهر لسعي الروح نحو معرفة ذاته، وإذا كانت البذرة تحوي في ذاتها كامل خصائص الشجرة من مذاق وشكل فاكهة التي ستظهر لاحقا، فإن اللحظات الأولى للتاريخ بما هي آثار أولى للروح تحتوي بالقوة مسبقا أيضا كل التمظهرات اللاحقة التاريخ. ماذا يتبقى إذن للإنسان من دور في تاريخ محدد قبليا؟
لاأهمية للبشر /الأفراد عند هيغل إلا بقدر ما يكون هؤلاء أدوات لتحقيق اغراض أسمى، وبقدر ما تتمثل فيهم حقبة من حقب الفكر المطلق. بل إن أبطال التاريخ وعظماءه بدورهم لايحققون إرادتهم الخاصة ولا يسعون لنيل سعادتهم الشخصية بقدر ما يمتثلون لروح العصر التي تستعملهم وتتحقق بهم ومن خلالهم وتجاوزهم

2- ماركس: (الشروط المادية)تطور قوى الإنتاج هي المحركة للصيرورة التاريخية

ماهذه الفكرة أو الروح المطلق التي تستعمل البشر – شعوبا وقادة – لتحقق نفسها !؟
في هذه النقطة بالذات تمثل فلسفة التاريخ الماركسية تجاوزا لفلسفة التاريخ الهيغيلية، إذ أن الفكرة أو الروح المطلق التي كانت تتجلى تدريجيا عبر التاريخ وتحرك خيوطه وتسير أبطاله، حلت محلها – في الماركسية – عوامل مادية هي ظروف الإنتاج المادي للحياة بيد أن موقع الذات الإنسانية في التاريخ ظل في الماركسية على ماهو عليه، : ففي الوقت الذي يعتقد الفاعل التاريخي أنه يتصرف وفق ما يختاره من معتقدات دينية أو ما يتبناه من مبادئ سياسية يبين التحليل المادي للتاريخ أن المعتقدات الدينية والمبادئ السياسية ماهي إلا انعكاس للبينة التحتية الإقتصادية، أي لمستوى معين من تطور قوى الإنتاج. وعلى ضوء التحليل الماركسي، لاتعدو أن تكون بطولات نابليون وروبيسبيير حماس جماهير وأحزاب الثورة الفرنسية سوى إنجاز لمهام عصرهم المتمثلة في انبثاق المجتمع البرجوازي وتفكيك المؤسسات الفيودالية.
وإذا كان الوعي هو النمط الوحيد الذي يمكن من خلاله إثبات فعل الإنسان في التاريخ، فإن هذا الوعي نتاج للوجود الاجتماعي وليس العكس

3- سارتر- الإنسان صانع تاريخه

ولكن إذا كانت الماركسية تقدم نفسها كتحليل علمي للتاريخ يكشف النقاب عن القاعدة المادية المسؤولة في الواقع عن الصيرورة التاريخية، ألا تتيح هذه المعرفة للإنسان الانفلات حتمية هذه الصيرورة؟
يرى سارتر أن الماركسية قد أسيء تأويلها بشكل تبسيطي أو أن إمكانيتها لم تستثمر بشكل كامل: إن الماركسية فلسفة للحرية أو بالأحرى للتحرر ليس فقط للإنسان الفرد بل للطبقة المستغلة بأسرها، ذلك أن التاريخ لايكون قوة غريبة تستلب البشر إلا مادامت دلالة مجهوداتهم غريبة عنهم والحال أن التحليل الماركسي يقدم الأدوات الكفيلة بالتعرف على المنتوج وفهم سيرورته، من خلال مفاهيم قوى الإنتاج ، علاقات الانتاج،الصراع الطبقي، وأشكال الاستيلاب والايديولوجيا… وبذلك تصبح الممارسة الإنسانية ممارسة مستنيرة بالوعي لاممارسة عمياء قد تنقلب نتائجها ضدها.

Facebooktwitterredditmailby feather

بومة مينارفا تطير في الصباح الباكر. تلميذ الجذع مؤرخا للفلسفة

“بومة مينارفا تطير في الصباح الباكر. تلميذ الجذع مؤرخا للفلسفة

كيف يمكن للفلسفة أن تثير اهتمام الناشئة من تلامذة الجذع المشترك الخارجين للتو من ضباب المرحلة الإعدادية؟
كيف يمكن أن نجعل عقول الصغار تستوعب ما أنتجته عقول العمالقة وأساطين الفكر الإنساني؟
يحاول المقال التالي المنشور بجريدة الأحداث المغربية أن يتناول بالتحليل النقدي الإجابة التي قدمها المنهاج والكتب المدرسية المعتمدة على السؤالين أعلاه.. لينتهي إلى أن المنهاج والكتب تعرض على تلميذ الجذع خلال هذا اللقاء الأول قضايا وإشكالات كما لو كان هذا الأخير مؤرخا للفلسفة !!
في ما يلي مقال من جزأين نشر على التوالي في العدد رقم 4249 بتاريخ 14 يناير 2011 والعدد رقم 4255 بتاريخ 21 يناير 2011 في ملحق ملتقى الفكر لجريدة الأحداث المغربية

الجزء الأول (اضغط على الصورة لقراءة المقال):

الجزء الثاني (اضغط على الصورة لقراءة المقال):

Facebooktwitterredditmailby feather

منهجية السؤال المفتوح من خلال أربع مذكرات وزارية متتالية

منهجية السؤال المفتوح من خلال أربع مذكرات وزارية متتالية

من أين يستنبط ويستقي مدرسو الفلسفة قواعد المنهجية التي يلقنونها لتلامذتهم؟
بوصفهم موظفين، فهم ملزمون بتطبيق مقتضيات المذكرات الوزارية التي يتوصلون بها من حين لآخر.
وطبعا فالمدرس لا يُمْلي على تلامذته فحوى المذكرة حرفيا، وإن كان بعضهم يفعل !! بل يقوم بترجمة هذه المقتضيات إلى منهجيات أكثر دقة وتفصيلا مستلهما في ذلك روح التفكير الفلسفي، لنقل أنهم يتصرفون هنا لا كمدرسين/موظفين بل بوصفهم مدرسين لمادة خاصة إسمها الفلسفة

لذلك، أقترح عليكم اليوم قراءة في منهجية السؤال المفتوح كما وردت في أربع مذكرات وزارية متتالية وهي:
-المذكرة رقم 127 بتاريخ 26/09/1996
-المذكرة رقم 186-04 بتاريخ 13/10/2001
-المذكرة رقم 142-04 بتاريخ 16/10/2007
-المذكرة 159 بتاريخ27/12/2007 أو مذكرة الأطر المرجعية (وهي آخر مذكرة لحد الآن)

يتضح من لائحة هذه المذكرات، أن طرح “أسئلة مفتوحة” على التلاميذ في التقاليد المدرسية المغربية ليس وليد اليوم، لعله نمط من أنماط الاختبار ، قديم قدم الفلسفة كمادة دراسية. ولكن نظرا للتغير الجذري الذي عرفته بنية البرنامج الدراسي من حيث الاختيارات البيداغوجية والتي ترجمت في تغير جذري مس المحتويات المعرفية منذ 1996 ، فقد اقتصرت -كما لاحظتم- على تتبع منهجية السؤال المفتوح في المذكرات الوزارية منذ هذا التاريخ الأخير

ستلاحظون يا رفاقي أنه لا توجد مذكرة تتحدث عن أطروحة متضمنة في السؤال ! إنها تتحدث إما عن مضامين أو عن رهان، ، باستثناء المذكرة الأخيرة التي تتحدث عن أطروحة متضمنة احتمالا في الموضوع. لاحظوا كلمة “احتمالا”، وهي تعبير حذر وصائب ! لأن بعض أدوات الاستفهام مثل “لماذا”، تجعل السؤال متضمنا بالفعل لأطروحة أو مسلمة، يُسأل عن علتها. فليت شعري، كيف استنبط رفاقي أن السؤال متضمن لأطروحة (مثلا: هل هناك طريقة واحدة لبلوغ الحقيقة؟) أو أطروحتين متضادتين (مثلا: أيهما يحكم الآخر، النظرية أم التجربة؟)، ونسبوا كل هذه الأطروحات لواضع السؤال؟ رغم أنها إما أجوبة ومواقف يدلي بها ويبنيها المجيب/التلميذ في الحالة الأولى، أو احتمالات وإمكانيات يفحصها في الحالة الثانية !!
نسبوا إلى السؤال مضمونا، وتناسوا العبارة الرشيقة الشهيرة لجرانفيل: “يفترض السؤال الفلسفي شكا مسبقا في الجواب باعتباره معرفة (…) إن السؤال الفلسفي يفترض في الواقع أن المعرفة مستحيلة أو على الأقل أن هناك معرفة مزعومة، معرفة ليست في الواقع معرفة” (كتاب الفلسفة- المملكة المغربية -طبعة 1995)
(هناك إشكالية عويصة لاينبغي إهمالها أو تحويلها إلى مسلمة ألا وهي: “هل سؤال امتحان الفلسفة سؤال فلسفي فقط لأنه مطروح في مادة الفلسفة، أم أن نوعية المعالجة والتحليل والمساءلة التي سيقوم بها المجيب/التلميذ هي ما يجعله كذلك أي سؤالا فلسفيا؟” سأناقش ذلك في فرصة أخرى)

المذكرة رقم 127 بتاريخ 26/09/1996
نقرأ في الصفحة 11:
إن التعبير عن السؤال المفتوح (أو الحر) يكون دائما تعبيرا خاصا، ولهذا الاعتبار لا يمكن الحديث عن صيغة موحدة، ومن ثم عن طريقة نمطية للمعالجة، بل إن الأمر يستلزم:
-قبل الإجابة على السؤال، تحليل السؤال نفسه للوقوف على ما يرومه وما ويوجد وراءه من خلفيات وأسس وما يحيل عليه من إشكالية ويلزم باستحضاره وإقصاءه أثناء المعالجة
-يكون على التلميذ أن يكشف رهانات السؤال بوسائله الخاصة
-أن يستجيب لمجموعة الشروط والمواصفات التي تمليها ضوابط الكتابة الإنشائية الفلسفية
– وينتظر من التلميذ أن يوظف مكتسباته المعرفية والمنهجية ليعبر من خلالها عن تفكيره الحر وعن قدرته على استكشاف المضامين الكامنة في السؤال، وعن توظيفه لتقنيات المساءلة
لاحظوا معي أنه لا حديث عن أية أطروحة أبدا، وقد جاءت هذه المذكرة- في نظري- أكثر وفاءا لروح التفلسف بدليل أنها اعترفت بالطابع الخاص المتعدد لصيغ الأسئلة وبالطابع المتعدد لإمكانيات المعالجة كما أكدت على ضرورة الوقوف عند مفاهيم السؤال والتي من شأنها أن تساعدنا على:
-تحديد الإشكال أو بالأحرى إعادة صياغته
-الكشف عن خلفيات وأسس السؤال
-تحديد ما يلزم استحضاره وإقصاؤه من ركام المعلومات والمعارف والمواقف الفلسفية التي اكتسبناها
لاحظوا كيف أنها تتحدث في الفقرة الأخيرة عن مضامين (وليس عن أطروحات) كامنة في السؤال ينبغي استكشافها !

المذكرة رقم 186-04 بتاريخ 13/10/2001

نقرأ في الصفحة 7 :

إن التعبير عن السؤال المفتوح (أو الحر) يكون دائما تعبيرا خاصا، ولهذا الاعتبار لا يمكن الحديث عن صيغة موحدة، ومن ثم عن طريقة نمطية للمعالجة، بل إن الأمر يستلزم:
-قبل الإجابة على السؤال، تحليل السؤال نفسه للوقوف على ما يرومه وما ويوجد وراءه من خلفيات وأسس وما يحيل عليه من إشكالية ويلزم باستحضاره واقصاءه أثناء المعالجة
-يكون على التلميذ أن يكشف رهانات السؤال بوسائله الخاصة
-أن يستجيب لمجموعة الشروط والمواصفات التي تمليها ضوابط الكتابة الإنشائية الفلسفية

لاحظوا كيف أن هذه المذكرة مجرد استنساخ للأولى، لكن بعد حذف الفقرة الأخيرة التي يرد فيها الحديث عن مضامين كامنة في السؤال يتعين على التلميذ استكشافها
لماذا هذا الحذف؟ هل تغير محرر المذكرة، أم أن المحرر الأول راجع نفسه؟ هل جاء الحذف نتيجة جدل داخل لجنة صياغة المذكرة !!؟
أمر الآن إلى المذكرة التي تلتها:

المذكرة رقم 142-04 بتاريخ 16/10/2007
في هذه المذكرة ستنضاف عبارة “إشكالي” إلى عبارة “مفتوح” ليصبح سؤالنا سؤالا إشكاليا مفتوحا !
نقرأ في الصفحة 7:

يجب أن يننصب عمل التلميذ، في هذه الصيغة على كتابة إنشاء فلسفي متكامل، بيين فيه فهمه للسؤال المطروح في علاقته بالبرنامج المقرر (4 نقط)، وتحليل عناصر الإشكال بارتباط مع المعرفة التي تقتضيها المعالجة (5 نقط)، ومناقشة الإشكال على ضوء الأطروحات والأفكار التي يراهن عليها السؤال المطروح (5 نقط) كما يتعين عليه صياغة تركيب لعناصر التحليل والمناقشة (3 نقط) واستيفاء الجوانب الشكلية في الكتابة الإنشائية: الأسلوبية واللغوية ( 3 نقط)

لقد ظهرت لأول مرة ما يسمى بــ فهم السؤال في علاقته بالبرنامج المقرر وخصصت لهم أربع نقط!! وهذاما ترجمه بعض أساتذة الفلسفة في ضرورة تضمن المقدمة لعبارة من قبيل: يندرج هذا السؤال ضمن درس (وفي ما بعد، مجزوءة) كذا وبالضبط في محور أو إشكالية كذا… فما هي..إلخ
كما ستظهر لأول مرة كلمة أطروحة بصيغة الجمع (أطروحات) بوصفها ما يراهن عليه السؤال، فأصبح للسؤال إذن أطروحات يراهن عليها! وهذا أمر مقبول رغم ذلك: خصوصا وأن مفهوم الرهان يعني ما نربحه أو نخسره إذا قبلنا أمرا ما أو رفضناه، أي نتائج اختياراتنا البدئية. وعليه فالسؤال يدفعنا للمراهنة على بعض الأطروحات وبحث ما يترتب عن كل مراهنة من نتائج…

المذكرة 159 بتاريخ27/12/2007 أو مذكرة الأطر المرجعية
جاءت هذه المذكرة لتضع كما يشير عنوانها إطارا مرجعيا تعاقديا يحد من احتمالات الفوضى التي قد يحلقها تعدد الكتب المدرسية (وكأن الأستاذ لاينبي درسه بغير الكتاب!)، ولأنها إطار مرجعي، فقد حددت في البداية – وهذا أمر مستحدث- مواصفات السؤال نفسه، كما حوت جدولا بحسب المكونات المفترضة للموضوع الإنشائي

مواصفات السؤال الإشكالي المفتوح:
إن التعبير عن السؤال الإشكالي المفتوح لا يتخذ صيغة نمطية واحدة، وينبغي أن يتصف السؤال الإشكالي بالوضوح والدقة، وأن يحيل على مجال إشكالي لمفهوم واحد أو أكثر، كما يمكن أن يحيل على المجال الإشكالي لمجزوءة واحدة أو أكثر.

الفهم ( 04 نقط)
إدراك موضوع السؤال وترابطاته؛
إبراز عناصر الإشكال.

التحليل (05نقط)
إعادة صياغة الإشكال وتحليل أسئلته الأساسية؛
توظيف المعرفة الفلسفية الملائمة لمعالجة الإشكال؛
البناء الحجاجي والمنطقي للمضامين الفلسفية.
المناقشة: (05نقط)
مناقشة الأطروحة المتضمنة احتمالا في الموضوع؛
طرح إمكانيات أخرى تفتح أفق التفكير في الإشكال..

التركيب: (03نقط)
استخلاص نتائج التحليل و المناقشة؛
إبراز المجهود الشخصي للتلميذ.

الجوانب الشكلية: (03نقط)
اللغة والأسلوب ووضوح الخط.

مع هذه المذكرة، انتقلنا من الحديث عن “أطروحات يراهن عليها السؤال” إلى الحديث عن ” أطروحة متضمنة احتمالا في الموضوع”!
وهكذا فقد انتقلنا من الجمع (أطروحات) إلى المفرد (أطروحة)، كما انتقلنا من “السؤال” وما يراهن عليه، إلى “الموضوع” وما يتضمنه !
فهل المقصود بالموضوع هو السؤال !!؟ أم المقصود بالموضوع هو موضوع السؤال كالنظرية أو العنف أو التاريخ !؟ أم أن الموضوع هو ما سبق للمترشح ان “وضعه” في مرحلة التحليل !!؟
وبعد كل هذا تطالب المذكرة، بطرح “إمكانيات أخرى تفتح أفق التفكير في الإشكال”. والسؤال هو: إذا كانت “أخرى”، فما هو هذا الشيء الذي ستكون الإمكانيات الإضافية آخر بالنسبة إليه!؟
فلو كان السؤال هو: ” أيهما يحكم الآخر، النظرية أم التجربة؟”
فهل ستكون الإمكانية الأولى هي: النظرية تحكم التجربة،
والثانية : التجربة تحكم النظرية،
والأخرى: لا أحد يحكم الآخر! أو أن المشكل مطروح بشكل مغلوط وأن السؤال زائف؟ أو أنهما متظافران..إلخ

تلك هي المذكرات الأربع عرضت عليكم مضامينها وفحواها، وقد يتساءل البعض: وما الفائدة من استعراض فحوى مذكرات انتهى مفعولها ونسختها مذكرة جديدة ينبغي أن يؤخد بمقتضياتها ,هي المذكرة الأخيرة رقم 159 أو مايسمى مذكرة الأطر المرجعية !؟
اعتراض وجيه جزئيا ! ولكن هل يتناسى مدرس الفلسفة أن حقيقة الشيء -إن كانت له حقيقة- لاينفصل عن تاريخه وصيرورته؟! إذا كانت كل مذكرة تنسخ أخرى، فهل يعني ذلك أنها تخطئها وتسفّه ما حوته؟ ألا يعني ذلك أننا كنا نلقن التلاميذ الأخطاء ساعتها !؟
إن حجة النسخ إذن ضعيفة واهية. ألا يمكن -على العكس من ذلك-ان نرى في التغيرات التي شهدها تصورات اللجنة المركزية المصدرة والمحررة للمذكرات على امتداد أكثر من عقد من الزمان، شاهدا على مدى التخبط والضبابية الذي تشهدها المنهجية في مادة الفلسفة مقارنة مع مواد دراسية أخرى !؟ هذا التخبط الذي يعود في نظري إلى تجنبنا المستمر لفتح نقاش عميق حول المبررات والأسس الفلسفية لهذه المنهجية أو تلك ومدى قدرتها أو عجزها -في حالة تطبيقها من قبل التلميذ- على إنتاج إنشاءات فلسفية جيدة أو مقبولة…
أتمنى أن يكون هذا العمل مساهمة في تنظيم والحد من فوضى المنهجية الذي تعرفه ماة الفلسفة والذي ينعكس سلبا على التلميذ أثناء عملية التقويم

Facebooktwitterredditmailby feather

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز – الجزء الثالث

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز – الجزء الثالث

في أنه ينبغي تثوير تصورنا للبناء الإشكالي
لنفترض ان المدرس قد طرح إشكالية مشروعية الدولة طرحا مستوفيا لشرط التوتر والمفارقة، فبم سيملأ هذا الفراغ المرعب الذي خلقه السؤال الفلسفي -على حد تعبير الصديق زارا- ؟
سيتحسس المدرس كراسته، ليتكلم بإسم ابن مسكويه أو جون لوك او روسو أو هيغل أو ماركس !!
ولكن لِم يفكر اولا -وخارج كل نسق فلسفي وبإعمال بسيط للعقل- في أن المشروعية قد تكون مشروعية ثورية (الانقلاب)، أو مشروعية ديموقراطية تفرزها صناديق الاقتراع أو مشروعية تاريخية، او حتى دينية لاهوتية أو مشروعية عرقية كشرف النسب.. إلخ وهكذا يبدأ التفكير الشخصي بالدخول في صلب الموضوع الحي عوض تحنيطه، ولننفتح بعد ذلك على لوك ا روسو او مونتيكسيو أو أرسطو أو ابن تومرت أو الحجاج بن يوسف ..

