خارطة طريق لدرس العنف

خارطة طريق لدرس العنف

و لأننا بصدد درس حول العنف، فلا مفر من أن يمارس الدرس قدرا من العنف على المدرس! ما لم يبادر هذا الأخير بممارسته على الدرس ! وقد اخترت الاحتمال الثاني
وفي ما يلي خواطر حول الطرح والبناء الإشكاليين للمحور الأول انطلاقا من قراءة تحليلية ونقدية في الكتب المدرسية الثلاث: رحاب، مباهج ومنار.

المحور الأول: أشكال العنف
لجأ كل من الرحاب والمنار إلى صياغة المحور بالشكل الذي يوحي به العنوان أي استعراض أشكال العنف فعلا !! ، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء أشكلة موضوع/عنوان المحور

1- الرحاب: نصوص غنية بإشكالات حقيقية لكن يصعب إداراجها تحت عنوان المحور
قدم الرحاب نصا للمختص في السلوك الحيواني كونراد لورنتز يقارن فيه بين عدوانية الإنسان وعدوانية باقي الحيوانات، ملاحظا – إنطلاقا من نظرية التطور- كيف أن هذه الأخيرة قد طورت خلال مسيرتها التطورية الطويلة ميكانيزمات فطرية كابحة تمنع من انتهاء العنف الموجه ضد أفراد نفس النوع بالقتل، الذي يهدد بانقراض النوع، بينما لم يطور الإنسان مثل هذا الميكانيزم الكابح لذلك أفضت وتفضي عدوانية الإنسان إلى قتل الإنسان! ولايخفي كونراد تشككه في مزاعم الفلاسفة بشأن قدرة العقل والأخلاق (حس المسؤولية والواجب ) في تعويض هذا الميكانيزم الطبيعي الغائب
ولكن أين هو وجه الإشكال فيما يقوله كونراد !؟ الواقع أن الرحاب لم يبن إطارا إشكاليا كفيلا بــ “استقبال” موقف كونراد الذي لايخلو من عمق فلسفي. أغلب الظن أن مقولة كونراد قابلة للإندراج ضمن إشكالية العنف بين الطبيعة والثقافة، بين الجينات والميمات ( أي المورثات الثقافية بتعبير بيتر هوبكنز)
ولكن أنى لنا تناول نص كونراد ضمن هذا الإشكال إذا كان النص الموالي لكلوزفيتش يعالج إشكالا مغايرا هو الآخر: فهو يقدم مقاربة للحرب انطلاقا من نموذج المواجهة بين فردين ليخلص إلى أن الحرب فعل من أفعال القوة هدفه تحطيم مفاومة الخصم، إلى هذا الحد لايبدو في الأمر أي إشكال ! ولكن هاهو الإشكال ينبثق عندما يصرح كلوزفيتش بأنه لاحدود لهذه القوة المستخدمة سوى مايسمى بحقوق الإنسان والعلاقات الدولية وتقاليد وقيم الشعوب المتحضرة. وهذا ما دفع كلوزفيتش إلى القول بأن “حروب الشعوب المتحضرة أقل عنفا من حروب الشعوب المتوحشة”
إنها إذن إشكالية حقيقة : هل يجتمع التحضر (على المستوى الأخلاقي بالخصوص) والحرب؟ إذا كنت أسعى في الحرب إلى إبادة خصمي بأسرع الوسائل وأشدها فتكا، فهل يمكن الحديث عن معاملة إنسانية بين المتحاربين ؟ عن أنسنة الحرب بما هي عنف جماعي ممنهج ( وهذا ما حاولت تقنينه معاهدة جنيف حول الحروب وبالخصوص الأسرى ) ؟
ولكن أتى للمدرس أن يعالج هذه الإشكالات !!؟

2-المنار: مواقف متجاورة تجيب على سؤال غير معروف ولم يطرح أصلا!!

كتاب المنار حالة خاصة بكل المعايير !! فهاهو الطرح الإشكالي الذي جادت به قريحة مؤلفي المنار في الصفحة125 : “كيف نفسر أسباب العنف والعدوانية التي ما تزال مظاهرها مسيطرة على مسار التاريخ البشري؟ وكيف يمكن التمييز بين العنف المادي والعنف الرمزي ؟”
فالسؤال الأول سؤال جامع لمحورين : أشكال العنف والعنف في التاريخ.
أما السؤال الثاني فإنه يسيل لعاب القارئ ولكنه يتركه على جوعه !! إذ أنه لن يجد أثرا لهذا التمييز أبدا في أي مكان من الدرس!!
وهكذا وبدون أي طرح إشكالي، شرع المنار في تقديم النصوص: نص أول لــ “إريك فروم” يشكك فيه في الأطروحة القائلة بالأصل الغريزي للعدوانية ويشدد بالمقابل على أهمية العوامل الثقافية في إثارة العنف الكامن مشيرا إلى نوع خاص من العنف ذي الجذور الثقافية وهو العنف المقدس الذي يتمظهر في الطقوس والشعائر الدينية (تقديم القرابين والأضاحي)
مقابل فروم استدعى المنار فرويد الذي يثبت أن العدواينة نزوع فطري متأصل في غرائز الإنسان ، لذلك تحشد الحضارة كل الوسائل المادية والأخلاقية لمحاصرة هذا العنف وتحييده وإعادة توجيهه ضمن قنوات …
وكأن الإشكال والتقابل غير غامض بما فيه الكفاية، فقد أضاف الرحاب نصا لــ “بودريار” يدعو فيه إلى مقاربة النزاعات الحالية (11شتنبر نموذجا) خارج المنطق المانوي لثنائية الخير والشر لأن هذا الأخير غدا منتشرا ومبثوثا في كل مكان

3- المباهج: التقابل الموجه للمحور وجيه ولكن السؤال باهت إشكاليا

وحده مباهج الفلسفة قدم تصورا إشكاليا أكثر إقناعا عندما بنى مضمون المحور ومعالجة موضوعة أشكال العنف إنطلاقا من ثنائية العنف المادي والعنف الرمزي. بيد أن صياغة السؤال جاءت باهتة من الناحية الإشكالية . فقد تساءلوا: ما هي طبيعة العنف وماهي أشكاله ومظاهره ؟
وتم توظيف نص لــ “إيف ميشو” حول مظاهر العنف المادي يقابله نص لصاحب مقولة العنف الرمزي نفسه بيير بورديو !!

4- والخلاصة من كل هذا !!؟
في ما يخصني، فقد تبنيت الثنائية (عنف مادي/ عنف رمزي) بيد أنني حاولت على مستوى الصياغة أن أجتهد قليلا فتساءلت:
هل تقتصر أشكال العنف على العنف المادي الفيزيائي العضلي كما يظهر للوهلة الأولى أم تشمل أيضا أشكالا من العنف الخفي الرمزي و اللطيف؟ ولكن كيف للعنف أن يكون خفيا لطيفا دون أن يفقد صفته كعنف والحال أن سمة العنف هو القوة التي تكسر كل مقاومة !؟ هل العنف محتاج للتخفي والتنكر ؟

المحور الثالث: العنف والمشروعية
أنتقل الآن إلى المحور الأخير من درس العنف لأن المحور الثاني ، العنف في التاريخ، لايكاد يطرح مشكلة من حيث إمكانية أشكلته
سأفاجئ قارئ خارطة الطريق الحالية لأقول له إنني تخليت نهائيا عن المحور الثالث من درس العنف، أي العنف والمشروعية ! 😉 ، لأنني أزعم أن المحور الثالث في درس العنف مجرد تكرار مقنع (بفتح القاف) وغير مقنع (بتسكين القاف) للمحور الثالث من درس الدولة: الدولة بين الحق والعنف
لماذا؟
أولا- لم يستطع الكثير من الزملاء-المدرسين تجنب هذا التكرار، فعادوا مجددا إلى موقف ماكس فيبر، الذي سبق لهم توظيفه في المحور الثالث من درس الدولة، وأقصد ذلك الموقف الذي يعرّف الدولة بكونها جهاز يحتكر الاستعمال المشروع للعنف ولكن في حين وضعوا إزاءه موقف ريس هناك، فقد وضعوا إزاءه موقف غاندي هنا

ثانيا- أعتقد أن كل حديث عن مشروعية العنف يستدعي الحديث عن الدولة بشكل لا مناص منه بالإضافة إلى مفاهيم أخرى كالقانون والسلطة… اللهم إلا إذا تعلق الأمر بالعنف المعزول للأفراد تجاه بعضهم البعض
وحتى اللاعنف الذي يبشر به الماهاتما هو موقف ضد سلطة ضد دولة تحمل سيفا لايريد غاندي أن يستل سيفا أكثر منه مضاءا ليفله !!

ثالثا- الكتب المدرسية الثلاثة وقعت في تخبط، إن دل على شيء فإنما يدل على عدم تمايز المحور الثالث في درس الدولة والمحور الثالث في درس العنف!!
لقد قدم لنا الرحاب نصا لكانط لايجيز فيه العصيان والتمرد على ما يسميه مرة بــ” السلطة التشريعية العليا” ومرة بــ ” رئيس الدولة”، ( لاحظ حضور الدولة كطرف !!)
وقد جعلوا مقابله نصا لإريك فايل يدور حول فكرة مفادها أن الفلسفة رفض للعنف باستخدام العنف للوصول إلى حالة اللاعنف
أما المباهج فقد استعمل نصا ماكس فيبر وهو نفسه المستعمل من قبل المنار في المحور الثالث من درس الدولة
وعلى ذكر المنار ، فقد اضطروا لتوظيف نص لماكس فيبر مرة أخرى من كتابه السياسي والعالم يدور حول الأنماط الثلاثة للمشروعية !! هذا تخبط مابعده تخبط !! وماذلك إلا لأنهم وجدوا أنفسهم قد استعملوا نص فيبر الملائم في درس الدولة فراعهم أن يقوموا بتكراره
ووضعوا قبالته نصل لجويليان فراند مترجم فيبر في الفرنسية وهذا النص لايعدو كونه نصا شارحا لنص فيبر الذي سبق تقديمه في درس الدولة !!
وختم المنار المحور بنص لرالف لينتون هو مختلف ردود الفعل التي تقابل بها جماعة ما العنف الداخلي الذي ينشببين أفرادها: اللامبالاة، التقنين ، الرفض الطلق.

بناءا عليه قرت حذف ذلك المحور وتخصيص تلك الحصة لمراجعة المحور الثالث من درس الدولة، الدولة بين الحق والعنف وختمت الحصة بالاستمتاع ( نعم ! الاستمتاع!) بقراءة نص غاندي حول اللاعنف من المباهج-ص:151 ( ومادام التلاميذ لايتوفرون رسميا سوى على المنار، فقد كنت أقرأ و هم منصتون، لأن الإنصات أحد الأهداف التواصلية الأربع في منهاج الفلسفة ، ويقصد به الإنصات اليقظ والنقدي.)
وقد استخرجنا من نص غاندي:
– تعريفا للعنف، قام التلاميذ بإضافته إلى مالديم من تعاريف. يقول غاندي: “السمة الأساسية للعنف هي وجود نية وراء الفكر والكلام والفعل، أي رغبة في إلحاق الأذى والألم بذاك الذي يعتبر خصما”
– وتأملنا في مقولة المقاومة الروحية والذهنية وجدواها في عالم يطور كل يوم وسائل عنف أكثر فتكا وتدميرا، وحالولنا تطبيق الأمر على حالة الفلسطينيين !
– حاولنا فهم موقف اللاعنف الذي ينهجه عاندي تجاه كل ما يحيي بمافي ذلك الحيوان ( كان غاندي نباتيا، وقد ربط التلاميذ احترام غاندي لكل مايحيى بعقيدته الهندوسية)
– تذوقنا جمال أسلوب هذه العبارة: ” أسعى لأن أفل سيف المستبد، ليس بمواجهته بسيف أكثر مضاءا وحدة، بل بمفاجأته بأن أخيب أمله في أن يراني أواجهه بمقاومة فيزيائية”

Facebooktwitterredditmailby feather

تعليقاتكم وتفاعلاتكم

تعليقات وملاحظات

4 تعليقات على “خارطة طريق لدرس العنف”

  1. شكرا لانك فتحت أعينا على هذا البرنامج الدراسي الفاشل.ولاه يكون فعون الأساتذة لمحيلتهم يعلمونا محيلتهم يرقع الأخطاء .وهنا يطرح السؤال هل هي فعلا أخطاء بمعناهاالعفوي الغير مقصود؟أم أنها……؟ وفي النهاية نحن التلاميذ هم أكبر ضحية

  2. لا يسعني إلا أن أقول لك وختمت قراءة هذا الموضوع بالاستمتاع، نعم الاستمتاع بقراءة ما كتب حول موضوع العنف، تأملت فأبدعت، موفق أستاذي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *