تأطير مجزوءة الوضع البشري

تأطير مجزوءة الوضع البشري

نبدأ بمنطوق المجزوءة ذاته: الوضع البشري، هذا المفهوم الوجودي بامتياز، هذا المفهوم المركب الذي يدين بحمولته الفلسفية للمفكرين الوجوديين بدءا من القديس أوغسطين وصولا إلى سارتر مرورا بباسكال وكيركجارد،
ضمن هذا التراث، يمكن تحديد الوضع البشري بوصفه مجموعة الحدود القبلية التي ترسم الوضعية الأساسية للانسان
إنها أولا، حدود أو شروط أو وضعيات قبلية، بمعنى أن الإنسان -إذ يُقذف به إلى العالم- يجدها امامه سابقة
عليه، لامفر منها ! وعليه أن يمارس إنسانيته من داخلها، انطلاقا منها أو بالرغم منها وهي ثانيا: حدود أساسية. فما المقصود بذلك؟ هل هناك حدود غير أساسية؟
نعم. لأن الحدود والشروط لا متناهية: فيزيائية، بيولوجية، سياسية، أخلاقية، ذاتية، علائقية، نفسية، وجودية… واللائحة طويلة
لكن يمكننا دائما رد هذه الشروط واختزالها إلى عدد بسيط من الحدود الأساسية
في مقرر الفلسفة للسنة الثانية، ارتأى واضعو البرنامج اختزال هذه الشروط في ثلاث أساسية:
الشرط الذاتي/الذاتية
الشرط العلائقي/الغيرية
الشرط التاريخي/الزمنية Temporalé

بالنسبة للبعد الأول، الذاتي، وهو موضوع درس الشخص فهو يشير إلى الانسان منظورا إليه في إنيته، التي تتركب بداية من جسم وتلك هي الناحية البيولوجية، هو عبارة عن عضوية حية، و بذلك يكون جزء من الطبيعة يخضع لقوانينها، متجسدة في حاجاته وغرائزه المنقولة إليه وراثيا، والتي يعيش تحت ضغطها الدائم. بيد أن هذه الجسمية تعاش من خلال وعي ما، كامل أو جزئي ، حاضر أو غائب ، متقدم أو لاحق… هنا مصدر التوتر: بين الجسمية المادية وبين هذا الوعي الذي يسند كما سنرى هويته ويتذرع به ليطالب لنفسه بقيمة تعلو على قيمة الأجسام/الأشياء، ويحتج به أخيرا ليفك نفسه من أسر الحتمية التي صرنا بفعل العلم نقر بخضوع العالم الفيزيائي لها
لنقل أننا نتناول الوضع البشري في درس الشخص من زاوية الإنية أو الذاتية التي يستشرعها كل فرد على شكل وعي و هوية وقيمة ومسؤولية.
ننتقل الآن إلى البعد العلائقي، وهي موضوع درس الغير، ويستدعي بضعة ملاحظات:
لايتعلق الأمر هنا بدراسة الإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا محتاجا إلى غيره لتلبية حاجاته، أو كونه ملزما بالعيش في نظام جماعي منظم اداريا وسياسيا واقتصاديا.. هو ما يسمى المجتمع
لأننا ساعتها سنحول درس الغير إلى درس المجتمع أو الدولة أو درس التبادل ..! والواقع أننا في درس الغير لا في درس المجتمع أو الدولة أو التبادل !!
مالفرق ياترى؟
في درس الغير، نتناول البنية أو النسيج الأساسي (لنتذكر كلمة “الأساسية”) لكل هذه المجالات، ألا وهي العلاقة: أنا-أنت أو مانسيمه باختصار الغير
سأشرح: قبل أن يكون الآخر شريكا اجتماعيا او حاكما وا محكوما وا مالكا لسلعة أو خدمة يريد مبادلتها، فإنه أولا آخر، ذات أخرى لكنها ليست ذاتي، يشبهني ولا يشبهني ! إذا كنا في درس الشخص نتناول حد الإنية كأحد شروط الوضع البشري، فإننا في درس الغير نتناول مظهرا آخر من مظاهر الوجود الإنساني وهو الغيرية أو المغايرة أوالاختلاف، وهي لا تقل غموضا وإدهاشا عن الذاتية هذا الغير، كيف يوجد بالنسبة لي؟ كيف أوجد بالنسبة له؟ هل لي أن أعرفه؟ وهل له أن يعرفني أم أنني أظل سجين ذاتيتي!؟

والآن ماذا عن البعد الزمني للوجود الإنساني؟ إن الوجود الإنساني لاتشرطه فقط الذاتية والغيرية بل والزمنية Tomporalité أيضا
الإنسان كائن ذو وعي حاد بالزمن، يعي الزمن لدرجة القلق، لأنه يعلم أن كل دقيقة تمر هي دقيقة تقربه من الموت والعدم !!
ماذا يترتب عن ذلك؟
يترتب عن ذلك أن وجود الانسان وجود ممتد في الزمان، وينطبق ذلك على الفرد والنوع على حد سواء، مادام التاريخ -كما قال باسكال- أشبه برجل يظل هو نفسه ولكنه يتعلم باستمرار! ينتج عن ذلك أن الشخص يعيش تارخين: تاريخه اللفردي الخاص والتاريخ العام، فالانسان يمكن ان يولد حرا او مقيدا، عاملا او فلاحا..، في حقبة ما قبل التاريخ أو ما بعده، في العصر الوسيط أو في خضم الثورة الصناعية أو المعلوماتية.. كلها حقب تاريخية تسم الوجود الإنسان. بعبارة أخرى فالإنسان يعيش دائما ضمن سيرورة تاريخية يرثها ويورّثها لغيره، يفعل فيها وتفعل فيه، وهي ما نسميه التاريخ
وبهذا المعنى، فأنت كائن تاريخي، يعيش الآخرون في ذاكرتك، مثلما ستعيش أنت في ذاكرة الآخرين بعد رحيلك، وكأن لا أحد يفنى فناءا تاما !!
وفي درس التاريخ، نتناول هذا البعد الزمني او التاريخي من أبعاد الوجود الإنساني ومايطرحه من مشكلات مثل: المعرفة، المنطق، والحتمية أو العرضية

Facebooktwitterredditmailby feather

تعليقاتكم وتفاعلاتكم

تعليقات وملاحظات

27 تعليقا على “تأطير مجزوءة الوضع البشري”

  1. اود ان اشكر كل قائم علي هدا المنتدي مع اجمل واعطر تحية لقد استفدت من هادا الموضوع البالغ الاهمية لائنه موضوع ممتاز بالدرجة الاولة LaughLaughThumbs up

  2.  

    1ـ منهجية تحليل نص فلسفي:

    مقدمة:

    ـ اولا إعطاء تمهيد تبرزفيه المجزوءة التي ينتمي إليها النص مع المفهوم للمحورالذي أنت بصدد مناقشته، مثال (مفهوم الوعي وللاوعي ـ الحقيقة ـ الشخص…).

    ـ ثانيا صياغة الإشكال: المطلوب منك في هذه القدرة وهو صياغة تساؤلات دقيقة وواضحة ومرتبة ترتيبا منطقيا ينقلنا من العام إلى الخاص؛ أي من التساؤل الإشكالي العام للدرس إلى التساؤل الخاص بالنص الذي بين أيدينا.

    العرض:

    المطلوب منك في هذا المستوى الثاني من الكتابة الإنشائية ما يلي:

    1ـ التحليل:

    ـ إبراز أطروحة صاحب النص.

    ـ استخراج المفاهيم المركزية في النص.

    ـ استخراج البنية الحجاجية (الحجج التي يدافع بها صاحب النص عن أطروحته).

    2ـ المناقشة:

    في هذه العملية يتوجب على التلميذ أن يظهر قدراته الذاتية و الفكرية مستندا إلى ما علمه أستاذه في الفصل الدراسي، من خلال:

    ـ تدعيم أطروحة صاحب النص بمواقف مؤيدة (تذهب في نفس السياق).

    *سؤال انتقالي: يجعل الكتابة الفلسفية تنتقل بسلاسة من المواقف المؤيدة إلى المواقف المعارضة.

    ـ تقديم أطروحات و مواقف معارضة لموقف صاحب النص.

    الخاتمة:

    ـ المطلوب في هذا المستوى الأخير من الكتابة الإنشائية الفلسفية، هو إعطاء خلاصة تركيبية تنسجم مع منطق التحليل و المناقشة.

    ـ يمكنك إبداء الرأي الشخصي . (في حالة طلب منك).

     

  3.  

    مفهوم التاريخ 

    الطرح ا|لإشكالي

    إن الإنسان ليس كائنا ميتافيزيقيا يتعالى عن العالم المادي الملموس، بل إنه كائن تاريخي، كائن يتطور في الزمان والمكان، ويخضع لمجموعة من الشروط الموضوعية: اقتصادية، اجتماعية، سياسية… وهذا هو ما يسمى: التاريخ. الذي يثير قضايا فلسفية حول المعرفة التاريخية باعتبارها معرفة حول الماضي، لكنها في نفس الوقت لا يمكن أن تنفصل عن الحاضر بل والمستقبل. ومن بين المفاهيم المركزية في علم التاريخ نجد مفهوم التقدم الذي يختلف المؤرخون حول المسارات التي يتخذها. وأخيرا الدور المعقد الذي يتخذه الفاعل الأساسي في التاريخ، أي الإنسان. وهي قضايا يمكن صياغتها من خلال الأسئلة الموالية وهي :     

    ما هي المعرفة التاريخية ؟

    هل للتقدم مسار واحد؟ أم مسارات متعددة ؟

    من الذي يتحكم في الآخر؟ الإنسان أم التاريخ ؟

    أولا: المعرفة التاريخية

    أ- التاريخ معرفة للماضي  :

    إننا نعيش في مجتمع معين، ونحافظ على آثار ما كان موجودا من قبل. نحفظ الوثائق ونصون الآثار ونرممها، ويمكننا، انطلاقا من هذه الآثار، حسب ريمون أرون، إعادة بناء ما عاشه الذين سبقونا بهذا القدر أو ذاك. وبهذا المعنى، تصبح المعرفة التاريخية هي إعادة بناء ما كان موجودا ، غير أنها عملية تخص زمانا ومكانا محددين، ولا تخص إعادة بناء مجردة للماضي.

    ب- التاريخ معرفة علمية :

    إن فهم الماضي من خلال الآثار والوثائق هو في جوهره ملاحظة، والملاحظة- في نظر بول ريكور – ليست تسجيلا وتدوينا للوقائع بشكلها الخام. إنها إعادة تكوين حدث ما، أو سلسلة من الأحداث، أو وضعية، أو مؤسسة، انطلاقا من الوثائق بعد أن خضعت للمساءلة، وثم استنطاقها من طرف المؤرخ. وهذا العمل المنهجي هو الذي يجعل الأثر التاريخي وثيقة دالة، ويجعل من الماضي واقعا تاريخيا أو حدثا تاريخيا. 

    وهكذا يتمكن المؤرخ- حسب ريكور– معتمدا على الوثائق، ومنطلقا من الملاحظة المنهجية، من بناء الوقائع التاريخية .

    ثانيا: التاريخ وفكرة التقدم :

    أ- المسار الحتمي للتقدم :

    يدخل الناس بمناسبة الإنتاج الاجتماعي لشروط وجودهم، في علاقات محددة وضرورية مستقلة عن إرادتهم، حسب كارل ماركس. وتعكس علاقات الإنتاج درجة تطور قوى الإنتاج المادي. وتشكل مجموع علاقات الإنتاج، البنية التحتية والاقتصادية للمجتمع، والأساس الملموس الذي تقوم عليه البنية الفوقية التي تقابلها أشكال الوعي الاجتماعية. إن نمط إنتاج الحياة المادية يشرط صيرورة الحياة الاجتماعية والسياسية و الفكرية عموما. وفي مرحلة معينة من تطور قوى الإنتاج المادية للمجتمع تدخل هذه الأخيرة في تناقض مع علاقات الإنتاج لتبدأ مرحلة الثورات الاجتماعية، يمكن تصنيف أنماط الإنتاج: العبودي، الفيودالي، والرأسمالي بأنها عصور وحقب متدرجة للتركيبة الاجتماعية- الاقتصادية. فعلاقات الإنتاج التي تميز نمط الإنتاج الرأسمالي هي آخر نمط إنتاج متناقض في صيرورة الإنتاج الاجتماعي، ومع هذه التشكيلة الاجتماعية الأخيرة، ينتهي ما قبل تاريخ المجتمع البشري، حسب التصور الماركسي .

    ب- إمكانيات التقدم التاريخي :

    لقد اعترض موريس ميرلوبونتي على كل تصور آلي منغلق يخضع للضرورة، يجعل التاريخ يتقدم نحو اتجاه محدد مسبقا. لهذا حافظ ميرلوبونتي على مسافة نقدية مع التصور الماركسي، حيث يمكن للنمو الاقتصادي مثلا أن يكون متقدما على النمو الإيديولوجي، أو يمكن للنضج الإيديولوجي أن يحدث فجأة دون أن تتهيأ الشروط الموضوعية لذلك، أو عندما لا تكون الشروط مساعدة على الثورة، إننا حين نتخلى بصفة نهائية عن التصور الحتمي، لصالح تصور عقلاني للتاريخ، لا يصبح منطق التاريخ غير إمكانية ضمن إمكانات أخرى .

    ثالثا: دور الإنسان في التاريخ :

    أ- التاريخ والروح المطلقة :

    إن صيرورة التاريخ في- في نظر فريديريك هيغل– محكومة بالروح المطلقة، من خلال أعمال العظماء والأبطال الذين يدركون جوهر هذه الروح، حيث يعملون على إخراجها من الخفاء إلى الظاهر عندما يحققونها في التاريخ حسب منطق التطور، وهذا ما يدفع الناس إلى التعلق بالعظماء لأنهم يعرفون أن هؤلاء الشخصيات تمثل الاتجاه العميق للتاريخ، لأن أفعالهم وخطاباتهم هي أحسن ما يتوفر عليه عصرهم. ثم يتخلى عنهم التاريخ بعد أن يحقق ذاته من خلالهم، إما يموتون شبابا كالإسكندر الأكبر، أو يقتلون كالقيصر، أو ينفون كنابليون .

    إن دور الإنسان في التاريخ من خلال ما ينجزه العظماء- حسب هيغل– يتمثل في كونهم مجرد وسائل لتحقيق وتجسيد الروح المطلقة .

    ب- الإنسان صانع لتاريخه :

    إن الإنسان- حسب ج. ب. سارتر– يتميز بقدرته على تجاوز وضعه لأنه يستطيع أن يفعل شيئا بما يُفْعَلُ به. إن هذه القدرة على التجاوز هي أساس كل ما هو إنساني، وهو ما نسميه المشروع، الذي هو نفي وإبداع: أي نفي ما هو معطى بواسطة الممارسة والفعل، وإبداع أو بناء موضوع لم يظهر مكتملا بعد، ولا يتصور أحد هذا التجاوز لما هو معطى إلا في إطار علاقة الإنسان بممكناته. إن حقل الممكنات هو الهدف الذي يقصده الإنسان لتجاوز وضعيته.

    إن الفرد- بالنسبة لسارتر– يصنع التاريخ عندما يتجاوز وضعيته نحو حقل ممكناته، من خلال تحقيق إحداهما .

    استنتاجات عامة:

    إن التاريخ في عمقه هو علم يتخذ من دراسة الماضي موضوعا له، إلا أن دراسة الماضي ليست غاية في ذاتها، بل هي عملية يتم من خلالها التعرف على تجارب الماضي وذلك قصد عدم تكرار الإخفاقات، واستثمار التجارب الناجحة لبناء المستقبل .

    إن التاريخ يخضع لقانون التقدم، رغم بعض التقطعات، ولحظات التراجع الطارئة، إلا أن هذا التطور لا يتخذ خطا واحدا من المفروض على كل المجتمعات أن تلتزم به، بل إنه يتحقق بطرق متعددة ومتنوعة حسب خصوصية كل مجتمع .

    إن هناك علاقة جدلية بين الإنسان والتاريخ باعتبار أن الإنسان كائن تاريخي، كما أن التاريخ معطى إنساني، وهكذا فالإنسان يصنع تاريخه بقدر ما يصنع التاريخ الإنسان

  4. بسم الله الرحمان الرحيم
    المجزوءة الثانية: المعرفة

    النظرية والتجربة

    تقديم: ما المعرفة؟

    المعرفة فاعلية إنسانية. وهي لا توجد معطاة جاهزة، بل يتم بناؤها، وتأسيسها… من آليات بناء المعرفة: الاستدلال والبرهان والتجربة… فالمعرفة بهذا المعنى، بناء منهجي يتم وفق، جدلية، حور، توتر بين الذات والموضوع. (وإن كل إشكالات المعرفة تنبع من هذا الحوار والتفاعل المستمرين بين الذات والموضوع). فالمعرفة هي اغتناء الذات بما بنته من موضوعات سواء كانت طبيعية أو إنسانية…

    ابتداء من العصر الحديث- (عصر انتصار العقل والعلم)- استطاع الإنسان بناء معرفة أساسها نظرة جديد للعالم، وان يعلن عن مشروع سيادته على الطبيعة بفضل إيمانه القوي بقدراته العقلية المنهجية. فعمل على تسخير ملكاته العقلية، وبما له من تجهيزات وأدوات للملاحظة والقياس إلى فهم الطبيعة وتحليل ظواهرها لأجل التحكم فيها. وبالفعل استطاع الإنسان أن يحقق نجاحا كبيرا في معرفته بالطبيعة، وذلك بفضل الصياغة الرياضية والتجريب العلمي ومن بناء قوانين ونظريات علمية. ويمكن اعتبار النظرية والتجربة، وجهان لجدلية الذات والموضوع، التي وسمت المعرفة الإنسانية. وتم تتويج مسار انتصار العقل والعلم، تأسيس الإنسان لمعرفة حول ذاته، وذلك بميلاد العلوم الإنسانية، وما رافقه من مشاكل إبستيمولوجية مختلفة، سواء على مستوى الموضوع والمنهج، والتفسير، والفهم…

    1- مفهوم النظرية والتجربة:

    * التجربة التجريب

    * العقلانية العلمية

    *معايير علمية النظريات العلمية

    تقديم:

    – ما النظرية؟ وما التجربة؟

    يحمل عنوان « النظرية والتجربة » تقابلا بين مفهومين مختلفين. فالنظرية تحيل إلى العقلي المجرد، والتجربة إلى الواقعي، الملموس…

    تعني النظرية في التحديد الاصطلاحي التأمل العقلي:

    « نسق من المبادئ والقوانين ينظم معرفتنا بمجالات خاصة، ويتضمن هذا النسق بناء منطقيا له مكوناته ويخضع لنظام فرضي استنباطي، يسمح للعالم بالانتقال من عنصر إلى آخر وفق تراتب صارم« .

    أما لفظ التجربة- بالمعنى العام- فيحيل على مجالات عديدة ويحمل دلالات متنوعة:

    التجربة تدل على مجموعة المعارف والخبرات التي يكونها في علاقته المباشرة بالواقع.

    أما في مجال المعرفة العلمية، فإن التجربة، تعني القيام بإعادة إحداث ظاهرة ما، تمت ملاحظتها في شروط محددة، لدراستها كوسيلة لمعرفة القوانين المتحكمة في الظواهر.

    إن هذا التقابل بين النظرية كبناء عقلي مفاهيمي منهجي، … والتجربة كمجال لحضور الملموس والواقعي، يقودنا إلى طرح التساؤلات التالية: هل القول بأهمية التجربة تهميش للعقل؟ ألا يعتبر العقل أساسيا في تحويل التجربة إلى نظرية علمية موضوعية؟ ما معايير صلاحية النظرية العلمية؟.

    المحور الأول: التجربة والتجريب؟

    تشكل التجربة والتجريب، لحظة أساسية في مجال البحث العلمي، التجريب هو المساءلة المنهجية للطبيعة، ويعني مجموع الإجراءات التي يبدعها العالم، بحيث يخضع موضوعه (الظاهرة أو الواقعة المدروسة) للمساءلة والاختبار. لذا يعمل العالم على إحداث ظاهرة معينة ضمن ظروف وشروط يصطنعها قصد إيجاد جواب عن الأسئلة التي يطرحها. ويتوخى التجريب العلمي الدقة والموضوعية في التعامل مع الظواهر المدروسة.

    يميز العلماء بين التجربة الحسية أو الخبرة الواقعة وبين التجربة أو التجريب العلمي. إن التجربة أو الخبرة العادية لم تلعب أي دور في نشأة العلم، بل شكلت حسب بشلار، عائقا إبستيمولجيا، لأنها نتجت عن بادئ الرأي وتكون دوما مصدر للأخطاء.

    يقدم كلود برنار في كتابه « المدخل لدراسة الطب التجريبي » عرضا مفصلا للأسس النظرية والمنهجية، للمنهج التجريبي في صورته الكلاسيكية ويعتبر التجريب أو فن الحصول على تجارب دقيقة ومحددة، هو الأساس العملي، ويشكل الجزء التنفيذي للمنهج التجريبي بخطواته الأربع الأساسية وهي الملاحظة، الفرضية، التجربة، القانون. وهذا التمييز لا يعني استقلال هذه الخطوات بعضها عن البعض أو إمكانية ترتيبها دائما بهذا الشكل، لأن العالم وهو يجرب فهو يلاحظ ويتساءل… في ذات الوقت.

    وحسب كلود برنار، يجمع العالم التجريبي بين شروط الملاحظة العلمية ومبادئ التجربة عندما يخضع الفروض لمبدأ التحقق، فالعلم التجريبي بيني قوانينه تبعا لخطوات وشروط منهجية ونظرية ضرورية.

    ويعتبر التجريب نوعا آخر من الملاحظة. فإذا كانت الملاحظة تأملا وتحيليلا ذهنيا للحوادث كما رتبتها الطبيعة، فإن التجريب ملاحظة أخرى يتصرف فيها العالم بحوادث الطبيعة طبقا لمخطط ذهني يرمي إلى التحقق منه، والفرق بينهما أن التجريب ملاحظة مصطنعة، في حين أن الملاحظة تقتصر على تتبع الحادثة كما تجري في الطبيعة، وفي هذا المعنى يقول كوفييه.

    « إن الملاحظ يصغي إلى الطبيعة، أما المجرب فيسألها ويرغمها على الجواب » من مزايا التجريب تكرار الحوادث، تغيير شروط التجربة، عزل الحوادث…

    غير أن العالم لا يحتاج دائما إلى إجراء تجاربه في المختبر، فمعرفته المسبقة بالوقائع، وإدراكه للمبادئ النظرية التي ينطلق منها يسمحان له بإجراء تجارب نظرية، أي إجراء تجارب في ذهنه وليس دائما في الواقع. من هنا يلتجأ العالم إلى « التجربة الذهني الخيالية » عندما يستحيل عليه القيام بتجارب تفلت من الملاحظة العلمية المباشرة.

    وحسب روني طوم، لا يشكل التجريب العلمي في معناه التقليدي مقوما وحيدا في تفسير الظواهر، بل لابد من اعتبار عنصر الخيال وإدماجه في عملية التجريب. إن الخيال هو تجربة ذهنية تمنح للواقع غنى، وباختصار فإن العلم لا يمكن أن يكون علما، إلا إذا انفتح على الافتراضي والخيالي (روني طوم).

    إذا كانت التجربة العلمية هي الحكم الذي يحسم صحة او خطأ الفرضيات، فإن تأكيد التجربة (للفرضية، لا يعني حقيقة يقينية في العلم. بمعنى أن الحقيقة العلمية في العلوم، نسبية واحتمالية. ففي مجال الفيزياء المعاصرة، تطرح الظواهر الميكروسكوبية (الذرة مثلا) صعوبة الملاحظة المباشرة، صعوبة التجريب… إذ من الصعوبة مثلا ملاحظة حركة الإلكترونات والبروتونات في الذرة، بحيث لا يمكن متابعة حركتها او التجريب عليها. فكثير من التجارب تعتمد الآن الصورة بدل الواقع والأثر بدل الشيء،والحسابات الرياضية بدل المعطيات المخبرية.

    المحور الثاني: العقلانية العلمية

    يطرح مفهوم العقلانية العلمية إشكالا فلسفيا وعلميا حول علاقة العقل بالواقع او التجربة. وهي علاقة مركبة ومتداخلة. فما هي خصائص العقلانية العلمية ؟ وما هي حدودها؟

    أطروحة هانز رايشنباخ

    يميز رايشنباخ بين الأنساق الفلسفية العقلانية التي تعالج العلم الفزيائي اعتمادا على العقل وحده، كمصدر لمعرفة هذا العالم، وبين المعرفة العلمية التي تقتضي استخدام العقل مطبقا على مادة الملاحظة.

    وإذا كانت العقلانية ارتبطت تاريخيا بالعصر الحديث، فإنها تشتمل بمعناها الواسع المذاهب ذات النمط الأفلاطوني، لأنهما معا، تعتمدان العقل كمصدر مستقل لمعرفة العلم الفيزيائي دونما حاجة للرجوع إلى التجربة، الأمر الذي يجعل هذه الفلسفات خاصة تلك التي تعتمد الرياضيات تحمل نزعة صوفية (دينية)، (الفيتاغورية مثلا أو الأفلاطونية هذه الفلسفات سخرت الرياضيات لتفسير العالم). إن الفلسفة العقلانية- حسب رايشتنباخ- تلبي حاجات ذهنية، لا تنتمي إلى مجال المنطق. أفلاطون مثلا وحد بين المعرفة الرياضية. واستبعد دور الملاحظة من مجال المعرفة. لاعتقاده بأن معرفة الطبيعة لا تحتاج إلى ملاحظة وإنما يمكن بلوغها بالعقل وحده كمصدر للحقيقة اليقين.

    يستند هانز رايشنباخ في نقده للأنساق العقلانية إلى مرجعية وضعية. فهو أحد أقطاب « دائرة فيينا » إلى جانب كرناب، وموريس شليك… مؤسسو الوضعية الجديدة او التجريبية العلمية أو المنطقية ». هي تجريبية لأنها ككل النزعات التجريبية، ترى أن التجربة هي المصدر الوحيد لكل ما يمكن أن نحصل عليه من معارف عن الواقع، فهي لا تؤمن بوجود أفكار قبلية، بالبداهة العقلية، بالتالي فإن القضايا التي تتحدث عن أشياء لا يمكن التحقق منها بالتجربة هي قضايا فارغة من المعنى (القضايا الميتافيزيقية) عموما.

    هي منطقية، ترى أنه بالإمكان الحصول على معارف يقينية في مجال العلم، شريطة التقيد الصارم بالمنطق الذي هو علم استدلالي صوري بحث، مثله مثل الرياضيات، ولذلك يميز المناطقة الوضعيون بين القضايا ذات المعنى القضايا الفارغة من المعنى. الأولي هي القضايا التركيبية (قضايا العلوم الطبيعية) والقضايا التحليلية ص(قضايا الرياضيات التي هي عبارة عن تحصيل حاصل). أما القضايا الأخرى، لفارغة من المعنى، فهي كل القضايا التي لا تنتمي إلى عالم الرياضيات والعلوم الطبيعية. (القضايا الميتافيزيقية).

    هناك إذن في نظرية الفلسفة الوضعية، نوعان من المعرفة المشروعة: معارف ترتبط بظواهر الواقع ومعطيات التجربة ومعارف ترتبط بصور الفكر ومنشآت اللغة. أي إخضاع لغة العلم، لتحليل منطقي صارم، حتى تعتبر عما تقدمه لنا « محاضر »س التجربة، من غير زيادة أو نقصان. تلك هي مهمة « فلسفة العلم أو « منطق العلم ».

    غير أن دعوة الفلسفة الوضعية، إلى التقيد الصارم بالتجربة، جعل منها نزعة إختبارية. ثم إن التحليل المنطقي للمفاهيم والفروض والنظريات التي يستعملها العلم، كما تفهمه وتمارسه الوضعية المنطقية، تحليل صوري بحث يستهدف استخلاص « الهيكل المنطقي » للغة العلم، والمنطق يقدم الأدلة والبراهين لكنه لا يكتشف شيئا في حين أن العم في حاجة إلى الخيال المبدع بقدر حاجته إلى الصرامة المنطقية. إن إهمتل ما لا يمكن التحقق منه بالتجربة بدعوى مطاردة الأفكال الميتافيزيقية يمكن أن يؤدي إلى توقف العلم بتوقف الاكتشاف الذي يستلزم إبداعات الخيال والعقل.ينتقد روبير بلانشي، الفلسفة الوضعية كنزعة اختبارية، تعتبر العقل بمثابة مرآة في مجاراته الواقائع التجريبية، يراجع مبادئه وقواعده. وينزع عنها صفة الثبات والإطلاق. وهذا يؤكد أن العقلانية العلمية، هي عقلاني تجريبية منفتحة.

    من هذا المنظور العقلاني الجديد (الفلسفة المفتوح) يعالج غاستون باشلار ، العقلانية العلمية حيث ينتقد الفلسفة الوضعية كنزعة تجريبية، والفلسفات العقلانية في تنوعها واختلاف توجهاتها الفلسفية والعلمية على السواء. يقول باشلار بموقف جدلي للعقل، أي العقل يوجد في علاقة جدلية مع المعارف التي ينتجها- إن العقل ينتج المعارف، لكنه يخضع لتأثير هذه المعارف على بنيته. وهذا ما يمكن أن نستفيد من الثورة التي أحدثتها النظريات العلمية المعاصرة (في مجال الفيزياء والرياضيات) في المفاهيم التي كانت تعتبر مبادئ أولية ثابتة.

    إن العقل ليس بنية ثابتة، بل بنية لها تاريخ. وتاريخها في تطور معارفها، إن العقل لا ينتج العلم فحسب، ولكنه يتعلم من العلم أيضا « فالعلم بصفة عامة يعلم العقل، وعلى العقل أن يخضع للعلم، للعلم أكثر تطورا، للعلم الذي يتطور » (يشلار: فلسفة النفي). معنى هذا الخضوع أن على العقل أن يكيف بنيته تبعا لجدل المعارف العلمية، وإلا فإنه لا يستطيع أن يستفيد من الثورات العلمية التي تحدث.

    إن العقلانية العلمية في الفيزياء المعاصرة تتأسس على الحوار المستمر بين العقل والتجربة، لأن الفيزياء المعاصرة تحتاج ليقين مزدوج:

    الأول: أن يكون الواقع في قبضة ما هو ليحمل اسم الواقع العلمي.

    الثاني: أن تكون الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة من صميم لحظات هذه التجربة. « وباختصار لا توجد عقلانية فارغة، كما لا توجد اختبارية عمياء ».

    المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية

    لقد أفضى النقاش حول مقومات النظرية العلمية، ودور كل من التجربة والعقل في بنائها، علاقة العقل العلمي بالواقع العلمي، إلى مواقف فلسفية وعلمية متباينة، يؤكد بعضها أهمية التجربة والملاحظة ودورهما، كشرطين أساسين للنظرية العلمية، كالنزعات الاختيارية والتجريبية التي ترى أن المعرفة العلمية ينبغي أن تطبق على مادة الملاحظة والتجربة او النزعات العقلانية التي تجعل من العقل مصدر الحقيقة العلمية ومعيارها. فما هي إذن معايير علمية النظريات العلمية؟ من أين تستمد صلاحياتها؟

    أطروحة كارل بوبر

    يميز بوبر بين أربعة مراحل للتحقق من صلاحيته النظرية العلمية وينتهي إلى أن علمية النظرية يتمثل في قابليتها للدحض أو التزييف اعتمادا على جملة من الاختبارات الدقيقة.

    أولى مراحل التحقق من صحة النظرية العلمية. إجراء مقارنة منطقية بين النتائج التي نتحقق بواسطتها من التماسك الداخلي للنظرية.

    ثانيا: البحث في الصورة المنطقية للنظرية، والذي يمكننا من معرفة طبيعة النظرية، هل هي نظرية اختبارية (أو علمية)، أم نظرية توتولوجية تحصيلية.

    ثالثا: المقارنة بين النظرية موضوع البحث ونظريات أخرى، للتأكد من صمودها أمام الاختبارات المختلفة.

    رابعا: التأكد من قابلية النظرية للتزييف أو التكذيب، من خلال اختبارات تطبيقية أو تجريبية على نتائجها.

    يمكننا أن نستخلص- انطلاقا من مراحل التحقق من صحة النظرية العلمية كما يقترحها بوبر- ثلاثة معايير لإثبات صلاحية النظريات العلمية:

    1- معيار الأنساق أو التماسك المنطقي، ويقصد به اختبار الانسجام الداخلي للنظرية من خلال المقارنة الصورية بين مكوناتها: فرضياتها، مفاهيمها، نتائجها… ويشترط في النسق خلوه من التناقضات الداخلية.

    2- معيار التحقق التجريبي: ويعني التأكد من النظرية العلمية ومكوناتها، هل هي قابلة للاختبار التجريبي (قضايا ذات معنى) لتدخل بالتالي في دائرة العلم أم هي قضايا فارغة من المعنى.

    3- معيار قابلية النظرية العلمية (الاختبارية) للتزييف أو للتكذيب.

    لإثبات صلاحية النظرية العلمية. كارل بوبر، معيار قابلية النظرية العلمية للتزييف أو التكذيب كبديل عن مبدأ « التحقق التجريبي » بمعنى أن النسق لا ينبغي أن يكون قابلا للاختبار بكيفية إيجابية وبشكل نهائي، بل يشترك أن يكون قابلا للاختبار بكيفية سلبية أي أن تكون قضاياه قابلة للدحض بواسطة التجربة.

    يقول كارل بوبر « لا يعتبر أي نسق نظري اختباريا إلا إذا كان قابلا للخضوع لاختبارات أو روائز تجريبية… غير أن قابلية (أو التكذيب) وليس قابلية تحقق النسق هي التي ينبغي ان نتخذها معيار الفصل بين ما هو علمي وما ليس عليما »، ويضيف أن اختبار نظرية ما يشبه اختبار جزء من آلة ميكانيكية أي محاولة تبين العيب فيها. إن النظرية التي لا نعرف مقدما انه لا يمكن تبيان العيب فيها أو تفنيدها هي نظرية غير قابلة للاختبار وبالتالي فهي تخرج عن دائرة العلم.

    عندما ينتقد بوبر معيار « التحقق التجريبي » وهي من مبادئ « الوضعية المنطقية » فإنما يعبر عن طبيعة الحقيقة العلمية، لا كحقيقة نهائية مطلقة. بل كحقيقية مؤقتة واحتمالية. يقول بوبر في كتابه منطق الاكتشاف العلمي « ليس العلم نسقا من قضايا يقينية أو مبنية بناء صحيحا، كما أنه ليس نسقا يتقدم بانتظام نحو نقطة نهاية. إن علمنا ليس معرفة فلا يمكنه أن يدعى امتلاك الحقيقة… »

    إذ، لم تعد التجربة كما تصورها النزعة الاختبارية التجريبية (الوضعية) هي منبع النظرية ومحك الحكم على قيمتها كما كان الحال في الفيزياء الكلاسيكية (القرن 17 و18). كما لم يعد العقل كما تصورته النزعة العقلانية المغلقة، مكتفيا بذاته ومعزولا عن الواقع. إن العقلانية العلمية هي عقلانية فلسفية مطبقة. إذ لا يمكننا فهم عمل العلم وإدراك قيمته الفلسفية إلا في ضوء العلاقة الجدلية بين العقل والواقع. ففي عالم تتصارع فيه النظريات، يحاول العالم أن يبني نظريته بين نظريات علمية أخرى، لذلك تلتجئ النظرية إلى الفروض الإضافية والاختبارات المتكررة لتحافظ من جهة على تماسكها المنطقي الداخلي، ولكي تخرج من عزلتها وانغلاقها وانفتاحها على فروض نظرية جديدة. إن تعدد الاختبارات هو معيار علمية النظرية وعلامة قوتها. غير أن الطابع التركيبي والشامل للنظرية، يجعل من المتعذر التحقق من صدقها أو كذبها بواسطة التجربة، لذلك فمعيار الحكم على علمية نظرية ما هو قابلية منطوقها وبنائها النظري للتنفيذ أو التكذيب. فعلى النظرية العلمية أن تقدم الاحتمالات الممكنة التي تفند .بها ذاتها. عليها أن تكن معرضة للخطأ والتكذيب، أفضل من أن تدعي اليقين المطلق. لأنه لا علم بدون أخطاء

  5. السلام عليكم ارجوكم اريد كيفية كتابة تقديم نأطر فيه مجزوءة الوضع البشري و مفهم الشخص 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *