المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز- الجزء الثاني
إعادة تعريف مايسمى بالمعرفة الفلسفية: المعرفة الفلسفية ليست هي المواقف الفلسفية
للخروج من المأزق الذي بدأنا بتشخيصه في بداية المقالة، يتعين علينا إعمال النظر في مايسمى بــ المعرفة الفلسفية. والتي يتم عادة الخلط بينها وبين المواقف الفلسفية
مم تتكون هذه المعرفة الفلسفية؟ ما قوامها !؟ هل تتكون فقط من مجموع الأقوال التي تفوه بها الفلاسفة المكرّسون؟ (أقول المكرسون، لأن تلميذة جذع مشترك سألتني ذات مرة: من يعلن أن كاتبا ما (تقصد مفكر) هو فيلسوف؟ من يكرسه كفيلسوف la consécration ” وأضافت: “كيف يعرف شخص ما أنه فيلسوف !؟”
أقول إذا كانت المعرفة الفلسفية تتكون فقط من مجموع الأقوال التي تفوه بها الفلاسفة المكرّسون، فلماذا نستدعي نصا لفان غوغ في درس الفن؟ ونصا لهيتلر أو حتى لغوبلز وزيره في الدعاية في درس الدولة، ونصا لفقيه في مناقشتنا لإشكاليات الفلسفة الإسلامية، ونصا لكلود برنارد في درس حول النظرية العلمية…
إذا كان غرانجي يقول: لا وجود للغة فلسفية، بل مجرد استعمال فلسفي للغة، كذلك يحق لنا القول: لا وجود لمعرفة فلسفية وإنما مجرد تناول فلسفي للمعرفة (تناول إشكالي بالدرجة الأولى، ومفاهيمي وحجاجي بدرجة ثانية )
إذا أضفنا إلى ما سبق شمولية التفكير الفلسفي وصعوبة التحديد الدقيق لموضوعه الذي يقال أنه يشمل كل شيء قابل للتفكير !! فلا أجد حرجا في القول إن المعرفة الفلسفية تحتوي في الواقع أصنافا شتى من “المعارف الأخرى” : معرفة تاريخية، أدبية شعرية، طبية فيزيولوجية (كيفية عمل الدماغ أثناء دراستنا للوعي)، فيزيائية، رياضية (المبرهنات والمسلمات)، سيكلوجية، سوسيولوجية، انثريلوجية…
والنصوص الفلسفية نفسها حافلة بأشكال متنوعة من استعمال هذه المعارف ! تجد في نصوص فلسفية استشهادا بشعراءو ادباء (هيدغر يستشهد بأندريه جيد!)، استشهادا بأشعار بل وبأشعار لهوميروس! معطيات من الفيلولوجيا، اللسانيات، علم النفس، الاقتصاد… إلخ
إذا صح ماسبق، نستطيع أن نستخلص مايلي:
أولا- لا تنتج الفلسفة معارف بالمعنى الوضعي positive بقدر ما تتخد المعارف المنتجة في مجالات أخرى موضوعا لها، تفكر في أسسها ومنطقها ومفترضاتها و (أحيانا)أوهامها.. ! لعل هذا ما حذا بكانط إلى القول: لا يمكن أن نتعلم الفلسفة، بل التفلسف أي تمرين ملكة العقل على بعض الموضوعات، لأن الفلسفة هي فكرة علم ممكن غير متحقق أبدا في أي مكان”
ُثانيا- إذا صح أن الفلسفة غير منفصلة عن الحياة، فهل يمكن للموتى (الفلاسفة) أن يفكروا عوض الأحياء !؟
لقد سمعت مرارا ان الغرض من استحضار نصوص الفلاسفة في الدرس الفلسفي، ليس التفكير بواسطة الفلاسفة بل التفكير مع الفلاسفة، لكن الذي يحدث هو أننا في النهاية ننتج ملخصات وينتج تلامذتنا إنشاءات هي في الواقع تفكير بواسطة الفلاسفة !!!
يبدو أن التوجيهات الرسمية نفسها تصادق على خلاصاتنا السابقة: نجد تعريفا للمعرفة الفلسفية في مايسميه المنهاج الكفايات الثقافية، أي المعارف المفترض إكتسابها وترصيدها في حصة الفلسفة
يقول المنهاج/التوجيهات ص9 (بعد ذكر الكفايات الاستراتيجية، التواصلية والمنهجية):
3.1.4.كفايات ثقافية:
-اكتساب معارف فلسفية أساسية واستيعابها استيعابا جيدا
– استدعاء معارف متنوعة رافدة للتفكير الفلسفي (أدبية، فنية، علمية سياسية..)
