-الشخص والهوية الشخصية
أ-ثبات الأنا واستمراريته في الزمان:
كان سكيرا، مجرما، قاطع طريق، فظا غليظ القلب، ثم تاب- بقدرة قادر –
فأصبح من أتقى الأتقياء، يفيض قلبه رحمة ويداه عطاءا وعيناه دمعا !! فهل نحن أمام نفس الشخص أم لا ؟ وماذا تعني عبارة "نفس الشخص"؟ ماذا تبقى منه؟ جسده؟ هل نختزل الشخص إذن في هيأته وجسده؟ ماذا لو أعترى الهيأة تشوه أو أصاب الجسد بتر ؟ أو تغيير جذري بسبب عملية تجميل ؟ هل نظل هنا إزاء
نفس الشخص أيضا؟
لنتخيل وضعية أخرى: شخصا يهيم حبا بشخص آخر،لاتبارح صورته مخيلته ليل نهار، يسعد بقربه ويشقى بالبعد عنه، ثم حدث أن خبا هذا الحب لسبب أو لآخر، أو تعلق الهوى بمحبوب جديد وكأن شيئا لم يكن ! هل نحن هنا أمام
نفس الشخص قبل الإنقلاب العاطفي وبعده؟
ألم تقل أم كلثوم في أغنية " ثورة الشك":
أكاد أشك في نفسي لأني أشك فيك وأنت مني!
ومرة أخرى: ماذا تعني عبارة "نفس الشخص"؟
ولمزيد من التفاصيل حول كيفية إنجازي لهذه الحصة، انظر
هنــــــــــــــــــــا
استشكالات أولية:
رغم تعدد وتنوع بل وتعارض الحالات النفسية التي يمر منها الشخص طيلة حياته، فإن كل واحد منا يحيل باستمرار إلى نفسه بضمير "أنا" بوصفه وحدة وهوية تظل مطابقة لذاتها على الدوام. غير ان هذه الوحدة التي تبدو بديهية تطرح مع ذلك أسئلة عديدة
بل إن البديهي يشكل الموضوع الأثير والمفضل للفكر الفلسفي. ويمكن القول أن الفيلسوف يصادف إشكالية الوحدة المزعومة للهوية الشخصية في معرض بحثه في الماهيات والجواهر. يتساءل الفيلسوف: إذا كان لكل شيء ماهية تخصه، بها يتميز عن غيره، فهل هناك ماهية تخص الفرد، بها يتميز عن غيره بشكل مطلق؟ خصوصا إذا علمنا أنه ما من صفة فيه، جسمية او نفسية، إلا ويشاطره التخلق بها عدد قليل أو كثير من الأفراد؛ وإذا عرضنا الشخص على محك الزمن والتاريخ، فهل هناك جوهر يظل ثابتا رغم تغيرات الجسم وأحوال النفس وانفعالاتها؟.
نلاحظ أن الفرد يستطيع التفكير في الموجودات الماثلة أمام حواسه أو المستحضرة صورتها عبر المخيلة، ولكنه يستطيع أيضا التفكير في ذاته ، في نفسه هذه التي تفكر!!
يسمى هذا التفكير وعيا وهو نفس الوعي الذي اعتمدعليه ديكارت في " الكوجيطو" وخصوصا وعي الذات بفعل التفكير الذي تنجزه في لحظة الشك أي الوعي بالطبيعة المفكرة للذات التي تقابل عند ديكارت طبيعة الإمتداد المميزة للجسم.
كيف يتمظهر أولا هذا الوعي بالذات في التجربة البسيطة؟
الشعور بالهوية الشخصية هي ما يميز كائنا مفكرا عن آخر:
نص جون لوك : "الوعي المصاحب لجميع الحالات الشعورية أساس الهوية الشخصية"
يرى "جون لوك" أن مايجعل الشخص " هو نفسه" عبر أمكنة وأزمنة مختلفة، هو ذلك الوعي أو المعرفة التي تصاحب مختلف أفعاله وحالاته الشعورية من شم وتذوق وسمع وإحساس وإرادة، تضاف إليها الذاكرة التي تربط الخبرات الشعورية الماضية بالخبرة الحالية، مما يعطي لهذا الوعي استمرارية في الزمان
|
لكي نهتدي إلي ما يكون الهوية الشخصية لا بد لنا ان نتبين ما تحتمله كلمة الشخص من معنى. فالشخص، فيما اعتقد، هو كانن مفكر عاقل قأدر على التعقل و التأمل وعلي الرجوع الى ذاته بأعتبار أنها مطابقة لنفسها، و انها هي نفس الشيء الذى يفكر في أزمنة و أمكنة مختلفة. ووسيلته الوحيدة لبلوغ ذلك هو الشعور الذى يكون لديه عن أفعاله ألخاصة، و هذا الشعور لايقبل االانفصال عن الفكر بل هو، فيما يبدو لي، ضروري وأساسي تماما بالنسبة للفكر، ما دام لا يمكن لأى كائن بشري كيفما كان، أن يدرك ادراكا فكريا دون أن يشعر انه يدرك إدراكا فكريا
عندما نعرف أننا نسمع أو نشم أو نتذوق و نحس بشيء ما أو نتأمله أو نريده، فإنما نعرف ذلك فى حال حدوثه لنا. إن هذه المعرفة تصاحب على نحو دائم احساساتنا و إدراكاتنا الباطنة، و بها يكون كل واحد منا هو نفسه بالنسبة إلى ذاته
لندع جانبا مسألة البحث فيما إذا كان الأنا مستمر الوجود من خلال نفس الجوهر أو من خلال جواهر مختلفة، اذ لما كان الشعور يقترن بالفكر على نحو دانم، و كان هذا هو ما يجعل كل وأحد هو نفسه و يتميز به، من ثم، عن كل كائن مفكر آخر، فإن ذلك هو وحده ما يكون الهوية الشخصية أو الإنية وما يحعل كأئنا عاقلا يبقى دانما هو هو
وإن هوية الشخص لَتمتد بعيدا في الماضي امتدادا أقصاه أبعد وأقدم فكرة أو فعل يستطيع وعيه الحاضر أن يمتد إليهما ؛ في هذه الحالة نقول إن نفس الذات التي أنجزت هذه الأفعال في الماضي هي نفسها الآن التي تستذكرها.
|
أفكار عامة موجهة لعملية فهم النص وتحليله:
لفهم هذا النص وتأطيره نظريا، لابأس من أن نتذكر جميعا سؤال ديكارت في التأمل الثاني: "أي شيءأنا إذن؟ " والجواب: " أنا شيء مفكر"
لكن إذا كان كل من "لوك" و "ديكارت" يتفقان بأن الشخص هو ذلك الكائن الذي يحس ويتذكر و -يضيف التجريبي لوك- يشم ويتذوق!
فإنهما يختلفان في الجواب على السؤال التالي: ولكن هل وراء هذه الأفعال جوهر قائم بذاته؟
يجيب ديكارت بنعم : إنها النفس جوهر خاصيته الأساسية هي التفكير، بينما يجيب لوك بالنفي انسجاما مع نزعته التجريبية التي لاتقر لشيء بصفة الواقعية والحقيقة مالم يكن إحساسا أو مستنبطا من إحساس، والواقع أن " الجوهر المفكر" -من وجهة نظر المحاكمة الحسية- كينونة ميتافيزيقية لايسع لوك قبولها
، لاحظ العبارة المكتوبة بخط غليط souligné والتي يؤجل فيها لوك مناقشة السؤال: هل هذه الاستمرارية قائمة من خلال جوهر واحد او جواهر مختلفة متعاقبة ولكن دافيد هيوم أوضح من مواطنه بحيث ينكر إنكارا تاما وجود أي جوهر يسند افعال الوعي من تذكر وإحساس بالبرد او الفرح….
وباختصار فالهوية الشخصية تكمن في فعل الوعي، وعندما يتعلق الأمربالماضي يصبح الوعي ذاكرة بكل بساطة، وكل هذا لكي يتجنب لوك القول بوجود جوهر مفكر باختصار أكثر : الوعي عند "جون لوك" فعل أو علاقة تربط الكائن بأفعاله وإحساساته وماضيه، وليس جوهرا
انقتاحات ممكنة للنص:
قارن نص لوك مع القولة التالية لكانط : "إنّ "الأنا أفكر" يرافق بالضّرورة كلّ تمثّلاتي" أي أنه يمثل شرط الوحدة والتّأليف بين الحدوس والإدراكات المتنوعة المعطاة في الوعي.
ولنلاحظ كبف يكتفي جون لوك في بداية الفقرة الأخيرة بإثارة مسألة شائكة دون التوقف عتدها وهي : " هل هذه الأنا التي نحس باستمراريتها في الزمان، هل هي واحد أم مجموع هل هي جوهر بسيط أم مركب؟ هل هي جوهر واحد كما اعتقد ديكارت أم أنها ليست سوى ذلك الركام من الخبرات والذكريات والأفكار والانطباعات الحسية؟ كما سيقول مواطنه الفيلسوف التجريبي دافيد هيوم
يقدم لنا النص التالي مثالا حيا للفكرة القائلة بأن الفلاسفة غالبا مايطرحون نفس السؤال ولكن بصيغ مختلفة! لننظر كيف يطرح "باسكال" السؤال حول ماهية هذا " الأنا"
هل هناك فعلا ذات أي جوهر قائم بذاته وراء المتغير ؟ أم الموجود هو الصفات العرضية لاغير؟
نص لباسكال : " ذاك الذي يحب شخصا لجمال محياه، هل يحبه فعلا؟"
ماهو الأنا؟ عندما يطل إنسان من النافذة من أجل رؤية المارة، وإذا ما مررت أنا من أمام النافذة التي يطل منها ذاك الإنسان، فهل يمكنني أن أقول إن الذي يقف وراء النافذة إنما يقوم بذلك من أجل رؤيتي؟ كلا، لأنه لا يفكر فيّ أنا على وجه الخصوص. وذاك الذي يحب شخصا لجمال محياه، كل يحبه فعلا؟ كلا، لأن داء الجذري قد يقضى على جماله دون أن يقضي على شخصه مما قد يدفع بالشخص المحب إلى إعراضه عن الشخص المحبوب.
و إذا كنت أنا محبوبا بسبب سداد رأيي و قوة ذاكرتي، فهل أنا محبوب حقا؟ كلا، لأنني قد أفقد هاتين الصفتين، دون أن أفقد ذاتى. فأين هو إذن ذاك الأنا، إذا لم يكن موجودا لا في الجسم و لا في النفس؟ كيف يمكن إذن أن نحب الجسم أو النفس إن لم نكن نحبهما لتلك الصفات التي لا تشكل الأنا البتة ما دامت فانية. فهل نستطيع أن نحب، بصفة مجردة، جوهر النفس مهما كانت الصفات التي تسمها؟ إن هذا أمر غير ممكن و غير عادل. نحن إذن لانحب أحدا[في ذاته]، لكننا نحب صفاته فقط
|
بعد فحص إحتمالات وجود الذات في النفس أو الجسم، لايعثر باسكال على غير صفات عرضية زائلة، فيخلص إذن إلى أن وجود الذات وجود إشكالي وليس وجودا بديهيا كما يتراءى لأول وهلة،متسائلا: فأين هو إذن ذاك الأنا، إذا لم يكن موجودا لا في الجسم و لا في النفس؟ على هذا السؤال سيجيب الفيلسوف التجريبي دافيد هيوم : لاوجود للأنا في أي مكان!
لاوجود للأنا !
نص دافيد هيوم: "لاوجود للأنا !"
حول صاحب النص: دافيد هيوم فيلسوف تجريبي، لايعترف بغير الانطباعات الحسية مصدرا للأفكار، وفي هذا الإطار رفض إضفاء صفات الموضوعية والضرورية على فكرة السببية، وردها بعد التحليل إلى العادة.
من وجهة النظر التجريبية (لوك وهيوم) هناك نوعان لاغير من الحالات الشعورية أو محتويات الوعي: إحساسات بسيطة مباشرة وأفكار مشتقة أو مركبة منها.
إن مصوغات إنكار السببية هي نفسها مسوغات إنكار " الأنا". مثلما لا أعثر في الواقع سوى على حدثين يتكرر حدوث أحدهما بعد الآخر، كذلك، عندما أتأمل مايسمى بأناي، لاأعثر سوى على انطباعات مفردة كإحساس بالبرد او الحر، بالضوء أو الظل، بالحب أو الكراهية….
|
يعتقد بعض الفلاسفة أننا نكون في كل لحظة على وعي بما يسمى الأنا، وأننا نشعر بوجوده واستمرارية وجوده، واننا متيقنون من هويته وبساطته التامتين يقينا تفوق بداهته ما يمنحنا إياه البرهان، إن أقوى الاحساسات وأعنف الأهواء – في نظرهم – لاتصرفنا عن الوعي بالأنا ولا تزيده إلا قوة، ذلك أن اللذة و والألم اللذين يرافقان هذه الاحساسات إنما يوجهان انباهنا إلى تأثيرات تمارس على هذا الأنا. إن كل محاولة لتقديم دليل إضافي على هذا اليقين لن يؤدي سوى إلى إضعاف بداهته، لأن من المحال -في نظر هؤلاء الفلاسفة- إقامة دليل على واقعة نعيها بشكل حميمي، ولانستطيع أن نتيقين من أي شيء أخر لو لم نتيقن منها أولا
والواقع أن كل هذه الأطروحات تتناقض بالضبط مع التجارب التي تقدم لتبريرها، لأننا لانملك اي فكرة عن الأنا على النحو الذي قدموه
حسنا، ماهو بالضبط الانطباع الحسي المولد لهذه الفكرة؟ من الصعب تجنب التناقض والحيرة أثناء الجواب على هذا السؤال. ولكن لامفر من التصدي لهذا السؤال من أجل أن تغدو فكرة الأنا واضحة ومفهومة.
لكي تكون فكرة ما واقعية، فلابد أن تشتق من انطباع حسي ما، لكن الأنا أو الشخص ليس انطباعا حسيا مفردا، بل هو ماتنسب إليه مختلف الانطباعات. فإذا وجد انطباع حسي مولد لفكرة "الأنا" فلابد أن يتصف هذا الانطباع بنفس صفات الأنا وهي الثبات والاستمرارية طيلة حياتنا، والحال أنه لاوجود لانطباع مستمر وثابت: إن الألم واللذة، الفرح والحزن، الأهواء والاحساسات، تتعاقي ولاتوجد أبدا متزامنة مجتمعة. وعليه ففكرة الأنا لايمكن ان تتولد عن هذه الانطباعات ولاعن أي إنطباع آخر، ومن ثم فلا وجود لمثل هذه الفكرة واقعيا.
عندما أجهد نفسي لاستبطان هذا الأنا، لاأعثر دائما سوى على هذا الانطباع أو ذاك: على احساس بالبرد او الحر، بالضوء أو الظلام، بالحب أو الكراهية، بالألم أو اللذة. أي انني لاأستطيع ان اتصور نفسي إلا مقرونة بادراك ما، ولا أظفر بغير هذا الإدراك.
عندما يغيب الإدراك لمدة معينةكما في النوم العميق، فإنني لاأعي ذاتي. بل أستطيع القول وبكل صواب أنني غير موجود
|
ب- الذاكرة والهوية الشخصية
تريد هوية جديدة؟ تفضل هذه ذاكرة جديدة !
لم تعد أنت هو أنت!
وضعية مشكلة:لو خيرنا شخصا بين قتله ومسح ذاكرته مسحا تاما كاملا ، لاختار مسح الذاكرة، رغم أن النتيجة في كلتا الحالتين واحدة
كيف ولماذا؟
وما رأيك وتعليقك على الجواب التالي؟
إن مسح ذاكرته كقتله سواء بسواء، في كلتا الحالتين ينتهى الشخص الأول ولا يعود له أي وجود! لم يعد نفس الشخص إلا بالنسبة للغير، أما بالنسبة لإدراكه هو لذاته، فإنه لايعرف حتى من هو! ولا ماذا يفعل في هذا المكان بالضبط! عليه أن يتعلم كل شيء من جديد بدءا من اللغة و أسماء أيام الأسبوع وصولا إلى الدين والمعتقد،
يميزابن سينا بين بين عنصر متغير ومتحلل هو الجسم وعنصر ثابت مستمر هو النفس، بيد أن هذه الاستمرارية لاتحضر إلا من خلال فعل التذكر وملكة الذاكرة
يقول الشيخ الرئيس:
" تأمل أيها العاقل أنك اليوم في نفسك هو الذي كان موجودا جميع عمرك حتى إنك تتذكر كثيرا مما جرى من أحوالك، فأنت إذن ثابت مستمر لاشك في ذلك وبدنك وأجزاؤه ليس ثابتا مستمرا بل هو أبدا في التحلل والإنتقاص…
|
والواقع أن ابن سينا يشير هنا إلى ظاهرة "الوعي بالذات" التي تصاحب مختلف حالات الوجود البشري بحيث تمنح الفرد شعورا بهويته وأناه وبثباتها.ويتجلى هذا واضحا في شعور الفرد داخلياً وعبر حياته باستمرار وحدة شخصيته وهويتها وثباتها ضمن الظروف المتعددة التي تمر بها، كما يظهر بوضوح في وحدة الخبرة التي يمر بها في الحاضر واستمرار اتصالها مع الخبرة الماضية التي كان يمر بها.
إذا كانت الذاكرة هي مايعطي لشعور الشخص بأناه وبهويته مادتهما الخام، فإن امتداد هذه الهوية في الزمان، كما يلاحظ جون لوك، مرهون باتساع أو تقلص مدى الذكريات التي يستطيع الفكر أن يطالها الآن: وبعبارة أخرى إنني الآن هو نفسه الذي كان ماضيا وصاحب هذا الفعل الماضي هو نفس الشخص الذي يستحضره الآن في ذاكرته.
لهذا السبب، وعندما يتساءل برغسون عن ماهية الوعي المصاحب لجميع عمليات تفكيرنا، يجيب ببساطة: إن الوعي ذاكرة، يوجد بوجودها ويتلف بتلفها:
نص برغسون: "الوعي ذاكرة"
إن من يقول فكرا يقول قبل كل شيء وعيا. لكن ما الوعي؟ إنك تعتقد تماعا أنني لن أعرف شيئأ يتسم بمثل هذا الطابع الملموس وبمثل هذا الحضور الدائم في تجربة كل واحد منا. ولكن أستطيع دون اعطاء تحديد للوعي أقل وضوحا منه، أن أميزه بأكثر سماته بروزا:
يعني الوعي قبل كل شيء الذاكرة. قد تفتقر الذاكرة إلى الاتساع، وقد لا تشمل إلا قسما من الماضي، وقد لا تحفظ إلا ما حصل من قريب. ولكن الذاكرة تكون موجودة ء وإلا فلن يكون الوعي موجودا فيها. فالوعي الذي لا يحفظ شيئا من ماضيه، وينسى ذاته باستمرار يتلف تم يعود في كل لحظة…
إن كل وعي هو ذاكرة أي احتفاظ بالماضي وتراكم في الحاضر. ولكن كل وعي هو استباق للمستقبل. انظر إلى توجهك في أية لحظة، وستجد أنه يهتم بما هو قائم، لكن من أجل ماسوف يكون، إن الانتباه انتظار، ولا يوجد وعي بدون انتباه لحياة المستقبل. إنه يوجد هناك، وهو يدعونا، بل إنه يجرنا إليه. وهذا الجر الذي لا ينقطع، يجعلنا نتقدم على طريق الزمن، هو أيضا دافع يدفعنا إلى التحرك باستمرار، وكل عمل هو استشراف للمستقبل. . .لنقل إذن، إن شئتم ألوعي هو وصل بين ما كان وها سيكون، بين ألماضي والمستقبل. هزي برغسون، الطاقة الروحية، المطابع الجامعية الفرنسية 1985 ص: 4 - 5
|
II-الشخص بوصفه قيمة
استشكالات أولية:
مالذي يؤسس البعد القيمي-الأخلاقي للشخص؟ وهل يمكن فلسفيا تبرير الاحترام والكرامة الواجبة بشكل مطلق للشخص البشري ؟ وما علاقة ذلك بمسؤوليته والتزامه كذات عاقلة وحرة تنسب إليها مسؤولية افعالها ؟
|
وضعية مشكلة:ماذا يقول القرآن الكريم في سورة المائدة آية 32 : " أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"
ولماذا توصف بعض الجرائم بعبارة جرائم ضذ الإنسانية رغم أنها لم تستهدف ولم يذهب ضحيتها سوى عدد محدد من الناس قد يقل أو يكثر؟ وماهي بالضبط هذه الجرائم؟
|
يستفاد من المحورين السابقين أن الفرد وبشكل مجرد سابق على كل تعيين – أي وقبل أن يتحدد بطول قامته أو لون عينيه او مزاجه أو ثروته- هو ذات مفكرة، عاقلة، واعية قوامها الأنا الذي يمثل جوهرها البسيط الثابت ، بغض النظر عن الاختلاف القائم بين الفلاسفة حول طبيعة هذا الأنا وعلاقته بالجسد والانطباعات الحسية والذاكرة…
ولكن مافائدة هذا التجريد النظري على المستوى العملي؟ هل يمكن أن نرتب عليه نتائج أخلاقية ملموسة؟ انطلاقا من هذا التجريد، ذهب كانط بأن الإنسان هو أكثر من مجرد معطى طبيعي، إنه ذات لعقل عملي أخلاقي يستمد منه كرامة أي قيمة داخلية مطلقة تتجاوز كل تقويم أو سعر. مادم هذا العقل ومقتضياته كونيا، فإن الأنسانية جمعاء تجثم بداخل كل فرد مما يستوجب معاملته كغاية لاكوسيلة والنظر إليه كما لو كان عينة تختزل الإنسانية جمعاء.
نص إيمانويل كانط: "العقل أساس كرامة الشخص وقيمته المطلقة"
يعتبر الإنسان داخل نظام الطبيعة (كظاهرة من ظواهر الطبيعة وكحيوان عاقل) غير ذي أهمية قصوى : إذ أنه يمتلك مع مجموع الحيوانات الأخرى – بوصفها منتوجات للارض – قيمة مبتذلة. لكن ما جعله – إضافة إلى امتلاكه ملكة الفهم – يسمو على جميع الكائنات الأخرى هو كونه قادرا على تحديد غايات لنفسه لا يكسب بذلك إلا قيمة خارجية نفعيه، هذا بالرغم من كوننا قادرين على تفضيل هذا الإنسان عن ذاك (وكأننا أمام تجارة للبشر). الأمر الذي يؤدي بنا إلى القول أن الإنسان يقوم بسعر وكأنه بضاعة داخل تجارة للبشر منظورا إليهم من زاوية الحيوان أو الأشياء، لكن سعره ذاك يظل أقل قيمة من قيمة متوسط العملة السائدة والتي تؤخذ كقيمة عليا . .
لكن عندما نعتبره كشخص، أي كذات لعقل أخلاقي عملي، سنجده يتجاوز كل سعر. وبالفعل لا يمكن أن تقدره – بوصفه كذلك أي بوصفه شيئا في ذاته – فقط كوسيلة لتحقيق غايات الآخرين أووسيلة لتحقيق غاياته الخاصة بل يمكن تقديره كغاية في ذاته وهذا معنى أنه يمتلك كرامة (وهي قيمة داخلية مطلقة). وبامتلاكه لهذه القيمة يرغم كل الكائنات العاقلة الأخرى على احترام ذاته ويتمكن من مقارنة ذاته بكل مخلوقات نوعه، ويتبادل معها نفس الاحترام على أساس قاعدة المساوا ة. .
وهكذا تكون الإنسانية التي تجثم في شخصه موضوع احترام يمكنه أن يلزم به كل الآخرين. ولن يستطيع أي إنسان أن يحرم نفسه منه أو أن يتخلى عنه (..) .
وهذا يعني أنه لا ينبغي عليه أن يبحث عن غايته – وهذا من واجباته – بطريقة منحطة (…) ولا ينبغي عليه أن يتخلى عن كرامته، بل يجب عليه دائما أن يحافظ على الوعي بالخاصية السامية لتكوينه الأخلاقي الذي يدخل ضمن مفهوم الفضيلة، .
إن هذا الاحترام للذات إذن هوواجب على كل إنسان تجاه نفسه.
إ . كانط، ميتافيزيقا الأخلاق – الجزء الثاني، فران ، ص 109-108.
|
(مقتطف من الكتاب المدرسي -السنة الثانية-الشعبة الأدبية الطبعة الأولى 1996)
كتب كانط هذه الأفكار في "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" في القرن الثامن عشر .صحيح أن القرن العشرين قد شهد تحسنا كبيرا للشرط البشري مقارنة مع قرن الأنوار: إلغاء الرق، التخفيف من الميز ضد النساء…، بيد أنه عرف أيضا أهوال حربين عالميتين جسدتا واقعيا فكرة الدمار الشامل، إنضافت إليهما حروب محلية شهدت أبشع أنواع التطهير العرقي ومعسكرات الاعتقال… مما جعل التأمل الفلسفي يعاود مجددا طرح السؤال حول حرمة الكائن البشري وسلامته الجسدية وبالخصوص حقه في عدم التعرض للأذى، مثلما نرى في النص التالي لطوم ريغان
نص توم ريغان: "ليست الكائنات البشرية أحياء فحسب، إنهم يمتلكون حياة"
تقديم النص:
طوم ريغان Tom Regan فيلسو أمريكي معاصر ولد في 28 نونبر 1938 بمدينة بيطسبورغ بولاية بنسيلفانيا. عمل أستاذا جامعيا إلى حين تقاعده مؤخرا، مهتم بفلسفة "حقوق الحيوان" "وهو موضوع كتابه الشهير: "قضية حقوق الحيوان"
تنتمي فلسفة طوم ريغان إلى التقليد الكانطي، لكن في حين يؤسس كانط القيمة المطلقة التي نعزوها إلى الكائنات البشرية على خاصية العقل، وبالضبط العقل الأخلاقي العملي، التي تتمتع بها هذه الكائنات،بما يجعل منها ذواتا أخلاقية، فإن طوم ريغان يعتبر هذا التأسيس غير كاف، وحجته في ذلك أننا ملزمون باحترام القيمة المطلقة لكائنات بشرية غير عاقلة مثل الأطفال وكذا الذين يعانون من عاهات عقلية جسيمة
وعليه فإن الخاصية الحاسمة والمشتركة بين الكائنات البشرية ليست هي العقل، بل كونهم كائنات حاسة واعية يحيون حياة يعنيهم أمرها، بمعنى ان مايحدث لنا يعنينا نحن بالدرجة الأولى بغض النظر عما إذا كان يعني شخصا آخر أم لا "
ويمضي توم ريغان بهذا المبدأ إلى مداه الأقصى فبخلص إلى أن جميع المخلوقات التي يمكنها أن تكون «قابلة للحياة»، أي مواضيع لوجود يمكن أن يتحول للأفضل أو للأسوأ بالنسبة إليها، تمتلك قيمة أصلية في ذاتها وتستحق أن تحترم مصالحها في عيش حياة أفضل.
|
في النص التالي، يحاول الفيلسوف الأمريكي المعاصر "توم ريغان" أن يبين الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه هذه القيمة المطلقة المسندة للشخص البشري، إن التساؤل الرئيسي بالنسبة لتوم ريغان هو "هل للحيوانات الحق في عدم الأذى ؟ " ولكنه وللجواب على السؤال يضطر أولا ليفحص الحجج والمبرات التي تمنع معاملة الكائنات البشرية كوسائل أو تعريضها للأذى
من السهل تقديم نظرية أخلاقية جديدة، ولكن من الصعب تبرير أسسها وتقديم مسوغات كافية لإقناعنا بوجوب تبنيها(…)
[ينطبق ذلك على التصور الكانطي]ا فرغم مايتمتع به هذا التصور من عمق وحصافة، وبالرغم من استلهامي إياه، فإنه لايخلو من تناقضات ومفارقات بعضها في اعتقادي عويص يصعب حله؛ سأكتفي هنا بإثارة أهم هذه المفارقات من خلال السؤالين التالين: "ماهي الكائنات البشرية التي تستحق صفة الشخص؟ وماذا يترتب أخلاقيا إذا ما أجبنا على مثل هذا السؤال من منظور كانطي؟
نبدأ بالجلي الواضح: ليس كل إنسان شخصا بالمعنى الكانطي. فالبويضة المخصبة حديثا، والمرضى الذين دخلوا حالة الغيبوبة (الكوما) الدائمة يظلون بشرا، لكنهم ليسوا أشخاصا وفق التعريف الكانطي؛ ونفس الحكم ينسحب أيضا على حديثي الولادة وعلى الأطفال حتى سن معينة، تضاف إليهم كل الكائنات البشرية التي تفتقد لهذا السبب أو ذاك القدرات الفكرية التي بموجبها يعرف كانط الشخص البشري. إن هؤلاء جميعا تعوزهم الخاصية الأخلاقية المميزة للشخص، فيفقدون بالتالي الحق في الاحترام. فكيف تستطيع النظرية الكانطية إثبات خطئنا لو أننا عاملنا أحد هذه الكائنات البشرية – الذي ليس شخصا – كمجرد وسيلة!
يتضمن الجواب الذي أقدمه هنا تخليا عن التصور الكانطي للشخص كمعيار للقيمة الأصلية للكائن البشري وتعويضه بفكرة(…) "الذوات التي تستشعر حياتها".Subject-of-life دعوني أشرح لكم المقصود بذلك:
لقد أضاف وجود الإنسان الوعي إلى ظاهرة الحياة، هذه الإضافة التي لم يستطع العلم حتى اليوم تفسيرها بشكل مقنع، ومع ذلك يظل المعطى قائما: نحن لانوجد في العالم فحسب، لكننا على وعي بهذا الوجود أيضا، بل وعلى دراية بما يعتمل في "الداخل" أي في عالم المشاعر والمعتقدات والرغبات. وبهذا المعنى، فنحن أكثر من مجرد مادة حية، إننا شيء مختلف عن النبات الذي يحيا ثم يموت أيضا مثلنا. إننا ذوات حية تستشعر حياتها، كائنات لها سيرة وتاريخ biography لا مجرد جسم تدرسه البيولوجيا biology
وما يزيد اللغز غموضا هو أن هذه الحياة التي نعيشها ونختبرها هي وحدة ونظام وليست مجرد ركام وفوضى: فوراء مشاعرنا ومعتقداتنا ورغباتنا توجد وحدة سيكلوجية، بعبارة أخرى فالمشاعر لا تنتمي إلى الشخص "أ" بينما تنتمي المعتقدات إلى الشخص "ب" فيما تعود الرغبات إلى الشخص "ج".
وعلى ضوء انتماء هذا الكل إلى نفس الفرد المتمايز عن الآخرين نستطيع أن نفهم كيف تشكلت سيرتي وقصة حياتي الفريدة عبر الزمن، وكيف أن قصة حياة كل واحد منا مختلفة عن الآخر.
[أخلص إلى القول أن قيمتنا وحقوققنا نابعة من كوننا] ذواتا نحيا حياة يمكن أن تتحول للأفضل أو للأسوأ بالنسبة إلينا بشكل مستقل منطقيا عن أي تقييم لنا من قبل أي أحد آخر او اعتباره إيانا نافعين، ولا أقصد مما سبق أن الآخرين لا يستطيعون الإسهام فيء أو الانتقاص من، قيمة حياتنا . بل على العكس، إن الخيرات الكبرى للحياة (الحب، والصداقة، وعموما ، الشعور بالرفقة) وشرورها الكبرى (الكراهية والعداوة والعزلة والاغتراب) كلها تشتمل على علاقاتنا بالأشخاص الآخرين؛ فما أقصده، بدلا من ذلك، أن كوننا ذواتا نحيا حياة هي في مختلف الظروف لأجلنا لا يعتمد منطقيا على ما يفعله الآخرون أو لا يفعلونه لنا . (…)
كلنا إذن متساوون من حيث قدرتنا على استشعار النعيم، وهذا مايجعل كل واحد منا مكافئا للآخر بغض النظر عن الجنس، الذكاء، الطبقة، السن، الديانة، مسقط الرأس، الموهبة أو المساهمة الاجتماعية
ومن منظور الحقوق الذي أتبناه، فإن كون االفرد "ذاتا تستشعر حياتها" هي القاعدة التي بموجبها يمتلك القيمة الأصيلة، وكل من يحقق هذا الشرط يلزمنا بواجب مباشر في معاملته باحترام، وبعبارة أخرى فنظرية الحقوق تعترف للكائنات البشرية المقصاة بموجب المعيار الكانطي – تعترف لها بحقوق أخلاقية: كالأطفال أو بصفة عامة كل كائن بشري مهما كان سنه ممن يعانون عاهات تمنعهم من أن يكونوا أشخاصا، لكنهم يحققون بامتياز شرط " الذات التي تستشعر حياتها" لأن كل واحد منهم يحيى حياة يمكن أن تتحول للأفضل أو للأسوأ بالنسبة إليه
[بيد اني مضطر للإعتراف ]بأن نظرية الحقوق التي أتيت على ذكرها لاتبدد كل الغموض، وككل نظرية تتناول المعايير الأخلاقية، فإن نظريتي تواجه تحديات جدية، بعضها مماثل للتحديات التي طرحتها على التصور الكانطي آنفا! بعض البشر ليسواأشخاصا حسب كانط، ولكن بعضهم أيضا ليس " ذاتا تستشعر حياتها" وفق نظريتي مثل البويضة المخصبة حديثا والمواليد بدون دماغ أو بوظائف دماغية تتجاوز بالكاد وظائف النخاع الشوكي
هل يعني ذلك أن هذه الكائنات البشرية لاتمتلك أي قيمة أو حق في أن تعامل باحترام؟ إن نظرية الحقوق تترك السؤال مفتوح، ذلك أني اقترحت معيار " الذات التي تستشعر حياتها" كمعيار كاف وليس كمعيار حصري . بمعنى أن الذين يتحقق فيهم هذا الشرط يحوزون قيمة أصيلة، ولكن هل هم الفئة الوحيدة التي تحظى بهذه القيمة؟ هذا سؤال تتركه نظريتي مفتوحا
المصدر:Tom Regan & Cal Cohen, The animal right debate. Rowman & Littlefield, 2001 pp:191-203
|
يبدو أن طوم ريغان نفسه يعترف بحدود تصوره أو تبريره الفلسفي لقيمة الشخص،
أين تكمن هذه الحدود ياترى؟ هل تكمن في أساس النظرية أم في النتائج المترتبة عنها؟
وضعية ادماجية مع انفتاحات ممكنة على القضايا الدولية الراهنة ومادة التاريخ
تعريف الجرائم ضد الإنسانية حسب المحكمه الجناءيه الدولية
من السهل أن نلاحظ ان هذه الاعتبارات الفلسفية حول قيمة الشخص البشري وحرمة جسده… هي نفسها التي نجدها حاضرة بقوة في مختلف إعلانات ومواثيق حقوق الإنسان. كما أنها الأساس الفلسفي المعتمد عند وصف جرائم الحرب والإبادة بجرائم " ضد الإنسانية".
مالمقصود بهذه الجرائم؟ وكيقف تكون جرائم ضد الإنسانية؟
أنشئت المحكمه الجناءيه الدولية في لاهاي (هولندا) في عام 2002 ، ويقدم نظام روما الاساسي القانون الأساسي للمحكمة الجناءيه الدولية ويمنحها اختصاص النظر في جرائم الاباده الجماعية والجرائم ضد الانسانيه وجرائم الحرب.
المطلوب:
لنحاول من خلال المادة 7 من المعاهدة القتبسة أدناه، أن نتبين كيف أن كل واحد من هذه الجرائم والانتهاكات يهدد وأحيانا يلغي قيمة الشخص على النحو المحد سابقا، وبأي معنى تكون هذه الجرائم فعلا جرائم لا ضد شخص بل ضد الإنسانية
ويفترض فينا في نهاية النقاش أن نكون قادرين على إدراك مفهوم الشخص ومن ثم قيمته في مدلولهما الكوني المجرد الذي لا تتعلق فقط بهذا "الشخص" او ذاك من بني البشر :
وضعية إدماجية: تعريف الجرائم ضد الإنسانية حسب المحكمه الجناءيه الدولية (مقتطف من النظام الأساسي للمحكمة)
لغرض هذا النظام الاساسي ، فإن "جريمه ضد الانسانيه" تعني اي فعل من الافعال التالية عندما ترتكب كجزء من هجوم مدبر واسع النطاق او منهجي موجه ضد اي مجموعة من السكان المدنيين :
الاسترقاق؛ ابعاد السكان او النقل القسري للسكان ؛ االسجن او الحرمان الشديد علي اي نحو آخر من الحرية البدنيه بما يخالف القواعد الاساسية للقانون الدولي، الاختفاء القسري للاشخاص؛ جريمه الفصل العنصري؛ التعذيب؛ لاغتصاب والاستعباد الجنسي والبغاء القسري والحمل او التعقيم القسري ، أو أي شكل آخر من الأشكال الخطيرة للعنف الجنسي ؛ اضطهاد اية جماعة محددة ، سياسية أو عرقيه او قوميه او اثنيه أو ثقافية أو دينية ، حسبما عرف في الفقره 3 ، أو لأسباب أخرى من المسلم عالميا بأن القانون الدولي لا يجيزها ، وذلك فيما يتصل باي فعل مشار اليه في هذه الفقره او بأية جريمه تقع ضمن اختصاص المحكمه ؛ الافعال اللاانسانيه الاخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمدا فى معاناة شديدة او ضرر بالغ بالجسم او بالصحه العقليه او البدنيه (الصورة جانبه لجماجم لضحايا التطهير العرقي معروضة في موقع مورابي التذكاري بجنوب شرق رواندا)
III-الشخص بين الضرورة والحتمية
وضعية مشكلة:
هل الشخص مجرد دمية تحرك خيوطها إشراطات لاواعية وتحدد حركاتها حتميات موضوعية؟
في فيلم "جعلوني مجرما" مثل فريد شوقي شخصية طفل يتيم، قادته إلى الانحراف ومن ثم إلى السجن قسوة الأب وزوجة الأب وظلم الوسط الاجتماعي،
لم تكن تظهر عليه في البداية أية بوادر للإنحراف والإجرام، لكن سوء المعاملة والظلم البين اللذين تعرض لهما، سيدفعانه يوما إلى رد فعل يقوده إلى السجن، وفي السجن تعلم ان يكون وحشا حتى لايفترسه الآخرون، و سيترقى سلالم التراتبية في مجتمع المساجين (المدانين كمجرمين)، مما سيجعل الوسط الاجرامي يتلقفه بالأحضان مباشرة بعد خروجه من السجن
لم يكن السجين السابق يزداد كل يوم إلا غوصا في أوحال الجريمة والقسوة والعنف، وعندما ألقي عليه القبض أخيرا، ووقف في قفص الإتهام انتصب محاميه يسرد "أوديسة" اليتم والبؤس والظلم التي عاشها موكله ليتساءل أخيرا:
ياحضرات القضاة، إن موكلي ضحية وليس مجرما! من ينبغي أن يحاكم هو المجتمع الظالم لا موكلي المظلوم…!
استشكالات أولية:
يبدو أن مدار الحديث عن مفهوم الشخص – كذات عاقلة وحرة تنسب إليها مسؤولية افعالها – ينحصر في قضيتين: الكرامة والمسؤولية. يشير المفهوم الأول إلى مايحق للمرء النمتع به بوصفه شخصا، بينما يشير المفهوم الثاني إلى ماهو ملزم او ملتزم به أو مطالب به بوصفه شخصا أيضا.
بحثنا المفهوم الأول في المحور السابق. إذا اقتصرنا الآن على المفهوم الثاني، فمن اليسير أن نتصور بأن المسؤولية لاتنفصل عن صفة أخرى وهي الحرية التي يطالب بها الفرد كجزء من كرامته، وهذه المرة أيضا، بوصفه شخصا.
لن نتوقف عند الحريات السياسية لأن المانع دونها جلي واضح، وهو النظام السياسي ومختلف أشكال التضييق والقمع التي يمارسها على حرية الأفراد في التجمع والتعبير، سيقتصر بحثنا فقط على الحرية التي يحاسب الشخص بموجبها أخلاقيا من قبل الغير أو من قبل ضميره الشخصي (تأنيب الضمير) ؛أو تلك الحرية التي تترتب عنها المسؤولية المدنية أو الجنائية والتي بموجبها يحاسب المرء قانونيا أمام العدالة، ذلك أن القاضي ملزم بإثبات خلو الفعل من الإكراه كشرط لإثبات المسؤولية أي توفر عنصر الحرية والاختيار، وبناءا عليه يعرض المتهم نفسه للعقوبات المقررة
أ- هل هي إذن حرية موهومة؟
في المحورين السابقين تمت مقاربة مفهوم الشخص من زاوية الوعي وبشكل مجرد من كل تعيين، بيد أن الكائن الشري بنية سيكوفيزيولوجية وكائن سوسيوثقافي، فلا يسعه الإنفلات من قوانين الفيزيولوجيا والمحددات النفسية والإكراهات السوسيوثقافية.
إن تجاهل هذه الشروط هي مايجعل كل إنسان يعتقد أنه السيد في مملكة نفسه، وأنه من اختار بمحض إرادته بعض ملامح شخصيته، بيد أن العلوم الإنسانية تكشف خلاف ذلك: فالشخصية في علم النفس السلوكي لاتعدو أن تكون خلاصة ومحصلة لإستجابات ترسخت كردود فعل على مثيرات خارجية تعمل على تشجيع أو كبح بنيات نفسية معينة؛ أما التحليل النفسي، فيرى البناء النفسي للشخصية كنتيجة حتمية لخبرات مرحلة الطفولة، كما أن الكثير من الأنشطة الإنسانية تحركها دوافع الهو اللاشعورية ذات الطبيعة الجنسية أو العدوانية. هذا الهو الذي قال عنه "نيتشه": وراء أفكارك وشعورك يختفي سيد مجهول يريك السبيل، إسمه الهو. في جسمك يسكن، بل هو جسمك، وصوابه أصوب من صواب حكمتك"، بل إن بول هودار يذهب إلى حد القول بأن: " كلام الإنسان كلام مهموس له به من طرف الهو، الذي يعبر عن نفسه في الإنسان عندما يحاول الإنسان أن يعبر عن ذاته !!"
أما بالنسبة لعلماء الإجتماع والأنثربولوجيا، فإن طبقات مهمة في الشخصية لاتعدو أن تكون سوى انعكاس للشخصية الأساسية للمجتمع أو الشخصية الوظيفية لجماعة الإنتماء. وإذا كانت التنشئة الإجتماعية تزود الفرد بعناصر من ثقافة المجتمع، فأن هذه الثقافة حسب التحليل الماركسي تعكس البنية التحتية المستقلة عن وعي الذوات: لأن الوجود المادي هو الذي يحدد الوعي لاالعكس. ويلاحظ غي روشيه من جهة أخرى بأن " معظم رغبات الإنسان وحاجاته وآماله لاتتكون تلقائيا أو تبعا لنوع من الضرورة اليبولوجية، بل إنها تتحدد بحسب التشجيع الذي تلقاه والمكافآت التي تقدم لها ومن ثم تنقش في الشخصية " ، وعلى هذا الأساس : فكلما تكلم الفرد أو حكم ، فالمجتمع هو الذي يتكلم أو يحكم من خلاله حسب عبارة دوركايم.
حاصل الكلام هو اختفاء الإنسان أو موته كما أعلنت البنيوية، لأن البنيات النفسية الإجتماعية اللغوية… هي التي تفعل وليس الذات أو الفرد. هل يمكن بعد كل هذا الحديث عن الإنسان كما نتحدث عن ذات أي عن كائن قادر على القيام بعمل إرادي؟ هل للسؤال "من أنا " بعد من قيمة؟ !!
ب- أم أن كونه شخصا هو بالضبط مايسمح له بأن يبارح مملكة الضرورة؟
رغم كل ماذكر فإن الإنسان لازال يقنع نفسه بأن له شيئا يفعله، شيئا يبقى عليه أن يفعله. إن النظر إلى الشخص باعتباره ذاتا ووعيا يمكننا من القول بأن وعي الإنسان بالحتميات الشارطة يمثل خطوة أولى على طريق التحرر من تأثيرها وإشراطها المطلق، بل إن مذاهبا فلسفية كثيرة وعلى رأسها الوجودية تؤسس " أسبقية الوجود على الماهية " على خاصية الوعي، لأن الإنسان ليس وجودا في ذاته كالأشياء، بل وجودا لذاته، مما يجعل وجوده مركبا لانهائيا من الإختيارات والإمكانيات، فعلى عكس الطاولة التي أو الشبل اللذان يتحدد نمط وجودهما بشكل خطي انطلاقا من ماهيتهما القبلية، فإن الإنسان مفتقر إلى مثل هذه الماهية التي قد تسمح بتعريفه أو الحديث عن شخصيته على نحو قبلي مسبق. صحيح أن الفرد يحيا على الدوام لا في المطلق، بل في وضعية محددة اجتماعيا وتاريخيا، لكن ردود أفعاله واختياراته لاتحددها هذه الشروط الموضوعية وحدها، بل وأيضا المعنى الذاتي الذي يفهم بموجبه هذه الشروط والأوضاع مما يفسح مجالا واسعا للإحتمال والحرية. من هنا نفهم تصريح سارتر بأن الإنسان مشروع في سماء الممكنات، محكوم عليه بأن يكون حرا، وبان الإنسان ليس شيئا آخر غير مايصنع بتفسه.
ونستطيع استثمار أطروحة سارتر التي أتينا على ذكرها للقول بأن الإنسان ليس آلة إلكترونية، حتى لو أضفنا لها صفات الذكاء والصنع المتقن يقول إيمانويل مونييه رافضا كل اختزال للشخص إلى شيء أو موضوع:
نص لإيمانويل مونييه: ليس البشر صنفا من أشجار متحركة أو جنسا من حيوانات ذكية
ليس الشخص موضوعا ، بل هو بالذات ، في أي إنسان، مالا يمكن أن يعامل بوصفه موضوعا. هذا شخص مجاور لي مثلا، إن له إحساسا فريدا بجسده ليس بإمكاني أن أعايشه فيه لكن بإمكاني النظر إليه من الخارج وفحص حالاته المزاجية ورصيده الوراثي. . . وبعبارة واحدة يمكنني مقاربته كمادة لمعرفة فيزيولوجية أو طبية . . . انه موظف، وهناك نظام خاص بالموظف وسيكولوجيا خاصة بالموظف أستطيع دراستهما مطبقين على حالته، بالرغم من أن هذه المعارف ليست هي هو ولا تعبر عنه في كليته وفي حقيقته.
لانقول إن هناك الأحجار والأشجار والحيوانات وبجوارهم الأشخاص كما لو كان هؤلاء صنفا من أشجار متحركة أو جنسا من حيوانات ذكية ! كلا بل حتى القول بأن "الشخص أكثر الموجودات إتقانا وروعة" قول غير صحيح لأنه ليس مجرد شيء يمكن معرفته من الخارج كبقية الأشياء.
إن الشخص هو الواقعة الوحيدة التي نعرفها ونعيشها في نفس الوقت من الداخل. واقعة حاضرة في كل مكان، لكنها ليست معطاة في أي مكان، ومع ذلك فنحن لا نلقي بها في مجال الأشياء الفير القابلة للوصف. فهي تجربة غنية منغرسة في العالم، تعبر عن نفسها بواسطة إبداع لا يتوقف لأوضاع وقواعد ومؤسسات، إنها نشاط معيش، أساسه الإبداع الذاتي والتواصل والانخراط… وهذا النشاط هو حركة شخصنة
|
وهكذا، فنحن أبعد مانكون عن الخطاطة التبسيطية التي تجعل الشخص والظاهرة الإنسانية عموما خاضعة على غرار الظواهر الطبيعية لمقولة الحتمية، وماذلك إلا لأن الشخصية كما يقول " برغسون" بناء مستمر وتعاقب لاينقطع لحالات نفسية فريدة لاتقبل التكرار، والحال أن الحتمية ومن ثم التنبؤ لايصدقان إلا في حالة الظواهر المتشابهة القابلة للتكرار. وماأشبه العلاقة الفريدة التي تجمع الشخصية بالفعل الصادر عنها بعلاقة المبدع بعمله الفني.
إذا كان لابد من خلاصة تجمع أطراف موضوع متشعب كموضوع "الشخص بين الضرورة والحرية"، فسنقول بأن الشخص الكائن المفكر العاقل والواعي…إلخ ينطوي في المستوى المحسوس على شخصية هي حصيلة تفاعل بين عوامل باطنية وأخرى متعلقة بالمحيط الخارجي، إنها ذلك الشكل الخاص من التنظيم الذي تخضع له البنيات الجسمية، النفسية والإجتماعية. صحيح أن هذا التنظيم يخضع لعوامل ومحددات موضوعية كثيرة، لكن ذلك لايلغي دور الشخص في بناء شخصيته. وإذا ما بدا موضوع الشخص إشكاليا متعدد الأبعاد، فماذلك إلا لأن دراسة الشخص ليست إلا إسما آخر لدراسة الإنسان بكل تعقده وغموضه.
by