أرشيف التصنيف: مجزوءة المعرفة

علمية العلوم الإنسانية- مجزوءة المعرفة

بين يدي الإشكال: مقدمة لابد منها- العلوم الإنسانية بين الفلسفة والعلوم الحقة:

هذه بعض الأبجديات التي سنستخدمها مرارا في الدرس، فوجب استيعابها منذ البداية
صحيح أن العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع أو علم النفس أو الانثربلوجيا أو الاقتصاد، حديثة النشأة في القرن التاسع عشر، بيد أن الدراسات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية قد وجدت دوما مبثوثة في ثنايا المصنفات الفلسفية؛ بل إننا إذا تأملنا علما إنسانيا خاصا هو علم التاريخ نجده علما عريقا عراقة علم الرياضيات نفسه. ولكننا نلاحظ أيضا أن علم التاريخ نفسه ورغم عراقته لم يطرح وجوده أية إشكالية منهجية أو ابستملوجية إلا منذ القرن الثامن عشر. لماذا؟
لقد تزامن ذلك مع الميلاد الحديث للعلوم التجريبية التي قدمت نموذجا باهرا للعلمية سواء من حيث دقة المناهج والنتائج أو نجاعتها لما وفرته من قدرة على التحكم في الظواهر الطبيعية، ولن يكف هذا النموذج عن ممارسة تأثيره وجاذبيته منذ ذلك الوقت.
هكذا سيكون وجود العلوم الإنسانية موسوما منذ البداية بالتوتر بين قطبين، موجودان أصلا في الاسم نفسه “علوم / إنسانية

  • -“علوم” يحيل هذا المكون بشكل لا مفر منه على العلوم التجريبية التي تمثل كما أسلفنا- النموذج المثالي للعلمية؛
  • إنسانية“: يحيل هذا النعت إلى الفلسفة من حيث أن هذه الأخيرة تتخذ بدورها الإنسان كموضوع لها

ويتضح ذلك في الجدول التالي:

طرح أولي للإشكال:
هل تستطيع العلوم الإنسانية أن تنأى عن الفلسفة ؟ وفي هذه الحالة هل ستسعى إلى التطابق مع العلوم الحقة؟ أم أنها ستزاوج بين مناهج الفلسفة ومناهج علوم الطبيعة؟ أم ستبدع لنفسها منهجها الخاص ها بحيث يلاءم خصوصية الظواهر الإنسانية؟
ماهي خصوصيات الظواهر الإنسانية أولا؟

  • ظواهر فريدة، غير قابلة للتكرار وما يستخلص من دراسة ظاهرة واحدة يصعب تعميمه لنذرة الظواهر المماثلة،
  • ظواهر معقدة، متعددة ومتداخلة الأبعاد يصعب عزلها بيسر أو تعيين دور كل منها في تحديد الظاهرة. والأبعاد المقصودة هي: البعد البيولوجي، الاجتماعي، الثقافي، النفسي، التاريخي، الاقتصادي…

إعادة صياغة الطرح الإشكالي:

إذا علمنا أن العلم، كيفما كان، يتحدد من خلال موضوع ومنهج. فيمكننا طرح إشكالية “مسألة العلمية في العلوم الإنسانية” من زاويتين: زاوية الموضوع وزاوية المنهج

  • إشكالية الموضوع: كيف يمكن للظاهرة الإنسانية أن تغدو موضوعا للعلم أي موضوعا لدراسة منهجية ؟ والحال أنها ظاهرة واعية و الدارس والمدروس معا هو الإنسان !
  • إشكالية المنهج: بعد أن تعين العلوم الإنسانية موضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أ ي شرط نتحدث ؟ إذا كان النموذج الذي أتبث فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم الحقة، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد استبدادية نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟

المحور الأول: إشكالية موضعة الظاهرة الإنسانية

يقصد بالموضعة مختلف الإجراءات المنهجية الهادفة إلى تعيين ظاهرة ما أو طائفة من الظواهر كموضوع علمي متمايز عن الذات الدارسة.
كيف يمكن للظاهرة الإنسانية أن تغدو موضوعا للعلم أي موضوعا لدراسة منهجية ؟ والحال أنها ظاهرة واعية والدارس والمدروس معا هو الإنسان !

1-في سبيل موضعة الظاهرة الإنسانية:

غالبا ما تطرح إشكالية الموضعة في مرحلة نشأة علم ما، عندما ينشغل رواده بتعريف موضوع علمهم ليتسنى لهم دراسته. في هذا الإطار نفهم تعريف إميل دوركايم لموضوع السوسيولوجيا بوصفه مرافعة من أجل موضعة الظاهرة الإنسانية. يرى دوركايم أن هذه الموضعة ممكنة لأن الظاهرة الاجتماعية شيء كباقي الأشياء. وتعريف الشيء عنده هو الموجود وجودا خارجيا بحيث يعطى للملاحظة؛ ولذلك تنص أولى قواعد المنهج السوسيولوجي على معاملة الظواهر الاجتماعية كأشياء مادامت تتميز بالخارجية والوجود المستقل عن وعي الأفراد الذين يعونها ويتمثلونها ويخضعون لقسرها ولا يسعهم اختراعها أو تغييرها. وبذلك تتحقق مسافة وانفصال منهجي بين الذات ( عالم الاجتماع) و الموضوع وهو هنا الظاهرة الاجتماعية: إن ظاهرة الزواج مثلا أو الظاهرة الدينية وغيرها من ضروب السلوك والتفكير والشعور الاجتماعي لا توجد فقط خارج وعي الفرد، بل إنها تمتاز أيضا بقوة آمرة قاهرة بحيث تفرض نفسها على الأفراد.
وبذلك يظهر ان دوركايم يراهن على تحييد الوعي أي إفراغ الظواهر الإنسانية من خاصية الوعي ليتسنى موضعتها، لأن الوعي “عدو العلم” كما يقول ليفي شتروس

فقرة انتقالية: هل يكفي تعريف الظاهرة الاجتماعية / الإنسانية بالخارجية والقسر والاستقلال عن وعي الفرد لحل مشكلة الموضعة وتداخل الذات والموضوع؟

2- عوائق الموضعة
يرى جون بياجي أن موضعة الظاهرة أكثر تعقيدا نظرا لتداخل الذات والموضوع على أكثر من صعيد.

  • فالذات الملاحظة بقدر ما تلاحظ غيرها وتجرب على غيرها، فإنها في نفس الوقت تلاحظ ذاتها وتجرب على ذاتها، وينتج عن ذلك أن تفاعل الذات والموضوع في فعل الدراسة يؤثر في سير الظاهرة المدروسة مثلما يؤثر في الذات الدارسة
  • غالبا ما تكون الذات الدارسة حاملة لمعرفة عفوية، مسبقة وحدسية حول الظاهرة المدروسة. لأن الدارس وقبل أن يكون عالم اجتماع مثلا فهو فاعل اجتماعي يتعرض لتأثير المعرفة الاجتماعية المتداولة. نقول إذن إن تحقيق القطيعة الابستملوجية بين المعرفة العفوية والمعرفة العلمية ليس بالأمر اليسير كما هو حال في علوم الطبيعة
  • يضاف إلى كل ما سبق الالتزام الفلسفي أو الايديلوجي لعالم الإنسانيات بحيث قد يميل إلى التبرير أو الإدانة ويجانب الحياد فيتجاوز الوصف إلى التقييم، وهو ما يسمى بمشكلة “أحكام القيمة”

خلاصة: إن السعي الحثيث لعلماء الإنسانيات من أجل تعريف موضوع علمهم وتحيييد الوعي وابتكار تقنيات لتحقيق القطيعة مع المعرفة العفوية لدليل على خصوصية الموضوع وما تطرحه موضعته من عوائق.

المحور الثاني: العلوم الإنسانية أمام نموذج علوم الطبيعة: مشكلة الفهم والتفسير

بعد تعيين العلوم الإنسانية لموضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أي شرط نتحدث ؟ إذا كان النموذج الذي أتبث فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم التجريبية، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد استبدادية نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟

1- العلوم الإنسانية ومنهج التفسير:

يقصد بالتفسير هنا كشف العلاقات الثابتة الموجودة بين حادثتين أو أكثر، وإقامة علاقات سببية بينها بموجب ذلك. وهذا هو التفسير السببي، أما التفسير الغائي فقد أهمله العلم. ولايلائم التفسير السببي سوى الظواهر المتماثلة المطردة والقابلة للتكرار ليتم التعميم ( تفسير سقوط الأجسام بقانون الجاذبية)
وقد ارتبط منهج التفسير بالاتجاه الوضعي وخصوصا لدى المدرسة السوسيولوجية الفرنسية مع دوركايم ومارسيل موس. في محاولتها الرقي بعلم الاجتماع إلى مصاف العلم الدقيق بعيدا عن المناهج التأملية.
وبما أن التفسير يقوم – كما أسلفنا – على ربط ظاهرة بأخرى ربطا سببيا، فإننا نعثر في دراسة دوركايم لظاهرة “الانتحار” على حالة تكاد تكون نموذجية لمنهج التفسير في العلوم الإنسانية: فبناءا على إحصائيات الانتحار في عدد من الدول الأوروبية، خلص إلى أن معدلات الانتحار تتناسب عكسيا مع درجة التماسك الديني، لذلك ينتحر البروتستانت أكثر من الكاثوليك؛ و مع درجة التماسك الأسري، لذلك ينتحر العازبون أكثر من المتزوجين، والمتزوجون بدون أطفال أكثر من ذوي الأطفال؛ وأخيرا مع درجة التماسك السياسي، إذ ترتفع معدلات الانتحار في أوقات الهدوء السياسي والسلم الاجتماعي أكثر من فترات الحروب والأزمات الدبلوماسية .

مثال2: ينحصر موضوع علم النفس ، حسب المدرسة السلوكية، في دراسة السلوك الإنساني القابل للملاحظة، منظورا إليه كرد فعل على مثيرات قابلة للملاحظة بدورها، وكشف القوانين المتحكمة في علاقات المثيرات بالاستجابات، والامتناع عن صياغة فرضيات حول ما يقع داخل العلبة السوداء أي الوعي الإنساني

2-عوائق منهج التفسير وامكانيات منهج الفهم:

لقد لجأ دوركايم إلى المقاربة الإحصائية لظاهرة الانتحار من أجل غربلة المحددات الذاتية، والفردية للظاهرة والاحتفاظ فقط بالمكون الجمعي للظاهرة الذي يهم السوسيولوجيا، والذي يمكن الوصول بصدده إلى تفسير سببي قابل للتعميم.
ولكن ألا يؤدي تحليل الظواهر الإنسانية على غرار الظواهر الطبيعية إلى إفراغ الأولى من أهم مقوماتها، من مكونها الداخلي أي الدلالات والنوايا والمقاصد والاكتفاء بالمحددات الخارجية للفعل ؟
بهذه الأسئلة ننفتح على دعاة المنهج المقابل، منهج الفهم والذي صاغته عبارة ديلتاي الشهيرة: ” إننا نفسر الطبيعة، لكننا نفهم ظواهر الروح”
ولكن ماذا نقصد أولا بالفهم؟
لأن الفاعل الإنساني يمنح دلالة لأفعاله وللعالم من حوله ويسلك وقف غاية من حيث هو كائن واع، فالمقصود بالفهم – في مناهج العلوم أو الميتودلوجيا – إدراك الدلالة التي يتخدها الفعل بالنسبة للفاعل، وتتكون هذه الدلالات من المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل وتتحدد بالقيم التي توجهه، وغالبا ما يتم النفاذ إلى هذه الدلالات بواسطة فعل “التأويل”، الذي اقترن ظهوره بالدراسات اللاهوتية في سعيها إلى استكناه مقاصد النصوص المقدسة ودلالاتها الخفية.
ويقدم لنا التحليل النفسي مثالا نموذجيا لعلم إنساني يكاد يعتمد كلية على الفهم بمعنى التأويل : إذ تُتناول مختلف الظواهر النفسية السوية منها والمرضية، بما في ذلك الأحلام كعلامات حاملة لدلالات يتعين تأويلها وذلك بتجاوز المعاني الظاهرة والمقاصد الواعية، لدرجة دفعت الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كان التحليل النفسي علما أو فنا في نهاية المطاف !
أما في علم الاجتماع، فيقدم لنا ماكس فيبر في دراسته الرائدة حول “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” مثالا آخر لتطبيق منهج الفهم يتركيزه على القيم المشتركة بين كل من السلوك الرأسمالي والموقف الأخلاقي البروتستانتي. وليس غريبا أن يقع اختيار فيبر على ظاهرة فريدة هي نشأة الرأسمالية في أوروبا، لأن منهج الفهم لا يهدف أصلا إلى اكتشاف انتظامات أوعلاقات سببية قابلة للتعميم على نطاق واسع

