إذا كنت مدرسا فيمكنك الاضطلاع هنـــأ على خارطة طريق من أجل استثمار أفضل للدرس، تشرح خارطة الطريق الخلفيات الفلسفية والديداكتيكية التي تحكمت في صياغة الدرس على هذا النحو
أقرأ هذا الحوار الطريف بين جد وحفيده حول تاريخ المسلمين وعلاقتهم بالغرب، والذي يمكن من خلاله أن يكتشف التلميذ بشكل بسيط، ويطرح بنفسه إشكاليات المحاور الثلاث: المعرفة التاريخية، التاريخ وفكرة التقدم، ودور الإنسان في التاريخ هنــــــــــــــــــــا ذاك هو الشاطئ الإسباني هذا هو القارب ..!مرة ركبه المغربي طارق بن زياد واليوم يركبه المغربي المهاجر السري.لكن لماذا تمر علاقة المغربي، ماضيا وحاضرا، بذلك الشاطئ عبر عملية الحريكَ (أي الإحراق)!!؟
بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال):
يواجه علم التاريخ ومعه المعرفة التاريخية وضعية فريدة بين العلوم الإنسانية: فهو علم دراسة الماضي، مما يعني أن المؤرخ يدرس واقعا ولى وانقضى كما يقول ريمون آرون، واقعا تفصله عنه مسافة زمنية وثقافية، واقعا لم يعد له وجود! فما يوجد اليوم وجودا ماديا فيزيائيا ينحصر في الآثار والوثائق. يتعين على المؤرخ إذن أن ينطق ويستنطق وينتقي هذه “المخلفات” ليعيد بناء الوقائع التاريخية مما يجعل من المعرفة التاريخية معرفة مبناة بامتياز
طرح الإشكال:
ضمن أية شروط تكون المعرفة التاريخية المبناة مطابقة لموضوعها أي للحدث كما وقع فعلا؟ ما هي شروط إمكان المعرفة التاريخية كمعرفة علمية؟ هل يمكن للمؤرخ أن يستفيد من المسافة الزمنية التي تفصله عن الواقعة التاريخية وعن الفاعلين التاريخيين ليتناول مادة علمه بموضوعية بعيدا عن الذاتية أم أن دراسة الماضي لاتتم إلا بدافع من انشغالات الحاضر وضمن ايديولوجياته؟ كيف للمعرفة التاريخية أن تستعيد ليس فقط الواقعة التاريخية في بعدها الحدثي المادي بل وأيضا “أحداث الوعي”أي نيات الفاعلين ومقاصدهم ومحتويات وعيهم؟
صورة للتأمل: المؤرخ أمام مهمة بناء الواقعة التاريخية!!مخلفات الماضي: مراسلات ديبلوماسية كوثائق محفوظة في الأرشيف وإلى اليسار أطلال رومانية.كيف للمؤرخ أن يستخرج الحياة مما لاحياة فيه!؟ يذهب العلم من الأسباب إلى النتائج، بينما يضطر المؤرخ إلى الذهاب من النتائج إلى الأسباب … |
معالجة الإشكال:
مثلما حذر بورديو من السوسيولوجيا العفوية أي تلك المعرفة الاجتماعية التلقائية التي يملكها الفاعل الاجتماعي حول الظواهر الاجتماعية من حوله، يتعين على المؤرخ أيضا أن يحذر من المعرفة التاريخية العفوية التي يدعوها ابن خلدون بظاهر علم التاريخ وهي تلك المعرفة التي يملكها كل واحد عن الماضي في شكل روايات وأخبار تتداولها وتتناقلها الأجيال. لايكون التاريخ علما إلا بوصفه نقدا وتفسيرا. فالنقد يتجلى في تمحيص وتحقيق هذه الروايات وسبرها بمعيار الحكمة و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار وفحصها على ضوء أصول العادة و قواعد السياسة و طبيعة العمران و الأحوال في الاجتماع الإنساني و الوقوف على طبائع الكائنات وقياس الغائب على الشاهد.
ولكن تحقيق الخبر التاريخي يحتاج أيضا إلى تفسيره للكشف عن علة ومنطق الأحداث التاريخية المتضمنة فيه والمبدأ المتحكم في حدوثها وتعاقبها…
نص ابن خلدون : من الرواية إلى المعرفة التاريخية: أهمية المنهج النقدي
فإن فن التاريخ من الفنون التي (…) تتساوى في فهمه العلماء و الجهال إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول (…) وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير(…) اعلم (*) أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم. و الأنبياء في سيرهم. و الملوك في دولهم و سياستهم. حتى تتم فائدة الإقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين و الدنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعددة و معارف متنوعة و حسن نظر و تثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق و ينكبان به عن المزلات و المغالط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل و لم تحكم أصول العادة و قواعد السياسة و طبيعة العمران و الأحوال في الاجتماع الإنساني و لا قيس الغائب منها بالشاهد و الحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور و مزلة القدم و الحيد عن جادة الصدق و كثيراً ما وقع للمؤرخين و المفسرين و أئمة النقل من المغالط في الحكايات و الوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً و لم يعرضوها على أصولها و لا قاسوها بأشباهها و لا سبروها بمعيار الحكمة و الوقوف على طبائع الكائنات و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق و تاهوا في بيداء الوهم و الغلط و لا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال و العساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب و مطية الهذر و لا بد من ردها إلى الأصول و عرضها على القواعد. المصدر: ابن خلدون ، المقدمة |
نص إضافي : ابن خلدون-نموذج لتطبيق المنهج النقدي في تحقيق الخبر
و هذا كما نقل المسعودي و كثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل بأن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون و يذهل في ذلك عن تقدير مصر و الشام و اتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش لكل مملكة من الممالك حصة من الحامية تتسع لها و تقوم بوظائفها و تضيق عما فوقها تشهد بذلك العوائد المعروفة و الأحوال المألوفة ثم أن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق مساحة الأرض عنها و بعدها إذا اصطفت عن مدى البصر مرتين أو ثلاثاً أو أزيد فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصفين و شيىء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر و الحاضر يشهد لذلك فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء. المصدر: ابن خلدون، المقدمة (من فصل بعنوان : في فضل علم التاريخ و تحقيق مذاهبه و الالماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط و ذكر شيىء من أسبابها) |
صورة للتأمل:لوحة تظهر معركة بحرية في البحر الأبيض المتوسط بين سفينة موريسكية وأخرى أوروربية حوالي القرن 16هذه بالتأكيد معركة حربية. ولكن هل هي جهاد بحري أم قرصنة بحرية!؟ يختلف الجواب حسبما إذا كان المؤرخ ينتمي إلى الضفة الجنوبية أو الشمالية للبحرالمتوسط !! |
ماهي حدود المنهج النقدي في التاريخ؟ ربما يوحي النقد بأن المؤرخ منكب على موضوعه بتجرد وقد وضعه على طاولة البحث تحت مجهر النقد، ولكن الموضوع ظاهرة إنسانية. والمعركة كما يقول آرون ليست فقط حدثا ماديا فحسب ذلك أن لتصرفات المحاربين دلالاتها ولتصرفات الضباط مقاصد وغايات ونيات…، وباختصار فالمؤرخ يدرس أحداث الوعي أيضا. الا تستدعي المعرفة التاريخية بهذا المعنى نوعا من التعاطف والتفهم من قبل المؤرخ للنفاذ إلى دلالات الواقعة بالنسبة للفاعل التاريخي؟ ولكن ألا تتعارض هذه الذاتية مع مطلب الدراسة العلمية الموضوعية كما يلح عليها الوضعانيون؟ وماهي حدود الدقة التفسيرية التي التي يطمح إليها المؤرخ؟ يرى مارو أن بناء الواقعة التاريخية ثمرة تلاقح بين المنهج النقدي والتعاطف، بحيث يصحح أحد الطرفين إفراط الآخر. والتعاطف أو المشاركة الوجدانية عند مارو خروج المؤرخ من ذاته لملاقاة الغير (التاريخي)، بحيث تقوم بينه وبين موضوعه ضرب من الصداقة لايصح الفهم والتفسير بدونها. إن التعاطف هو مرحلة البناء التي تعقب الهدم الذي يمثله المنهج النقدي
نص مارو : المعرفة التاريخية كخلاصة لمزاوجة دقيقة بين المنهج النقدي والتعاطف
أما وقد وصلنا إلى الحد، فعلينا أن ننظر في الشروط الذاتية التي تسمح يفهم الماضي وتحد منه في نفس الوقت. لقد رأينا كيف أن المؤرخ أشبه ما يكون بالإنسان الذي من خلال الإيبوخي Epoché يعرف كيف يخرج من ذاته لملاقاة الآخر. ومن الممكن أن نسمي هذه الفضيلة بالتعاطف. ولكن مصطلح التعاطف لايفي بالغرض: إذا أراد المؤرخ فهم موضوعه فلابد أن تجمعه بهذا الموضوع صداقة ما، ذلك أننا لانعرف أحدا إلا بواسطة الصداقة حسب عبارة القديس أوغسطين الجميلة. إذا كان الحس النقدي والتعاطف غير متناقضين في حد ذاتهما، فليس من السهل التوفيق بينهما أو العدل بينهما في ذهن العالم. بيد أن بناء الواقعة التاريخية ثمرة لمجهود متظافر وإفراط البعض يعادل تقصير البعض الآخر. ومن المفيد لتقدم علمنا أن يعمل نقد صارم ومجحف أحيانا على إيقاظ تعاطف نائم وهو تنزلق خفية نحو التواطؤ والتساهل. عندما نفحص المساهمة الخاصة بكل واحدة من هاتين المرحلتين في البحث التاريخي، نجد أن التعاطف يضطلع دوما مرحلة البناء، في الوقت الذي يدمر فيه النقد الصرح المؤقت لمعرفة غير تامة، ويضع شرائط إعادة البناء اللاحقة، لكنه في حد ذاته لايضيف للمعرفة التاريخية سوى القليل. المصدر: H.-I Marrou De la connaissance historique 1954 |
نص إضافي : مارك بلوخ: الذاتية كشرط لفهم الماضي ودلالاته
ينجم سوء فهم الحاضر من جهلنا بالماضي، غير أنه من العبث الانكباب على محاولة فهم الماضي ونحن نجهل كل شيئ عن الحاضر (…) وإذا كنا نعاين في الحاضر بحواسنا رعشة الحياة البشرية، فإن على المخيلة بذل مجهودات شاقة لنفخ الحياة في هذه النصوص العتيقة. لقد قرأت وسردت مرارا قصص حروب ومعارك، ولكن هل كنت أعرف حقا – بالمعنى الحقيقي للفظ المعرفة – أي هل كنت أعرف من الداخل ماذا يعني الحصار لجيش وماذا تعني الهزيمة لشعب قبل أن اختبر الغثيان المروع لكل ذلك بنفسي؟ وقبل أن استنشق هواء النصر في صيف وخريف 1918 هل كنت أعرف حقا ماذا تعني هذه الكلمة الجميلة؟ الواقع أننا نستمد عن وعي وبدونه من تجاربنا اليومية العناصر التي نستعملها في نهاية المطاف لإعادة بناء الماضي. ولولا أننا نرى من حولنا بشرا يحيون، أي معنى ستتخده الكلمات التي نستعملها لوصف الحالات الشعورية الغابرة والأشكال الاجتماعية المندثرة؟ المصدر: Marc Bloch; Apologie pour l’histoire ou métier d’historien 1949 |
المحور الثاني: التاريخ وفكرة التقدم
بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال):
أوضح ابن خلدون بأن ظاهر علم التاريخ لا يختلف عن باطنه في التحقيق والتمحيص فحسب بل يزيد عليه بالتعليل والتفسير أي الكشف عن علل الأحداث ومبادئها. وبذلك يكون التصور الخلدوني جامعا لعلم التاريخ وفلسفة التاريخ معا، لأن هذه الأخيرة تتجاوز تحقيق الوقائع إلى البحث في علة حدوثها ومبدأ تعاقبها بل في منطق ومعنى السيرورة التاريخية ككل.
طرح الإشكال:
هل هناك منطق ثاو خلف تعاقب الأحداث التاريخية أم أن التاريخ هو مملكة الصدفة والعرضي؟ هل هناك معنى لهذه السيرورة وهل التاريخ قابل للتعقل؟ وإذا كانت ثمة منطق للسيرورة التاريخية فهل يمكن أن نستخلص منها غاية التاريخ ونتنبأ بوجهته التي يمضي نحوها ؟ وإذا وجدت غاية للتاريخ أفلا يعني أن صيرورة التاريخ يمضي نحو نهاية التاريخ؟
صورة للتأمل:ملجأ للمشردين في مدينة نيويورك، العاصمة الإقتصادية للدولة صاحبة أكبر اقتصاد عالمي بأي معنى يمكن الحديث عن تقدم في التاريخ ؟! يقول ريمون آرون: من السهل إثبات التقدم في المجالين العلمي والتقني، ولكن هل يمكننا الحديث عن التقدم في مجالات السياسة والاقتصاد؟ يمكننا القول أن النشاط الاقتصادي يقاس بمقدار الكمية التي ينتجها كل فرد أو بزيادة الدخل العام، ولكن ليست غاية الاقتصاد إنتاج أكبر قدر من السلع إنما الغاية منه حل مشاكل الفقر وتأمين أوضاع الحياة الانسانيةلأكبر عدد ممكن من الأفراد. ولكن ما من دليل على أن أوضاع تتحسن بقدر مايزيد ألإنتاج العام ولا أن إعادة توزيع المنتجات الجاهزة بين الأفراد يكون عادلا بقدر ماتنمو الثروة الجماعية. التاريخ والتقدم، ضمن كتاب المجتمع الصناعي |
معالجة الإشكال:
-1 التاريخ الدوري والغياب التام لفكرة التقدم
السيرورة التاريخية في المستوى الخام وقبل كل تفسير هي تعاقب لأحداث. وأبسط أنواع الظواهر المتعاقبة التي يسهل الكشف عن منطقها هي الظواهر الطبيعية الكبرى ( تعاقب الليل والنهار، الفصول، أطوار حياة الكائن…) ولقد اتضح للإنسان مبكرا أن منطقها منطق دوري إذ أن الظواهر تتالى وتتعاقب وتنمو وتندثر لتعود مجددا إلى طورها الأول . لقد استعير هذا المنطق لفهم السيرورة التاريخية فيما يعرف بالعود الأبدي الذي نجده في الكثير من الميثلوجيات وبعض الفلسفات كفلسفة نيتشه تمثل فلسفة التاريخ الخلدونية ونظريته في العصبية نموذجا للتصور الدوري للتاريخ الذي تغيب عنه فكرة التقدم والتراكم. لقد استطاع ابن خلدون أن يلتقط المبدأ المفسر للسيرورة التاريخية أو للعمران البشري متمثلا في أهم مظاهره وهي الظاهرة السياسية أو الدولة. إن العصبية هي العامل المفسر لقيام الدول وانهيارها. والعصبية كما الدولة يبدآن بالفتوة ثم القوة فالهرم والشيخوخة والإندثار: تبدأ الدولة الجديدة كدعوة تتخد من العصبية مصدرا لقوتها داخل قبيلة واحدة تتقوى لتضم تحت سيطرتها قبائل أخرى وبمقدار ماتتسع سطوتها تتحول إلى طور الدولة وما يصاحب ذلك من استقرار وتشييد وتنظيم إداري ومالي وعسكري… ولكن بقدر ما تتوسع مظاهر العمران، تضعف وظيفة العصبية والحاجة إليها لممارسة السلطان. وكأن تطور الدولة يحمل في ذاته بذور تلاشيه: ذلك إن اتساع الرقعة الجغرافية للدولة وعدد جيوشها ودواوينها وتنوع أصناف البذخ يرهق ميزانيتها فيدفعها إلى فرض المزيد من المكوس والضرائب وممارسة صنوف الجور والإفراط… فتدب الإنشقاقات والثورات والوهن في جسمها، مما يوفر الشروط لنشوء دعوة جديدة تنقض عليها لاتزال العصبية فيها فتية قوية… وهكذا دواليك ليبدأ دور أو طور جديد
نص ابن خلدون : من فتوة الدولة إلى قوتها فهرمها: سيرورة دورية cyclique
فلنذكر أولا طروق الخلل في الشوكة و العصبية ثم نرجع إلى طروقه في المال و الجباية. اعلم أن تمهيد الدولة و تأسيسها كما قلناه إنما يكون بالعصبة و أنه لابد من عصبية كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها و هي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة و قبيلة فإذا جاءت الدولة طبيعة الملك من الترف و جدع أنوف أهل العصبية كان أول ما يجدع أنوف عشيرته و ذري قرباه القاسمين له في اسم الملك فيستبد في جدع أنوفهم (…) فيأخذهم بالقتل و الإهانة و سلب النعمة و الترف الذي تعودوا الكثير منه فيهلكون و يقلون و تفسد عصبيبة صاحب الدولة منهم و هي العصبية الكبرى التي كانت تجمع بها العصائب و تستتبعها فتنحل عروتها و تضعف شكيمتها و تستبدل عنها بالبطانة من موالي النعمة و صنائع الإحسان و تتخذ منهم عصبة إلا أنها ليست مثل تلك الشدة الشكيمية لفقدان الرحم و القرابة منها (…) فتقل الحماية التي تنزل بالأطراف و الثغور فتتجاسر الرعايا على بعض الدعوة في الأطراف و يبادر الخوارج على الدولة من الأعياص و غيرهم إلى تلك الأطراف لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم و أمنهم من وصول الحامية إليهم و لا يزال ذلك يتدرج و نطاق الدولة يتضايق حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة (…) و أما الخلل الذي يتطرق من جهة المال فاعلم أن الدولة في أولها تكون بدوية كما مر فيكون خلق الرفق بالرعايا و القصد في النفقات و التعفف عن الأموال (…) ثم يحصل الاستيلاء و يعظم و يستفحل الملك فيدعو إلى الترف و يكثر الإنفاق بسببه فتعظهم نفقات السلطان (…) و يدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند و أرزاق أهل الدولة ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف في النفقات (…) و يحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية (…) ثم تزيد عوائد الترف فلا تفي بها المكوس و تكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة و القهر لمن تحت يدها من الرعايا و يعظم الهرم بالدولة و يتجاسر عليها أهل النواحي و الدولة تنحل عراها في كل طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلال و تتعوض من الاستيلاء الكلل فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها و إلا بقيت و هي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته و طفئ و الله مالك الأمور و مدبر الأكوان لا إله إلا هو. المصدر: ابن خلدون ، المقدمة |
-2 التاريخ وفكرة التقدم
ألا يمكن أن نجد للصيرورة التاريخية منطقا آخرا غير التكرار الدوري الارتدادي الذي يعيد إنتاج نفسه ولا يضيف شيئا؟ ألا تتضمن السيرورة التاريخية نوعا من التراكم بحيث يحتفظ الدور اللاحق بشيء من الدور السابق ويضيف له ويتجاوزه؟ وإذا صح شيء من ذلك فإلى أية وجهة يمضي هذا التراكم والتجاوز؟
يرى “تيودور شانين” أن جاذبية فكرة التقدم تعود إلى بساطتها وتفاؤليتها، فهي تعني أن كل مجتمع يسير نحو الأعلى على طريق طويل بيتعد فيه الفقر والبربرية والاستبداد والجهل ليمضي نحو الثراء والحضارة والديموقراطية والعقل.
تعكس لنا فلسفة التاريخ مع هيغل هذا التفاؤل الذي ميز بالخصوص عصر الأنوار في امكانية تقدم مطرد للجنس البشري نحو مزيد من المعرفة والحرية والسيطرة على الطبيعة، وقد استدمج التصور الهيجيلي مفهوم السلب والنفي ضمن صيرورة جدلية يتجاوز فيها اللاحق السابق و في نفس الوقت يحتفظ في مركب أعلى بما هو جوهري فيه. ولكن هذا “الرقي” يفترض غائية للتاريخ، ومادام التاريخ ليس سوى تجليات لفكرة أو روح تسعى لوعي نفسها وللتطابق مع ذاتها بدءا من أبسط مظاهر الطبيعة وصولا إلى أعقد مظاهر التاريخ وأرقى أشكال المعرفة، فإن التاريخ الكوني هو سيرورة التقدم الذي يحرزه وعي الحرية، ولامناص من الاعتراف بالطابع الضرروري لهذا التقدم والتي هي ضرورة منطقية في العقل قبل أن تكون ضرورة واقعية في التاريخ. بهذا المعنى فحتى مشاهد الدمار وظواهر الحرب ولحظات الكبوات ليست سوى انتكاسات سطحية تخفي التقدم العميق والصامت الذي تخوضه الفكرة وهي تتقدم نحو غايتها المتمثلة في الحرية ( قارن هذه التفاؤلية ونظرتها “الإيجابية للكوارث” مع نص لايبنز، كتاب منار الفلسفة ص 50)
نص هيغل : وراء كوارث التاريخ ونكباته غاية تتقدم نحوها الصيرورة
يشعرنا الجانب السلبي من مشهد التغير بالحزن. وإنه لمحبط أن نعرف أن كل هذه الأبهة والحيوية الجميلة قد اندثرت وتحولت إلى حطام نمشي بين أطلاله. لقد انتزع منا التاريخ أجمل وأنبل شيء، لقد دمرت الأهواء البشرية كل شيء، والزوال مصير كل شيء . [لنتجاوز]هذه التأملات التي تعكر صفو النفس، ونتساءل: ماهي غاية كل هذه الوقائع المفردة؟ إن غايتها لاتختزل في أهدافها الخاصة، إذ يتوجب على كل شيء أن يساهم بناء الصرح oeuvre فوراء التضحيات الجسيمة للروح توجد غاية نهائية. علينا فقط أن نعرف هل يوجد تحت الموج الهائج في السطح إنجاز خفي صامت يحتفظ في داخله بكل قوة الظواهر [الماضية] ؟ مايحول دون الجواب هو هذا التنوع والتباين الشديد بين هذه المحتويات: لقد شهدنا أشياءا متناقضة يتم تقديسها على أساس أنها تعبر عن مصالح العصر والشعوب. من هنا تظهر الحاجة إلى أن نتخد من الفكرة Idee مبدءا لتفسير هذا الانهيار. ومن هذه الاعتبارات نصل إلى المقولة الثانية: مقولة العقل نفسه. يوجد في الوعي إيمان بالقوة وبالسيطرة اللامتناهية للعقل على العالم. وستقدم لنا دراسة التاريخ نفسه الدليل على ذلك، لأن التاريخ لايعدو عن كونه صورة وإنجازا من إنجازات العقل المصدر: Hegel, La raison dans l’histoire |
-3 نقد فكرة التقدم – ريمون آرون
تتضمن فكرة التقدم بالنسبة لريمون آرون حكما معياريا قيميا ينتقص من صلاحيتها العلمية مفاده أن المجتمع اللاحق أفضل من السابق، علاوة على أنه حكم ذو صلاحية قطاعية لايمكن أن تنسحب على التاريخ برمته: فإذا كنا نعاين في مجالي العلم والتقنية تراكما وتقدما لاسبيل إلى انكارهما لأن طبيعتهما تفرض تقدما يمكن قياسه دون تقييم، فإن إثبات التقدم في مجالات الفن والدين والاقتصاد والسياسة يظل قضية إشكالية.
في النص التالي ينتقد ريمون آرون الخلفية الميثولوجية وكذا الاستعمال السيء لفكرة التقدم داخل فلسفة التاريخ، الهيغيلية منها أو الماركسية، .بل إن نقد آرون يطال أيضا الأطروحات اللاحقة لفوكوياما حول نهاية التاريخ. ذلك أن فكرة التقدم لاتنفصل عن فكرة نهاية التاريخ: فالقول بفكرة التقدم يفترض أولا وجود غائية تاريخية وحتمية ترسم للسيرورة التاريخية مسارها المحدد سلفا بهذه الغائية، ويفترض ثانيا وجود نهاية للتاريخ تمضي نحوها هذه السيرورة بما هي مسيرة نحو الخلاص.
بيد أن فلسفات التقدم تسقط بشكل لامفر منه في نزعة محافظة وتبريرية وذلك في خلطها بين فكرة عقلية ليس لها سوى استعمال معياري وبين شكل متعين قائم من أشكال النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي ( مثلما فعل هيغل حين طابق بين الدولة البروسية والعقل، أو ماركس حين جعل من المرحلة الشيوعية وسيطرة البروليتاريا نهاية الصيرورة التاريخية، أو فوكوياما حين جعل من الديموقراطية الليبرالية نهاية التاريخ…)
ومثلما ميز كانط بين استعمال مشروع وآخر غير مشروع لمقولات العقل وأفكاره، فإن لفكرة التقدم استعمالا مشروعا كفكرة موجهة لطموح الإنسانية في سبيل تجاوز حالة الفقر والعوز الظلم واللامساواة التي لايمكن تبريرها بنسبتها إلى نظام الكون أو مشيئة الإلاه.
