معضلة المقدمة في الإنشاء الفلسفي على ضوء المذكرة159
إن المقدمة بوصفها إعلانا عن الموضوع، والتمهيد بوصفه مقدمة للمقدمة لهو معضلة حقيقية. وفي كل شيء يتكون ويظهر بعد أن لم يكن، نجد أن الانبثاق هو اللحظةالحرجة! في خروج الجنين من رحم أمه، في تمزيق النبتة لغلاف البذرة، في الإعلان الأول عن الحب للمحبوب..!
من الاختلاف المتوحش إلى الحوار:
مادام الفلاسفة قد اختلفوا حول تعريف الفلسفة ذاتها !! ومادمت تجد بصدد كل إشكال فلسفي رأيين متعارضين على الأقل، فكيف نعجب إن اختلف مدرسو الفلسفة في تصورهم للمنهجية، ولكفية إقدار التلاميذ على امتلاك ناصيتها وممارستها.
بيد أن هذا الحق (أي حق الفلاسفة أو مدرسي الفلسفة) ليس حقا مطلقا، إذ يقابله واجب ومسؤولية… واجب إعداد التلاميذ ليجتازوا بنجاح امتحانا وطنيا يحل فيه مصحح مجهول محل المدرس! عندها يغدو اختلافنا المُمتدح كابوسا بالنسبة للمتعلم بكل بساطة.. من هنا حاجتنا إلى توحيد أو على الأقل توضيح الرؤى لأنفسنا ولبعضنا البعض ولتلامذتنا ضمانا لمبدأ تكافؤ الفرص بين المتعلمين.
وهناك قضايا منهجية محددة بمثابة أوراش تنتظر منا أن ندشن التفكير فيها والتداول بشأنها، من قبيل:
-مقدمة الإنشاء الفلسفي، ماغايتها، ما وظيفتها في علاقتها بالإنشاء ككل، وماهي مكوناتها..
-مالمقصود بالتحليل، سواء كان تحليلا لنص او قولة أو لمفردات سؤال؟ وكيف للتلميذ أن ينجز مطالب التحليل عمليا…؟ وما موقفنا عمن عبارات من قبيل: تضمن نص مفهوم كذا ويعني كذا… واستعمل أسلوب كذا وأسلوب كذا…
-ما المقصود بالمناقشة؟ وما موقع ووزن ما يسمى مواقف مؤيدة وأخرى معارضة داخل مطلب المناقشة..؟
– مادور الخلاصة؟ مجرد حوصلة؟ المكان المفضل للتعبير عن الرأي الشخصي الذي يفترض اننا امتنعنا عن إبدائه أثناء العرض..؟
وبالمناسبة، فقد سبق لثلة من المدرسين التداول بشأن هذه القضايا غير ما مرة في نقاشات طويلة وخصبة شهدتها صفحات منتدى الحجاج والمقالة الحالية إنما ولدت في غمار تلك النقاشات..
نبدأ إذن كما يبدأ الإنشاء الفلسفي نفسه أي من المقدمة
1-مقدمة الإنشاء الفلسفي:
ظاهرة الصيغ النمطية:
مادفعني إلى الاشتغال على المقدمة وإيلائها كل هذه الأهمية هو ظاهرة هذه المقدمات النمطية التي تطفح بها إنشاءات التلاميذ والتي يبدو انها لقنت لهم في مكان ما، من قبل مدرس أو كتاب مدرسي رسمي او مواز..تبدأ هذه المقدمات عادة بصيغ مثل:
– يتأطر النص ضمن مفهوم كذا الذي أثار نقاشا بين الفلاسفة تناوله كل واحد منهم من زاويته الخاصة.. فماهو..إلخ
-يتأطر النص ضمن مجزوءة كذا ومفهوم كذا وبالضبط محور كذا.. فماهي أو ماهو..
– يتناول النص الذي بين أيدينا مفهوم كذا ويدل في معناه الفلسفي على كذكا وكذا.. إذن ماهو… إلخ
قبل الجكم على هذه المقدمات، يجدر بنا أن نلقي نظرة على مذكرة الأطر المرجعية رقم 159 والتي يفترض أنها تقدم لنا “إطارا مرجعيا” نمرن على ضوئه تلامذتنا على كفايات الإنشاء الفلسفي ونصحح بناءا عليها إنتاجاتهم سواء أثناء التقويم التكويني أو الجزائي
المذكرة 159، الفهم و المقدمة !
لعلكم لاحظتم ما تتضمنه مذكرة الأطر المرجعية التي تحمل رقم 159 من اللبس. إذ لا تتحدث عن مقدمة أو حتى عن طرح إشكالي، وعوض ذلك تستخدم المصطلحات والترسيمة التالية (ص7):
الفهم:
-تحديد موضوع النص؛
-تحديد الإشكال المطروح؛
-تحديد فكرة النص أو أطروحته.
التحليل:
-إعادة صياغة الإشكال من خلال أسئلته الأساسية؛
-شرح الأطروحة في علاقتها بمفاهيم النص؛
-إبراز الحجج و دورها في النص.
المناقشة:
– مناقشة أهمية الأطروحة من حيث قيمتها وحدودها
-طرح إمكانيات أخرى تفتح أفق التفكير في الإشكال الذي يثيره النص.
التركيب:
-استخلاص نتائج التحليل و المناقشة؛
– إبراز المجهود الشخصي للتلميذ.
الجوانب الشكلية:
-اللغة والأسلوب ووضوح الخط..
ولكن أين هي المقدمة !؟
ماموقع مقدمتنا في هذه الترسيمة؟! يميل بعض الزملاء إلى المطابقة بين المقدمة واللحظة الأولى في المذكرة أي “الفهم”، فيدخلون في المقدمة (التي تتجسد تيبوغرافيا في الفقرة الأولى) ضرورة “تحديد فكرة النص او أطروحته”، وبعضهم يقف حائرا أمام هذه الصيغة وبعضهم يرفضها بكل بساطة ولا يلتفت إليها، ولكن ما البديل في هذه الحالة؟
من الممكن تجاوز هذه الأشكال من الغلو، إذا ما توقفنا أصلا عن المطابقة بين “الفهم” المذكور في المذكرة و”المقدمة”: إذ أزعم أن من صاغ هذه المذكرة قد ارتكب خطأ فادحا – خصوصا وأنه يؤسس لتصور منهجي يتمتع بقوة المؤسسية (أي التأسيس) – حين قصر الفهم على اللحظات الأولى من الموضوع، وكان حريا به أن يسميه “طرحا إشكاليا”، ويسمي ما تبقى بناءا إشكاليا متكونا من تحليل ومناقشة، فتنسجم بذلك مصطلحات الإنشاء الفلسفي مع مصطلحات الدرس الفلسفي. ولم لا؟ خصوصا أن الثاني ينبغي أن يكون نموذجا حيا للأول، ويفترض في المدرس أن يقدم لتلامذته من خلال إنجازه لدرسه في ممارسته الفصلية اليومية صورة عن منهجية الإنشاء أو بالأحرى التفكير الفلسفي، لأن الإنشاء والدرس ليسا سوى تمارين في التفكير الفلسفي، وكلاهما يخضعان لنفس مطالب التفكير الفلسفي (ولكن هذا موضوع آخر يحتاج منا إلى مقالة مستقلة).
ثم إن المقدمة ليست وحدها محل البرهنة على الفهم، اللهم إلا إذا تعلق الأمر بفهم “أين يقع النص في المقرر الدراسي” !! لكن جل المصححين يعلمون أن الفهم الحقيقي للنص او القولة أو السؤال إنما يتمظهر في جميع لحظات الموضوع، أي أنه كفاية مستعرضة إن صحت هذه العبارة! ولا أدل على ذلك من الأفعال المعرفية التي تندرج تحت عملية الفهم في صنافة بلوم…
بعد مشكلة المطابقة بين “الفهم” و”ألمقدمة” توادهنا مشكلة أخرى وهي مكونات المقدمة نفسها:
لا جدال في المكون الأوسط، على أساس ان المقدمة هي محل الطرح الإشكالي. ولكن يلزم مع ذلك التنبيه إلى قضية جوهرية وهي أن المقصود بتحديد الإشكال المطروح، إنما هو الإشكال المطروح في النص أو القولة وليس إشكال الدرس، وفي غالب الأحيان لا تتطابق إشكالات النص مع إشكالات الملخص، أو لنقل إن النص يطرح إشكالات الدرس بشكل مُحوّر وملتو وغير مباشر.