– 3-حدود منهج الفهم وعوائقه:

يستدعي منا منهج الفهم بدوره بعض الملاحظات النقدية، وأهمها لامبالاته تجاه ضرورة التمييز، الذي يحرص منهج التفسير على إقامته، بين الذات والموضوع، ومادام الفهم ينصب على الدلالات ويقوم على ضرب من التعاطف والمشاركة الوجدانية بين الدارس وموضوع دراسته، ألا يخشى أن يسقط الدارس قيمه ودلالاته الخاصة على الظاهرة ؟ وكيف لنا آنذاك أن نميز بين دلالات الفعل لدى الفاعل/موضوع الدراسة ودلالاتها لدى الدارس؟
لعل هذا هو ما حذا بغاستون غرانجي إلى تشبيه منهج الفهم بالتفكير الأسطوري السحري حيث تسقط الذات خصائصها على الموضوع، وتنصهر فيه خلاصة عامة للدرس:
بأي معنى وضمن أية شروط يمكن الحديث عن “علوم إنسانية” ؟ يحاول بعض علماء الإنسانيات استلهام مناهج العلوم الطبيعية التي أثبتت فعاليتها، بينما يرافع آخرون من أجل ابتكار منهج أصيل بدعوى عدم وجود معيار أو نموذج وحيد للعلمية. وبعبارة أخرى، يسعى البعض إلى الاستفادة من المكتسبات المنهجية للعلوم الحقة، بينما يجتهد آخرون لتأسيس نموذج مغاير للعلمية. إن هذه الإشكالات الميتودولوجية التي تعترض العلوم الإنسانية نابعة أساسا من خصوصية الموضوع وهو الظاهرة الإنسانية

Facebooktwitterredditmailby feather

الحقيقة – مجزوءة المعرفة

المحور الأول: الحقيقة والرأي

تمهيد لفهم الإشكال:
ماهو التقابل أو المفارقة الموجهة لمسار تفكيرنا في هذا المحور؟
إذا كانت الحقيقة هي مطابقة الفكر لموضوعه، فماذا نقصد بالرأي؟
لا يقصد به في هذا المقام وجهة النظر الشخصية كما في قولك: ” رأيي أن نقوم عوض أن نجلس” أي وجهة نظري أو موقفي، بل يقصد به فكرة أو تمثل أولي أو اعتقاد يعوزه اليقين في مقابل الحقيقة التي يفترض أنها يقينية مبرهن عليها بطريقة من طرق التدليل والاثبات والتحقق.
بيد أن العلامة المميزة للرأي كخطاب وكنمط من المعرفة هو كونه متداولا ومتاحا للجميع، وبهذا المعنى الأخير يغدو الرأي مرادفا للحس المشترك أي الفهم الطبيعي المشترك بين الناس، المتاح مباشرة لكل فرد دونما حاجة إلى دراسات متخصصة أو منهجية.

طرح الإشكال:
دأبت الفلسفة على تقديم نفسها كخطاب للحقيقة والحقيقة المنزهة عن الغرض بالخصوص، تلك التي تنتج عن مجهود عقلي وروحي خاص. وإذا كانت الحقيقة نقيضا للخطأ والوهم والظن والتسرع والأحكام المسبقة، فإن كل هذه الأضداد تجتمع تحت مسمى واحد: الرأي !
ولكن من يقيم هذه التقابلات أولا؟ هل هناك رأي يشير إلى نفسه باعتباره رأيا!؟ وهذه الحقيقة اليقينية الناتجة عن منهج وتدليل ومجهود عقلي، هل هي استمرار للرأي أم أنها تشكل قطيعة معه؟

معالجة الإشكال:

1- تسفيه الرأي: الحقيقة كقطيعة مع الرأي

يميز أفلاطون بين الحقيقة من جهة والرأي أو الظن أو الدوكسا من جهة ثانية بحيث أن الأولى مرادفة لليقين والجوهر بينما يرادف الرأي الوهم والمظاهر وتقدم لنا محاورة مينون مثالا لشخصين أولهما يعلم الطريق إلى مدينة “لاريسا” علم اليقين وسبق له أن زارها بينما لا يعلم الثاني هذا الطريق إلا من جهة السماع والتخمين. من الممكن أن يهتدي الثاني إلى الطريق. إن معرفته لا تتجاوز الرأي بيد أنه “رأي سديد” ، ولكن بينما يصل ذو العلم إلى مبتغاه على الدوام وبشكل يقيني، يمكن لصاحب الرأي أن يبلغ مبتغاه حينا ويضل عنه حينا آخر.
سيتخد الحذر من الرأي عند ديكارت طابعا منهجيا راديكاليا: تقع الحقيقة في نهاية سرداب يبدأ بالشروع ولو مرة واحدة في حياتنا في الشك في جميع الآراء التي تلقيناها وصدقناها وفي الأشياء التي نجد فيها أدنى شبهة من عدم اليقين بغية التخلص من الأحكام المسبقة و الآراء المتداولة التي تعجلنا في إطلاقها والتي تتشبت بأنفسنا بقوة.
وتستمر فكرة القطيعة بين الحقيقة و الرأي في الفلسفة المعاصرة وبالضبط في الابستملوجيا الباشلارية: الرأي دائما خاطئ، الرأي نوع من التفكير السيء، بل إنه ليس تفكيرا على الاطلاق. وليس تاريخ العلوم إلا تاريخ دحض وهدم مستمرين للرأي أو بالأحرى لبادئ الرأي الذي يعد واحدا من أقوى العوائق الابستملوجية ومن حيث كونه فكرا تفرزه الحياة اليومية الغارقة في البراغماتية، فإن الرأي يكتفي بترجمة الحاجات إلى معارف من خلال تعيينه للأشياء وفق منفعتها فيحرم نفسه بذلك من معرفتها.

فقرة انتقالية: لأن الفلسفة لا تتوانى عن وضع كل شيء موضع تساؤل بما في ذلك نفسها وادعاءاتها، فلامناص من أن نتساءل: ما “حقيقة” القطيعة بين الحقيقة والرأي؟ إذا كانت الحقيقة تفضل الرأي بكونها مبناة وفق منهج ودليل، ألا تقوم بعض الحقائق بدورها على اعتقادات وآراء لا سبيل للبرهنة أو التدليل على صحتها؟ هل يصح أن نقارب علاقة الحقيقة الفلسفية بالرأي كمقاربتنا لعلاقة الحقيقة العلمية به؟
2- إعادة الاعتبار للرأي: أوجه الاستمرارية بين الحقيقة والرأي

يعتبر الاسكتلندي توماس ريد (1710-1796) مؤلف “بحث في الفكر الانساني وفق مبادئ الحس المشترك” من الفلاسفة القلائل الذين سعوا صراحة إلى اعادة الاعتبار إلى مقولات الحس المشترك وبداهاته والتي يرى أن افتراضاتها لا تقل قبولا عن الافتراضات الميتافيزية لأغلب المذاهب الفلسفية. بل إنها تتضمن من الصواب أكثر ما تحويه النظريات الفلسفية المنافسة والمبخسة لها. كما أن ما يدخله الفلاسفة في عداد الرأي او الحس المشترك أقدر ببداهاته على مقاومة مذاهب الشك الهدامة أكثر مما تستطيع أنساقهم الفلسفية نفسها. وتتميز اعتقادات الحس المشترك حسب توماس ريد بكونيتها، إذ لا يماري فيها سوى بعض الفلاسفة والحمقى، وببداهتها إذ أن نكرانها يوقع في التناقض
وقد في نفس الإطار يندرج كتاب جورج توماس مور (1873–1958) ” دفاع عن الحس المشترك”
ويذكر فيتجنشتاين في كتابه “في اليقين” أزيد من 300 من القضايا والاعتقادات التي لا يكاد يتطرق إليها الشك ولم يجر أبدا التحقق أو التفكير في التحقق منها، بل ويستحيل التحقق من بعضها شخصيا كالاعتقاد بأن للناس أدمغة في جماجمهم أو أن هذين هما والدي فعلا وأن لي أجدادا وأسلافا وأنه توجد قارة تدعى استراليا…تدخل هذه القضايا وغيرها ضمن ما يسميه فيتجنشتاين بــ “صورة العالم” وهي أساس لكل ما أبحث عنه وأود تأكيده لاحقا وكل القضايا التي تريد وصف تلك الصورة غير خاضعة بدورها للتحقق. وبذلك يتطابق الرأي مع البداهات والحدوس الأولية التي يملكها الفرد عن العالم

خلاصة: ماحقيقة التعارض بين الحقيقة والرأي؟

مما لا مراء فيه أن الحقيقة في العلم الذي يزداد موضوعه تخصصا ومناهجه دقة، تتعارض في أحيان كثيرة مع الرأي والحس والمشترك؛ والدوران البادي للشمس حول الأرض خير دليل على ذلك، ولكن ماذا عن حقائق الحياة اليومية والحقائق الأخلاقية والسياسية، وهي المجالات التي تنازع فيها الفلسفة الحس المشترك المشروعية وتنعته بالرأي؟
نسجل أولا أن الرأي أو الحس المشترك ليس كونيا أو لازمنيا كما اعتقد طوماس ريد، بل هو منتوج ثقافي يترجم القيم السائدة في حقبة أو مجتمع معين. ألم يكن الرق في وقت من الأوقات مقبولا من قبل الحس المشترك كممارسة لا غبار عليها من الناحية الأخلاقية ؟
ولكننا نسجل من جهة أخرى ميل الديمقراطيات الحديثة إلى إعادة الاعتبار للرأي فيما يسمى بالرأي العام واستطلاعات الرأي وكأن القرار السياسي أو الاقتصادي أو الأخلاقي الحق والصائب ليس سوى جماع الرأي السائد والمتداول على أوسع نطاق. قد نفسر ذلك بتعذر الحديث عن حقيقة يقينية في هذه المجالات التي يسود فيها الاحتمال والترجيح le plausible، ويبدو اليوم أن الحقيقة كمرادف لليقين البرهاني أصبحت مجرد وهم في النظرية الحجاجية المعاصرة، إذ لايتعلق الأمر ببرهنة على حقائق، بل بمنح اعتقدات ما أعلى درجات الاتساق والمعقولية لتحصل على إذعان العقول، أضف إلى ذلك أن الرأي والحس المشترك لم يعد مجرد اعتقادات ساذجة، بل اصبح “رأيا متنورا” منذ اختراع المطبعة وصولا إلى ثورة وسائل الإعلام. فهل يعني ذلك أن الفيلسوف مضطر تجنبا لتهمة النخبوية لعقد مصالحة بين الحقيقة كما ينشدها والرأي الذي طالما عمل على ازدرائه وتسفيهه؟

المحور الثاني: معايير الحقيقة

طرح الإشكال:
المعيار لغة هو المكيال أو وحدة أو مرجع القياس، نقول “عاير الميزان” إذا قايسه وامتحنه بغيره لمعرفة صحته، وعيار الشيء ما جعل قياسا ونظاما له. ونستعملها هنا بمعنى الشرط أو العلامة المميزة، فيكون التساؤل عن معيار الحقيقة تساؤلا عن العلامة التي تسمح بالتعرف على الفكرة الحقيقة وتمييزها أو الشرط الذي إن توفرت في فكرة ما نعتت بالحقيقة
لايتعلق الأمر هنا بالبحث عن معيار الحقيقة؟ بل بالبحث في إمكانية الحديث عن معيار بصيغة المفرد أو عن معيار كوني: أمام تعدد مواضيع الفكر الإنساني، ما وجاهة التساؤل عن معيار الحقيقة ؟

معالجة الإشكال:
1- محاولة لتحديد معيار كوني : الوضوح والتميز

عندما ينخرط المرء في مغامرة الشك الشامل وفي عملية مسح الطاولة، لابد له من معيار أو علامة يهتدي بها إلى بر الحقيقة من جديد حسب التعبير المجازي لهيغل. ولما كان هدف الفلسفة حسب ديكارت هو كشف المبادئ الأولى التي تستنبط منها كل معرفة ممكنة، وجب وضع معيار شامل لفحص حقيقة هذه المبادئ المؤسسة وما يستنبط منها.
لننظر في الكوجيطو مثلا: لا يمثل الكوجيطو الحقيقة الأولى في النسق الديكارتي فحسب، بل يقدم لنا نموذج الحقيقة بامتياز: فهو حقيقة بسيطة واضحة استخرجها الفكر من ذاته. لذلك يشترط في جميع الحقائق أن تكون حقائقا أولية بسيطة يدركها الفكر بالحدس بكل وضوح وتميز أو حقائقا مركبة مشتقة منها عن طريق الإستنباط. وبعبارة أخرى، فالحقائق إما موضوع حدس إذا كانت أفكارا ومعان عقلية بسيطة، بديهية وفطرية يدركها العقل مباشرة؛ أو موضوع استنباط إذا كانت أفكارا وقضايا مركبة ومشتقة. وفي جميع الأحوال فالحقيقة صفة ذاتية للفكرة ولا تخرج عن دائرة الفكر وكأن الأفكار الحقيقية تحمل في ذاتها دليل حقيقتها، لذلك يقول اسبينوزا : ” الحقيقة معيار ذاتها كالنور يعرف بذاته وبه يعرف الظلام ” ولعل ذلك صادق بالخصوص بالنسبة لحقائق الرياضيات حيث لا يهتم الفكر إلا بالتطابق مع ذاته أي احترام مبادئه ومعاييره.

2- لاوجود لمعيار كوني إلا بالنسبة للحقائق الصورية

بخلاف ديكارت واسبينوزا اللذين اعتقدا في وجود معيار كوني للحقيقة بصفة عامة، لا يمكن حسب كانط الحديث عن معيار كوني للحقيقة إلا بصدد الحقائق الصورية، فمادامت المعرفة تتطلب مادة وصورة: حدوسا حسية ومقولات عقلية، فإن الأحكام التي تتضمن حدوسا حسية وهي الأحكام التركيبية لا يمكن معرفة حقيقتها بمجرد تحليل مكوناتها أو النظر فيها بذاتها، لابد أن نتأكد من مطابقتها لموضوعها وهو مادتها. وهكذا وبتأمل القضايا الثلاث التالية “السماء غائمة ، ” الوقت متأخر” ، ” جميع المعادن تتمدد بالحرارة” نجد ثلاث أحكام لكل منها موضوع وفي كل مرة ينبغي فحص الموضوع/الواقع للتأكد من مطابقة الحكم له . والمواضيع تتعدد إلى ما لانهاية، لذلك يستحيل العثور على معيار كوني شامل للحقائق المادية أو لنقل للأحكام التركيبية.
لننظر الآن في الحقائق الرياضيات والمنطق : لا يتضمن هذان العلمان أحكاما متعلقة بالعالم الخارجي، ولذلك يكفي لفحص صدق أحكامهما النظر في عدم تناقضها مع قواعد العقل والاستدلال أو المنطق أي في صحة صورتهما .غير أن المنطق لا يستطيع أن يذهب بعيدا : فما من محك بوسعه أن يتيح للمنطق كشف الخطأ حين يتعلق الأمر بمادة المعرفة وليس بصورتها

المحور الثالث: قيمة الحقيقة

طرح الإشكال:
قيمة الشيء هي تلك الصفة التي تجعله موضع تقدير أو اهتمام أو رغبة او احترام. وعلى هذا الأساس نصوغ إشكالية قيمة الحقيقة على النحو التالي: لماذا نطلب الحقيقة ونرغب فيها ؟ مالذي يجعل الحقيقة محط نقاش وجدال وادعاء؟ هل تطلب الحقيقة لذاتها أم كوسيلة لنيل غايات تتجاوزها؟ هل تتمتع الحقيقة بقيمة أخلاقية أم بمجرد قيم أداتية

معالجة الإشكال:

1- القيمة الأداتية للحقيقة: نموذج التصور البراغماتي

يتساءل وليام جيمس (1842-1910) عن وظيفة الحقيقة وعن الغاية من امتلاك أفكار صحيحة ويجيب بكل بساطة: أن امتلاك الحقيقة ليس غاية في حد ذاته بل مجرد وسيلة يتوصل بها إلى إشباع حاجات حيوية، إنه يكافىء امتلاك أدوات ثمينة للعمل. وبعبارة أوجز: الحقيقى هو المفيد
ذلك هو التصور البراجماتي لقيمة الحقيقة، حيث يتوقف صدق القضية على قدرتها على تمكيننا من تناول الواقع ذهنيا أو عمليا وتوجيهنا بنجاح نحو الإستفادة من وجودنا، ونحن كما يقول برغسون نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود كما نخترع الأجهزة الصناعية لتسخير القوى الطبيعية. إن الحقائق ليست أكثر من مخترعات نافعة ووسائل مفيدة في تصور الأشياء واستخدامها؛ بل إن الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859-1952) يرى في نشأة التفكير العقلي عند النوع البشري استجابة لدواع عملية براغماتية وهي الرغبة في الحياة والبقاء، لأنه يسمح للإنسان بصنع شيء أوإنجاز فعل على نحو أفضل مما لو اعتمد على الغريزة والإندفاع وحدهما. وعليه، يعلن ديوي أن الفكرة التي لا تستهدف عملا يمكن إنجازه ليست فكرة بل ليست شيئا على الإطلاق إلا أن تكون وهما في ذهن صاحبها. وإذن، فليس للحقيقة من قيمة مطلقة، بل مجرد قيمة وظيفية عملية ونسبية بالضرورة.

2- الحقيقة كقيمة أخلاقية مطلقة: سقراط، كانط

ولكن ألا نسقط مرة أخرى في القول بتعدد الحقائق بتعدد وتعارض المنافع الفردية؟ ألا تنتهي البراغماتية إلى تصور لاأخلاقي تبرر فيه الغاية الوسيلة، مادام الصواب و الخطأ صفتان مؤقتتان متغيرتان ترتبطان بالنافع والضار أكثر من ارتباطهما بمبادئ عامة مجردة، ومادام أن الحقيقة لاتمثل غاية في حد ذاتها، بل مجرد وسيلة وأداة.
على العكس من التصور البرغماتي، تقدم لنا سيرة سقراط وفلسفته تصور أخلاقيا للحقيقة. فلم تكن غاية التفلسف عند سقراط تعلم المهارة الجدلية أو الحذق أو تكديس المعارف في الذهن، بل تدريب النفس على اكتساب الفضيلة، وبذلك تتطابق الحقيقة والكمال الأخلاقي، لقد كانت الحقيقة غاية في حد ذاتها، تعاش بصفة شخصية كما لاحظ كيركجارد، ولم يكتف سقراط بأن عاش الحقيقة فحسب، بل مات من أجلها! بمعنى ألا شيء مقدم على الحقيقة، بما في ذلك حياة المرء نفسها !
نجد نفس القيمة المطلقة اللامشروطة عند كانط حيث تتحول الحقيقة أو بالأحرى قول الحقيقة والصدق إلى واجب أخلاقي في ذاته، واجب مطلق غير مشروط ولايعرف الاستثناءات بغض النظر عن الظروف والملابسات حتى أنه يرفض حجة بنيامين كونسطان القائلة بأن قول الحقيقة ليس واجبا إلا نحو من لهم الحق أو يستحقون معرفة الحقيقة. ومادام كانط يقيس أخلاقية الفعل بمدى قدرتنا على تعميمه لجعله قانونا كونيا، فإن شرعنة الكذب تعني تعميمه أي تجريد التصريحات أو الأقوال من أية مصداقية وتجعل جميع الحقوق المؤسسة على العقود والوعود باطلة ولاغية وهذا ظلم وجور في حق الإنسانية جمعاء.
ماذا عنا نحن؟
غالبا ما تتعامل الذات مع الحقيقة بشكل براغماتي في أغلب مواقف الحياة، لكنها تطالب الغير بالتعامل مع الحقيقة.

Facebooktwitterredditmailby feather