أرشيف التصنيف: مجزوءة الأخلاق

الحرية – مجزوءة الأخلاق

لا تجد كالحرية كلمة دلت على معان مختلفة كما يقول مونتيكسيو، ويتجسد ذلك في الأبعاد الكثيرة للحرية
سنتناول الحرية في هذا الملخص من زاويتين أو بعدين فقط:
– البعد الميتافيزيقي للحرية؛
– البعد السياسي الملموس للحرية.
أما عن البعد الأخلاقي للحرية، فلتراجع درسالواجب وخصوصا المحور الأول (الواجب والإكراه)
أما عن البعد أو التناول العلمي للحرية، فأنظر المحور الثالث من درس الشخص ( الحتميات النفسية والاجتماعية الشارطة للشخص التي كشفت عنها العلوم الإنسانية)
– أما عن البعد التاريخي للحرية، فيرجى الرجوع إلى درس التاريخ وخصوصا المحور الثالث: دور الإنسان في التاريخ

المحور الأول: الحرية بين الإرادة والحتمية أو البعد الميتافيزيقي للحرية.

ملحوظة:يسمى هذا البعد ميتافيزيقيا لأنه يتناول الحرية بشكل مجرد من حيث المبدأ العام لا في وضعية محددة ومخصوصة، أي حرية ذات من حيث أنها تتمتع بالإرادة.

مفاهيم لابد من استيعاب دلالتها قبل المضي قدما:
الحتمية:
وجود علاقات ضرورية ثابتة في الطبيعة توجب ان تكون كل ظاهرة من ظواهرها مشروطة بما يتفدمها او يصحبها من الظواهر الأخرى، وأن كل حادث يسبقه سبب يحتم وجوده على نحو دون آخر؛ والحتمية بالمعنى الفلسفي مذهب يرى ان جميع حوادث العالم وبخاصة أفعال الإنسان، مرتبطة ببعضها ارتباطا محكما
الإرادة و حرية الاختيار:
حرية الاختيار :libre arbitre القدرة على الاختيار بين أحد المقدورين أو اتصاف الإرادة بالقدرة على الفعل دون التقيد بأسباب خارجية. وهذا يدل على وجود تلازم بين معاني الحرية واللاتعين واللاحتمية، وإذا سلمنا بحرية الاختيار، وجعلناها مقصورة على الأحوال التي تتساوى فيها الأسباب المتعارضة، حصلنا على معنى آخر للحرية وهو حرية اللامبالاة وقد عرفوها بقولهم: هي القدرة على الاختيار من غير مرجح

طرح الإشكال:

الحرية خاصية موجود خالص من القيود، عامل بإرادته أو طبيعته، وتقابلها مفاهيم القيد والحتمية والضرورة والخضوع والعبودية. والإنسان يستشعر في نفسه أحيانا القدرة على الاختيار والترجيح أو فعل الشيء أو الامتناع عنه بإرادته، لكنه يعلم من جهة أخرى أن لحوادث العالم الطبيعي نظاما عِليّا حتميا لا مكان فيه للصدفة أو العبث، أفلا تخضع حرية اختياره لعلل وأسباب تشرطها بدورها؟ هل الحرية هي الاستقلال عن المحددات والحتميات أم مجرد وعي بها؟ كيف يستقيم القول بحرية الإرادة مع القول بحتمية الحوادث؟

معالجة الإشكال:

1- الإرادة بوصفها علة أولى وابتداءا مطلقا

الحرية أولا هي حرية الإرادة بوصفها مصدر الفعل الحر. والإرادة أن يشعر الفاعل بالغرض الذي يريد بلوغه، وأن يتوقف عن النزوع إليه توقفا مؤقتا، وأن يتصور الأسباب الداعية إليه، و الأسباب الصادة عنه وأن يدرك قيمة هذه الأسباب، ويعتمد عليها في عزمه، وأن ينفذ الفعل في النهاية أو يكف عنه. وقدرته على الاختيار بين التنفيذ والكف هي جوهر الإرادة، أو ما يسمى بــ “حرية الاختيار” وهي القول أن فعل الإنسان متولد من إرادته. قال بوسييه Bossuet: “كلما بحثت في أعماق نفسي عن السبب الذي يدفعني إلى الفعل لم أجد فيها غير إرادتي”، بمعنى أن اختبار حرية الإرادة يتم في الغالب عن طريق استبطان داخلي للنفس اعتمد عليه ديكارت بدوره ليعلن أنه يجد في نفسه حرية الاختيار أو إرادة لا يماثلها شيء في لا محدوديتها بل هي الدليل على أن الإنسان على صورة الله ومثاله؛ ويعرف ديكارت الإرادة بأنها القدرة على فعل الشيء او الامتناع عنه، إثبات أو نفي ما يعرض للذهن من أفكار أو تصورات بمحض الاختيار دون الإحساس بضغط من الخارج يملي هذه أو تلك. وقد اختبر ديكارت لا محدودية حرية الإرادة في فعل الشك الذي أقدم عليه! ذلك أنه وجد في نفسه القدرة على رفض كل الحقائق والشك في كل المعارف التي تشبثت بنفسه منذ الطفولة… بل إن الخطأ أوضح صور حرية الإرادة: فنحن لا نخطئ إلا لكوننا أحرارا لأن الخطأ ناجم عما تتمتع به الإرادة من قدرة على الحكم بشيء لا تتوفر بصدده على الدلائل الكافية من العقل.

2- حرية الإرادة وهم ناتج عن جهل بسلسلة الحتميات
يقوم التصور الديكارتي على فرضية مفادها أن الإنسان مملكة داخل مملكة الطبيعة، مستقل عن سلطانها. وهو ما ترفضه كل فلسفات الحتمية التي تنطلق من وجود علاقة سببية ضرورية بين حوادث العالم بما في ذلك الحوادث النفسية (الرغبات، الأفكار، الاختيارات…) التي هي بدورها معلولات لأسباب خارجية، فحوادث العالم الخارجي عند ابن رشد مثلا تجري على نظام محدود ترتيب منضود لا تخرج عنه، والإرادة والأفعال لا تتم إلا بموافقة الأسباب الخارجية، لأن أفعالنا ناتجة عن تلك الأسباب الخارجية، وكل معلول إنما يكون عن أسباب محدودة ومقدرة، يكون بالضرورة محدودا ومقدرا بدوره. ومثال ذلك أن أنه إذا ورد علينا أمر مشتهى من خارج اشتهيناه بالضرورة من غير اختيار، مثلما أنه إن ورد أمر مكروه من خارج كرهناه وهربنا منه بالضرورة
ولكن من أين ينبع هذا الإحساس الداخلي القوي بالحرية رغم ذلك !؟
ينطلق اسبينوزا في جوابه على هذا السؤال من نفس ما انطلق منه ابن رشد، وهو أن كل شيء كيفما كان محدد بعلة خارجية تتحكم في وجوده وفعله باستثناء الجوهر أو الله الذي هو علة وجوده، فلا يتصرف إلا وفق الضرورة التي تمليها طبيعته، أما بقية الموجودات وخصوصا البشر، فإن الحرية التي يتفاخرون بامتلاكها لا تعدو أن تكون وهما ناتجا عن الجهل: أي عن وعيهم برغباتهم وجهلهم بالعلل التي تجعلهم يرغبون في شيء من الأشياء.
لا وجود إذن لفعل حر بمعنى فعل لاعلة له تحدده، والحرية الوحيدة الممكنة هي وعي هذه الضرورة، والتصرف وفق الطبيعة الجوهرية للإنسان أي الطبيعة العاقلة، لذلك قيل إن الحرية هي الحد الأقصى لاستقلال الإرادة العالمة بذاتها المدركة لغاياتها. وقيل أيضا إن الحرية هي علية النفس العاقلة. ومعنى ذلك أن الفاعل الحر هو الذي يقيد نفسه بعقله وإرادته، ويعرف كيف يستعمل ما لديه من طاقة وكيف يتنبأ بالنتائج وكيف يقرنها ببعضها البعض وكيف يحكم عليها ، فحريته ليست مجردة من كل قيد ولا هي غير متناهية، بل هي تابعة لشروط متغيرة توجب تحديدها وتخصيصها

فقرة انتقالية من المحور الأول إلى المحور الثاني:

لقد أخطأ الثراث الفلسفي عند مقاربته لإشكالية الحرية من خلال مفاهيم الإرادة والاختيار والحتمية حسب حنا آرندت : فبدل توضيح هذه الإشكالية، عمل على نقلها من حقلها الأصلي أي مجال التجربة الإنسانية و مجال السياسة إلى مجال داخلي يتمثل في الإرادة، وبذلك أذيبت الحرية ضمن بقية القضايا الميتافيزيقية كالزمان والعدم والنفس… والحال أنه من غير الممكن أن نختبر الحرية ونقيضها أثناء الاستبطان أي ذلك الحوار الذي يجري بيني وبين ذاتي والذي تتولد من خلاله القضايا الفلسفية والميتافيزيقية الكبرى

المحور الثاني: الحرية والقانون أو البعد السياسي للحرية

طرح الإشكال:
رأينا مع حنا آرندت في معرض نقدها للتناول الميتافيزيقي للحرية: إننا لا نعي الحرية في إطار علاقتنا بذواتنا، بل في خضم تفاعلنا مع الغير. إذا صح ذلك، ألن يكون وجود هذا الغير في حد ذاته حدا من حريتي بفعل القانون الذي ينظم علاقتي به؟ إذا كانت الحرية نقيضا للقيود والموانع، فكيف لها أن تتعايش مع القانون الذي هو مرادف لفكرة القيود؟

معالجة الإشكال:

1-القانون كشرط لوجود الحرية ( ما ينبغي أن يكون)

قد يحلم الواحد منا بحرية مطلقة دون حدود، يفعل بواسطتها ما يشاء دون قيد من مجتمع أو قانون، بيد أننا ننسى بأن وجودنا الطبيعي نفسه يقتضي الخضوع لقوانين ! مثل قوانين الفيزياء كالجاذبية وقوانين البيولوجيا كاندثار الخلايا؛ ثم إن هذا الحلم يتضمن تناقضا غالبا ما لا يعييه صاحبه: صحيح أن كل فرد يتمتع خارج القانون أو المجتمع المدني بحرية كاملة – كما يقول توماس هوبز – لكنها حرية غير مجدية، لأنها في الوقت الذي تمنحنا امتياز فعل كل ما نهواه، تمنح الآخرين بدورهم قوة إيذائنا كما يريدون.
إذن فلا وجود قطعا لحرية بدون قوانين. بل إن وجود قوانين يخضع لها الجميع هو الذي يضمن الحرية للفرد والشعب معا. سيكون للشعب الحر رؤساء، لا مفر من ذلك فهذا مما تقتضيه ضرورات التنظيم والعيش الجماعي المشترك ولكن لن يكون له أسياد، كما قال روسو، إنه يخضع للقوانين، وللقوانين وحدها، وبفضل قوة القانون لا يخضع للبشر. وحيث أن القانون تعبير عن الإرادة العامة، فإنني عندما أخضع للجميع، فأنا في الواقع لا أخضع لأي أحد، وإنما أخضع لكيان معنوي أنا نفسي جزء منه. وإذا كان الخضوع للقانون يحد من سلطاننا وقدراتنا، فقد كشف مونتيكسيو عن النزوع الدفين الذي يسكن كل ذي سلطة أو قدرة ألا وهو الميل إلى الشطط في استعمال قدرته وسلطته، وسيسترسل في ذلك إلى أن يلاقي حدودا. لابد إذن للحرية من حدود. والحرية كما قال مونتيكسيو هي حق فعل كل ما تبيحه القوانين، ولا يمكن للحرية أن تقوم في الدولة على غير القدرة على فعل ما يجب أن نريده وعلى عدم الإكراه على فعل ما لا يجب أن نريده.

2- القانون والدولة كإلغاء للحرية: نموذج الأنظمة الكليانية ( ما هو كائن)

لا وجود قطعا لحرية بدون قوانين. هذا المبدأ هو خلاصة المواقف السابقة التي التي اتخدت من الديمقراطية وحقوق الإنسان رهانا لها. ومن المفارقات أن الاستبداد والطغيان يستعمل بدوره مبدأ ضرورة القانون لوجود الحرية من أجل إلغاء هذه الأخيرة بحجة أن السلم أثمن من الحرية، وأن الغاية القصوى لوجود القانون نفسه هو حماية السلم من الحرية التي تهدده بفوضاها. وقد رد روسو ساخرا ذات مرة على من يدعي أن تقليص الحرية يهدف إلى الحفاظ على السلم والأمن: نعم، سنحصل على السلم والهدوء ولكنه هدوء المقابر !
يكمن سر هذه المفارقة في أن علاقة القانون بالحرية تقوم على نوع من المقايضة عبر عنها بنيامين كونسطان بقوله: “يقبل كل فرد التضحية بجزء من ثروته على شكل ضرائب لسد النفقات العمومية والتي يكون هدفها ضمان تمتعه بما تبقى من ثروته بسلام، و بنفس الشكل يقبل المرء التضحية بجزء من حريته لضمان ما تبقى منها، ولكن إن اكتسحت الدولة كل مجال لحريته فلتن يعود للتضحية معنى، كأنها تطالبه بدفع كل ثروته ! إن المذهب القائل بالامتثال اللامحدود للقانون في عهد الاستبداد والانقلابات الثورية قد أضر بالناس أكثر مما أضرت بهم الأخطاء والضلالات الأخرى”
و هذا المذهب الذي حذر منه كونسطان في بدايات القرن 19 تجسد في القرن العشرين في ظاهرة الأنظمة الشمولية الكليانية التي تصفها حنا آرندت بالظاهرة الفريدة غير المسبوقة في كتابها ” أصول الكليانية”: تعمد هذه الأنظمة الاستبدادية إلى اعتقال رعاياها وحبسهم داخل بيوتهم الضيقة، مانعة بذلك ميلاد حياة عمومية، لا يمكن للحرية أن تتجلى بدونها، مستعملة من أجل ذلك الدعاية والأيديولوجيا والتأطير المذهبي لتحول المواطن إلى مجرد رقم نكرة، إلى فرد داخل الجمع homme de masse

قد يقال أن الحرية تظل مع ذلك رغبة أو إرادة أو طموحا يسكن أفئدة الناس، بيد أن الحرية و قبل أن تكون صفة للفكر أو سمة من سمات الإرادة، فإنها أولا وقبل كل شيء وضع للإنسان الحر. لا يوجد في نظر آرندت سوى شكل وحيد للحرية وهي الحرية الملموسة في العالم: حرية التنقل و الخروج من المنزل والالتقاء بالغير

Facebooktwitterredditmailby feather

الواجب – مجزوءة الأخلاق

 

ملاحظة تقنية (موجهة -ربما- لزملائي المدرسين) : تم الاعتماد في الدرس ومن ثم في هذا الملخص على نصوص فلسفية من الكتب المدرسية الثلاث ومن مصادر أخرى إضافية
وقد حاولت قدر الإمكان أن أعكس في هذا الملخص سيرورة الدرس المنجز في القسم،
نتوقف في البداية عند تعريف الواجب، ليس لأن تعريف الواجب مدخل إلى الدرس، فالدرس بأكمله بمثابة تعريف للواجب في تعالقه مع مفاهيم أخرى، ولكن لأن من مقتضيات دراسة قضية ما امتلاك تصور أولي حول دلالة المفردة المعبرة عن القضية…
يعرفه جميل صليبا في معجمه الفلسفي (ج2 ص 541-542)كالتالي: ” الواجب ما تقتضي ذاته وجوده اقتضاءا تاما” بيد أن هذا تعريف عام يشمل المنطق والأنطلوجيا معا، أما التعريف الخاص الأقرب إلى مجزوءة الأخلاق فهو: ” الواجب بوجه عام هو الإلزام الأخلاقي الذي يؤدي تركه إلى مفسدة… والواجب بوجه خاص قاعدة عملية معينة، أو إلزام محدد يتعلق بموقف إنساني معين كواجب الموظف في أداء عمله”
ونضيف مع إيريك فايل بأن الواجب يشكل المقولة الأساسية والوحيدة للأخلاق

المحور الأول: الواجب والإكراه

طرح الإشكال:

الواجبات كثيرة: أسرية، دينية، عرفية، وطنية، مهنية… وما إن يذكر الواجب، أو يتم تذكيرنا به وهذا هو الغالب، حتى يتبادر إلى ذهننا الإلزام والإكراه. وفي اللغة: وجب الشيء إذا ثبت ولزم؛ والواجب هو ما يقابل الجائز والممكن. وحيث أن الذات خاضعة لدوافع شتى، فإن ضرورة الواجب تنقلب إكراها وينقلب تصورها إلى أمر نسميه بالأمر الأخلاقي. بيد أن الواجب، من جهة أخرى، لا يُتصور دون حرية: فحرية الفاعل الأخلاقي هي التي نرتب عليها واجباتها، ولامعنى للواجب بالنسبة لحجر ساقط خاضع لقوانين حتمية و حيوان أعجم تقوده الغريزة!!
الإكراه إذن خاصية محايثة للواجب والحرية شرطه! فكيف نجمع بينهما؟ وإذا كان الواجب إكراها، والواجبات كثيرة، ألن يجعل ذلك من حياتنا جحيما لا يطاق ومعاناة للإكراه المستمر؟ وحيث أن الواجب يشكل المقولة الأساسية والوحيدة للأخلاق، فأي قيمة لهذه الأخلاقية التي ترزح تحت الإكراه وتتعارض مع أخص خصائص الإنسان أي الحرية؟ وبعبارة أخرى: هل المصالحة بين الواجب والحرية ممكنة؟

معالجة الإشكال:
ملاحظة: يتفق أغلب الفلاسفة على أن الواجب (الأخلاقي) لا يخلو من إكراه، فهو ليس فعلا تلقائيا عفويا، ليس غريزة أو رد فعل! وتنحصر المشكلة عندها في إعادة التوفيق بين الواجب والحرية

1-الحل الكانطي: الواجب إكراه يحقق استقلالية الإرادة

يقر كانط بأن “الضرورة الأخلاقية هي إكراه أي إلزام وكل فعل مؤسس عليها، يجب أن نتمثله بوصفه واجبا، وليس مجرد طريقة للفعل نرغب فيها الآن أو قد نرغب فيها مستقبلا”
فالواجب إذن إكراه بل قهر يمارسه العقل العملي على الميولات، لكنه إكراه حر لأنه يخلص الإرادة من ضغط وإلحاح هذه الميول ،فلا تخضع إلا لنفسها أو للواجب من حيث هو واجب. فتغدو بذلك إرادة طيبة حقا.
يرى كانط أن الإنسان حينما يخضع للقوانين التي يمليها الواجب الصادر عن العقل، فإنه حر مادام لا يخضع سوى لتشريعه الخاص، فهو يمنح نفسه قانونها في حين تتلقى الموجودات المادية قانونها من خارج على شكل حتمية طبيعية. لذلك تنص إحدى الأوامر المطلقة الكانطية على وجوب التصرف كما لو كنت مشرع القانون؛ ولما كان هذا الأمر كونيا، فإن الفرد يشارك بذلك في مملكة الإرادة بوصفها مملكة للحرية. هذه الإرادة التي تتميز بالاستقلال الذاتي، لأنها تشرع لنفسها في استقلال عن أية شروط أو غايات خارجية،
ولفهم الشرط الأخير لابد أن نميز – مع كانط – بين نوعين من الأوامر الأخلاقية؛ أوامر أخلاقية شرطية يتوقف أداؤها على النتائج التي المتوقعة منها كاللذة أو السعادة أو تقدير الآخرين.. أو أية منفعة أخرى، فتكون الواجبات في هذه الحالة مجرد وسائل لتحقيق غايات معينة؛ كأن نقول الصدق من أجل أن نكسب ثقة الناس؛ والنوع الثاني هو الأوامر الأخلاقية القطعية أو المطلقة، وهي تلك التي تنظر إلى الأفعال في ذاتها لا من حيث النتائج المترتبة عنها: كأن نقول الصدق دائما احتراما للواجب نفسه.
إذن فالقيام بالواجب من حيث هو واجب هو عين الحرية لأنه يخلص الإرادة من ضغط الميولات الحسية ولا يرهن غاياتها ودوافعها بالنتائج المترتبة عن الفعل الأخلاقي. ولكن هل تتوجه الأخلاق والواجبات الكانطية إلى الإنسان الواقعي، أم إلى صورة مجردة ومثالية للإنسان !؟

2- دوركايم: الواجب اكراه خارجي لكنه يتحول إلى موضوع رغبة
يتفق دوركايم مع كانط بأن الواجب يحمل قدرا من الإلزام والإكراه، لكنه لا يقتنع بالحل الكانطي لمشكلة الإكراه والمتمثل في تحويل الواجب إلى أمر مطلق وغير مشروط، بحيث نقوم بالواجب امتثالا للواجب، ذلك أنه من المستحيل حسب دوركايم السعي نحو هدف نكون فاترين تجاهه ولا يحرك حساسيتنا، وهكذا يجب أن نقبل بقسط من أخلاق اللذة لنفسر كيف أننا نشعر بنوع من الرضي والإغراء أثناء قيامنا بواجبات تحددت خارجنا وقبلنا.
وبعبارة أخرى، ففي الوقت الذي يعترف فيه دوركايم أن الوقائع الاجتماعية ومن أهمها الواجبات تتميز بالخارجية والقسر، لا يفوته أن يلاحظ أن الفاعل الاجتماعي لا يعي هذا الإكراه أو القسر المسلط عليها لأن الواجبات تحولت إلى موضوع رغبة، وعلى سبيل المثال، فالمقبل على الزواج مطالب بتنظيم طقوس الزواج والزفاف بطريقة معينة مفروضة ، ولكن الفاعل يتماهى مع الدور بحيث يصبح في امتثاله شيء من الرضي و اللذة والمتعة ونفس الشيء يمكن أن نقوله عن انتعال الحذاء الذي كان بالنسبة للطفل الصغير واجبا ثقيلا، فتحول لاحقا إلى موضوع رغبة واستمتاع، بل انضافت إلى قيمته الاستعمالية قيمة جمالية! أو ذاك الذي يهب في زمن الحرب بكل حمية وحماس للتطوع في الجيش امتثالا لواجب الوطنية… وغيرها من الأمثلة التي تظهر امتزاج الواجب بالرغبة وتطابقه أحيانا مع العواطف الشخصية، ولذلك يقول دوركايم في كتابه قواعد المنهج السوسيولوجي: “إنني حين أؤدي واجب كأخ أو زوج او مواطن … أقوم بأداء واجبات خارجية حددها العرف والقانون وعلى الرغم من أن هذه الواجبات لا تتعارض مع عواطفي الشخصية (…) إن هذه الضروب من السلوك والتفكير لا توجد خارج شعور الفرد بل تمتاز أيضا بقوة آمرة قاهرة هي السبب في أنها تفرض نفسها على الفرد شاء أم أبى. حقا إني لا أشعر بهذا القهر حين أستسلم له بمحض إرادتي”
ينتج عن ذلك صفتان للواجب الأخلاقي: الصفة الأولى هي الإلزام لكن الصفة الثانية الملازمة له هي كونه موضع رغبة

خلاصة:

: إن الواجب الناتج عن الأمر الأخلاقي الكانطي المطلق ليس إذن إلا مظهرا مجردا من مظاهر الواقع الأخلاقي يغفل المظهر الملموس لهذا الواقع الذي ينكشف بالتحليل السوسيولوجي، لا مجرد التأمل العقلي. وبذلك فموقف دوركايم يختلف عن موقف كانط اختلاف المقاربة السوسيولوجية المنصتة إلى دروس الوقائع عن المقاربة الفلسفية المتسمة غالبا بنظرة تجريدية تقتضيها شمولية المنظور الفلسفي

المحور الثاني: الوعي أو الحس الأخلاقي

طرح الإشكال:
يمكن للأخلاق أن “تتموضع” في الخارج، فتكون موضع خطب ووعظ، كما يمكن تدوينها بالحبر على الأوراق أو بالنقش على الحجر، لكنها توجد قبل هذا وذاك على شكل وعي تمتلكه الذات به تميز بين الخير والشر وتضفي صبغة أخلاقية على أفعالها أو أفعال غيرها. ويبدو هذا الوعي الأخلاقي حسا داخليا عميقا على شكل ضمير أخلاقي أو صوت منطلق من أعماق النفس، يأمر وينهى، يؤنب و ويرضى.. هل يعني ذلك أن الحس الأخلاقي غريزة منقوشة في جبلة الإنسان ومن ثمة خالدة ولازمنية، ام أنه ظاهرة إنسانية كباقي الظواهر لها نشأة وتاريخ؟ وبعبارة مختصرة: ما مصدر الحس الأخلاقي؟

معالجة الإشكال:

1-الحس الأخلاقي فطري مطبوع في الجبلة-روسو

في إطار فلسفة الأنوار ونزعتها الإنسية الرامية إلى جعل الإنسان الفرد مرجعا لكل القيم بما فيها القيم الأخلاقية، يندرج التصور الروسوي الذي يرجع الحس الأخلاقي إلى مبادئ فطرية خالدة مطبوعة في الجبلة. وقد عبر كانط عن فطرية الوعي الأخلاقي في قولته الشهيرة التي استلهم فيها روسو: “شيئان يملآن القلب إعجابا متجددا متزايدا: السماء المرصعة بالنجوم فوقي والقانون الأخلاقي بداخلي”
يقول روسو إذن بوجود مبدأ فطري للعدالة والفضيلة في أعماق النفس البشرية، تقوم عليه رغم مبادئنا الشخصية أحكامنا التي نصدرها على أفعالنا وأفعال الغير فنصفها بالخيرة أو الشريرة.
لا ينكر روسو بأن الأحكام الأخلاقية مكتسبة وخارجية المصدر، لكن الإحساس الذي بموجبه نقدر ونقوم هذه الأفكار يظل فطريا، ثم إن هذا الوعي الأخلاقي أحاسيس وجدانية وليس أحكاما عقلية، إذ لو انتظرت الأخلاق نشوء التفكير العقلي لهلكت البشرية!! ويتصل هذا الإحساس بغريزتين أو عاطفتين أصيلتين هما حب الذات التي يحفظ الفرد بقاءه؛ ثم الشفقة التي تتجه إلى حفظ النوع إذ تمنع المرء من إلحاق الأذى بالغير مجانا أو رؤية الكائنات الحاسة تتألم. وقد ظلت هاتان الغريزتان مرشدتا الإنسان الوحيدتين طيلة حالة الطبيعة استغنى بهما عن القوانين و الأخلاق والفضيلة.
إن الوعي أو الحس الأخلاقي ليس فطريا فحسب، بل خالد وأزلي وصائب على الدوام، ولذلك يخاطبه روسو قائلا: ” أيها الوعي ! أنت أيتها الغريزة الإلهية الخالدة، والمرشدة المضمونة لإنسان جاهل ومحدود النظر، أيتها الغريزة المعصومة في تمييزها بين الخير والشر”
ومن المنطقي أن يخلص روسو إلى فطرية الضمير الأخلاقي مادام ينظر إلى الإنسان ككائن طيب بالطبيعة شرير بالاجتماع الذي أفقده براءته و طيبوبته الأصليتين. ولكن ألا يسقط هذا التصور في اللاتاريخية من خلال تجاهله لنسبية الوعي الأخلاقي وللظروف التاريخية والعوامل الاجتماعية التي تقف وراء نشأة هذا الوعي؟ وهي العوامل التي تشدد عليها كل من المقاربتين الفرويدية والماركسية للوعي الأخلاقي.

2- نشوء الحس الأخلاقي وتاريخيته:

من الصعب القبول بفطرية الضمير الأخلاقي انطلاقا من التحليل الفرويدي، لأن الفطري هو “الهو” الذي يمثل الشكل الأصلي للجهاز النفسي كما يظهر عند الميلاد، وهو المادة الأولية للتمييزات اللاحقة. وهذا الهو يخضع فقط لمبدأ اللذة ويجهل تماما مبدأ الواجب الذي هو عنوان الضمير الأخلاقي. لذلك لا يمكننا الحديث عن ضمير أخلاقي قبل ظهور الأنا الأعلى التي ينتج عن اصطدام الأنا بالقيم والضوابط الأخلاقية للمحيط الاجتماعي.
وبنمو الوعي الأخلاقي يظهر الإحساس بالذنب وأشكال التوتر والقلق الذي تتولد في النفس نتيجة التعارض القائم بين متطلبات الأنا الأعلى وميولات الأنا المدفوع بالهو. كما أن الأشكال المرضية الدالة على قسوة الأنا الأعلى وسلطته كالسوداء والمازوشية والوسواس… هي أيضا مؤشرات على ضمير أخلاقي لكنه ضمير متضخم.
إذا كان فرويد يقدم مقاربة لنشوء الضمير الأخلاقي الفردي كانعكاس للوعي الأخلاقي للمجتمع، فإن الماركسية تفسر كيف ينشأ هذا الوعي على مستوى المجتمع نفسه. وبما أنه جزء من البنية الفوقية، فإنه لن يكون غير انعكاس للبنية التحتية أي لمستوى معين من تطور قوى الإنتاج، لذلك تحمل الأنظمة الأخلاقية بدون شك مدلولا طبقيا فتصبح جزءا من الأيديلوجية وظيفتها تبرير الهيمنة وتزييف الوعي الاجتماعي.
لكل مرحلة من مراحل التطور الاقتصادي نظريات أخلاقية مطابقة لها. وعلى سبيل المثال، فانطلاقا من اللحظة التي تطورت فيها الملكية الفردية للأشياء المنقولة صار لزاما على المجتمعات أن تعرف الأمر الأخلاقي القائل: ” لا تسرق” ولكن لا معنى لهذا الأمر في مجتمع تغيب عنه الملكية الخاصة كما في المشاعية البدائية ! كما يقول انجلز؛ كما أن أمرا باحترام الملكية الفكرية للأعمال الفنية لا معنى له إلا عندما تتحول الأعمال الفنية إلى سلع خاضعة لقوانين الإنتاج والتسويق.
على هذا الأساس يرفض انجلز كل رأي مزعوم يحاول فرض نظام أخلاقي دوغمائي كيفما كان باعتباره قانونا خالدا ، ثابتا ونهائيا يعلو على التاريخ.

المحور الثالث: الواجب والمجتمع

طرح الإشكال:
مادام المجتمع هو منبع الواجبات ومصدر القوة التي تصاحبها، فهل ينتج عن ذلك أن واجباتنا مقتصرة على أبناء مجتمعنا أو جماعتنا التي لقنتنا لائحة واجباتنا، و أن الواجبات نسبية ومحلية، أم أن الواجبات كونية و أننا ملزمون بواجبات تجاه الإنسانية جمعاء الحاضرة والمقبلة أي تجاه الأجيال القادمة بدورها ؟ ألا تتعارض واجباتنا والتزاماتنا تجاه جماعتنا ومجتمعنا مع واجباتنا والتزاماتنا تجاه الإنسانية

معالجة الإشكال:

1- الواجب صوت المجتمع

إذا كان الإنسانية قد مالت إلى تفسير القوة الآمرة الرهيبة لصوت الواجب الذي يتردد مجلجلا بداخل الفرد تفسيرا أسطوريا يربطه بكائنات علوية، فإن صوت الواجب والضمير عند دوركايم ليس شيئا آخر غير صوت المجتمع الذي هو كائن معنوي يتجاوز الأفراد ويؤثر فيهم ويحيى داخل ذواتهم، ويمارس عليهم نوعا من القهر والإكراه الخفي. إن المجتمع بهذا المعنى ، هو جزء لا يتجزأ من الذوات الفردية التي لا تستطيع أبدا الانفصال عنه؛ فهو الذي بث فيها تلك المشاعر والمعايير التي تمنح بالضرورة لقواعد السلوك الفردي صفة الإكراه المميزة للإلزام الأخلاقي كما تحدد لها واجباتها الأخلاقية، أي ما ينبغي عليها فعله وما يجب تجنبه. لكن إذا كان الواجب يرتبط بالمجتمع و بإكراهاته، فإنه بذلك يسقط في الانغلاق والنسبية؛ مادام أن لكل مجتمع خصوصيته الثقافية والحضارية التي تميزه عن باقي المجتمعات. كما أن الواجب في هذه الحالة من شأنه أن يؤدي نوع من الصدام الحضاري، والصراع الفكري والأخلاقي بين الأمم والشعوب. وهذا صحيح إلى حد ما، فالأمر الأخلاقي “لا تقتل!” غالبا ما يفقد صلاحيته إذا تعلق الأمر بفرد من خارج الجماعة التي لقنت للفرد هذا الأمر. وهناك ثقافات تجيز صراحة لأفرادها قتل أو استعباد أو التنكيل بمن لا ينتمون إلى الجماعة! ولذلك يقول داروين: “تعد الأفعال لدى المتوحشين وربما كذلك لدى الإنسان البدائي خيرة أو شريرة فقط إذا كانت تؤثر بوضوح في حسن حال القبيلة -وليس النوع البشري أو العضو الفرد في القبيلة. تتفق هذه النتيجة مع اعتقاد فحواه أن الحس الخلقي في منبته مشتق من الغرائز الاجتماعية، لأن كليهما يرتبط أولا وحصريا بالمجتمع”. وبالمثل فإن شعور المرء بالشفقة وبوجوب الإحسان للفقير يختلف حسبما إذا كان هذا الأخير من ذوي القربى أو من نفس المجتمع أو فردا في مجتمع مخالف لي في الملة أو العرق او اللغة. ولكن، وفي ظل مناخ العولمة الاقتصادية والثقافية وتحول الكوكب إلى قرية صغيرة بفضل ثورة وسائل الاتصال، وتوحد مصائر البشرية والكوكب… ألم يعد ملحا التشديد على الطابع الكوني للواجبات الأخلاقية وإخراجها من انغلاقها لتنفتح على القيم والواجبات الإنسانية حفظا لمصالح البشرية؟

2- واجباتنا نحو الإنسانية والكوكب والأجيال القادم

كيف يمكن أن نرتقي بالأخلاق إلى مستوى الكونية ونخرجها من انغلاقها لتنفتح على القيم والواجبات الإنسانية؟ لا يكاد هذا السؤال يطرح بالنسبة لأخلاق على الطراز الكانطي، فالواجبات بالتعريف كونية تتخذ الإنسانية موضوعا لها في شخص كل فرد على حدة. ولكن المطلب الكانطي يشكل في الحقيقة تحديا كبيرا لمفهوم الواجب نفسه، فهذا الأخير يحمل آثار أصله – أي المجتمع – ويتقوقع بالضرورة داخل حدوده. وإذا كان المجتمع وبعد جهد جهيد قد استطاع أن ينتزع من الفرد سلوكا غيريا نحو أبناء الجماعة كما يقول فرويد، فكيف له أن يطمع في مطالبته بسلوك غيري يشمل الإنسانية جمعاء !؟
ومع ذلك، يبدو أن كونية الواجبات لم تعد مجرد مطلب نظري في الفلسفة الأخلاقية، بل غدت ضرورة حيوية ملحة تشغل غير الفلاسفة بدورهم: فالتهديدات البيئية والاجتماعية والسياسية أصبحت تتجاوز حدود دولة أو مجتمع أو جيل، مما دفع جون راولز مثلا إلى أن يفرد لواجباتنا تجاه الأجيال القادمة حيزا داخل نظريته حول العدالة. يقول راولز: ” من البديهي أنه إذا كان على الأجيال القادمة أن تستفيد، فإن على الشركاء أن يتفقوا على مبدأ توفير يضمن لكل جيل أن يتلقى ما يستحق من سابقيه، كما أن عليه أن يلبي بطريقة منصفة متطلبات لاحقيه. ومن أجل تحقيق توفير عادل، يتعين على الشركاء أن يتساءلوا عن الكمية التي يقبلون بتوفيرها في كل مرحلة من مراحل النمو [لمصلحة الأجيال القادمة]”
هناك إذن واجب على أفراد الجيل الحالي يقتضي التوفير أي عدم الإسراف و استنزاف كل الموارد المتاحة جريا وراء مستويات من الرفاهية لا تعرف الحدود لأن من شأن ذلك أن يغامر بمستقبل الأجيال القادمة.
ثم إن الواجبات تجاه الإنسانية لا تقتصر على المحافظة على البيئة الطبيعية الكوكب التي هي ملك مشترك لسكانه ولأجياله، بل المحافظة أيضا على تراثه، وهذا ما تجلى في تعيين مواقع أثرية أو طبيعية كتراث إنساني من طرف اليونسكو.

Facebooktwitterredditmailby feather