مدخل نظري (يمكنك أيضا الإنتقال إلى النماذج التطبيقية مباشرة)
ننطلق في هذه الوضعيات التعليمية المقترحة من إعتبارين أحدهما بيداغوجي يهم عملية التعلم والآخر ديداكتيكي-فلسفي يقترن بطبيعة التفكير الفلسفي نفسه.
- فأما الإعتبار البيداغوجي فيتجلي في أهمية المعنى داخل فعل التعلم: فما لم يدرك التلميذ معنى ودلالات التعلمات فإن دافعية التلقي والإستيعاب تتضاءل ناهيك عن قدرته على التعلم الذاتي أو الإبداع: فالذات المتعلمة تبحث دائما عن نسق تفسيري يناسب الأسئلة المطروحة عندها أساسا وليس “الأسئلة المثارة –في أحسن الأحوال- عبر خدع بيداغوجية قد تدفع التلميذ إلى مواجهة جهله”، لكنها لا تولد لديه أسئلة حقيقية نابعة من انتظاراته الخاصة. إن دور المدرسة يصبح بهذا المعنى هو إثارة الدهشة والتساؤل لدى التلاميذ وذلك انطلاقا من ربطهم بمعارف حية يجدون فيها إجابات عن حيرات وأسئلة يحسون أنها نابعة من حياتهم. إن المعنى الذي نعطيه للمعارف – نحن الكبار وخصوصا المدرسين – نابع من علاقة خاصة بالمادة المعرفية، علاقة نسجت عبر تاريخ شخصي طويل من الدرس والتحصيل، فتحولت إلى علاقة عشق أو “إدمان”!! ولذلك فليس من المستغرب ألا يتطابق بالضرورة معنى المادة المعرفية لدينا مع المعنى الذي قد تكتسبه المادة المعرفية بالنسبة للتلميذ ، هذا إن اكتسبت فعلا معنى ما !! وحدهم المتعلمون يمكنهم إعطاؤها معانيهم الخاصة ويكيفونها مع انتظاراتهم، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا باستثمار هذه العلاقة الخاصة وتهيئ المتعلم ضمن وسط مساعد ومحرك للرغبة والدهشة وعبر برامج ووضعيات تترجم حقيقة ما يحتاج إليه التلاميذ ويحفزهم على العمل والإبداع (1) وإذا مااستثنينا قلة من التلاميذ الذين تجمعهم علاقة خاصة بالمعرفة بحيث تبدو لهم منشودة ومطلوبة لذاتها بسبب تاريخهم الخاص أو ثقافتهم الأسرية التي قد تثمن المعرفة لذاتها، هل يستطيع غالبية المتعلمين أن يمنحوا المعنى لمعارف تقدم لهم كنتائج نهائية مطلوبة لذاتها وليس كتجربة إنسانية نتجت عن مخاض من الأسئلة والدهشة ومغامرة البحث والرغبة في الفهم؟ لايعني ذلك إنتهاء دور الأستاذ كأحد مصادر المعرفة أو أن التلميذ مدعو أو قادر بطرقة توليدية على بناء صرح المعرفة الفلسفية من ألفه إلى يائه!!، بقدر مايعني أن تقدم له المعرفة في الوقت الذي يطلبها ويحس فعلا بالحاجة إليها من أجل فهم وضعية أو حل مشكلة.
وبعبارة أخرى، هل أخلق لدى اللميذ رغبة حقيقية وصادقة في المعرفة عندما أدعوه في بداية الدرس إلى استعراض تمثلاته حول اللغة أو البحث عن الدلالة المعجمية للحق، في غياب وضعية مشكلة أو قضية ملحة ذات معنى ودلالة تبرر اللجوء إلى مثل هذه الأبحاث، بإعتبارها وسائل وليس غايات؟ - أما الإعتبار الثاني فذو طبيعة ديداكتيكية-فلسفية، قائم على حقيقة بسيطة وردت عن أرسطو تقول إن الدهشة هي التي دفعت الناس أول الأمر إلى التفلسف. والدهشة إنما تكون أمام ظواهر وضمن وضعيات تمس كيان الإنسان كل وتخاطبه بإلحاح وتحد مما يخلق عنده هذا التوتر المصحوب بشيء من التضايق واللارتياح، والذي يتعين علبنا إستثماره لدفع التلميذ إلى لقاء المعرفة، هذا اللقاء الذي غالبا مايحول دونه موقفنا البرغماتي إزاء العالم.
لنتأمل الممارسة السقراطية نفسها: متى وكيف طرق سقراط موضوع الحب مثلا في محاورة “المأدبة”؟ ألم يفعل ذلك بعد أن انتهت المأدبة وقد أكل الندماء وشربوا، فرأوا أن يلقي كل واحد منهم خطابا في حق إله الحب؟!!
كيف طرق سقراط قضية تعريف الجمال في محاورة “هيبياس الكبرى”؟
لقد بدأ الحديث عاديا، (281a)حول انشغلات هيبياس وأسفاره الكثيرةكممثل لمدينته لدى المدن الأخرى، وعلاقة ذلك بحدق هيبياس وفصاحته وعلمه(283a)، لينتقل إلى قضية الحكمة والتربية (284a)والممارسة السوفسطائية للتعليم مقابل أجر، والتكريم والتقدير الذي تلقاه خطبهم ، وصولا إلى التكريم الذي حظي به أحد خطابات هيبياس(286 a) حول … الجمال
وبعبارة اخرى، فإن فحص القضايا الفلسفية وتحديد دلالات الألفاظ والمفاهيم المستخدمة، يظهر على الدوام منغرسا ضمن وضعية حياتية يحاول المتحاورون فهمها وتفسيرها. وليس لحظة معزولة تبدأ بالعبارة التالية: ” سندرس اليوم القضية <س> ، فما ذا تعني لكم <س> ياترى ؟”، وعليه فإن التحدي المطروح على مدرس الفلسفة هو كيفية إعداد مثل هذه الوضعيات التي تدهش المتعلم، وتخرجه من سبات وطمأنينة الوضوح والبداهة الظاهريين، تجعل من فعل التفكير الفلسفي فعلا ضروريا، وليس مجرد مناقشة لقضايا مجردة لايرى فيها المتعلم غير تركة فكرية حفظها تاريخ الفلسفة،، أو لائحة من المشاكل التي لايدرك غير الأستاذ منشأها ورهانها؟
كيف عالجت التوجيهات الرسمية مثل هذه الصعوبات والتحديات؟
تتوزع لحظات الدرس الفلسفي وفق الخطاطة الرسمية إلى طرح إشكالي وبناء إشكالي؛ فأما الطرح الإشكالي فيستهل بالإشتغال على الدلالات الإجتماعية فاللغوية وصولا إلى الفلسفية التي يفترض أن تسمح عناصرها ومفارقاتها بطرح مختلف إشكاليات الدرس التي سيتولى البناء الإشكالي معالجتها الواحدة بعد الأخرى.
يبدو هذا التصور سليما ومتماسكا من الناحية النظرية لكنه يفضي إلى بعض المفارقات على المستوى العملي:
هل من المفروض مثلا أن نعلن أو نكتشف كل إشكالات الدرس في البداية إنطلاقا من التقابلات التي تتضمنها الدلالة الفلسفية، ماهي الوظيفة البيداغوجية لإثارة كل هذه الأسئلة متراكمة مجتمعة الواحدة تلو الأخرى؟ وهل يحمل مثل هذا الإجراء دلالة أو معنى في نظر التلميذ عل نحو يحثه على الإنخراط الفعلي في عملية ومغامرة التفكير الفلسفي؟
إنه إجراء يراعي منطق تعليم المادة المعرفية لامنطق التعلم، منطق المعرفة المكتملة لا منطق المعرفة وهي في طور البناء من طرف المتعلم المبتدئ. والفرضية الضمنية هنا أن المشاكل الفلسفية تثار بمناسبة التفكير في دلالة الكلمات، وليس من خلال مواجهة وضعيات الحياة اليومية وأسئلة الوجود وقلق المصير … بكامل تعقدها وراهنيتها وإلحاحها ومحاولة حلها/ فهمها. عند هذه اللحظة وفقط عندها، نقترح عليه لحلها وفهمها التوسل بمختلف آليات التفكير الفلسفي ، ومن بينها استكشاف ومساءلة معاني الألفاظ التي نفكر بواستطها في المشكلة أو الوضعية، وإضفاء بعض النسقية والتماسك والنظام على أفكارنا، وفحص معتقداتنا وتأكيداتنا، ثم إستكشاف ( والإستفادة من ) الطريقة التي فكر بها الآخرون – أي الفلاسفة – في مثل هذه الإشكالات…؛
أما الفرضية الضمنية الثانيةالتي تقوم عليها التوجيهات الرسمية، فهي أن الإشكالات الفلسفية لاتبنى، وأن معالجتها الفلسفية لاتبدأ إلا بعد القطيعة مع الدلالات المتداولة، والحال أن العمل الفلسفي – بما هو إستعمال خاص للغة الطبيعية – ليس شيئا آخر غير اشتغال مستمر على الدلالات بغية فحص مسلماتها وفرضياتها الضمنية، والتمييز بين مكوناتها،والتنقيب عن آفاق جديدة للمعنى قد تحملها..،إن فعل التفلسف إستعمال خاص للغة الطبيعية، وكثيرا ما تم بناء مواقف فلسفية كاملة إنطلافا من التمييز بين الدلالات
وكما أشار أحد المهتمين (2)، فإن الإشتغال على التمثلات أمر محمود فلسفيا ولكن ماالمستهدف من هذا الإشتغال: هل هذا التمرين أو ” التطهر” الذهني ضروري قبل الولوح إلى محراب الفكر الفلسفي؟
سنضرب هنا مثالين لإظهار إمكانية ” معالجة” الإشكال معالجة أولية دون ” الإصطدام ” مباشرة بالتحديدات الدلالية:
هل من الضروري التعرف أولا على الدلالة الفلسفية لمفهوم اللغة وضبط هذه الدلالة قبل الشروع في مناقشة خصوصية اللغة الإنسانية مقارنة بأشكال التواصل الحيواني – وهي موضوع المحور الثاني في درس اللغة – ، والحال أن تعريف اللغة هذا يتضمن من العناصر ما يثير ضمنيا مفهوم “اللغة” الحيوانية، خصوصا عندما نقرأ تعريف لاروس الوارد في الكتاب المدرسي: ” اللغة قدرة خاصة بالنوع البشري على التواصل بواسطة…” ألا يصبح التعريف مصادرة على المطلوب، فتغدو المقدمة نتيجة في حد ذاتها؟! ألا نستطيع من خلال مقارنة أنماط التواصل البشري والحيواني بناء التعريفين العام والخاص للغة أي كنسق للتواصل وكوظيفة للتعبير عن الفكر تمييزا لها عن الإستجابات الغريزية؟أنظر نموذجا تطبيقيا هنا ؟وبالتالي نبني مقهوم اللغة أثناء هذه المقارنة نفسها؟
هل ينبغي تحديد الدلالة العلمية لمفهوم الشخصية ( تعريف آلبورت في الكتاب المدرسي) كهدف في حد ذاته دون الإنطلاق من واقعة أو مشكلة أو ظاهرة ما نحتاج في فهمها إلى ضبط دلالة المفهوم، مثل ظاهرة تعدد انماط الشخصيات بتعدد الأفراد أو ظاهرة المرض النفسي أو العقلي؟ أنظر نموذجا تطبيقيا هنا
إن إلحاح مثل هذه الأسئلة هو الذي دفعنا إلى ابتكار واقتراح عدد من الوضعيات التعليمية التعلمية لجعل دراسة الإشكاليات الفلسفية حاجة شخصية أو وجودية وليس مجرد استجابة لمنطق واكراهات المؤسسة المدرسية
==========
(1) نور الدين العمارتي، التلميذ والمعنى. مجلة فكر ونقد عدد42
(2) عزيز لزرق، قراءة في الإحراجات الخفية للدرس الفلسفي. جريدة الاتحاد الاشتركي 22-04-1999
(نماذج تطبيقية هنــــــــــــــــا)
by