المحور الأول: الحق بين الطبيعي والثقافي
طرح الإشكال:
ما الذي يشرعن ويبرر إعلان الحرية أو المساواة أو غيرها حقا من حقوق الإنسان؟ أيرتبط ذلك بإرادة المشرعين والقوانين الوضعية أم لأنها حقوق محايثة للطبيعة الإنسانية؟ وبعبارة أخرى، يمكن تأسيس وتأصيل الحق خارج كل ثقافة وتشريع ومواضعة أم أن الحق يظل نسبيا بنسبية القوانين الوضعية التي تجسده على أرض الواقع؟
معالجة الإشكال:
1- بحثا عن مرجعية كونية مؤسسة للحق: فكرة الحق الطبيعي
أ- تمهيد: لماذا تأسيس الحق على ما هو طبيعي؟
لقد لوحظ على الدوام أن الحق المستمد مما هو ثقافي يسري عليه ما يسري على الثقافة من تنوع واختلاف باختلاف المجتمعات والحقب التاريخية، مما دفع باسكال أن يكتب ذات مرة ساخرا: “يا لبؤس العدالة التي يحدها نهر ! أفكار صائبة هنا، خاطئة وراء جبال البرانس” هنا بالضبط تكمن الأهمية النظرية لمقولة الحق الطبيعي التي تؤصل للحق في الطبيعة وفي الطبيعة الإنسانية خاصة، بشكل مستقل عن الثقافة وإرادة المشرعين، لأن الطبيعة مرجع كوني و سابق منطقيا وزمنيا على المجتمع والثقافة..
ب- معلومات إضافية: ثلاث نماذج لفلسفات الحق الطبيعي: قدم هوبز واحدة من أهم صياغات نظرية الحق الطبيعي في كتابه التنين، حيث عرَّفه بأنه الحرية التي لكل إنسان في أن يتصرف كما يشاء في إمكاناته الخاصة للمحافظة على طبيعته وحياته الخاصة، وأن يفعل كل ما يرتئيه نظره وعقله ناجعا لذلك. وعليه فالحق الطبيعي أو حق الطبيعة هو الحق في الحياة والحق في المحافظة عليها والحرية المطلقة في حماية الوجود البيولوجي والدفاع عنه. ونجد عند جون لوك التعبير الأكثر وضوحا عن الأساس المنهجي العام لنظريات الحق الطبيعي إذ يقول:” حالة الطبيعية هي حالة الحرية الكاملة للناس في تنظيم أفعالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم … وهي أيضا حالة المساواة (…) إذ ليس هناك حقيقة أكثر بداهة من أن المخلوقات المنتمية إلى النوع والرتبة نفسها المتمتعة كلها بالمنافع نفسها التي تمنحها الطبيعة وباستخدام الملكات نفسها، يجب أيضا أن يتساوى بعضهم مع بعض” أما روسو فيقول في كتابه “أصل التفاوت بين الناس”: ” إن التنازل عن الحياة أو الحرية وأيا كان الثمن هو إهانة للطبيعة والعقل، ولكن على افتراض إمكان التصرف الإنسان في حريته كما يتصرف في ماله، فإن الفرق يظل بينا جدا … أن الحرية، إذ هي هبة من الطبيعة وقد وهبت لهم بصفة كونهم بشرا، … وهكذا فمادام إنشاء العبودية يقتضي إكراه الطبيعة بالشدة والعنف، فقد وجب أيضا أن تغير الطبيعة لتأييد هذا الحق: والفقهاء الذين قضوا بكل وقار بأن ولد العبد يولد عبدا، كان معنى قضائهم هذا أن الإنسان لا يولد إنسانا” |
ج- حقوق الإنسان الطبيعية أساس حقوقه المدنية:
تؤكد نظريات الحق الطبيعي على وجود حقوق أساسية محايثة لطبيعة الإنسان مثل الحياة والحرية والمساواة، بوصفها حقوقا سابقة على كل اجتماع أو مواضعة نسبية مشروطة ثقافيا أو تاريخيا، و لا يمكن تصور الإنسان كإنسان بدونها. ورغم ما نلاحظه من إختلاف بين منظري الحق الطبيعي في فهم الطبيعة الإنسانية وكذا حالة الطبيعة، إلا أنهم يتبعون نفس الإجراء المنهجي المتمثل في تجريد الإنسان من كل المحددات الثقافية والتاريخية من أجل استنباط حقوق محايثة لطبيعته؛ ثم إن هذا الإختلاف يتلاشى، لأن نظريات الحق الطبيعي تتحول في النهاية إلى نظرية للعقد الإجتماعي ذلك أن تأسيس الحق على ما هو طبيعي، لا يعني استبعاد الثقافة والاجتماع والتعاقد، فإذا كانت الطبيعة تعطي للحق مصدره ومشروعيته، فإن التعاقد هو الذي يضمن استمراريته. وواضح أن الإحالة على “الطبيعة” هنا لايعني سوى تأسيس الحق على مرجعية سابقة على كل مرجعية تاريخية: فالطبيعة سابقة على كل ثقافة وحضارة، على كل مجتمع ودولة، وبالتالي ، فهي مرجعية كلية مطلقة، ومن ثَمّ فالحقوق التي تتأسس عليها هي حقوق كلية مطلقة كذلك
2- الحق الوضعي: حق نسبي بنسبية مبادئه
رغم القوة النظرية والجاذبية التي تتمتع بها نظرية الحق الطبيعي، إلا أن البعض لا يرى في مرجعية الطبيعة سوى مفهوم إفتراضي يفتقد إلى الإجماع حول مضمونه: إذ يبدو أن البشر عرفوا على الدوام أشكالا من التنظيم مَهْما كانت بدائية بسيطة، مما يشكك في حالة الطبيعة المستخدمة كفرضية للإستنباط الحقوق الطبيعية؛ إضافة إلى صعوبة تحديد محتوى الطبيعة الإنسانية الذي تعرض في القرن العشرين للمراجعة سواء من طرف العلوم الإنسانية أو الفلسفة الوجودية. مما يجعل الإجماع حول مبادئ عقلانية كونية أمرا مستبعدا، لأن هذه المبادئ نفسها تتجاهل المحددات الثقافية النسبية. ألا ينبغي بالأحرى الحديث عن الحق في بعده النسبي الثقافي؟
تأسيسا على هذه الملاحظات، لاترى الوضعية القانونية في أطروحة الحق الطبيعي سوى إنشاءات ميتافيزيقية لاتحقق شروط العلمية كما تفهمها الإبستملوجيا الوضعية الملتزمة بأحكام الواقع (ماهو كائن) لابأحكام القيمة (ماينبغي أن يكون). وهكذا فالحق عند هانز كيلسن مثلا لايستمد قوته ومصدره إلا من القوانين التي تبلوره وتحتم العمل به، لأن القانون يقول الحق تبعا للإختيارات والأولويات بما يعكس خصوصية المجتمع وتطوره التاريخي وبما يترجم موازين القوى داخل البنية الإجتماعية وهي موازين ديناميكية متغيرة بتغير التشكيلات الإجتماعية. ومن وجهة نظر فقه القانون والدراسة العلمية، فلا وجود لحق أو عدالة خارج القانون الوضعي الذي يوفر قوة الإلزام الضرورية لتحويل الحق إلى واقع معيش مستعينا بالمؤسسات التنفيذية والقضائية.
معلومات إضافية (ملخص نص هانز كيلسن من كتابه نظرية خالصة في الحق): تترتب عن هذه المقاربة نتيجتان: الأولى هي إستبعاد كل حديث عن الحق في بعده الأخلاقي المثالي المُعوِّل على الإلتزام الذاتي للفرد، والحرص على ألا يدعي النص القانوني صفة الإطلاقية بإشهاره للصفة الأخلاقية. فالقانون والأخلاق دائرتان منفصلتان. لأن القانون نسق تراتبي من القواعد التي تستمد قيمتها من هذا النسق لا من مرجعية متعالية مفارقة؛ تترتب عن ذلك عضويا نتيجة ثانية، وهي استحالة المفاضلة بين الأنظمة القانونية، لعدم وجود معيار أسمى يسمح بالمفاضلة: فقد يعتبر أحدهم النظام الليبرالي عادلا والشيوعي ظالما إعتمادا على معيار الحرية الفردية، في حين يغدو النظام الليبيرالي ظالما والشيوعي عادلا من منظور الأمان الإجتماعي ! ولكن مالسبيل للمفاضلة بين الحرية والأمان الإجتماعي؟ لاسبيل للمفاضلة حسب كيلسن إلا اعتمادا على معايير سيكلوجية ذاتية لاتحظى بأي إجماع، إذ يصعب الإجماع على معايير بديهية للعدل والكرامة والحق. المصدر: الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة-الشعبة الأدبية-طبعة 1996 ص 192 |
3- خلاصة نقدية: إذا كانت العدالة هي المثل الأعلى للحق، فإنها لا تختزل إلى القوانين الوضعية
من منظور الوضعية القانونية، يصبح الحق وضعيا متجذرا في الثقافة بمحدداتها الإجتماعية والإقتصادية والتاريخية، غير مطلق بل نسبي بنسبية هذه المحددات. ولكن إلى أي حد يمكن المضي في المطابقة بين الحق والقانون الوضعي، أي بين المشروع والقانوني؟ يرى ليو ستراوس أن رفض فكرة الحق الطبيعي يعني أن كل حق فهو وضعي من صنع المشرعين ومحاكم مختلف البلدان، لكن وجود قوانين وقرارات جائرة كقوانين المستعمر والطغاة، يلزم عنه وجود معيار للعدل والظلم يستقل عن الحق الوضعي ويسمح بتقييمه. وقديما أعلن شيشرون أنه ما لم يقم الحق على الطبيعة فإن جميع الفضائل ستتلاشى، لأننا لانملك قاعدة غير الطبيعة لتمييز حَسَنِ القوانين عن قبيحها.
يتبين مما سبق أن الحق قيمة مركبة شأنها شأن باقي القيم الأساسية التي تحكم الفاعلية البشرية: فهو طبيعي وثقافي، كوني ونسبي في نفس الوقت. طبيعي كوني لأنه يمس الماهية الإنسانية، ويخاطب الإنسان بما هو إنسان؛ وثقافي نسبي لأن بتحوله من فكرة ومبدأ إلى واقع معيش يتجذر في القيم والمؤسسات والتاريخ الخاص بهذا المجتمع أو ذاك.
المحور الثاني: العدالة كأساس للحق
أنظر الفقرة السابقة وكذا المحور الموالي
المحور الثالث: العدالة بين المساواة والإنصاف
طرح الإشكال:
للعدالة عدة معان، يعرفها المعجم الفلسفي لجميل صليبا كالتالي:”المبدأ المثالي او الطبيعي او الوضعي الذي يحدد معنى الحق… وتنقسم إلى عدالة تبادلية قائمة على أساس المساواة؛ وعدالة توزيعية تتعلق بقسمة الأموال والكرامات بين الأفراد بحسب ما يستحقه كل واحد منهم” ونستخدمها هنا كمرادفة للحق، منظورا إليه من حيث تعلقه لا بالذات في فرديتها، بل في علاقتها بأقرانها داخل جماعة بشرية ما من حيث كونهم ذوات حقوقية متكافئة ومتماثلة. وبهذا المعنى ولذلك قيل بأن العدالة تهدف إلى خلق المساواة بين هذه الذوات، ولكن هل الجميع متساوون فعلا؟ إذا كانوا متساوين في الاعتبار القانوني فعل هم متساوون في المواهب والحهد المبذول؟ بعبارة أخرى هل يمكن للعدالة كمساواة أن تنصف جميع أفراده؟ وماذا نقصد بالإنصاف أولا؟
في الوقت الذي تهدف فيه المساواة إلى تحقيق التماثل والتكافؤ الرياضي بين الأفراد بغض النظر عن اختلافاتهم وتفاوتاتهم محاولة طمس هذه االتفاوتات أو تحييدها، فإن الإنصاف يهدف إلى إعطاء كل ذي حق حقه مراعيا بذلك مبدأ الاستحقاق، أي أنه يسعى إلى مكافأة التفاوتات من جهة ، أو الحد من الهوة التي قد تنتج عنها من جهة أخرى.
معالجة الإشكال:
1- العدالة كمساواة
إذا كانت أغلب الدساتير والإعلانات والنظم الأخلاقية المعاصرة تنص اليوم وبصراحة على المساواة الاعتبارية لجميع أفراد النوع الإنساني كحق طبيعي، فإن هذا الاعتراف الذي يبدو اليوم بديهيا، لم يكن كذلك في الماضي: إذ اعتبر المواطن أفضل من الأجنبي، والرجل أسمى من المرأة والأطفال، والسيد أرقى من العبد
ولذلك يقول الفيلسوف الفرنسي آلان Alain: “ما الحق؟ إنه المساواة (…) لقد ابتكر الحق ضد اللامساواة. والقوانين العادلة هي التي يكون الناس أمامها سواسية، نساءا كانوا أم رجالا أو أطفالا أو مرضى أو جهالا. أما أولئك الذين يقولون إن اللامساواة من طبيعة الأشياء، فهم يقولون قولا بئيسا”
وبعبارة أخرى، فجوهر العدالة يكمن في هذه الحالة في التماثل والمساواة بل في المساواة الرياضية A=B
ومن أمثلة ذلك: المساواة أمام القضاء، تكافؤ الحظوظ في نيل المناصب، الترشح والتصويت، المساواة بين الرجل والمرأة…
وليس من الغريب أن يستأثر مبدأ المساواة بجاذبية خاصة بحيث رفعته الكثير من الحركات النضالية كمطلب وأيديولوجيا تعبوية، ولكن المآل الفاشل لتجربة الأنظمة الاقتصادية الاشتراكية في إصرارها على تحقيق نوع من المساواة واللاطبقية، من خلال سياسة توحيد الأجور وتقزيم الملكية الخاصة لدرء الفورارق والتي أدت إلى إبطال حوافز الإنتاج والابتكار وإضعاف القدرة التنافسية… هذا الفشل يدعونا إلى التفكير مجددا في مدى ملاءمة المساواة كمثل أعلى للعدالة
2-العدالة كإنصاف
يتضح مما سبق أن فكرة المساواة تتضمن مبدءا عاما وبسيطا بساطة العلاقات الرياضية كما يرى إرنست بلوخ، ولكنها لا تنشغل بمدى قدرة الناس على الاستفادة الفعلية من مبدأ المساواة، وباحتمال أن ينتج عن تطبيق المساواة خلاف المقصود أي الظلم أو خراب النظام!
لذلك يرى جون راولز –بناءا على فرضية الوضعية الأصلية وحجاب الجهل – أن نظاما عادلا لابد يقوم على مبدأي المساواة واللامساواة معا: المساواة في الحقوق والواجبات الأساسية، واللامساوة الاجتماعية والاقتصادية، مثل اللامساواة في الثرورة والسلطة
بيد أن اللامساواة لا تكون عدلا وإنصافا إلا إذا استوفت شرطا وحققت غاية. فأما الشرط فهو استفادة الأقل حظا من ثمار هذه الثروة والسلطة، بواسطة مبدأ تكافؤ الفرص في لإمكانية جمع الثروة أو تبوأ المناصب كما يتجلى ذلك أيضا في دولة الرعاية من خلال تقديم خدمات ومساعدات اجتماعية للذين يعيشون الإقصاء على هامش نظام الرخاء لهذا السبب أو ذاك. وأما الغاية، فهي ضمان التعاون الإرادي والعمل المشترك من أجل الرخاء، ضمن ما يسميه راولز بالنظام المنصف للتعاون الاجتماعي.
نقول إذن أن الإنصاف – بخلاف المساواة- يهدف إلى مراعاة الفروق والتفاوتات وعدم طمسها أو تجاهلها إما بهدف مكافأة المجدين والمستحقين وتشجيع المنافسة، أو مساعدة الأقل حظا ونصيبا. وقد سبق لأرسطو في كتاب “الأخلاق إلى نيقوماخوس”، أن ذهب إلى “أن العدالة مساواة، ولكن فقط بين المتكافئين؛ واللامساواة عدالة ولكن بين غير المتكافئين”. ولكن ما مصدر عدم تكافئهما؟ أن الاستحقاق والتميز قد يدين بالفضل للانتماء الاجتماعي والرأسمال الرمزي أو المادي الذي يجد بعض المحظوظين أنفسهم مزودين به دون غيرهم وهم يخوضون غمار المنافسة مع الأنداد.
يختلف الإنصاف عن المساواة على مستوى آخر كما يختلف العام عن الخاص. يقول أرسطو: “تتجلى الطبيعة الخاصة للإنصاف في تصحيح القوانين كلما بدت هذه الأخيرة غير كافية بسبب عموميتها” ويدخل في هذا الإنصاف ما يسمى مثلا بــ “الاجتهاد القضائي” الذي يترك للقاضي في بعض الأحيان فرصة تكييف القوانين وفق ظروف النازلة ومستجدات العصر أو إعمال مبدأ الإنصاف عند سكوت النص القانوني؛ كما يدخل في باب الإنصاف أيضا “الميز الإيجابي” مثل تخصيص نسب مئوية من مقاعد المجالس النيابية للنساء، لأن تطبيق المساواة أظهر أن النساء ولأسباب سوسيوثقافية وتاريخية لا يستطعن أن يحرزن على أكثر من عشر المقاعد رغم أنهن يشكلن عدديا نصف المجتمع !
إذا كان الإنصاف فضيلة للمؤسسات لتجاوز عيوب المساواة، فإن الإحسان Charité هو تلك الفضيلة المطلوبة من الفرد عندما لاتفلح إجراءات المساواة والانصاف معا