والآن ماذا عن العنصرين المتبقيين: تحديد موضوع النص؛ و تحديد الإشكال المطروح !؟
تحديد أطروحة النص في المقدمة !
من جهة أخرى، أتساءل: هل يمكن أن تتضمن المقدمة تصريحا بأطروحة النص أي بجواب النص على الإشكال المطروح وفق التأويل “الحرفي” للمذكرة 159؟ في هذه الحالة ألن تفقد المقدمة دورها الخطابي المتمثل في شد انتباه القارئ وتشويقه؟ أليست المقدمة محلا للطرح الإشكالي حيث يفترض ان الأمور ملتبسة، محيرة، غير واضحة أو متناقضة؟ بحيث يكون النص بأطروحته وأفكاره وكذاالأطروحات المضادة في تطابقها أو تقاطعها أوتعارضها أو تجاوزها لهذه الأطروحة.. بمثابة محاولات لرفع هذا اللبس أثناء سيرورة بناء الإشكال
التأويل أو “التخريجة” التي أقترحها هو أن ماتسميه المذكرة 159بمرحلة “الفهم” لا يطابق الفقرة الأولى من إنشاء التلميذ أي المقدمة ولايتوقف عندها، بل يمتد إلى اللحظة الأولى من العرض أي لحظة الإعلان عن أطروحة النص، فتصبح الخطاطة كالتالي:
الفهم:
-تحديد موضوع النص؛
-تحديد الإشكال المطروح؛
———————————–
العرض:
-تحديد فكرة النص أو أطروحته.
التحليل:
-إعادة صياغة الإشكال من خلال أسئلته الأساسية؛
-شرح الأطروحة في علاقتها بمفاهيم النص؛
-إبراز الحجج و دورها في النص.
المناقشة:
-مناقشة أهمية الأطروحة من حيث قيمتها وحدودها
-طرح إمكانيات أخرى تفتح أفق التفكير في الإشكال الذي يثيره النص.
—————————————
الخاتمة
التركيب:
-استخلاص نتائج التحليل و المناقشة؛
– إبراز المجهود الشخصي للتلميذ.
الجوانب الشكلية:
-اللغة والأسلوب ووضوح الخط..
بمعنى أننا سنكتفي برسم خط وهمي يمر فوق ماسمته المذكرة ” تحديد فكرة النص أو أطروحته” كي يندرج هذا المطلب ضمن العرض. وهذا ما فعله محررو المذكرة أنفسهم عند حديثهم عن منهجية التعامل مع القولة (ص8):
الفهم:
-تحديد موضوع القولة؛
-إبراز الإشكال المطروح، الصريح أو الضمني؛
-إدراك مجال السؤال المرفق بالقولة : حدوده وترابطاته .
التحليل:
-استخراج الأطروحة التي تتضمنها القولة وتفسيرها ؛
-الوقوف عند الحجاج الذي تفترضه والذي يمكن توظيفه لبنائها؛
-توظيف المعرفة الملائمة لمعالجة الإشكال المطروح .
بهذا نكون قد حللنا مشكلة تقنية ! ولكن سيعترض البعض مثلا بأن بداية العرض ليست المكان المناسب للإعلان عن أطروحة النص، التي لا ينبغي التصريح بها إلا في أعقاب لحظة التحليل على شكل إستنتاج. وهو اعتراض مقبول ينتصر للمقاربة الإستقرائية أي المرور من المفصل إلى المجمل، بيد أني لا أرى مانعا من قبول المقاربة الاستنباطية بدورها، أي الانتقال من المجمل إلى المفصل. خصوصا إذا أعقب الإعلان عن الأطروحة تساؤل يروم الاستفهام عن دواعي تبني النص لمثل هذه الأطروحة كصيغة انتقالية للشروع في تحليل أفكار النص وحجاجه..
تحديد موضوع النص: هل له من قيمتة و وظيفة؟ أم أنه بالأحرى عائق نفسي وابستملوجي؟
والآن ماذا عن المطلب الأول (تحديد موضوع النص )؟ ما قيمة أن يحدد التلميذ موضوع النص في المقدمة؟ وعندما أتساءل عن هذه القيمة، فإنما أربطها بالمعطيات التالية:
أ- يفترض أن نبدأ في المقدمة بشيء ما يكون منطلقا للاستشكال قضية النص أو القولة أو السؤال؟
ب- أن هذا التحديد يختزل عادة في التعرف على المجزوءة أو الدرس وأحيانا المحور الذي يعتقد أن قضية النص تندرج تحته
ج-عندما يُنصح التلميذ في إطار التوجيهات المنهجية للإنشاء الفلسفي، بأن يمهد للأسئلة المطروحة بإدراج النص أو القولة أو السؤال أولا ضمن مجزوءة أو مفهوم أو حتي محور، ألا يكون في هذ الحالة قد تهيأ نفسيا للإنسحاب كذات مفكرة، وعوض أن يتحمل مسؤولية الإشكال المطروح بوصفه إشكالا مطروحا عليه بشكل شخصي وخصوصا فإذا تعلق الأمر بمواضيع في الشخص اوالغير أو الدولة أو العنف أو الحق أوالواجب أ والحرية أو حتى السعادة..، ويخلي السبيل لـ “لإطار” الذي هو الدرس أو المحور او حتى المجزوءة، مادام أن المطروح عليه يتأطر وينحشر ضمن الجاهز، ضمن ما سبقت دراسته أو تدوينه أي ضمن مجزوءة وأو درس او محور !؟ أعتقد أن تأطير الموضوع ضمن مجزوءة او درس او محور لايعني عند التلميذ سوى أن الموضوع برمته مطروح على الفلاسفة، تلك الكائنات الغريبة التي تستوطن الدرس،
د- وأخيرا فإن الربط بين هذا “التأطير” أو التحديد والأسئلة التي تليه يبدو مصطنعا ومتكلفا، بل إن الوحدة منعدمة، حيث يجد المصحح نفسه أمام عنصرين لارابط بينهما: تأطير الموضوع ثم سلسلة الأسئلة التي تختتم بها المقدمة ! والمثال التالي بوضح مقصدي:
يندرج النص الذي بين أيدينا ضمن مجزوءة السياسة وبالضبط ضمن مفهوم الحق ويعالج كذا وكذا، إن ماهو أساس الحق؟ هل هو طبيعي أم ثقافي؟
من أجل تقريب وجهات النظر بيننا كمدرسي فلسفة، أرى من المناسب أن نسأل أنفسنا: مادام الأمر يتعلق بطرح إشكال وتساؤلات، فكيف تطرح الأسئلة داخل مسار الفكر الفلسفي نفسه!؟ كلنا ندرس لتلامذة الجذع المشترك أن التساؤل الفلسفي يخرج من رحم الدهشة او هو تعبير عن دهشة. فهل يشذ ميلاد السؤال الفلسفي داخل الإنشاء الفلسفي عن هذه القاعدة؟! ألا يفترض في التلميذ أن يعيد إخراج mise en scene هذه السيرورة، بحيث تبدو أسئلته ثمرة دهشة أو حيرة أمام تناقض أو التباس أو مفارقة.. فيكون طرح السؤال منتهاها الطبيعي؟
أليس المطلوب المطلوب إذن هو ان يقحم ذاته في فعل التفكير، وذلك بان يبين كيف أن إشكال النص او القولة أو السؤال يطرح نفسه علينا؟ كيف يسائلنا ويستوقفنا؟ كيف ينبثق من قلب تناقضات أو التباسات معينة يكون الإقبال على النص أوالقولة أو السؤال بمثابة توضيح لها أن بحث فيها !؟
عندما نطلب من التلميذ ان يجعل من التمهيد -وهو أول أجزاء المقدمة- موضعا للإستشكال وفرصة لتبرير وتسويغ الإشكال، فإننا بذلك لا نفعل شيئا سوى إلزامه منذ البداية بأن يتبنى المشكل المطروح او يفكر على الأقل لماذا هو مطروح، وبالمقابل فعندما نطالبه بأن يبدأ بتأطير الموضوع في مجزوءة وا درس أو حتى محور، ألا نكون بذلك قد “شرطناه” (من الإشراط) ليفكر في الموضوع داخل حدود الدرس، وكلنا يعلم جيدا أنه مامن درس أنجزه مدرس يوما ما، كان كافيا لمعاجلة موضوع إنشائي والتفكير فيه، اللهم إلا إذا كان قد صاغ درسه وهو يفكر في هذا الموضوع الإنشائي !!
ماهو البديل إذن؟ قبل صياغة اجتهادي الخاص فيما يتعلق بمقتضيات المقدمة والشروط التي ينبغي أن تستوفيها، لنلق نظرة -من باب الاستئناس-على الطريقة التي ينظّر بها الفرنسيون للمقدمة، لمادمنا قد استوحينا من الفرنسيين مبدأ تدريس الفلسفة في الثانوي مثلما استوحينا منهم دروسها وحتى مرجعياتها:
الاختيارات المنهجية في التقاليد الفرنسية:
تميل أغلب أدبيات التقليد المدرسي الفرنسي (سواء في الكتب المتخصصة في المنهجية أو التوجيهات المتضمنة في الكتب المدرسية)، إلى اختيار منهجي يتمثل في الانطلاق -في لحظة التمهيد لطرح الإشكال-من بداهة من بداهات الحس المشترك ومقابلتها بالأطروحة الفلسفية الواردة في النص أو المفترضة في السؤال من أجل خلق توتر يشرعن طرح السؤال ( وسترد أمثلة ذلك بعد قليل)
فــ ميشل غورينا مثلا في كتابه “دليل الإنشاء والتعليق على النص في الفلسفة” (وهو كتاب اصطنع فيه منهجية اسبينوزا في كتاب الأخلاق! وحاول تعقيد منهجية الإنشاء بالرجوع إلى نصوص الفلاسفة أنفسهم) وبالضبط في فصل بعنوان” قواعد من أجل طرح مشكل فلسفي”، يقترح المقتضيات المنهجية التالية (مع العلم أنني انقل لكم فقط العناوين والخلاصات دون المحاججة والتفاصيل):
تعريف رقم 1: الإنشاء الفلسفي فحص لمشكل فلسفي
تعريف رقم2: المقدمة هي ذلك الجزء من الإنشاء المخصص لطرح المشكل
القاعدة رقم1: في إنشاء فلسفي، ينبغي الاكتفاء ببحث مشكل واحد؛
القاعدة رقم2: يصاغ المشكل الفلسفي الذي يعالجه الإنشاء حصريا في المقدمة
القاعدة رقم A 3 إذا تضمن منطوق السؤال مطلبا بتعريف حد (أو مفهوم) واحد [مثلا: مامعنى حياة سعيدة؟]، فالمطلوب هو صياغة تعريف مضاد للدلالة المتداولة والبديهية للحد المقترح
القاعدة رقم B 3: إذا انطوى منطوق السؤال على حدين، فيجب أن نقيم بينهما علاقة مفارقاتية
القاعدة رقم6: لابد للمقدمة ان تتضمن: تذكيرا بدلالات الحس المشترك- أطروحة يثير تعارضها مع الحس المشترك إشكالا أو مشكلة- السؤال الناتج عن تناقض الأطروحة والحس المشترك
المرجع:Michel GOURINAT, Guide de la dissertation et du commentaire composé en philosophie. Hachette 1976 pp:32-36
المرجعية الثانية التي أحب ان نستأنس بها في نقاشنا الحالي هي كتاب جاكلين ريس “المناهج في الفلسفة”، ومن الجدير بالذكر أن كتابها هذا حافل بنماذج لإنشاءات أو لحظات من إنشاءات منجزة بالكامل في آخر كل فصل لتوضيح التوجيهات المنهجية النظرية للفصل!!
نجد في كتاب ريس القارئ أمثلة توضيحية أو تطبيقية لما أورده غورينا إضافة إلى صيغ أخرى إضافية للمقدمة. لكنها تتفق مع غورينا في مطلب “التوتر” الذي ينبغي أن يطبع التمهيد المفضي إلى طرح الإشكال، والذي يتناقض تماما مع “السرديات” التي نحث عليها تلامذتنا!! أو التي توحي بها المذكرة أعلاه عندما نقرأ فيها عبارة: “تحديد موضوع النص”
تقول ريس:
“المقدمة لحظة حاسمة يستشف منها مسار العمل الفلسفي ككل، ولكن عم تعلن المقدمة بالضبط؟”
تجيب ريس من خلال تحديد أربع وظائف للمقدمة:
-كونها مدخلا إلى التساؤل الفلسفي
-وظيفة الأشكلة
-الوظيفة المفارقاتية aporetique او إثارة المفارقات
– التلميح إلى المراحل المقبلة التي سيمر منها التفكير خلال الإنشاء، ولكن مع تجنب الإعلان المباشر والمسبق عن الجواب أو الحل
وكما ذكرت أعلاه، فجدة كتب ريس يتجلى في أنها تشفع تنظيراتها المجردة دائما بنماذج تطبيقية، وفي هذا الإطار، نقرأ تحت عنوان:
بعض المساعي التقديمية الممكنة
queleques demarches introductifs possibles
كيف نصوغ مقدمة ونؤشكل منطوق السؤال؟ [مع وعينا بمخاطر] الصيغ المصطنعة والوصفات السحرية. يمكن أن نستعرض [مع ذلك] بعض الأساليب التقديمية المفيدة للطلبة إذا ما استلهموا روحها كأرضية لمزيد من البحث والإبداع une matrice à recherches
أ-استثمار التناقضات
مثال: هل يمتلك التفكير في الموت موضوعا ما؟
مقترح مقدمة:يظهر هنا أن التفكير العقلاني للإنسان يتخد من تناهينا موضوعا له. وسواء تعلق الأمر بالموت كوفاة أو الموت في معناها المجرد بوصفها البنية المتناهية والمحدودة للفردية، يظهر أن التفكير في الموت يفكر فعلا في موضوع محدد. ولكن أليس التفكير في الموت تفكيرا في “لاشيء”، فعندما نفكر ف ي الموت يفتقد تفكيرنا هذا لكل محتوى واقعي ومحايث. ألا تنفلت الموت إن من الفعالية التأملية؟..إلخ
ب-إقامة ضرب من التعارض بين الرأي الشائع أو التمثل المشترك والمفارقة الكامنة في السؤال
-مثال: هل من الممكن أن توجد حقائق جزئية؟
مقترح مقدمة: نميل إلى الاعتقاد عامة، بأن الحقيقة كل منسجم وليس مجرد شذرات أو أجزاء غير مكتملة..إلخ
ج-استثمار التعارض بين النظريات الفلسفية: يمكن أن نطبق مبدأ التوتر والتناقض على النظريات الفلسفية ذاتها، شريطة امتلاك معرفة فلسفية دقيقة بالمذاهب، وعدم الوقوع في فخ الاستغراق في التفاصيل المعرفية منذ البداية!