– تنمية القدرات الخيالية الإبداعية من خلال إنتاجات شخصية تستثمر الأفكار والنظريات الفلسفيبة المكتسبة أو اشكال الثقافية الأخرى (التراث، الثقافة الشفوية، الابداعات الفنية، القصة،الشعر، المسرح،الرواية..إلخ)
لا أعتقد أن هذا الاقتباس يحتاج إلى تعليق، هناك تنصيص واضح وصريح على أن المعارف الفلسفية الأساسية -ولعل المقصود بنعت “الأساسية” هو الأطروحات الفلسفية كما حفظها لنا تاريخ الفلسفة- ليست كل المعرفة أو الثقافة الفلسفية، بل تدخل في ذلك حتى الثقافة الشفوية !!
في المذكرة رقم 159 التي تعرف بمذكرة الأطر المرجعية والتي تسعى إلى تحديد إطار مرجعي تعاقدي لتوحيد الرؤى حول التقويم، نقرأ في صفحتها الرابعة تحديدا لــ المضامين التي يشملها الاختبار:
1.1.المضامين
تحدد المضامبين الفلسفية في العناصر التالية:-
إشكاليات فلسفية
– أطروحات فلسفية
– أقوال فلسفية
– أقوال أو مضامين أدبية وفنية وعلمية
– أمثلة من المعيش اليومي أ وتجارب مشتركة بين اللبشر، ومن تاريخ الفلسفة او من مجالات أخرى
لا أظن أن هذا الاستشهاد يحتاج بدوره إلى تعليق !!
وحتى لو لم تكن المذكرات والتوجيهات الرسمية تؤكد على ذلك، فالأمر لا يحتاج إلى ذكاء لنعرف أن المعرفة الفلسفية المقصودة في الثانوي -على الأقل- لن تكون سوى مزيج مما هو فلسفي بالمعنى التقني والثقافة العامة التي نفترض امتلاكها من طرف المتعلم !!
لسنا إذن في تكوين في سلك الدكتوراة seminaire مخصص لفلسفة التاريخ عند هيغل، حيث لن تسمع غير نصوص هيغل وتعليقات الشراح المبرزين على هيغل !!
التمييز داخل المعرفة الفلسفية بين القضايا المذهبية والعناصر المفاهيمية والاستدلالية
ميزنا سابقا بين المعرفة الفلسفية الأساسية أو المعرفة الفلسفية بالمعنى التقني وبين المعارف الرافدة بوصفهما مكونيين لما يسمى بالثقافة الفلسفية التي يفترض في المتعلم أكتسابها وتطويرها وتجنيدها في المرحلة الثانوية، ورغم كل هذه التوضيحات، لا تزال المعرفة الفلسفية بحاجة إلى مزيد من التحليل،
لننظر الآن إلى المعرفة الفلسفية الأساسية فقط وأقصد بها مجموع المعارف التي حفظها لنا تاريخ الفلسفة La vulgate
في الواقع تتكون هذه المعرفة من:
أ- قضايا/توكيدات (تتخد لدى أتباع المذاهب الفلسفية المتعصبين شكل دوغما)
ب- استعمال خاص للغة أثناء عرض القضايا، أي شحن مفاهميم اللغة الطبيعية بدلالات خاصة (الخاصية المفاهميمية للخطاب الفلسفي)
ج -استدلات لإثبات القضايا (بسبب حجاجية الخطاب الفلسفي)
لم هذا التمييز الجديد؟ أريد به تسويغ والمحاججة على صحة هذه الفكرة التي عبر عنها زميلي الصديق محمد الخلفي في منتدى الحجاج في معرض رده على تلميذ يشتكي من عجزه عن ضبط 16 أطروحة في كل درس، ضمن مقرر يحتوي على 12 درسا!!
لكنني لست ملزما بهم جميعا يكفيني موقف واحد أدعم به أفكاري حين أكون بصدد الدفاع عن هذه الأطروحة أو تحليلها، و قد لا أحتاج إلى أي موقف فلسفي بعينه إذا كنت أمتلك القدرة على تقديم الحجج الكافية لبيان أن معرفة الغير ممكنة، وقد أتبنى حجج فلاسفة كثيرين دون أن أشير إلى أي واحد منهم على اعتبار أن أفكار الفلاسفة لا تظل دائما ملكيات خاصة لهم، ففور نشرها تصبح ممتلكات عمومية يمكن لأي كان أن يتبناها و يتحدث بها ناسبا إياها إلى نفسه، فأنا لست في حاجة إلى ذكر كانط كلما أردت أن أقول إن للإنسان قيمة مطلقة ، كما لست في حاجة إلى الاستشهاد بأرسطو أو ديكارت كلما أردت أن أقول إن الإنسان كائن عاقل و هكذا. و على نفس المنوال، يمكنني تحليل الأطروحة القائلة بأن معرفة الغير مستحيلة من غير الاستشهاد بأحد بعينه، بل كل ما يلزمني هو امتلاك أفكار تسير في هذا الاتجاه قد تكون لفلاسفة أو لكتاب آخرين من غير الفلاسفة و قد تكون أفكار مشهورة و سائدة أو خلاصات لتجارب من الحياة اليومية
طرح جريء بدون شك ! سيثير رعب الكثيرين ، وسيرفضه آخرون ، فلندع المرعوبين ورعبهم، ولكن أناشد المعترضين المحاججة على إقناعنا بتهافت هذا الطرح!