من غير المستبعد أن يكون الكثير من المدرسين قد وجدوا نفسهم في مثل هذه الوضعيات مضطرين لقول “شيء ما” إضافي غير ما تتضمنه النصوص والأطروحات الفلسفية، ولعل الواقعتين التاليين توضحان المقصود، إحداهما شخصية والأخرى عامة:
أذكر أنني قبل سنة 2003 وفي معرض معالجة إشكالية معرفة الغير وبالضبط أثناء الحديث عن استحالة معرفة الغير، كنت في الغالب أحتج للتلاميذ بمفهوم الحميمية بوصفها جانبا م نالعالم الداخلي مغرق في الخصوصية والغرابة يخص الذات ويصعب الإفصاح عنه أو إيجاد كلمات مناسبة للتعبير عنه … وسنة 2003 عثرت -أثناء البحث- عن نص لغاستون بيرجي ! فجعلته جزءا من درسي تلك السنة، وتشاء الأقدار أن يطرح هو نفسه كنص للاختبار في الامتحان الوطني تلك السنة! ولعل بعض تلامذتي السابقين في ثانوية ابن زهر بوزان لايزالون يذكرون هذه الواقعة أو المصادفة السعيدة التي جعلت بعضهم يتجرأ ويذكر بكل ثقة إسم صاحب النص: غاستون بيرجي! أثناء التحليل في الامتحان الوطني… :icon_biggrin:
لم تكن الحميمية في البداية غير تفكير وتأمل شخصي ضمنته في درسي لسنوات قبل أن ا‘ثر على نص فلسفي يعضّده ! لذا أرى أن بإمكاننا بل علينا أن نغذي دروسنا وملخصاتنا بمواد من التفكير الشخصي، عسى تلامذتنا يفعلون الشيء نفسه في الإنشاء !!
أما إذا لم أكن أجرؤ على ممارسة تفكير شخصي أثناء إنجاز درسي او تحرير ملخصي، فكيف لتلميذي أن يجرؤ على ذلك !!؟

أما الواقعة الثانية، العامة، فتتمثل في مايلي:
في المقرر القديم كنا نفتتح درس اللغة بمحور أو إشكالية ” اللغة كخاصية إنسانية” وحيث أن البناء الإشكالي يقتضي على الأقل موقفين متعارضين بدرجة من درجات التعارض أو تربطهما علاقة ما باستثناء علاقة التجاور، فقد كنا نقف كمدرسين امام الإحراج التالي:
هل في المتن الفلسفي من زعم أن اللة ليست خاصية إنسانية كي نقابله بالتصور الديكارتي !؟
بلغ الأمر حدا أن الإحراج طرح في لقاء تربوي بحضور مفتشين، فكانت الفتوى التي لم تكن بالنسبة لي ضرورية لأن الحس السليم قادر على اكتشافها دو ن الحاجة إل فتوى من مؤطر:
يمكن ان تكون الأطروحة الأولى هي موقف الحس المشترك :icon_scratch: الذي يعتقد أن للحيوان لغة وأن الحيوانات تتلكم ولها لغتها الخاصة !
أما الأطروحة الثانية المعارضة فهي طبعا الأطروحة الديكارتية !!

أخلص من الواقعتين السابقتين إلى أن المدرس غير مطالب على الدوام بضرورة استحضار أطروحتين متعارضتين من تاريخ الفلسفة لينجز بناءا إشكاليا جديرا بها الإسم! وإلا فما العمل في حالة عدم العثور على “موقفين” أو “نصين”. طبعا لن نكون محتاجين إلى شيء من هذا وستكون مهمتنا سهلة لو أن واضعي المنهاج لم يصوغوا الإشكالات وعنواين المحاور إلا بعد استقراء ومسح للمتن الفلسفي للتأكد أن القضايا المقترحة للتفكير في إطار المقرر قد تم فعلا تناولها من منظورات فلسفية مختلفة، ولكن ليس هذا هو واقع الحال !!
في حالة تعذر العثور على موقفين او بالأحرى أطروحتين إثنتين متحاورين، يمكننا الاكتفاء بعرض الأطروحة الأولى لفيلسوف ثم نقدها وتنسيبها ومناقشتها والكشف عن مفترضاتاها والتناقض المحتمل لنتائجها مع الواقع أو مع التجربة الذاتية أو مع معطيات التاريخ أو العلم طبيعيا كان أو إنسانيا…، فيكون مجهودنا وتفكيرنا الشخصي هو المكون الثاني للبناء الإشكالي (وقد خصص ميشال غورينا أزيد من عشر صفحات في كتابه السالف الذكر لعرض مختلف إمكانيات وأشكال “دحض” أطروحة فلسفية ما)
ويمكن القيام بالعكس: أي تحويل الموقف الأول إلى أطروحة من خلال بنائه حجاجيا ومفاهيميا ثم معارضته بالأطروحة الفلسفية مثلما اقترح بعض المشرفين التربويين للتعامل مع إشكالية اللغة كخاصية إنسانية في المقرر القديم.
إذن للبناء الإشكالي ثلاث إمكانيات:
-الإمكانية الأولى: (وهي الإمكانية المثالية)
1- أطروحة فلسفية أولى
2- أطروحة فلسفية ثانية تحاورها أو تدحضها أو تتجاوزها
-الإمكانية الثانية:
1-موقف نحوله إلى أطروحة من خلال بنائه حجاجيا ومفاهيميا (مجندين الثقافة الفلسفية بمعناها الواسع المعرّف أعلاه)
2- أطروحة لفيلسوف تحاور أن تدحض أو تتجاوز الأطروحة/الموقف الذي تم بناؤه
-الإمكانية الثالثة:
1-أطروحة لفيلسوف
2- بناء أطروحة ثانية قوامها نقد ودحض وتجاوز وتنسيب الأطروحة الفلسفية السابقة (مجندين أيضا الثقافة الفلسفية بمعناها الواسع المعرّف أعلاه)

هنا بالضبط ألتقي مع اجتهاد الصديق محمد الخلفي الذي اقترح التمييز بين الموقف و الأطروحة
بيد أنني مضطر في النهاية لإعلان اختلاف بسيط معه في مايخص المصطلحات التي استخدمها لبسط هذا التمييز

خلاصة: أهمية التمييز بين الأطروحة والموقف
يميز صديقي الأستاذ محمد الخلفي بين:
– الأطروحات هي الأجوبة المحتملة على الإشكال المطروح، وهي أجوبة يمكن استنباطها عقلا وقبلا من صيغ السؤال نفسه
مثلا: هل معرفة العير ممكنة أم مستحيلة؟
الصيغة التناوبية للإستفهام توجي أصلا بوجود أطروحيتن: ممكنة/مستحيلة
-المواقف: مابه “نملأ” تلك الأطروحات سواء كانت مواقف فلسفية/مذهبية أو معارف غير-فلسفية مستقاة من حقول معرفية أخرى أو حتى من الواقع المعيش، شريطة الالتزام بروح الأشكلة في عرض هذه المفاهيم وبنائها حجاجيا ومفهمة المعاني والكلمات والألفاظ المعبرة عن الموقف !!
أرى من جهتي أن الأجوبة المحتملة على إشكال ما ينبغي ان تعد مواقفا Posistions لأن الموقف يوحي لي بفكرة التخندق أو تحيز ضمن معسكر ما أو وجهة نظر ما: Prendre position
يبدو ان الموقف يعبر عن الاختيار ويرتسم داخل اللحظي والقطعي categorique، في حين أن الأطروحة تضم Des nuances أي فروقا وتحديدات دقيقة مما يفسر تعدد الطروحات كما انها ترتسم داخل ديمومة التي هي ديمومة فكر يبني استدلالاته وسلاسل حججه les chaines de raisons.
لذا نقول : عليك ان تتخد موقفا، لكننا نقول عليك أن تبني أو تؤلف أطروحة.
إذن اقترح للمعارف الفلسفية وغير-الفلسفية المستدعاة لـ “ملأ” هذه المواقف ان تسمى “أطروحات” خصوصا وأننا درجنا على الحديث عن أطروحة نص فلسفي، ثم إن الأطروحة تستدعي عرضا نسقيا حجاجيا في حين أن الموقف يعني قرارا بالانحياز إلى هذا الاختيار أو ذاك
وهناك مسوغ آخر وجدته عند ميشيل غورينا في كتابه “دليل الإنشاء والتعليق على النصوص في الفلسفة” الذي يستخدم، محتجا بأرسطو، “الأطروحة” للحديث عن قضية proposition لفيلسوف من كبار الفلاسفة un grand philosophe

العودة إلى:

ملاحظة: تولدت فكرة هذا المقال من خلال حوار مع الصديق محمد الخلفي على صفحات منتدى الحجاج هنا الفلسفة : تدريس مواقف ام تدريس أطروحات

Facebooktwitterredditmailby feather

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز- الجزء الثاني

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز- الجزء الثاني

إعادة تعريف مايسمى بالمعرفة الفلسفية: المعرفة الفلسفية ليست هي المواقف الفلسفية

للخروج من المأزق الذي بدأنا بتشخيصه في بداية المقالة، يتعين علينا إعمال النظر في مايسمى بــ المعرفة الفلسفية. والتي يتم عادة الخلط بينها وبين المواقف الفلسفية
مم تتكون هذه المعرفة الفلسفية؟ ما قوامها !؟ هل تتكون فقط من مجموع الأقوال التي تفوه بها الفلاسفة المكرّسون؟ (أقول المكرسون، لأن تلميذة جذع مشترك سألتني ذات مرة: من يعلن أن كاتبا ما (تقصد مفكر) هو فيلسوف؟ من يكرسه كفيلسوف la consécration ” وأضافت: “كيف يعرف شخص ما أنه فيلسوف !؟”
أقول إذا كانت المعرفة الفلسفية تتكون فقط من مجموع الأقوال التي تفوه بها الفلاسفة المكرّسون، فلماذا نستدعي نصا لفان غوغ في درس الفن؟ ونصا لهيتلر أو حتى لغوبلز وزيره في الدعاية في درس الدولة، ونصا لفقيه في مناقشتنا لإشكاليات الفلسفة الإسلامية، ونصا لكلود برنارد في درس حول النظرية العلمية…
إذا كان غرانجي يقول: لا وجود للغة فلسفية، بل مجرد استعمال فلسفي للغة، كذلك يحق لنا القول: لا وجود لمعرفة فلسفية وإنما مجرد تناول فلسفي للمعرفة (تناول إشكالي بالدرجة الأولى، ومفاهيمي وحجاجي بدرجة ثانية )
إذا أضفنا إلى ما سبق شمولية التفكير الفلسفي وصعوبة التحديد الدقيق لموضوعه الذي يقال أنه يشمل كل شيء قابل للتفكير !! فلا أجد حرجا في القول إن المعرفة الفلسفية تحتوي في الواقع أصنافا شتى من “المعارف الأخرى” : معرفة تاريخية، أدبية شعرية، طبية فيزيولوجية (كيفية عمل الدماغ أثناء دراستنا للوعي)، فيزيائية، رياضية (المبرهنات والمسلمات)، سيكلوجية، سوسيولوجية، انثريلوجية…
والنصوص الفلسفية نفسها حافلة بأشكال متنوعة من استعمال هذه المعارف ! تجد في نصوص فلسفية استشهادا بشعراءو ادباء (هيدغر يستشهد بأندريه جيد!)، استشهادا بأشعار بل وبأشعار لهوميروس! معطيات من الفيلولوجيا، اللسانيات، علم النفس، الاقتصاد… إلخ
إذا صح ماسبق، نستطيع أن نستخلص مايلي:
أولا- لا تنتج الفلسفة معارف بالمعنى الوضعي positive بقدر ما تتخد المعارف المنتجة في مجالات أخرى موضوعا لها، تفكر في أسسها ومنطقها ومفترضاتها و (أحيانا)أوهامها.. ! لعل هذا ما حذا بكانط إلى القول: لا يمكن أن نتعلم الفلسفة، بل التفلسف أي تمرين ملكة العقل على بعض الموضوعات، لأن الفلسفة هي فكرة علم ممكن غير متحقق أبدا في أي مكان”

ُثانيا- إذا صح أن الفلسفة غير منفصلة عن الحياة، فهل يمكن للموتى (الفلاسفة) أن يفكروا عوض الأحياء !؟
لقد سمعت مرارا ان الغرض من استحضار نصوص الفلاسفة في الدرس الفلسفي، ليس التفكير بواسطة الفلاسفة بل التفكير مع الفلاسفة، لكن الذي يحدث هو أننا في النهاية ننتج ملخصات وينتج تلامذتنا إنشاءات هي في الواقع تفكير بواسطة الفلاسفة !!!

يبدو أن التوجيهات الرسمية نفسها تصادق على خلاصاتنا السابقة: نجد تعريفا للمعرفة الفلسفية في مايسميه المنهاج الكفايات الثقافية، أي المعارف المفترض إكتسابها وترصيدها في حصة الفلسفة
يقول المنهاج/التوجيهات ص9 (بعد ذكر الكفايات الاستراتيجية، التواصلية والمنهجية):
3.1.4.كفايات ثقافية:
-اكتساب معارف فلسفية أساسية واستيعابها استيعابا جيدا
– استدعاء معارف متنوعة رافدة للتفكير الفلسفي (أدبية، فنية، علمية سياسية..)
– تنمية القدرات الخيالية الإبداعية من خلال إنتاجات شخصية تستثمر الأفكار والنظريات الفلسفيبة المكتسبة أو اشكال الثقافية الأخرى (التراث، الثقافة الشفوية، الابداعات الفنية، القصة،الشعر، المسرح،الرواية..إلخ)

لا أعتقد أن هذا الاقتباس يحتاج إلى تعليق، هناك تنصيص واضح وصريح على أن المعارف الفلسفية الأساسية -ولعل المقصود بنعت “الأساسية” هو الأطروحات الفلسفية كما حفظها لنا تاريخ الفلسفة- ليست كل المعرفة أو الثقافة الفلسفية، بل تدخل في ذلك حتى الثقافة الشفوية !!

في المذكرة رقم 159 التي تعرف بمذكرة الأطر المرجعية والتي تسعى إلى تحديد إطار مرجعي تعاقدي لتوحيد الرؤى حول التقويم، نقرأ في صفحتها الرابعة تحديدا لــ المضامين التي يشملها الاختبار:
1.1.المضامين
تحدد المضامبين الفلسفية في العناصر التالية:-
إشكاليات فلسفية
– أطروحات فلسفية
– أقوال فلسفية
– أقوال أو مضامين أدبية وفنية وعلمية
– أمثلة من المعيش اليومي أ وتجارب مشتركة بين اللبشر، ومن تاريخ الفلسفة او من مجالات أخرى

لا أظن أن هذا الاستشهاد يحتاج بدوره إلى تعليق !!

وحتى لو لم تكن المذكرات والتوجيهات الرسمية تؤكد على ذلك، فالأمر لا يحتاج إلى ذكاء لنعرف أن المعرفة الفلسفية المقصودة في الثانوي -على الأقل- لن تكون سوى مزيج مما هو فلسفي بالمعنى التقني والثقافة العامة التي نفترض امتلاكها من طرف المتعلم !!
لسنا إذن في تكوين في سلك الدكتوراة seminaire مخصص لفلسفة التاريخ عند هيغل، حيث لن تسمع غير نصوص هيغل وتعليقات الشراح المبرزين على هيغل !! :icon_biggrin:

التمييز داخل المعرفة الفلسفية بين القضايا المذهبية والعناصر المفاهيمية والاستدلالية

ميزنا سابقا بين المعرفة الفلسفية الأساسية أو المعرفة الفلسفية بالمعنى التقني وبين المعارف الرافدة بوصفهما مكونيين لما يسمى بالثقافة الفلسفية التي يفترض في المتعلم أكتسابها وتطويرها وتجنيدها في المرحلة الثانوية، ورغم كل هذه التوضيحات، لا تزال المعرفة الفلسفية بحاجة إلى مزيد من التحليل،
لننظر الآن إلى المعرفة الفلسفية الأساسية فقط وأقصد بها مجموع المعارف التي حفظها لنا تاريخ الفلسفة La vulgate
في الواقع تتكون هذه المعرفة من:
أ- قضايا/توكيدات (تتخد لدى أتباع المذاهب الفلسفية المتعصبين شكل دوغما)
ب- استعمال خاص للغة أثناء عرض القضايا، أي شحن مفاهميم اللغة الطبيعية بدلالات خاصة (الخاصية المفاهميمية للخطاب الفلسفي)
ج -استدلات لإثبات القضايا (بسبب حجاجية الخطاب الفلسفي)

لم هذا التمييز الجديد؟ أريد به تسويغ والمحاججة على صحة هذه الفكرة التي عبر عنها زميلي الصديق محمد الخلفي في منتدى الحجاج في معرض رده على تلميذ يشتكي من عجزه عن ضبط 16 أطروحة في كل درس، ضمن مقرر يحتوي على 12 درسا!!

لكنني لست ملزما بهم جميعا يكفيني موقف واحد أدعم به أفكاري حين أكون بصدد الدفاع عن هذه الأطروحة أو تحليلها، و قد لا أحتاج إلى أي موقف فلسفي بعينه إذا كنت أمتلك القدرة على تقديم الحجج الكافية لبيان أن معرفة الغير ممكنة، وقد أتبنى حجج فلاسفة كثيرين دون أن أشير إلى أي واحد منهم على اعتبار أن أفكار الفلاسفة لا تظل دائما ملكيات خاصة لهم، ففور نشرها تصبح ممتلكات عمومية يمكن لأي كان أن يتبناها و يتحدث بها ناسبا إياها إلى نفسه، فأنا لست في حاجة إلى ذكر كانط كلما أردت أن أقول إن للإنسان قيمة مطلقة ، كما لست في حاجة إلى الاستشهاد بأرسطو أو ديكارت كلما أردت أن أقول إن الإنسان كائن عاقل و هكذا. و على نفس المنوال، يمكنني تحليل الأطروحة القائلة بأن معرفة الغير مستحيلة من غير الاستشهاد بأحد بعينه، بل كل ما يلزمني هو امتلاك أفكار تسير في هذا الاتجاه قد تكون لفلاسفة أو لكتاب آخرين من غير الفلاسفة و قد تكون أفكار مشهورة و سائدة أو خلاصات لتجارب من الحياة اليومية

طرح جريء بدون شك ! سيثير رعب الكثيرين :icon_eek: ، وسيرفضه آخرون :icon_confused: ، فلندع المرعوبين ورعبهم، ولكن أناشد المعترضين المحاججة على إقناعنا بتهافت هذا الطرح!

هل ينبغي أن أذكر كانط كلما قلت إن للإنسان قيمة مطلقة، او ذكر إسم ديكارت كلما قررت أن أفتح فمي لأقول أن البحث عن الحقيقة يقتضي اولا الشك ..!؟ أو ذكر مونتيسكيو كلما تحدثت عن فصل السلطات.. إلخ
لقد غدت هذه الأفكار الآن جزءا من الثقافة العامة وبعضها دخل الفضاء العمومي والنقاش السياسي.. ومن الجيد نسبة هذه الأفكار الى أصحابها، لكن ذلك لن يزيد عن كونه نوعا من الحجاج بالسلطة لتدعيم الاستدلال، وكبرهان على الاطلاع وقوة الذاكرة أو ربما لمنح المفاهيم دلالات خاصة مستوحاة من النسق الفلسفي للإسم المستشهد به

لهذا السبب أقترحت قبل قليل التمييز داخل المعرفة الفلسفية الأساسية بين الأطروحات الفلسفية والتي تتخد شكل قضايا حملية توكيدية من جهة والعناصر المفاهيمية والاستدلالية من جهة ثانيا
تتجلى القضايا الحملية التوكيدية في أفكار قبيل:
– الوجود صدر عن الواحد نتيجة الفيض (الفارابي)
– السببية مجرد اقتران ناتج عن العادة (هيوم)
– العقل صفحة بيضاء (لوك)
– النفس فكرة الجسم (اسبينوزا)
– العالم المحسوس نسخة وظلال لعالم المثل(أفلاطون)
– التاريخ تجل للروح المطلق في سعيه لوعي ذاته (هيغل)
– الصيرورة الاجتماعية نتيجة للتناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج (ماركس)
– التاريخ سيرورة بدون ذات (ألتوسير)
– نهاية التاريخ (فوكو ياما)
– محرك الوجود إرادة عمياء لا عقلانية (شوبنهاور)
إلخ…
سأسمي هذا الجزء من المعرفة الفلسفية الجزء المذهبي الدوغمائي او الجزء الصلب أو الدوحة (الشجرة) العظيمة الذي لا تستطيع اقتلاعها من تاريخ الفلسفة لاستعمالها دون أن تقتلع معها إسم الفيلسوف، لكن بجانب الجزء المذهبي الصلب هناك الجزئيات الاستدلالية والمفاهيمية والتي تشبه شجيرات صغيرة يمكن اقتلاعها واستنباتها في تربة أخرى لأنها لا تحمل طابع الفيلسوف أو مذهبه، إنها ملك مشاع كما قال الصديق زارا. يتعلق الأمر بتحليلات واستدلالات ومفمهة من قبيل:
– “نظرة الغير قد تخجلني أحيانا” ! هل أنا مضطر لذكر هذه الجملة مقرونة بإسم سارتر، ألا أرى بدوري أن نظرة اللغير تخجلني !؟ وكذلك الأمر بالنسبة لكون الغير هو الآنا الذي ليس أنا
-“يتكون المجتمع من طبقات”، هل من الضروري أن أستعمل هذا المنظور لتحليل البنية الاجتماعية في إنشاء فلسفي مقرونا بإسم ماركس
– “لا يوجد الشيء ولا يعرف إلا بنقيضه” ! هل من الضروري ذكر هذه الفكرة مقرونة بإسم هيغل؟ ألا يقول المثل السائر: بضدها تعرف الأشياء
– “كل شيء في صيرورة والثبات وهم”. هل من الضروي قولها منسوبة غلى هيراقليط؟ ألآ نقول: دوام الحال من المحال !؟
– “لفحص سلة فواكه تضم الصالح والطالح التالف،يحسن بنا إفراغها أولا من كل مافيها”، وعزل الفواكه خارجها في فسحة، عوض محاولة انتقائها وهي مكدسة داخل السلة… هل ينبغي نسبة هذا المثال إلى ديكارت على الدوام !؟

لنحاول الآن أن نستخلص النتائج المرتبة عن كل التمييزات السابقة فيما يخص تصورنا للدرس الفلسفي

التتمة:

Facebooktwitterredditmailby feather

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز-الجزء الأول

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز – الجزء الأول

إضافة إلى الأهداف/الكفايات المنهجية والقيمية للدرس الفلسفي، تعتبر الأهداف/الكفايات المعرفية أو الثقافية عنصرا أساسيا وحاسما، يتوقف عليه تحقيق الكفايات الأخرى المنشودة. فسواء تعلق الأمر بكفايات قيمية كالتسامح أو احترام الاختلاف أو الاستقلالية أو اكفايات منهجية كالمحاججة، لابد لكل ذلك من سند وحامل هو المعرفة الفلسفية.
تبدو عبارة “معرفة فلسفية” للوهلة الأولى واضحة المعنى جلية الدلالة، لكن لنغامر مع ذلك بطرح السؤال على الطريقة السقراطية: ماالمعرفة الفلسفية؟ انقصد بها حصريا مجموع المعارف التي حفظها لنا التراث الفلسفي أو تاريخ الفلسفة؟ والتي يمكن العثور عليها بشكل موجز ومركز في مصنفات تناول تاريخ الفلسفة أو المذاهب الفلسفية. ولكن هل هانك حقا معارف فلسفية أم مجرد تناول فلسفي للمعرفة!؟ إذا كانت مادة المعرفة الفلسفية مستمدة من نصوص الفلاسفة فمِمَ استمد الفلاسفة أصلا مادة نصوصهم تلك!؟
لكن السؤال “ما المعرفة الفلسفية؟” لايطرح فقط استجابة لنزعة سقراطية! بل لدواع متعلقة بديداكتيك الدرس الفلسفي نفسه. إذ نعتقد أن هاهنا مجالا بكرا، و ورشة مفتوحة للتفكير والتفكر، ودربا إن تم ارتياده واستكشاف آفاقه فربما نجد في نهايته أو في إحدة منعرجاته مخرجا لمآزق كل من الدرس الفلسفي (الذي ينجزه المدرس) وصورته المرآوية أي الإنشاء الفلسفي (الذي ينجزه التلميذ)

تشخيص المشكل بدءا من إنشاء التلميذ وصولا إلى ملخص مدرسه
يستشعر الكثير من المدرسين وجود “شيئ ما ليس على مايرام” :icon_scratch: في إنشاء تلامذته، ويصل الصفاء الذهني La lucidité ببعض المدرسين إلى الإحساس بأن “هذا الذي ليس على مايرام” يعتري درسهم أيضا !!
لنتأمل أولا إنشاءات تلامذتنا لأنها الصورة المرآوية التي تضخم صورة درسنا إلى حد الكاريكاتور:
يطرح التلميذ في مقدمة إنشائه أسئلة ما
إذا تعلق الأمر بتحليل نص،فإن التلميذ يخدش سطح النص خدشا رفيقا ثم تطل المواقف واحدة بعد أخرى على شاكلة:
من المواقف المؤيدة لصاحب النص نجد
وفي نفس السياق نجد..
ونجد…
ونجد مع فلان..
غير أن فلان يرى…
أما فلان الثاني فيرى ..
وفلان الرابع.. الخامس.. إلخ

