التلاميذ ومشكلة المعرفة بمذاهب الفلاسفة وجنسياتهم وعصورهم.. مقترحات للتعاقد حول الحد الأدنى المعرفي، أو المعلوم من الفلسفة بالضرورة
ما أهمية معرفة التلاميذ بمذاهب الفلاسفة من عقلانية وتجريبية وظاهراتية ووجودية.. وجنسياتهم من يونانية وعربية وألمانية وأمريكية.. وعصورهم من قديم ووسيط ومعاصر…؟ سنعمل على معالجة هذه الأسئلة مستلهمين تمييزا كانطيا بين “المعرفة بالتواريخ” (cognitio ex datis) و“المعرفة بالمبادئ” (cognitio ex principüs)
يعمد عدد لا بأس به من الأساتذة الجدد أثناء الحصة الأولى إلى اختبار التلاميذ بخصوص هذه المعرفة كنوع من التقويم التشخيصي يمكنهم من معرفة مستوى المتعلمين وحصيلتهم المعرفية فيبنوا على أساسها دروسهم ومستوى خطابهم
في الغالب يصعق المدرسون الجدد عندما يفاجئهم تلامذة السنة الاولى وهم يعلنن بكل براءة وغفلة أن ديكارت يوناني، وأن أرسطو فرنسي، وأن الفلسفة ظهرت في القرن 16 أو 17، وأن ابن رشد من الفلاسفة الطبيعيين الأوائل..! مثلما قد يفاجئهم تلامذة السنة الثانية بأن ديكارت تجريبي..! ويبلغ وقع المفاجأة درجة أن يعمد المدرس الجديد عن حماس وحسن نية إلى تكليف التلاميذ بتمارين “علاجية” من قبيل إحصاء وجرد أسماء فلاسفة المقرر وإنجاز ثبت بمذاهبهم وجنسياتهم وتواريخ وفياتهم..
لكن ما صدقية مثل هذا التشخيص؟ هل سيجلي فعلا تعلمات المتعلمين ويكشف النقاب عن تعثراهم؟ وهل يمكن أن نبني على نتائجه لاحقا ممارستنا التدريسية؟
أزعم أن هذا الإجراء التقويمي مفهوم ومبرر تماما بالنظر إلى وضعية المدرس الجديد وإلى المنهاج، ولكن مصداقيته كتقويم تشخيصي ليست مع ذلك بديهية.
بالنسبة لمدرس جديد لا خبرة له بالمستوى المعرفي للمتعلمين، ولا بالمضامين المعرفية للدروس التي تلقوها، أقصد الدروس كما تنجز واقعا في الفصول وليس كما هي معروضة في الكتب المدرسية، تبدو هذه الاستمارة مناسبة، ويبدو ما تقيسه موضوعيا، إذ مهما تنوعت دروس من سبقه من المدرسين، فكلهم على الأرجح قد علموا تلامذهم -بمناسبة حديث عام أو عن التقديم لنص من النصوص – أن طاليس يوناني وأن ديكارت عقلاني.. وفضلا عن ذلك فإن نظرة سريعة إلى المنهاج من طرف المدرس الجديد لا يمكنها إلا أن تزكي اختياره: ففقرتان من الفقرات الأربع المرصودة لمجزوءة الفلسفة لمستوى الجذوع ذات خلفية تاريخية واضحة (نشأة الفلسفة ثم لحظات أساسية في تطور الفلسفة)، يضاف إلى ذلك كون “القدرة على وضع المعرفة الفلسفية في سياقها التاريخي والثقافي العام” هي إحدى القدرات المنصوص عليها في المنهاج.
هذا عن المدرس الجديد والمنهاج، لكن ماذا عن الدرس الفلسفي ومنطق التعلم؟ هل السؤال في الحصة الأولى عن مذاهب الفلاسفة وجنسياتهم سيقيس لنا فعلا تعلمات المتعلمين؟ ما تعلموه أو ما يفترض أنهم تعلموه أو ما ينبغي أن يتعلموه؟ ثم هل هذه “المعرفة التاريخية” هي مبتدأ التعلم وأدناه أم منتهاه وأعلاه؟ أقصد هل استيعاب الأنساب المذهبية للفلاسفة وحقبهم التاريخية.. هل هو مما يترسخ ويكتسب معناه في نهاية التعلم ومع مرور الوقت أم ما ينبغي حفظه وترصيده منذ البداية؟ هل يمكن للتلاميذ خلال نصف أسدس واحد في مستوى الجذوع أن “يحلقوا” فوق تاريخ الفلسفة من اليونان وصولا إلى المعاصرين مرورا بالوسيطيين والمحدثين؟ ويتذكروا بعد ذلك هذا الكم من الأسماء الجديدة جدة مطلقة؟ مع العلم أن المقاربة المعتمدة في المنهاج الحالي هي مقاربة موضوعاتية-إشكالاتية، تجمع فلاسفة مختلف العصور والمذاهب بدون تمييز، لتقيم بينهم حوارا حول الإشكال، أكثر منها مقاربة تاريخية، ترصد مقاربات الإشكال متتبعة تاريخ الفلسفة ومذاهبه المتعاقبة. على سبيل المثال لا الحصر: تجد في كتاب رحاب للسنة أولى علوم الأسماء التالية على التوالي في درس الوعي: شونجو، عالم أعصاب من المذهب الاختزالي (ق21)، برغسون (ق 20) فيلسوف حدسي، راسل، رياضي ذي نزعة تحليلية (ق20)، آلان، فرويد، لاكان، ماركس..
ضمن هذه الشروط، وعندما يضع المتعلمون بداية الفلسفة في القرن 17م وينسبون ديكارت إلى التجريبيين.. فهل الخطأ هنا فظيع حقا بحيث نستنتج منه أنهم ما فقهوا البسيط والأدنى، فكيف لهم بالمعقد والأعلى؟
هل معرفة اللحظات والمذاهب أمر أولي بسيط؟ وهل سيكون مفيدا تكليفهم بالجرد واﻹحصاء لرد الفلاسفة إلى بلدانهم والوفيات إلى سنواتها واﻷعلام إلى مذاهبها..؟ ماذا تعني حقا لتلميذ سنة أولى “العقلانية النقدية” إذا رد إليها كانط؟ وماذا تعني “الفلسفة الوسيطة” إن رد إليها ابن رشد؟ هذه مقوﻻت وتبويبات واضحة لنا كمتمرسين ولكن هل لها محتوى ومضمون بالنسبة للتلاميذ؟ هل معرفتهم بأن أرسطو يوناني وأن ديكارت فرنسي وان ابن رشد من أعلام الفلسفة العربية اﻹسلامية.. هل هذه المعرفة “الصحيحة” دليل على تعلم صحيح مطمئن. ألن تكون هذه مجرد معرفة بالتواريخ كما يقول كانط!؟
مما لاشك فيه أن التوفر على تصور ذهني للخط الزمني لتاريخ البشرية هو عماد الثقافة العامة وإحدى الأهداف الاستراتيجية للمدرسة ولمختلف موادها الدراسية (حقب ما قبل التاريخ وخصوصا العصر الحجري – حقب التاريخ وخصوصا الحقبة القديمة، الوسيطة، الحديثة ثم المعاصرة)، ومما لاشك فيه أيضا أن امتلاك المتعلم لتصور ذهني للحظات الكبرى لتاريخ الفلسفة والتي توازري حقب التاريخ، فضلا عن جنسيات الفلاسفة هو أمر بالغ الأهمية لجهة استيعاب أفضل للأفكار الفلسفية، لأن دلالات هذه الأخيرة وأبعادها ورهاناتها متأتية جزئيا من شروط إنتاجها أي من السياق التاريخي والحضاري.. ولكن..
ولكن أمام شساعة تاريخ الفلسفة وتعدد أسماء أعلامه وتشعب مذاهبه وفرقه ونحله، فاﻷهم من جنسية ديكارت هو أن يعرف تلاميذ الجذع مثلا أن الشك تعليق للحكم في انتظار الدليل، وأن الشك الديكارتي علامة على رغبة في تأسيس المعرفة انطلاقا من الذات وتجاوز الموروث.. ووضع أكثر اﻷشياء بداهة موضع شك. بل هذه المعارف هي الشرط الذي سيسمح لهم بفهم وتذكر انتماء ديكارت إلى بدايات حقبة هي الحقبة لحديثة وانتهاء أخرى وهي الوسيطة؛ وعوض جنسية أرسطو حبذا لو كانوا يعرفون شيئا من الموروث المفاهيمي اﻷرسطي من قبيل العلل اﻷربعة او تمييزه بين القوة والفعل..؛ واﻷهم من معرفة كون ابن رشد ليس من الحكماء الطبيعيين هو ان يتذكر التلاميذ محاججات ابن رشد لتبرير اﻻشتغال بالحكمة والنظر العقلي بوصفه من أوجب الواجبات الشرعية المنصوص عليها في القرآن الكريم نفسه، وأن الحق ﻻ يضاد الحق، وكذا تمييزاته الشهيرة بين ما هو بالعرض وما هو بالجوهر.. وتشبيهاته اﻷشهر حول الشَرَق والعطش والسكين والتذكية..؛ واﻷهم من معرفة جنسية الحكماء الطبيعيين والمناطق التي ينحدرون منها في آسيا الصغرى، أن يحتفظ التلاميذ بالجدة والجذرية التي طبعت تفكير هؤﻻء الحكماء من قبيل رد الكثرة إلى المبدأ الواحد، الحرص على التبرير العقلاني للأجوبة، تفسير الطبيعة بالطبيعة…
إذا استعرنا لهذه المعارف إسم “معرفة بالمبادئ” أو لنقل “معرفة بالمبادئ والمفاهيم”، فمعرفة أسماء المذاهب التي ينتسب إليها الفلاسفة، جنسياتهم ووفياتهم هي “معرفة بالتواريخ”. ودون الانتقاص من هذه الأخيرة، فهي ليست حجر الزاوية في التعلم الفلسفي، وليست مما ينبغي الحرص على ترسيخه لدى المتعلم والحرص على تشخيص مدى اكتسابه لها في بداية السنة. إنها في أسوأ الأحوال معارف عاطلة من الصعب تجنيدها في سياقات أخرى. وهي لا تكتسب معناها ووظيفيتها إلا من خلال المعرفة الأخرى، المعرفة بالمبادئ والمفاهيم.
لعل هذه الخواطر تكون أرضية للنقاش حول تعاقد ممكن على ما يمكن تسميته “الحد الأدنى المعرفي”، أو المعلوم من الفلسفة بالضرورة، الملزم للمتعلمين وللمعلمين، حتى وإن اختلفت طرائق تدريس هؤلاء والبناءات الإشكالية التي يختارونها أوالنصوص التي يشتغلون عليها.