هل ينبغي أن أذكر كانط كلما قلت إن للإنسان قيمة مطلقة، او ذكر إسم ديكارت كلما قررت أن أفتح فمي لأقول أن البحث عن الحقيقة يقتضي اولا الشك ..!؟ أو ذكر مونتيسكيو كلما تحدثت عن فصل السلطات.. إلخ
لقد غدت هذه الأفكار الآن جزءا من الثقافة العامة وبعضها دخل الفضاء العمومي والنقاش السياسي.. ومن الجيد نسبة هذه الأفكار الى أصحابها، لكن ذلك لن يزيد عن كونه نوعا من الحجاج بالسلطة لتدعيم الاستدلال، وكبرهان على الاطلاع وقوة الذاكرة أو ربما لمنح المفاهيم دلالات خاصة مستوحاة من النسق الفلسفي للإسم المستشهد به
لهذا السبب أقترحت قبل قليل التمييز داخل المعرفة الفلسفية الأساسية بين الأطروحات الفلسفية والتي تتخد شكل قضايا حملية توكيدية من جهة والعناصر المفاهيمية والاستدلالية من جهة ثانيا
تتجلى القضايا الحملية التوكيدية في أفكار قبيل:
– الوجود صدر عن الواحد نتيجة الفيض (الفارابي)
– السببية مجرد اقتران ناتج عن العادة (هيوم)
– العقل صفحة بيضاء (لوك)
– النفس فكرة الجسم (اسبينوزا)
– العالم المحسوس نسخة وظلال لعالم المثل(أفلاطون)
– التاريخ تجل للروح المطلق في سعيه لوعي ذاته (هيغل)
– الصيرورة الاجتماعية نتيجة للتناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج (ماركس)
– التاريخ سيرورة بدون ذات (ألتوسير)
– نهاية التاريخ (فوكو ياما)
– محرك الوجود إرادة عمياء لا عقلانية (شوبنهاور)
إلخ…
سأسمي هذا الجزء من المعرفة الفلسفية الجزء المذهبي الدوغمائي او الجزء الصلب أو الدوحة (الشجرة) العظيمة الذي لا تستطيع اقتلاعها من تاريخ الفلسفة لاستعمالها دون أن تقتلع معها إسم الفيلسوف، لكن بجانب الجزء المذهبي الصلب هناك الجزئيات الاستدلالية والمفاهيمية والتي تشبه شجيرات صغيرة يمكن اقتلاعها واستنباتها في تربة أخرى لأنها لا تحمل طابع الفيلسوف أو مذهبه، إنها ملك مشاع كما قال الصديق زارا. يتعلق الأمر بتحليلات واستدلالات ومفمهة من قبيل:
– “نظرة الغير قد تخجلني أحيانا” ! هل أنا مضطر لذكر هذه الجملة مقرونة بإسم سارتر، ألا أرى بدوري أن نظرة اللغير تخجلني !؟ وكذلك الأمر بالنسبة لكون الغير هو الآنا الذي ليس أنا
-“يتكون المجتمع من طبقات”، هل من الضروري أن أستعمل هذا المنظور لتحليل البنية الاجتماعية في إنشاء فلسفي مقرونا بإسم ماركس
– “لا يوجد الشيء ولا يعرف إلا بنقيضه” ! هل من الضروري ذكر هذه الفكرة مقرونة بإسم هيغل؟ ألا يقول المثل السائر: بضدها تعرف الأشياء
– “كل شيء في صيرورة والثبات وهم”. هل من الضروي قولها منسوبة غلى هيراقليط؟ ألآ نقول: دوام الحال من المحال !؟
– “لفحص سلة فواكه تضم الصالح والطالح التالف،يحسن بنا إفراغها أولا من كل مافيها”، وعزل الفواكه خارجها في فسحة، عوض محاولة انتقائها وهي مكدسة داخل السلة… هل ينبغي نسبة هذا المثال إلى ديكارت على الدوام !؟
لنحاول الآن أن نستخلص النتائج المرتبة عن كل التمييزات السابقة فيما يخص تصورنا للدرس الفلسفي
التتمة:
by
انا اشكركم على كل المجهودات التي تقومنا بها لمساعدتنا
اتمنى لكم المزيد من الازدهار
جزاكم الله خيرا