إنشاء فلسفي من إنجاز تلميذة لتحليل ومناقشة نص مع ملاحظات "المصحح"
أقدم لكم في مايلي إنشاءا فلسفيا من إنجاز تلميذة يدرّسها صديقي وزميلي الأستاذ الشبة محمد، كان قد عرض إنشاء هذه التلميذة في منتدى الحجاج ، وبادرت بالتعليق عليه وإبداء بعض الملاحظات
وحيث ان ملاحظاتي لم تتوقف عند مجرد إصدار أحكام بشأن قيمة إنشاء التلميذة، بل تضمنت في الحقيقة تصوري المفصل لممقتضيات الإنشاء الفلسفي والمعايير التي أعتمدها في تصحيح إنجازات المتعلمين وتنقيطها، فقد ارتأيت نشرها هنا على موقعي الشخصي تعميما للفائدة
وغني عن البيان أننا أحوج ما نكون إلى أن ننشر على الملأ تفاصيل هذه العملية الغامضة المسماة تصحيحا، بحيث يخرج المصحح من عزلته الأنطلوجية ليقاسم الغير /المصحح الآخر تجربته، خصوصا وأن التصحيح في مادة الفلسفة يشكل مصدر قلق التلاميذ واوليائهم.. فحري بنا إذن أن ننشر تفاصيل هذه العملية "الخيمائية" العجيبة كما نمارسها، ونناقش بعضنا البعض في وجاهة طريقة التصحيح والتقويم المتبعة، وبدون هذا النشر وبدون ذلك النقاش ستظل قواعد الإنشاء الفلسفي ومعايير التصحيح عرضة للذاتية بل ولــ "السيبة" حيث كل واحد يغني على ليلاه..
أتمنى أن يجد التلاميذ في تفوق هذه التلميذة وفي أخطائها عبرة يستخلصونها، وأن يجد زملائي في ملاحظاتي مادة يستلهمونها أو ينتقدونها (الأمران سيّان) ولمن شاء الانخراط في النقاش، هاهو عنوان الموضوع في منتدى الحجاج: اضغط هنــــــــــا
إليكم الآن النص:
« إننا نكن الاحترام للأشخاص فقط ، وليس للأشياء. فالأشياء قد تثير فينا الميل نحوها بل الحب إن تعلق الأمر بالحيوانات (مثل الخيل والكلاب وغيرها)، كما قد تثير فينا الخوف كما هو الحال حيال البحر أو بركان أو حيوان مفترس، لكنها لا تثير فينا الاحترام أبدا. وهناك أمر يقترب كثيرا من الشعور بالاحترام وهو الإعجاب، والإعجاب بوصفه انفعالا أي دهشة قد يحمل أيضا للأشياء، من قبيل الجبال الشامخة أو الأشياء العظيمة أو الكثيرة أو المسافات الهائلة التي تفصلنا عن الأجرام السماوية أو قوة وسرعة بعض الحيوانات…الخ، إلا أن كل هذه الأشياء ليست من الاحترام في شيء.
وقد يكون فرد ما موضوع حب أو خوف أو إعجاب قد يبلغ حد الدهشة، إلا أنه قد لا يكون مع ذلك موضوع احترام، فمزاجه المداعب أو شجاعته وقوته ومكانته بين غيره من الناس، قد تجعلني أشعر بعواطف من قبيل الحب والخوف والإعجاب. إلا أن ما يظل غائبا هنا هو الاحترام الذي أكنه له. يقول أحد المفكرين: " أنحني أمام سيد كبير، إلا أن عقلي لا ينحني"، وأنا أضيف: " إن عقلي ينحني أمام إنسان ينتمي إلى طبقة دنيا، أجد فيه استقامة الطبع تبلغ حدا لا أجده في نفسي، وعقلي ينحني له سواء سواء أردت أو كرهت.»