مثال: هل هناك ما لا تستطيع اللغة قوله؟
نموذج مقدمة: يستفهم منطوق السؤال، من جهة، حول اللغة بوصفها وظيفة التعبير الكلامي عن الفكر، أو القدرة على إخراج هذا الفكر إلى الوجود بواسطة علامات. ولكنه يوحي ضمنيا، من جهة أخرى، بوجود ما لا يمكن التعبير عنه (برغسون والمتصوفة)، وهذا ما يتعارض والتصورات الفلسفية التي تمنح الأولوية للخطاب واللغة، فهذا الذي لا تستطيع اللغة التعبير عنه وإخراجه إلى الوجود وموضعته قد لا يعدو كونه مجرد سديم حسب هيغل..إلخ
د-التنسيب التاريخي €قد يقدم السؤال نفسه كحقيقة مطلقة. فنلجأ إلى الكشف عن محدودية هذه الحقيقة، فنجعل منها موضع مساءلة ممكنة
مثال: هل يتوقف تأنسن البشر على الشغل؟
نموذج مقدمة: يدور السؤال حول الوظيفة التكوينية للشغل، ولكن هل تحمل هذه الأطروحة بداهتها في ذاتها؟ إذا بدا الشغل من جهة كإبداع وتملك للعالم من طرف الإنسان، فإنه لم ينل غير التبخيس في الكثير من المجتمعات: ألم يفضل البعض طريق التأمل؟.. إلخ
المرجع:
Jacqline Russ, Les methodes en philosophie. Armand Colin 1992 pp:114-118
نحو تحديد إجرائي لوظيفة المقدمة ومكوناتها
بعد كل ما سلف، نستطيع القول بشيء من اليقين أن :
-المقدمة هي محل الطرح الإشكالي، وهذا الإقرار شبه بداهة تحظى بالإجماع،
– أن تحديد الإشكال والتفكير في صياغته على شكل جمل استفهامية، يفترض تفكيرا لا يقل عنه إجهادا! إذ لما كان الإشكال الفلسفي لا ينبثق فجأة ولا ينقدح في الذهن على حين غرة كالوحي ولا ينبت كالفطر.. كانت هناك سيرورة للفكر تفضي إلى إكتشاف المشكل أو انبثاقه…
– يعبر عن هذه السيرورة بالمفارقة أو الإحراج أو التوتر او الدهشة..،
– وجود مثل هذه السيرورة يفرض على مقدمتنا أن تتضمن -إلى جانب الصياغة الاستفهامية للمشكل الفلسفي في متوالية من الأسئلة المترابطة- نوعا من التمهيد تكون وظيفته تبرير وتسويغ الإشكال
نستطيع إذن القول أن لمقدمة تتكون من:
أولا- تمهيد تفتتح به المقدمة من سطرين إلى أربعة أسطر (تقريبا وتبعا للحجم الكلي للإنشا الفلسفي)
ثانيا- طرح للإشكال ، في شكل جمل استفهامية تطرح في أعقاب التمهيد وهي نهاية المقدمة
غالبا ما يطرح التلاميذ الإشكال بشكل صحيح إلى حد ما، ولكنهم يفشلون فشلا ذريعا في كتابة تمهيد مناسب لهذا الإشكال المطروح
كيف نمهد؟ أو معضلة البداية والانبثاق
إن التمهيد بوصفه مقدمة للمقدمة لهو معضلة حقيقية، وفي كل شيء يتكون ويظهر بعد أن لم يكن، نجد أن الانبثاق هو اللحظةالحرجة! في خروج الجنين من رحم أمه، في تمزيق النبتة لغلاف البذرة، في الإعلان الأول عن الحب للمحبوب..! دعونا نبدأ بمثال أكثر دراماتيكية:
أريد أن اقترض مالا من صديقي، أريد أن “أسأله” مالا، قائلا: هل لك أن تقرضني بعض المال؟
ولكن قبل أن أطرح عليه هذا “الإشكال” العويص في زمن عز فيه الدرهم ، لابد من تمهيد
إذا اتبعنا التمهيدات النمطية، فهناك مقدمة جاهزة مثل:
المال مهم وكل إنسان يحتاج إليه، والعثور عليه صعب.. هل يمكنك أن تقرضني بعض المال !؟
أعترف مرة أخرى أن هذا التمهيد مقبول، ولكن هل يمكنني أن أستعمله في جميع المناسبات، سواء كنت أحتاج المال لأداوي إبني أو لأكمل دراستي أو لأسافر أو لأدفع ثمن غرامة مخالفة قانون السير ..!؟
لنأخد الحالة الأخيرة، أليس من الأفضل أن أقول لصديقي: لقد اشتريت سيارة، ولكني لازلت لاأتقن فن القيادة جيدا و لقد أكثروا من إشارات المرور في مدينتنا الصغيرة التي لاتستدعي ذلك، بحيث لم أنتبه إلى الضوء الأحمر .. وهكذا وجدت الشرطي يوقفني ويسجل لي غرامة… ألا أجد عنك مبلغ كذا وكذا لإنقاذ الموقف !؟
ما الأفضل؟ هذا التمهيد أم هذا:
المال مهم وكل إنسان يحتاج إليه، والعثور عليه صعب.. هل يمكنك أن تقرضني بعض المال !؟
صحيح أن هذه مقدمة مقبولة، وهي خير من أن أقول: “الجو ممطر والبرد قارس وهناك سيارات كثيرة تمر في الشارع، هل يمكنك أن تقرضني بعض المال !؟
أرى بعضهم يضحك ولكن هذا مايفعله الكثير من التلاميذ للأسف الشديد بحيث لاتجد أي علاقة بين التمهيد والإشكال المطروح
إلام أريد أن أخلص؟
ما أريد قوله أن التمهيد تمليه طبيعة الموضوع أي مضمون النص
عليّ أن أقرأ النص أولا لأرى ماهو المدخل المناسب إلى إشكاليته
وهناكك مئات بل آلاف المداخل الممكنة إلى إشكالية النص
خير تمهيد هو ذاك الذي يكشف عن مفارقة أو تناقض أو صعوبة نظرية أو عملية أو لبس أو إحراج… مما يجعل طرح الأسئلة طرحا ضروريا ومشروعا لحل هذا التناقض أو لفهم هذه المفارقة، وهذه الأسئلة هي النص أ والقولة أو أسئلة السؤال المفتوح وليست أبدا أو بالضرورة أسئلة الملخص
لهذا السبب فالمقدمة هي آخر ماينبغي كتابته أثناء مرحلة التخطيط الأولي بعد أن يكون الموضوع الإنشائي شبه مكتمل في المسودة
أختم بهذا النموذج التطبيقي لمقدمة إنشاء فلسفي اقتبستها م نالكتاب المدرسي غير الرسمي منهج الفلسفة (الشعبة الأدبية ص 81)
السؤال المطروح في الفرض هو قولة مذيلة بسؤال:
يقول كارل بوبر: ينفضح خطأ التصور العلمي أثناء البحث عن الحقيقة”
إلى أي حد يستفيد العلم من أخطائه ؟
وهذه على سبيل المثال مقدمة تتكون من تمهيد (باللون الأخضر ) وطرح للإشكال (باللون الأزرق) ولنلاحظ المؤشرات اللغوية الدالة على المفارقة باللون الأحمر !!
إذا كانت المعرفة الإنسانية قد برهتن على قدرتها على إنتاج النظريات العلمية وعلى اكشافها للعديد من الحقائق في شتى مجالات العلوم الدقيقة، فإن هذا التطور العلمي الذي كان يسعى إلى الدقة والموضرعية قد كشف عن مجموعة من الأخطاء والهفوات التي سقطت فيها النظريات العلمية. هل استطاع العلم إذن تحقيق ما يسعى إليه من دقة وموضوعية ؟ وإلى أي حد تعتبر الأخطاء والأزمات التي تعترض سبيل العلم عاملا ساعدا على تطوره ونضجه ؟
أملي ان تثير هذه الأرضية نقاشا في مستوى المهام الملقاة على عاتقنا كما في مستوى انتظارات تلامذتنا وخصوصا النجباء منهم
by