أمام مثل هذه الإنشاءات يدون أغلب المصححين الملاحظات التالية: السقوط في السردية (سرد المواقف) و غياب ذات المتعلم وانعدام التفكير الشخصي، بحيث يبدو التلميذ غير قادر على الحديث إلا بلسان أحد الفلاسفة !!
ولكن مهلا..
هل يتحمل التلميذ وزر هذا الخطأ لوحده !؟ ألا يمكن ان نجد في دروسنا نفس البنية السردية وغياب التفكير الشخصي !!؟
لنتأمل الملخص التالي الذي وجدت في الأنترنت والذي طمست معالمه بشكل مقصود لئلا أحرج أحدا:
المحور الأول-الواجب والإكراه :
ما هو الواجب؟ وما هو مصدره؟ ومن يستمد مشروعيته؟
موقف كانط : إن كانط في سياق مشروعه (…) سعى إلى (…)
موقف غويو : إذا كان التصور الكانطي ينتهي إلي(…) فإن جون ماري غويو يقدر أن (…)
موقف هيوم : يميز دافيد هيوم بين نوعين من الواجبات الأخلاقية، (…)
موقف هيجل : يرجع هيجل الواجب إلى (…)

المحور الثاني-الوعي الأخلاقي :
ما هو مصدر الوعي الأخلاقي؟
موقف إريك فايل : إن الفعل الأخلاقي هو(…)
موقف برونتانو:تعتبر المدرسة الإمبريقية الوعي الأخلاقي(…)
موقف ابن مسكويه :من منظور التصور الإسلامي، يعتبر ابن مسكويه(…)

المحور الثالث-الواجب والمجتمع:
موقف إميل دوركايم :يعالج إميل دوركايم الواجب الأخلاقي من منظور (…)
موقف برجسون : إن المجتمع هو الذي يرسم للفرد (…)
موقف إنجلز : يؤكد إنجلز على أهمية مفهوم(…)

لا تشير نقط الحذف الذي استعملتها سوى إلى تفصييلات تعرض الموقف وتشرحه
إذن هاهنا مدرس فلسفة لكنه منسحب بدوره وشبه غائب عن ملخصه ، لا أثر لأي تفكير شخصي من قبله!؟ لا أثر لتأملات شخصية إضافية، وكأن الإكراه أو المجتمع أو مصدر الوعي الأخلاقي لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد !!
إذا كان المثل يقول: “هذا الشبل من ذاك الأسد” فيحق لنا القول: “هذا الإنشاء من ذاك الملخص” (قلبا وقالبا)
إنه مجرد “متحدث بإسم”..
وباستثناء تلك الجملة التي حاول فيها الربط بين ما قاله كانط وماسيقوله غويو، يبدو الملخص كما لو كان نسخا ولصقا لفقرات من كتاب في تاريخ الفلسفة أو معجم فلسفي
إزاء مثل هذه الملخصات، ألا يحق للمتعلم الشكوى من الأطروحات التي يدوّخ تشابهها العقل وترهق كثرتها الذاكرة، وذلك في غياب تحديد دقيق لأطروجتين رئيسيتين ومواقف تملأ هذه الأطروحات (بتعبير زارا) وتمدها بالقوة الحجاجية
سيقال أن هذا ملخص يضم عصارة الأطروحات الفلسفية لمحو “الأمية الفلسفية” للمتعلم أو لحشو عقله الفارغ بمعارف موضوعية بتعبير هيغل ! ولكن أخشى أن الملخص لايعكس في النهاية سوى الدرس، وأن تردي هذا يتجلى في تردي ذاك. وقد قلت في شريط آخر إن تحرير ملخصات أشق مهمة وأثقلها على النفس، لأنك مطالب بالمحافظة على الحياة والحيوية والتوتر الذي شهده الدرس المنجز داخل الفصل الدراسي واستعادة كل ذلك في بضع فقرات مكتوبة في مايسمى بالملخص !!
إن العَرَض الذي يعاني منه هذا الملخص بوصفه مرآة لعمل المدرس هو الانسحاب شبة الكلي للمدرس من درسه أو ملخصه: لا أثر للتفكير الشخصي في ما أنتجه، رغم أن هذا المدرس لا يفتأ يقصف عقول تلامذة الجذع المشترك بأن الفلسفة تفكير شخصي في المقام الأول

أين يمكن أن يتمظهر المجهود أو التفكير الشخصي للمدرس؟
يمكن للتفكير الشخصي للمدرس ويمكن لذاته أن تتجلى في مايلي:
أ- الطرح الإشكالي وهنا تظهر حوالي ثمانين في المائة من مجهود المدرس، لأن الإشكال ليس مجرد جملة في آخرها علامة استفهام. كأن يقول القائل في محور الحرية والإرداة: ماعلاقة الحرية بالإرداة؟ أو يقول في محور العقلانية العلمية: ماطبيعة العقلانية العلمية؟
الطرح الإشكالي ثمرة تفكير عقلي مرهق وشاق، يحاول الفكر أثناءه استكشاف المحير والمدهش والمفارقاتي في موضوع تفكيره.. الطرح الإشكالي أهم لحظات الدرس، لسبب بسيط ندرسه لتلامذتنا مفاده أن الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجوبة في الفلسفة!! :icon_biggrin:
ب- التمهيد لأطروحة الفيلسوف قبل عرضها
ج- التعقيب عليها بعد عرضها تعقيبا نقديا
د – نسج وشائج بينها وبين ما سبقها أو ما سيليها.. أي العثور على خيط إشكالي ناظم والمحافظة على درجة كافية من التوتر الإشكالي وإلا تحول البناء الإشكالي إلى عرض مريح لأجوبة ودوغمات!!
هـ- وأخيرا تأملات شخصية حول الإشكالات المثارة تغني أطروحات الفلاسفة وتمتزج بها أو تنضاف إليها كأطروحات فلسفية إضافية.

لكن مالذي يجعل ملخص المدرس وربما درسه أيضا مادة محنطة لا حياة فيها !؟ يعود ذلك في نظري إلى سببين (قد يستنتجان مما سبق):
1- التفريط في الطابع الإشكالي للتفكير الفلسفي بوصفه تفكيرا مسكونا بالمفارقات والتناقضات والحيرة والدهشة ..
2- تصورنا المغلوط لما يسمى “معرفة فلسفية”
سأركز فيما يلي على السبب الثاني، لأنه موضوع المقالة، على أن نفرد للسبب الأول موضوعا مستقلا.

التتمة:

Facebooktwitterredditmailby feather