المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز – الجزء الثالث
في أنه ينبغي تثوير تصورنا للبناء الإشكالي
لنفترض ان المدرس قد طرح إشكالية مشروعية الدولة طرحا مستوفيا لشرط التوتر والمفارقة، فبم سيملأ هذا الفراغ المرعب الذي خلقه السؤال الفلسفي -على حد تعبير الصديق زارا- ؟
سيتحسس المدرس كراسته، ليتكلم بإسم ابن مسكويه أو جون لوك او روسو أو هيغل أو ماركس !!
ولكن لِم يفكر اولا -وخارج كل نسق فلسفي وبإعمال بسيط للعقل- في أن المشروعية قد تكون مشروعية ثورية (الانقلاب)، أو مشروعية ديموقراطية تفرزها صناديق الاقتراع أو مشروعية تاريخية، او حتى دينية لاهوتية أو مشروعية عرقية كشرف النسب.. إلخ وهكذا يبدأ التفكير الشخصي بالدخول في صلب الموضوع الحي عوض تحنيطه، ولننفتح بعد ذلك على لوك ا روسو او مونتيكسيو أو أرسطو أو ابن تومرت أو الحجاج بن يوسف ..
من غير المستبعد أن يكون الكثير من المدرسين قد وجدوا نفسهم في مثل هذه الوضعيات مضطرين لقول “شيء ما” إضافي غير ما تتضمنه النصوص والأطروحات الفلسفية، ولعل الواقعتين التاليين توضحان المقصود، إحداهما شخصية والأخرى عامة:
أذكر أنني قبل سنة 2003 وفي معرض معالجة إشكالية معرفة الغير وبالضبط أثناء الحديث عن استحالة معرفة الغير، كنت في الغالب أحتج للتلاميذ بمفهوم الحميمية بوصفها جانبا م نالعالم الداخلي مغرق في الخصوصية والغرابة يخص الذات ويصعب الإفصاح عنه أو إيجاد كلمات مناسبة للتعبير عنه … وسنة 2003 عثرت -أثناء البحث- عن نص لغاستون بيرجي ! فجعلته جزءا من درسي تلك السنة، وتشاء الأقدار أن يطرح هو نفسه كنص للاختبار في الامتحان الوطني تلك السنة! ولعل بعض تلامذتي السابقين في ثانوية ابن زهر بوزان لايزالون يذكرون هذه الواقعة أو المصادفة السعيدة التي جعلت بعضهم يتجرأ ويذكر بكل ثقة إسم صاحب النص: غاستون بيرجي! أثناء التحليل في الامتحان الوطني…
لم تكن الحميمية في البداية غير تفكير وتأمل شخصي ضمنته في درسي لسنوات قبل أن ا‘ثر على نص فلسفي يعضّده ! لذا أرى أن بإمكاننا بل علينا أن نغذي دروسنا وملخصاتنا بمواد من التفكير الشخصي، عسى تلامذتنا يفعلون الشيء نفسه في الإنشاء !!
أما إذا لم أكن أجرؤ على ممارسة تفكير شخصي أثناء إنجاز درسي او تحرير ملخصي، فكيف لتلميذي أن يجرؤ على ذلك !!؟
أما الواقعة الثانية، العامة، فتتمثل في مايلي:
في المقرر القديم كنا نفتتح درس اللغة بمحور أو إشكالية ” اللغة كخاصية إنسانية” وحيث أن البناء الإشكالي يقتضي على الأقل موقفين متعارضين بدرجة من درجات التعارض أو تربطهما علاقة ما باستثناء علاقة التجاور، فقد كنا نقف كمدرسين امام الإحراج التالي:
هل في المتن الفلسفي من زعم أن اللة ليست خاصية إنسانية كي نقابله بالتصور الديكارتي !؟
بلغ الأمر حدا أن الإحراج طرح في لقاء تربوي بحضور مفتشين، فكانت الفتوى التي لم تكن بالنسبة لي ضرورية لأن الحس السليم قادر على اكتشافها دو ن الحاجة إل فتوى من مؤطر:
يمكن ان تكون الأطروحة الأولى هي موقف الحس المشترك الذي يعتقد أن للحيوان لغة وأن الحيوانات تتلكم ولها لغتها الخاصة !
أما الأطروحة الثانية المعارضة فهي طبعا الأطروحة الديكارتية !!
أخلص من الواقعتين السابقتين إلى أن المدرس غير مطالب على الدوام بضرورة استحضار أطروحتين متعارضتين من تاريخ الفلسفة لينجز بناءا إشكاليا جديرا بها الإسم! وإلا فما العمل في حالة عدم العثور على “موقفين” أو “نصين”. طبعا لن نكون محتاجين إلى شيء من هذا وستكون مهمتنا سهلة لو أن واضعي المنهاج لم يصوغوا الإشكالات وعنواين المحاور إلا بعد استقراء ومسح للمتن الفلسفي للتأكد أن القضايا المقترحة للتفكير في إطار المقرر قد تم فعلا تناولها من منظورات فلسفية مختلفة، ولكن ليس هذا هو واقع الحال !!