حلل وناقش
• إجابة التلميذة:وقد قمت بترقيم فقرات إنشائها تسهيلا للإحالة عليها عند إبداء ملاحظاتي
[1] في حياتنا اليومية العادية نصادف ونتعرف على أشكال مجتمعية وفكرية مختلفة من الناس، فرغم تباين معتقداتهم وأعراقهم ومكانتهم يتساوون في كونهم أناس. فهل نحن مجبرون على احترام الإنسان رغم اختلاف أنماطه أم يمكن تمييز فئة عن أخرى؟ وهل نحن أحرار في اختيار من نحترمهم؟ وهل أفعالنا وأفكارنا تتطابق مع بعضها البعض في علاقتها مع الآخر أم لكل منهما عمل منعزل عن الآخر ؟
إن صاحب النص ينطلق من فكرة رئيسية وهي كون الاحترام مخصص للأشخاص فقط. فماذا نقول عن إعجابنا وحبنا لبعض الأشياء ؟ أهو شعور عاطفي محض أم أنه احترام لها ؟
هذا ما سنبرزه من خلال تحليلنا للنص الذي بين أيدينا.
[2] إن ميلنا للأشياء وحبنا لها أو الخوف منها، كالحيوانات الأليفة أو المناظر الطبيعية، لا يحتم علينا احترامها في نظر صاحب النص. وقد رأى أن للاحترام رفيقا وهو الإعجاب، ورغم ذلك فإن هذا لا يعني أن كل ما نعجب به نحترمه، لأن الإعجاب ناتج عن انفعال ودهشة أما الاحترام فهو قيمة أخلاقية نابعة من الهبة في النفس. وقد ميز صاحب النص بين صنفين من الأشخاص؛ الصنف الأول ليس له في الاحترام شيئا أما الصنف الثاني فهو جدير بالاحترام.
[3] إن الصنف الأول يكون في فرد ذي مكانة اجتماعية – كأحد الملوك أو المشاهير في عصرنا الحالي – أو ذي مزاج مداعب وشجاعة وقوة، فهذا الشخص يلقى منا الحب والإقبال عليه بإعجاب ودهشة، غير أنه يبقى بعيدا عن الاحترام إذ يمكن لنا انتقاده واستبداله في أي وقت.
[4] أما الصنف الآخر، قد لا يكون بارزا داخل المجتمع ولا معروفا بين الناس لا بمكانته ولا بشخصيته لكن مع ذلك ينال منا كل أشكال الاحترام والتقدير، لأننا نجد فيه استقامة في الطبع لا نجدها في أنفسنا، كما جاء ذكره في النص على لسان أحد المفكرين الذي عزز به صاحب النص أفكاره ولخصها في هذه القولة: « إن عقلي ينحني أمام إنسان ينتمي إلى طبقة دنيا أجد فيه استقامة الطبع تبلغ حدا لا أجده في نفسي، وعقلي ينحني له سواء أردت أو كرهت ».
[5] من خلال تحليل النص نرى أن صاحبه يبرز لنا قيمة الشخص الجديرة بالاحترام، فهو يميز الشخص عن باقي الأشياء لأن الأشياء قد تكون محط إعجابنا كسيارة اشتريتها أو قطة أمتلكها، لكن قيمتها تقدر بثمن ويمكننا بيعها أو التخلص منها في أي وقت واستبدالها. لكن قيمة الإنسان تبقى ثابتة لا تقدر بثمن وهي التي تمنحه الاحترام والتقدير بغض النظر عن المكانة والشخصية. ومن هنا نرى كانط يتفق مع ما جاء به صاحب النص، فهو أيضا يرى أن قيمة الشخص لا تقدر بثمن عكس الأشياء، فهو يربط قيمة الشخص بالذات الأخلاقية أو ما سماه العقل الأخلاقي العملي. فبهذا المفهوم حثنا كانط على عدم النظر إلى الشخص كمجرد شيء يباع ويشترى في الأسواق، بل يجب تغيير نظرنا إليه لأنه ذات تملك عقلا أخلاقيا يستحق الاحترام، وعلى هذا الشخص أن يجعل لنفسه هبة وكرامة يميز بها نفسه عن غيره، فتنحني له العقول سواء أرادت أو كرهت.
[6] ولكن نرى اختلافا بسيطا بين كانط وصاحب النص يتمثل في كون صاحب النص صنف الفرد حسب ما يكنه له الآخرون، أما كانط فتكلم على أن كل من يملك عقلا واعيا أخلاقيا يجب أن يلقى الاحترام. وهذا ما جعل طوم ريغان يعيب النقص الذي جاء به كانط وذلك بإقصائه لفئات اجتماعية أخرى، وقد أعطى أمثلة: كالبويضة المخصبة والمواليد بدون دماغ والمجانين …الخ. فجاء طوم ريغان بمعيار بديل يحدد قيمة الشخص وهو ما سماه " الذات التي تستشعر حياتها".ويمكن أن أستخلص ما يعنيه في هذه العبارة في كون أن هذه الذات تمتلك وعيا مرتبطا بالزمان والمكان تستشعر به الحياة وتتطلع إلى المستقبل. فالأشخاص الغائبون عن الوعي لا يزالون متمسكين بالحياة ويتطلعون إلى مستقبل أفضل ويسترجعون الماضي. فهل هذه الفئة غير جديرة بالاحترام ؟
[7] من خلال هذا السؤال يتبين لنا نقص ما جاء به كانط ، وبهذا يجعلنا نتطلع إلى البديل الذي جاء به طوم ريغان. لكن هذا الأخير اعترف أن ما جاء به يعاني أيضا من نقص الشمولية لأنه أيضا يقصي بعض الفئات الاجتماعية، ويبقى لنا المجال مفتوحا للبحث عن بديل آخر.
[8] ومن ناحية أخرى نجد بعض الفلسفات تربط قيمة الشخص بمدى الدور الإيجابي الذي يقوم به في المجتمع، حيث نجد مثلا الفيلسوف غوسدورف يحدد قيمة الشخص في مدى تأثيره في المجتمع إذ عليه أن ينفتح على الكون وعلى الغير، وهو لا يوجد ولا يكتمل إلا بالمشاركة والتضامن والأخذ والعطاء. وفي نفس السياق ذهب راولز إلى أن قيمة الشخص تتحدد في علاقته مع الآخرين وبالتزامه بالغايات القصوى لتحقيق العدالة ونشر المبادئ المميزة لها.
[9] هكذا يربط كل من غوسدورف وراولز قيمة الشخص باندماجه في المجتمع وطبيعة علاقته بالآخرين، وهذا يجعل قيمة الشخص نسبية وعلائقية. اما كانط وطوم ريغان فهما يتحدثان عن قيمة مطلقة يمتلكها الشخص بغض النظر عن طبيعة علاقته بالآخرين.
[10] من هنا يبدو أن إشكال قيمة الشخص أثار العديد من النقاشات التي تعددت بشأنها الآراء والتصورات، لكن يبقى أكيد أن الإنسان كشخص يمتلك قيمة عليه أن يزكيها ويحافظ عليها وهي لا تخرج في نظري عن المقومات الأساسية لهوية الشخص كالإرادة والوعي والأخلاق والمسؤولية والحرية، إذ كيف يمكن أن نتحدث مثلا عن قيمة لإنسان ما لا يمتلك حريته أو لا يلتزم بمسؤولياته تجاه نفسه وتجاه الآخرين ؟؟
انتهى موضوع التلميذة.
• ملاحظاتي كــ "مصحح"
وسأحاول فيما يلي أن أبسط مكامن القوة في موضوع التلميذة وأظهرها أشد ما يكون الاظهار حتى تنجلي واضحة ليستلهمها تلامذتنا الآخرون، ووسأشفع كل تعليق بالتنبيه إلى بعض أوجه القصور التي هي نصيب كل عمل بشري مندرج في إطار التعلم، أملا في أن تتجاوزها هذه التلميذة مستقبلا وأن يتفطن إليه غيرها فلايقع فيها.
بصفة عامة:
تمتلك التلميذة كفايات لغوية وبلاغية لافتة للأنظار، فلغتها سليمة نحويا وتركيبيا إلا فيما نذر، وقد تجلت هذه الكفاية في سلاسة العبارة، وفي المرونة التي انتقلت بواسطتها بين الجمل والفقرات، وكذا في غياب التكرار..
كذلك يتسم موضوعها بالتنامي وبوجود خيط ناظم عصم الموضوع من التشتت والتيه والدوران ليس في حلقة بل في حلقات مفرغة..
بالنسبة للطرح الإشكالي/المقدمة/الفهم:
نأت هذه التلميذة عن تلك المقدمات المكرورة البئيسة (بندرج النص ضمن.. أو أثار مفهوم كذا جدلا..)، كتبت التلميذة:
في حياتنا اليومية العادية نصادف ونتعرف على أشكال مجتمعية وفكرية مختلفة من الناس، فرغم تباين معتقداتهم وأعراقهم ومكانتهم يتساوون في كونهم أناس. فهل نحن مجبرون على احترام الإنسان رغم اختلاف أنماطه أم يمكن تمييز فئة عن أخرى؟ وهل نحن أحرار في اختيار من نحترمهم؟ وهل أفعالنا وأفكارنا تتطابق مع بعضها البعض في علاقتها مع الآخر أم لكل منهما عمل منعزل عن الآخر ؟
إن صاحب النص ينطلق من فكرة رئيسية وهي كون الاحترام مخصص للأشخاص فقط. فماذا نقول عن إعجابنا وحبنا لبعض الأشياء ؟ أهو شعور عاطفي محض أم أنه احترام لها ؟
هذا ما سنبرزه من خلال تحليلنا للنص الذي بين أيدينا.
– لقد انطلقت أولا من الواقع، لأن الموضوع يتيح هذه الإمكانية، وليس هناك أفضل من بدء التفلسف انطلاقا من الواقع
– اجتهدت في خلق تقابل وتوتر مشرعن لطرح الإشكال وهو التقابل بين: تمايز وتباين صفات الناس ومراتبهم ومقاماتهم، وبين واجب الاحترام الذي يفترض أن يشملهم دون تمييز !
يظهر التوتر جيدا من الناحية اللغوية في استعمالها لكلمة : "فرغم"
طرحت التلميذة الأسئلة التالية:
-هل نحن مجبرون على احترام الإنسان رغم اختلاف أنماطه أم يمكن تمييز فئة عن أخرى؟ و
– هل نحن أحرار في اختيار من نحترمهم؟
– ماذا نقول عن إعجابنا وحبنا لبعض الأشياء ؟ أهو شعور عاطفي محض أم أنه احترام لها ؟
الجميل في هذه الأسئلة أنها أسئلة النص لا أسئلة الملخص ! وهذا أمر محمود، لأن أغلب التلاميذ يعتقدون ان أسئلة الملخص هي نفسها أسئلة النص، فيفرضون على النص أسئلة الملخص، أو لنقل إنم يطمسون إشكالات النص تحت ركام إشكالات الملخص.. متناسين أن علينا أن نطرح بالضبط الأسئلة المفترض أن النص يجيب عليها، وأن تحليلنا للنص يمثل بسطا لهذه الإجابة قبل محاكمتها في لحظة المناقشة..
ولا يراودني أدنى شك في أن إفلات التلميذة من هذا المنزلق البنيوي الخطير، ونجاحها في طرح أسئلة-النص عوض أسئلة-الملخص يعود إلى سلامة المنهجية التي لقنت لها، أي إلى مجهودات مدرسها !!
بيد أن السؤال المطروح في منتصف المقدمة، كان أقل توفيقا من إخوته! وقد عمدتُ إلى كتابته بلون أحمر ! جاءت صياغة السؤال غامضة، ولم توَفق التلميذة في التعبير. صحيح أنني حدست مرادها، لكن لا أنصحها بالمراهنة على قدرة المصحح على فهم مقاصد الغير!!
بالنسبة للتحليل:
لابد أولا من ملحوظة: يطلب منا كمصححين أن ننقط التحليل من 0 إلى 5 وكذلك المناقشة، ولكن كيف يعرف المصحح نهاية التحليل وبداية المناقشة !؟ يعلم كل مصحح أنه يقوم بعمل "اعتباطي" إلى حد ما وهو رسم خط وهمي يفصل بين التحليل والمناقشة داخل مايسمى بالعرض (مادام التلميذ لا يقول هذا تحليل وهذه مناقشة !)
شخصيا، ومن أجل تقويم منصف، سأعتبر الفقرات: 2، 3، 4 و 5 في موضوع التلميذة بمثابة تحليل! أما احتساب الفقرة 5 كمناقشة فسيقزم التحليل لصالح المناقشة!. صحيح أنها استدعت في الفقرة الخامسة بعض مكتسباتها المعرفية حول كانط، بيد أنها إنما فعلت ذلك في معرض تحليل النص وشرحه وتوضيح أفكاره! وهذا ما جعلها تختم الفقرة المذكورة بالإحالة مجددا على آخر جملة في النص، حيث كتبت التلميذة:
وعلى هذا الشخص أن يجعل لنفسه هبة وكرامة يميز بها نفسه عن غيره، فتنحني له العقول سواء أرادت أو كرهت
إن لم نعتبرها جزءا من التحليل، فلا أقل من أن نعتبرها جزءا مشتركا بين التحليل والمناقشة، أي كفقرة انتقالية، تلخص التحليل وتمهد للمناقشة
بعد هذا التنويه، أقول إن التلميذة نجحت إلى حد بعيد في فهم النص، وهو عموما نص في المتناول، وتجلى ذلك في إعادة عرض وتنظيم للمادة المعرفية للنص كما تجلت في بنيته المفاهمية، وفي مايلي أهم التمفصلات التي رصدتها في موضوعها:
إن ميلنا للأشياء وحبنا لها …وقد رأى أن للاحترام رفيقا وهو الإعجاب …وقد ميز صاحب النص بين صنفين … إن الصنف الأول … أما الصنف الآخر … من خلال تحليل النص نرى أن صاحبه… ومن هنا نرى كانط يتفق مع ما جاء به صاحب النص…
إلى جانب ذلك، تجرأت التلميذة على ضرب أمثلة من الواقع للبرهنة على فهمها للنص، حين كتبت التلميذة:
إن الصنف الأول يكون في فرد ذي مكانة اجتماعية – كأحد الملوك أو المشاهير في عصرنا الحالي
أو، حين كتبت:
لأن الأشياء قد تكون محط إعجابنا كسيارة اشتريتها أو قطة أمتلكها، لكن قيمتها تقدر بثمن ويمكننا بيعها أو التخلص منها
بصفة عامة، أعتقد أنها قالت أغلب مايمكن لتلميذ باكالوريا في الثامنة عشر من عمره أن يقوله عن مثل هذا النص، خصوصا وأن التلميذة لا تملك مفتاح النص وهو أن " شيء واحد خيّر بذاته بغض النظر عن نتائجه، يستحق الاحترام لذاته، ألا وهو الإرادة الطيبة.. وأن القانون الأخلاقي بداخل الإنسان هو الذي يرفعه فوق مرتبة الشيء أو مملكة الطبيعة"
إنما أؤاخدها لأنها لم تقف بما يكفي عند مفاهيم: الحب، الخوف، الميل، الإعجاب، الاحترام (لأن النص ليس شيئا آخر غير بنية من المفاهيم)
أحمد لها وقوفها عند مفهوم "الشيء" وقابليته للاستبدال والبيع.. وكذا وقوفها نسبيا عند مفهوم الاحترام، كتبت التلميذة:
أما الاحترام فهو قيمة أخلاقية نابعة من الهبة في النفس
لكن رشاقة العبارة خانتها ، فلم تفصح عن شيء !! وكان بمقدورها أن تشرح الآحترام سياقيا داخل النص بوصفه ذلك التقدير الضروري (شئت أم أبيت) الصادر من العقل والمتجه إلى أخلاقية المرء.
لقد كفاها صاحب النص مؤونة شرح مفهوم الإعجاب، وقد اكتفت هي باستعادة شرحه حيث كتبت التلميذة:
لأن الإعجاب ناتج عن انفعال ودهشة
ولكن ألم يكن بمقدروها أن تحفر قليلا في مفهوم الخوف، بوصفه انفعالا ينتابنا عندما نستشعر خطرا محدقا بنا، كأن الذات مهددة بالتلاشي امام الخطر الصادر عن الموضوع المخيف أو عظمته التي قد تسحق الإنسان أحيانا كالبركان..
كذلك الأمر بالنسبة للميل والحب الذي لايعدو أن يكون هوى يجتاح النفس ويستبد بها، قد يتلاشى ذات يوم كاهتمام المرء بكلاب مدربة أو خيول أصيلة، ثم إن مانميل إليه لايحظى بتقدير وإعجاب كوني.. الكثيرون لا يميلون إلى الخيول ويكرهون الكلاب..
أما عن الإعجاب فكان حريا بها أن تتأمل فقط الأمثلة لترى أن الإعجاب شعور أمام ماهو هائل: مسافات سحيقة، كواكب، جبال شامخة… يتجاوز الذات لكنه بخلاف المخيف لايهدد بقاءنا !!
أظن أن التلاميذ، وهذه التلميذة بالضبط قادرة على مثل هذه المفهمة، لو تم لفت انتباهها إلى ذلك بشكل يجعلها تعي المطلب
المناقشة:
يمكن القول أن المناقشة هي الدابة السوداء La bete noire التي تتربص بالتلاميذ في المنعطف الثاني من إنشائهم، والواقع أنني أعذرهم: إذ كيف يمكن للمرء ان يناقش فيلسوفا يقول: الشخص البشري وحده -دون الأشياء والحيوان- جدير بالاحترام بسبب أخلاقيته !!؟
ومع ذلك، ينبغي الاعتراف بأن للتلاميذ أحيانا بعض الحدوس واللُمع الرائعة، منها قول هذه التلميذة:
ولكن نرى اختلافا بسيطا بين كانط وصاحب النص يتمثل في كون صاحب النص صنف الفرد حسب ما يكنه له الآخرون، أما كانط فتكلم على أن كل من يملك عقلا واعيا أخلاقيا يجب أن يلقى الاحترام
لقد خُيّل للتلميذة أن كانط-الملخص يجعل قيمة الشخص كامنة في صفة ذاتية في الشخص، في حين ان كانط-النص يجعلها متوقفة على موقف أو شعور الغير نحو الشخص ! طبعا لقد فاتها أن القيمة تعني أصلا: "مايجعل الشيء موضوع رغبة أو تفضيل أو ..احترام من طرف غيره، تبعا لنوع القيمة !!
لقد كانت هذه التلميذة مبدعة وذكية حتى وهي تخطئ ! سيعتبر البعض حكمي هذا متناقضا، لكن بعض الأخطاء كهذه إنما تعبر في نظري عن ذكاء وعن محاولة جدية وحريئة للفهم أو التأويل رغم غياب عناصر معرفية كافية، بسبب محدودية اطلاع التلاميذ على المتن الفلسفي.
أما ما تبقى من المناقشة، فلم تخرج فيه التلميذة عن المعهود التلاميذي، وإن كانت زلتها أهون لأنها اعتمدت سردا خفيفا مختصرا، ولم "تنزل على" فقرات الملخص بكاملها.
وهكذا، ففي ما يخص احتجاجها بطوم ريغان، كان بإمكانها أن تذكّرنا أولا أن مبرر احترام الشخص حسب النص كامن في "استقامة الطبع"، وأن تتساءل بعد ذلك، هل كل الناس يملكون استقامة الطبع، ويحق لها تبعا ذلك أن تجادل صاحب النص محتجة بمثال الأطفال والرضع والمعتوهين والبويضة.. عندها يكون استدعاء ريغان مشروعا
كان عليها لو ركزت قليلا أن تثير إحراجات كثيرة ننتهي إليها فيما لو تبنينا موقف صاحب النص، من قبيل كيفية التعامل مع المجرم الذين لم يظهر أبدا أي استقامة في الطبع !! هل يظل جديرا بالاحترام رغم ذلك!؟
ولكن مهلا !! لماذا سنحاجج دائما بإسم الفلاسفة ! لم لانجادل صاحب النص بشأن قصْره الاحترام على الشخص دون الكلاب والخيول؟! ألا نجد كلابا أوفى من البشر وخيولا أنفع من بعض بني آدم !!؟ ألا تستحق شيئا م نالاحترام بسبب ذلك !؟ لماذا سنستمر في قصر الاحترام على الكائن البشري..!؟
لهذا ألفت انتباه تلامذتي دائما إلى أن المناقشة تعني من بين ما تعني:
– إبراز أهمية النص: مالجديد الذي يعلمنا إياه !؟ وهل يسمح لنا بتناول قضايا ووقائع على نحو أفضل ؟
– الإفصاح عن النتائج المترتبة عن تبني اطروحة النص: ماذا نكسب؟ ماذا نخسر؟ ماذا يحصل لو مضينا مع صاحب النص إلى أقصى الشوط !؟
أما الفقرة رقم 8 من موضوعها، فمجرد كونها تبدأ ب " اما من جهة أخرى" وتتضمن "وفي نفس السياق.." فذلك دليل أن التلميذة قد انساقت وراء المعهود التلاميذي وأمسك الملخص بتلابييها فلم يعد الحوار قائما بين النص ومواقف أخرى، بل استحال الحوار إلى جدل بين المواقف نفسها بعيدا عن النص.
ولكنني لا أحاسبها رغم ذلك على هذه الزلة،إذ كيف يمكن للمرْ ان يجعل غوسدورف أو راولز محاورين لصاحب النص، اللهم إلا إذا فطن التلميذ -وهذا فوق طاقته- أن "استقامة الطبع" التي تحدث عنها النص تعضّد قيمة الشخص وتوجب احترامه لأنها رأس الفضائل الأخلاقية وستنعكس لامحالة على علاقته الإيجابية بالأغيار من خلال: المشاركة والتضامن والعطاء..
أو إذا فطن إلى أن بإمكاننا أن نعطي لاستقامة الطبع مضمونا سياسيا، ونخرج بها من دائرة الأخلاق إلى مجال السياسة، فتتحول إلى صفات مواطن داخل مدينة.. راولز..
ولكن هل من المعقول توقع كل هذه البهلوانيات Acrobaties الفكرية من تلميذ البكالوريا !!.
التركيب/الخاتمة:
من خلال تجربتي كمصحح، أستطيع الجزم ان قيمة الخلاصة أو التركيب تتوقف على قيمة المناقشة وليس التحليل،
جاءت خلاصة موضوعها تقليدية امتثالية conformiste لكنها مقبولة في نظري ، لأنها تدخل ضمن المعهود التلاميذي الذي نجده حتى لدى أكثرهم نجابة وتباهة، وهنا يتمثل دورنا في مدهم بنماذج يستلهمون من خلالها إمكانيات أخرى للتركيب والخلاصة..
ما كان لها أن تخلص إلى غير ذلك، مادامت لم تجادل صاحب النص بشكل جدي، ومادامت لم تحاكم أطروحته بشكل يظهر محدودية تصوره او إمكانيات تجاوزه…
ومن الطريف أن السؤال الذي ختمت به موضوعها:
إذ كيف يمكن أن نتحدث مثلا عن قيمة لإنسان ما لا يمتلك حريته أو لا يلتزم بمسؤولياته تجاه نفسه وتجاه الآخرين ؟؟
كان أولى به أن يتخد مكانه في المناقشة، في إطار تطوير أفكار النص أي استكشاف امتداداتها داخل مجالات أخرى أو تقاطعها مع إشكاليات قريبة .. وهي شكل آخر من أشكال المناقشة
وعوض أن تكتفي بطرحه في الخاتمة ليظل مفتوحا، كان حريا أن تستل قوته الاستفهامية لتفتح جبهات جديدة لمناقشة صاحب النص..
والآن وباختصار، ماهي النقطة التي يستحقها هذا الموضوع؟ ء
باختصار، ورغم كل القصور والهفوات التي سجلتها بصدد موضوع التلميذة ، إلا أن حكمي النهائي هو أن الموضوع جيد، ويستحق نقطة جيدة، ومبرري في ذلك أن كل تقويم للإنجاز التلاميذي لابد أن يراعي "الممكن التلاميذي"، والموقع النسبي للموضوع داخل مجموعة الأوراق، وحيث ان تجربتي كمصحح علمتني أن من بين 100 ورقة أصححها، أعثر في المتوسط على 8 أوراق جيدة من بينها واحدة ممتازة،فإني شبه متيقن أن ورقة هذه التلميذة ستكون من بين السبعة وربما كانت هي الورقة الثامنة المتميزة!!
by