نص ريمون آرون : مفهوم التقدم مفهوم نسبي
إن النقد التاريخي لايرفض مفهوم الحتمية أو نهاية التاريخ لذاتهما. ذلك أننا نجد بالفعل في كل حقبة قوى يتوجب علينا التعايش معها ما دمنا عاجزين عن قهرها، وسيولا ينبغي توجيهها إذا كانت محاولة وقفها عبثية. بيد أن لهذا النوع من الاستدلالات خطورته لأنه يتخد أحيانا كذريعة لتبرير الجبن أو الهزيمة. يستطيع الفيلسوف بل يتوجب عليه أن يكشف عن الخطأ المبدئي المقترف عندما نطبق على التاريخ برمته، استدلالا مقبولا في أحسن الأحوال إذا طبق على حالات محددة. وبالمثل فإذا كان من الضلال أن نخترع بواسطة الفكر حالة اجتماعية تتحقق فيها جميع التطلعات، فمن المشروع بالمقابل بناء فكرة عقلية لجماعة يسودها العدل والنظام تبرر التاريخ الطويل والشاق الدامي للإنسانية. يبدو أننا لانستطيع التخلي عن الأمل في مثل هذا المجتمع الذي يرضي طموح الحكيم حيث يعيش الناس وفق مقتضيات العقل، لأن الإنسان، والإنسان الغربي على الخصوص، لم يقبل أبدا تكريس الظلم بنسبته إلى [نظام] الكون أو [مشيئة] الإلاه. لكننا نسقط في نوع من الهذيان المتطرف حالما نطابق بين هذه الفكرة العقلية وسياسة الحزب أو نمط الملكية أو النظام الاقتصادي. [لانفهم] من كون للتاريخ ذا معنى سوى دعوة الإنسان إلى معالجة طبيعته وجعل نظام الحياة المشتركة مطابقا لقوانين العقل، أما إدعاء المعرفة المسبقة بالغاية النهائية وبسبل الخلاص فليس سوى مُداراة للتقدم المتعثر للمعرفة والممارسة بميثولوجيات تاريخية إنه لتفريط من الإنسان في إنسانيته أن يتخلى عن البحث متوهما أنه قد اهتدى إلى القول الفصل المصدر: Aron, Dimensions de la conscience historique 1964 |
المحور الثالث: دور الإنسان في التاريخ:
بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال):
إن البحث في دور الإنسان في التاريخ لهو استمرار للتساؤل حول منطق التاريخ وغايته، ذلك أن القول بوجود منطق وغاية للتاريخ يقتضي أن الصيرورة التاريخية تمضي وفق مبادئ وقوانين موضوعية مادية أو عقلية بعيدا عن الذاتية المتقلبة للإنسان المفرد أو المسارات المباغتة للصدفة العمياء، أي إحلال عامل أو مبدأ ما محل الإنسان في توجيه دفة التاريخ.
فمن جهة يبدو الإنسان هو صانع تاريخه من خلال بطولة الأبطال وتضحيات المحاربين و ثورات الشعوب، ومن جهة أخرى يبدو أن بطولة هؤلاء وثورات أولئك قد صنعتها ظروف مواتية. هل يمكن مثلا أن نرجع توسع الدولة الإسلامية ماضيا إلى استبسال المسلمين وقوة إيمانهم وشجاعتهم ونفسر إنحسارها اليوم بتخاذلهم وجبنهم أم أن ذاك التوسع وهذا الإنحسار إنما يرجع إلى عوامل اقتصادية وسياسية عالمية تتجاوز الإطار المحلي. من قبيل الاكتشافات الجغرافية والنهضة الأروربية…
طرح الإشكال:
إذا كان المؤرخ لا يعتني بهبوب الرياح قدر اعتنائه بمجهود الإنسان في استخدام قوتها لتوجيه سفنه للتجارة أو شن الحروب، ولايهتم بفيضانات الأنهار إلا من حيث أنها تتقاطع أو تؤثر على حياة إنسانية قائمة بجوارها… فلأن أحداث الماضي لاتكون موضوعا للتاريخ إلا من حيث أن الإنسان هو مُحدثها أو محورها على الأقل. ما حقيقة كون الإنسان “مُحدثا” للحدث التاريخي؟ هل يعني ذلك أن الإنسان هو من يصنع تاريخه ويوجه دفة صيرورته؟ أم أن الصيرورة التاريخية مشروطة بعوامل موضوعية تفوق إرادة الإنسان نفسه الذي ليس سوى جزء من بنية تتجاوز وعيه وإدراكه؟
صورة للتأمل:جون كالفن ( 1509-1564) و مارتن لوثر(1483-1546
صنعا التاريخ أم صنعهما التاريخ؟ |
معالجة الإشكال:
-1 الإنسان مجرد أداة مؤقتة لتحقق الفكرة – هيغل
يرى هيغل أن تاريخ العالم مجرد تمظهر لسعي الروح نحو معرفة ذاته، وإذا كانت البذرة تحوي في ذاتها كامل خصائص الشجرة من مذاق وشكل فاكهة التي ستظهر لاحقا، فإن اللحظات الأولى للتاريخ بما هي آثار أولى للروح تحتوي بالقوة مسبقا أيضا كل التاريخ. ماذا يتبقى إذن للإنسان من دور في تاريخ محدد قبليا؟ لاأهمية للبشر الأفراد عند هيغل إلا بقدر ما يكون هؤلاء أدوات لتحقيق اغراض أسمى، وبقدر ما تتمثل فيهم حقبة من حقب الفكر المطلق. بل إن أبطال التاريخ وعظماءه بدورهم لايحققون إرادتهم الخاصة ولا يسعون لنيل سعادتهم الشخصية بقدر ما يمتثلون لروح العصر التي تستعملهم وتتحقق بهم ومن خلالهم وتجاوزهم
نص هيغل: عظماء التاريخ مجرد أدوات لتحقيق روح العصر
[هؤلاء هم عظماء التاريخ] تمارس الأعمال الجليلة عليهم ومن خلالهم سلطة لا قبل لهم بمقاومتها، حتى لو أحسوها سلطة خارجية وغريبة عنهم، حتى لو تعارضت مع ما يعتقدون أنه إرادتهم الخاصة. ذلك أن الروح المتقدم نحو أشكال جديدة هو نفسه الروح الداخلية للأفراد. لأنه دخيلتهم اللاواعية التي رفعها العظماء إلى مستوى الوعي. منجزاتهم هي المبتغى الحقيقي لإرادة الآخرين، يمارسون على غيرهم سلطة لايملك هؤلاء سوى الإذعان لها رغم معارضتها لإرادتهم الخاصة. وإذا كانوا ينقادون لهداة الروح هؤلاء فلأنهم يستشعرون منهم نداءا لايقاوم صادرا من روحهم الداخلية نفسها. وإذا تأملنا قدر هاته الشخصيات التاريخية، سنجد أنهم سعدوا بكونهم أدوات لتحقيق غاية تشكل مرحلة في المسيرة المتدرجة للعقل الكوني، ولكنهم لم يشعروا بما نسميه عادة بالسعادة من حيث أنهم أدوات مفردة لهذا الجوهر [الذي يسكنهم] وهم أصلا لم ينشدوها وكل مانالوه من رضى جاء من سعيهم لبلوغ غاياتهم من خلال الكدح الشاق، تلك الغاية الكونية. وحيث أنهم ألفوا أنفسهم منذورين لهذه الغاية الجليلة، فقد هبوا لها بكل جرأة غير أبهين بمعارضة غيرهم لهم. لم يختاروا السعادة بل الشقاء والكفاح والعمل لبلوغ غاياتهم. وعندما أدركوها لم يهنئوا بأية سعادة أو متعة ذلك أن كينونتهم هي فعلهم. وطبيعتهم ومزاجهم يرسمه شغفهم. ما إن بلغوا غايتهم حتى تهاووا كغشاء ثمرة فارغة. من المحتمل أنهم عانوا ليصلوا نهاية الشوط، ولما أدكوه ماتوا شبابا كالإسكندر، غيلة اكقيصر أو منفيين كنابليون. قد نتساءل: ماذا غنموا؟ لقد غنموا مفهومهم، غايتهم وإنجازهم ، ولاشيء غير ذلك وما نعموا بالمتعة والهناء. المصدر: Hegel, La raison dans l’histoire |
2- ماركس: (الشروط المادية)تطور قوى الإنتاج هي المحركة للصيرورة التاريخية
ماهذه الفكرة أو الروح المطلق التي تستعمل البشر – شعوبا وقادة – لتحقق نفسها !؟ في هذه النقطة بالذات تمثل فلسفة التاريخ الماركسية تجاوزا لفلسفة التاريخ الهيغيلية، إذ أن الفكرة أو الروح المطلق التي كانت تتجلى تدريجيا عبر التاريخ وتحرك خيوطه وتسير أبطاله، حلت محلها – في الماركسية – عوامل مادية هي ظروف الإنتاج المادي للحياة بيد أن موقع الذات الإنسانية في التاريخ ظل في الماركسية على ماهو عليه، : ففي الوقت الذي يعتقد الفاعل التاريخي أنه يتصرف وفق ما يختاره من معتقدات دينية أو ما يتبناه من مبادئ سياسية يبين التحليل المادي للتاريخ أن المعتقدات الدينية المبادئ السياسية ماهي إلا انعكاس للبينة التحتية الإقتصادية، أي لمستوى معين من تطور قوى الإنتاج
وإذا كان الوعي هو النمط الوحيد الذي يمكن من خلاله إثبات فعل الإنسان في التاريخ، فإن هذا الوعي نتاج للوجود الاجتماعي وليس العكس، كما يتضح من خلال النص التالي:
نص ماركس: نقد التصور المثالي للحتمية التاريخية عند هيغل
تتأسس تصورنا للتاريخ على قاعدة تطور السيرورة الواقعية للإنتاج، انطلاقا من الانتاج المادي للحياة الفعلية، وننظر إلى شكل العلاقات البشرية في ارتباطها بنمط الانتاج الذي يفرزها. وعلى خلاف التصور المثالي للتاريخ لانرى داعيا للبحث في كل حقبة عن مقولة [عقلية] لأننا نقف باستمرار فوق الأرضية الحقيقة للتاريخ: لانفسر الممارسة انطلاقا من الفكرة، بل نفسر الأفكار انطلاقا من الممارسة المادية (…) لقد تم لحد الآن تجاهل هذه القاعدة الواقعية للتاريخ ونظر إليها كعنصر ثانوي لاعلاقة له بالصيرورة التاريخية (…) وتم استبعاد علاقة الإنسان بالطبيعة خارج دائرة التاريخ مما خلق تعارضا [مصطنعا] بين الطبيعة والتاريخ. لذا لم تر هذه النظرة المثالية في التاريخ سوى أحداثه الكبرى التاريخية والسياسية اوالحروب الدينية التي تظل خلافات نظرية في نهاية المطاف. وفي دراستها لكل حقبة تاريخية تسقط هذه النظرة ضحية لنفس الوهم المسيطر على أهل تلك الحقبة، إذ يعتقدون أن يتحركون بدوافع سياسية أو دينية في حين أن السياسي والديني ليس سوى مظهر خارجي للمحرك الواقعي. المصدر: Marx-Engels, L’édeologie allemande (1846) éd 1975 |
-3 سارتر- الإنسان صانع تاريخه
ولكن إذا كانت الماركسية تقدم نفسها كتحليل علمي للتاريخ يكشف النقاب عن القاعدة المادية المسؤولة في الواقع عن الصيرورة التاريخية، ألا تتيح هذه المعرفة للإنسان الانفلات حتمية هذه الصيرورة؟
يرى سارتر أن الماركسية قد أسيء تأويلها بشكل تبسيطي أو أن إمكانيتها لم تستثمر بشكل كامل: إن الماركسية فلسفة للحرية أو بالأحرى للتحرر ليس فقط للإنسان الفرد بل للطبقة المستغلة بأسرها، ذلك أن التاريخ لايكون قوة غريبة تستلب البشر إلا مادامت دلالة مجهوداتهم غريبة عنهم والحال أن التحليل الماركسي يقدم الأدوات الكفيلة بالتعرف على المنتوج وفهم سيرورته، من خلال مفاهيم قوى الإنتاج ، علاقات الانتاج،الصراع الطبقي، وأشكال الاستيلاب والايديولوجيا… وبذلك تصبح الممارسة الإنسانية ممارسة مستنيرة بالوعي لاممارسة عمياء تنقلب نتائجها ضدها.
نص سارتر: إذا لم أكن أنا صانع التاريخ، فذلك لأن آخر غيري قد صنعه
لكي ننأى بالفكر الماركسي عن الاختزالية والتبسيط، لابد من القول بأن الإنسان في لحظات الاستغلال هو في نفس الوقت نتاج لمنتوجه الخاص و فاعل تاريخي لايمكن اختزاله إلى مجرد منتوج. ولكلا يتخد هذا التناقض مظهرا جامدا، لابد من إدراكه ضمن حركة البراكسيس (الممارسة) نفسها، عندها تتضح دلالة عبارة انجلز: الناس يصنعون تاريخهم انطلاقا من شروط واقعية سابقة على وجودهم ( في عداد هذه الشروط، نجد: السمات المكتسبة، التشوهات المفرضة من طرف نمط الشغل والحياة وكذا الاستيلاب) ولكن البشر هم الذين يصنعون التاريخ وليس الشروط السابقة وإلا تحولوا إلى مجرد آلات تحركها قوى لاإنسانية وتتحكم من خلالهم في الوجود الاجتماعي. صحيح أن هذه الشروط موجودة [مسبقا] وهي وحدها التي تمنح للتغييرات الوشيكة وجهتها ووجودها المادي، بيد أن حركية البراكسيس الإنسانية تتجاوز هذه الشروط وتحتفظ بها. من المؤكد أن البشر لايعون جيدا الامتدادات الفعلية لإنجازاتهم، وستظل هذه الامتدادات عصية على الإدراك مادامت البروليتاريا وهي الفاعل التاريخي لم تحقق بعد وحدتها ولم تع بعد دورها التاريخي. لكن إذا كان التاريخ ينفلت مني، فليس معنى ذلك أنني لاأصنعه بقدر مايعني أن آخرا غيري قد صنعه بدوره(…) وهكذا فالقول بأن الإنسان يصنع تاريخه يعني أن التاريخ فضاء يتموضع داخله الإنسان ويستلب فيه أيضا. وهكذا سيظل التاريخ بالنسبة للبشر قوة غريبة رغم أنه المنتوج الخاص بمجموع الفاعلية البشرية ماداموا لم يتعرفوا على دلالة مجهوداتهم الناجحة محليا في المنتوج النهائي والموضوعي. تمثل الماركسية في القرن التاسع عشر أعظم محاولة ليس فقط لصناعة التاريخ بل ولتملكه أيضا عمليا ونظريا من خلال توحيد الطبقة العاملة وترشيد الفعل العمالي من خلال التعرف على السيرورة الرأسمالية والموقع الموضوعي للعمال [داخلها]. بهذا يكتسي التاريخ معناه بالنسبة للإنسان. وبقدر ماتعي البروليتاريا فاعلا تاريخيا تتعرف على نفسها في هذا التاريخ. المصدر: Sartre, Critique de la raison dialectique |
منهجية سليمة
شكرا .. لا تتوقف أيها المجتهد