في حالة تعذر العثور على موقفين او بالأحرى أطروحتين إثنتين متحاورين، يمكننا الاكتفاء بعرض الأطروحة الأولى لفيلسوف ثم نقدها وتنسيبها ومناقشتها والكشف عن مفترضاتاها والتناقض المحتمل لنتائجها مع الواقع أو مع التجربة الذاتية أو مع معطيات التاريخ أو العلم طبيعيا كان أو إنسانيا…، فيكون مجهودنا وتفكيرنا الشخصي هو المكون الثاني للبناء الإشكالي (وقد خصص ميشال غورينا أزيد من عشر صفحات في كتابه السالف الذكر لعرض مختلف إمكانيات وأشكال “دحض” أطروحة فلسفية ما)
ويمكن القيام بالعكس: أي تحويل الموقف الأول إلى أطروحة من خلال بنائه حجاجيا ومفاهيميا ثم معارضته بالأطروحة الفلسفية مثلما اقترح بعض المشرفين التربويين للتعامل مع إشكالية اللغة كخاصية إنسانية في المقرر القديم.
إذن للبناء الإشكالي ثلاث إمكانيات:
-الإمكانية الأولى: (وهي الإمكانية المثالية)
1- أطروحة فلسفية أولى
2- أطروحة فلسفية ثانية تحاورها أو تدحضها أو تتجاوزها
-الإمكانية الثانية:
1-موقف نحوله إلى أطروحة من خلال بنائه حجاجيا ومفاهيميا (مجندين الثقافة الفلسفية بمعناها الواسع المعرّف أعلاه)
2- أطروحة لفيلسوف تحاور أن تدحض أو تتجاوز الأطروحة/الموقف الذي تم بناؤه
-الإمكانية الثالثة:
1-أطروحة لفيلسوف
2- بناء أطروحة ثانية قوامها نقد ودحض وتجاوز وتنسيب الأطروحة الفلسفية السابقة (مجندين أيضا الثقافة الفلسفية بمعناها الواسع المعرّف أعلاه)
هنا بالضبط ألتقي مع اجتهاد الصديق محمد الخلفي الذي اقترح التمييز بين الموقف و الأطروحة
بيد أنني مضطر في النهاية لإعلان اختلاف بسيط معه في مايخص المصطلحات التي استخدمها لبسط هذا التمييز
خلاصة: أهمية التمييز بين الأطروحة والموقف
يميز صديقي الأستاذ محمد الخلفي بين:
– الأطروحات هي الأجوبة المحتملة على الإشكال المطروح، وهي أجوبة يمكن استنباطها عقلا وقبلا من صيغ السؤال نفسه
مثلا: هل معرفة العير ممكنة أم مستحيلة؟
الصيغة التناوبية للإستفهام توجي أصلا بوجود أطروحيتن: ممكنة/مستحيلة
-المواقف: مابه “نملأ” تلك الأطروحات سواء كانت مواقف فلسفية/مذهبية أو معارف غير-فلسفية مستقاة من حقول معرفية أخرى أو حتى من الواقع المعيش، شريطة الالتزام بروح الأشكلة في عرض هذه المفاهيم وبنائها حجاجيا ومفهمة المعاني والكلمات والألفاظ المعبرة عن الموقف !!
أرى من جهتي أن الأجوبة المحتملة على إشكال ما ينبغي ان تعد مواقفا Posistions لأن الموقف يوحي لي بفكرة التخندق أو تحيز ضمن معسكر ما أو وجهة نظر ما: Prendre position
يبدو ان الموقف يعبر عن الاختيار ويرتسم داخل اللحظي والقطعي categorique، في حين أن الأطروحة تضم Des nuances أي فروقا وتحديدات دقيقة مما يفسر تعدد الطروحات كما انها ترتسم داخل ديمومة التي هي ديمومة فكر يبني استدلالاته وسلاسل حججه les chaines de raisons.
لذا نقول : عليك ان تتخد موقفا، لكننا نقول عليك أن تبني أو تؤلف أطروحة.
إذن اقترح للمعارف الفلسفية وغير-الفلسفية المستدعاة لـ “ملأ” هذه المواقف ان تسمى “أطروحات” خصوصا وأننا درجنا على الحديث عن أطروحة نص فلسفي، ثم إن الأطروحة تستدعي عرضا نسقيا حجاجيا في حين أن الموقف يعني قرارا بالانحياز إلى هذا الاختيار أو ذاك
وهناك مسوغ آخر وجدته عند ميشيل غورينا في كتابه “دليل الإنشاء والتعليق على النصوص في الفلسفة” الذي يستخدم، محتجا بأرسطو، “الأطروحة” للحديث عن قضية proposition لفيلسوف من كبار الفلاسفة un grand philosophe
العودة إلى:
ملاحظة: تولدت فكرة هذا المقال من خلال حوار مع الصديق محمد الخلفي على صفحات منتدى الحجاج هنا الفلسفة : تدريس مواقف ام تدريس أطروحات
by
جزاك الله خيرا