تمهيد لفهم إشكالات الدرس:
عن العنف: ننطلق في هذا الملخص من تعريف العنف كما وردفي”المعجم الفلسفي” لــ “جميل صليبا”: “كل فعل يخالف طبيعة الشيء، ويكون مفروضاً عليه، من خارج فهو، بمعنى ما، فعل عنيف. والعنيف هو أيضاً القوي الذي تشتد صورته بازدياد الموانع التي تعترض سبيله كالريح العاصفة، والثورة الجارفة”
المحور الأول: أشكال العنف
طرح الإشكال:
هل تقتصر أشكال العنف على العنف المادي الفيزيائي العضلي كما يظهر للوهلة الأولى أم تشمل أيضا أشكالا من العنف الخفي الرمزي و اللطيف؟ ولكن كيف للعنف أن يكون خفيا لطيفا دون أن يفقد صفته كعنف والحال أن سمة العنف هو القوة التي تكسر كل مقاومة !؟ هل العنف محتاج للتخفي والتنكر ؟
1- العنف المادي: عنف على منوال الطبيعة ولكنه يتجاوزها
لا تعرف الطبيعة غير العنف المادي، وحيث أن الإنسان كائن طبيعي بدوره، ذو جسم وعضلات، فإن أحد أشكال العنف التي يمكن تصورها هي اصطدام هذه الأجسام والعضلات بهدف كبح حركة بعضها البعض أو إلحاق الأذى بها. يقول فرويد: ” كانت القوة العضلية الأكثر تفوقا هي التي تقرر من يملك الأشياء ومن تسود إرادته، وسرعان ما أضيف إلى القوة العضلية واستعيض عنها باستخدام الأدوات: فالفائز هو من يملك الأسلحة الأفضل أو يستخدمها بالطريقة الأمهر. ومن اللحظة التي أدخلت فيها الأسلحة بدأ التفوق العقلي يحل محل القوة العضلية”. لقد أصبحت الأدوات وهي استمرار لأعضاء الجسم أدوات العنف المادي الفعال بلا منازع، وقد ساهمت التكنولوجيا كما يقول إيف ميشو YVES MICHAUD في تطوير وسائل هذا العنف المادي مستفيدا من تحول هذه الوسائل إلى سلع تخضع ككل سلعة إلى مبدأ الربح في إنتاجها وتبادلها، وهكذا عملت التجارة الدولية للأسلحة على نشر وسائل العنف وجعله أكثر تخريبا وفتكا، وفي متناول كل الأفراد والجماعات. كما ساهم التقدم التقني في تطوير الآلات والأسلحة المستخدمة في العنف، مما جعل هذا الأخير مختلفا عما كان عليه في السابق، سواء من الناحية الكمية أو من الناحية الكيفية والنوعية.
بيد أن العنف المادي ومهما بلغ جبروت وسائله يظل عنفا مكلفا للطرفين لأنه يستدعي مقاومة متناسبة مع القوة الأولية وفق مبدأ الفعل ورد الفعل في الفيزياء. مما يضطر العنف إلى التخفي لتكون نتائجه أبلغ تأثيرا وأقل تكلفة خصوصا إذا ضمن تواطؤ الضحايا: إنه عنف يخفي عنفه ! مما يفسر تخلي الدول الاستعمارية مثلا عن الغزو العسكري لصالح غزو ثقافي أكثر تأثيرا وأقل انكشافا.
2-العنف الرمزي: عنف يتخفى ليضمن تواطؤ الضحايا
يتحدث بيير بورديو عن العنف الرمزي الذي هو عنف غير فيزيائي، يتم أساسا عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة و الإيديولوجيا، وهو شكل لطيف وغير محسوس من العنف، و غير مرئي حتى بالنسبة لضحاياهم أنفسهم. وينتقد بورديو الفكر الماركسي الذي لم يول اهتماما كبيرا للأشكال المختلفة للعنف الرمزي، مهتما أكثرا بأشكال العنف المادي والاقتصادي. كما أشار بورديو إلى أن العنف الرمزي يمارس تأثيره حتى في المجال الاقتصادي نفسه، فالسلع المعلن عنها عبر الإشهار في وسائل الإعلام أو المعروضة في واجهات المتاجر بقدر ما تؤجج الرغبة، بقدر ما تمارس عنفا اقتصاديا وإنهاكا مستمرا للقدرة الشرائية العاجزة أصلا.
إن العنف الرمزي يمارس على الفاعلين الاجتماعيين بموافقتهم وتواطئهم. ولذلك فهم غالبا ما لا يعترفون به كعنف؛ بحيث أنهم يستدمجونه كبديهيات أو مسلمات من خلال وسائل التربية والتنشئة الاجتماعية وأشكال التواصل داخل المجتمع. وعلى سبيل المثال، فالعنف يتسلل حتى إلى قلب العلاقات العاطفية بين الجنسين، إذ يرى عالم الاجتماع الأنجلييزي غيدنز أن المرأة كانت في الماضي بمنزلة أحد المنقولات في حيازة الرجل ومن ثم عوملت بالعنف الذي تقتضيه هذه الحيازة، غير أن الاحترام والحب يمكن أن يكون أيضا صورة من صور الهيمنة الأقوى أكثر من استخدام القوة المجردة. فلقد عوملت المرأة الفاضلة بروح المودة والتصديق والتقدير لتستمر في إلزام نفسها بالفضيلة والعفة في المجتمع الأبوي!
ومن هذه الزاوية يمكن، حسب بورديو فهم الأساس الحقيقي الذي تستند إليه السلطة السياسية في بسط سيطرتها وهيمنتها؛ فهي تستغل بذكاء التقنيات والآليات التي يمرر من خلالها العنف الرمزي، والتي تسهل عليها تحقيق أهدافها بأقل تكلفة وبفعالية أكثر، خصوصا وأن هناك توافقا بين البنيات الموضوعية السائدة على أرض الواقع وبين البنيات الذهنية الحاصلة على مستوى الفكر.
وفي سعيه الدؤوب إلى إخفاء نفسه كعنف، قد يتخد أيضا شكل عنف طقوسي أو مقدس، عندما يصبح جزءا من طقوس أو شعائر دينية: صحيح أن القرابين تقتصر اليوم على الأضاحي الحيوانية لكنها كانت في ما مضى قرابين بشرية. فياله من عنف يواري باتخاده شكل التقوى والقربات للآلهة !
المحور الثاني: العنف في التاريخ
طرح الإشكال:
كان قتل قابيل لهابيل أول حدث يقصه علينا القرآن الكريم و يكسر حالة اللاحدث التي أعقبت نزول سيدنا آدم إلى الأرض، ليكون بذلك أول حدث عرفه تاريخ الإنسانية. ما دلالة أن يستفتتح التاريخ الإنساني بحادثة قتل وعنف؟ هل كان العنف مجرد فاتحة للتاريخ كما توحي بذلك هذه الواقعة؟ أم أنه استمر ملازما للصيرورة التاريخية؟ وكيف للعنف أن يضطلع بدور في التاريخ رغم أنه خراب وهدم وإفناء ؟
هل العنف مجرد ظاهرة عابرة و نتيجة لأسباب محددة كما تذهب إلى ذلك الماركسية حين أرجعت أصل العنف إلى التفاوت الطبقي ؟ أم أنه على العكس من ذلك عنف مؤسس و محايث للتاريخ الإنساني؟
1-العنف المؤسس و المدشن للتاريخ: طوماس هوبز، فرويد
ماذا نقصد بكون العنف مؤسسا و مدشنا للتاريخ؟ نقصد بذلك أن ما هو إنساني، ما يميز الإنسان عن الحيوان من قبيل المؤسسات والأخلاق والتقديس… لا يظهر إلا عقب العنف وبفضله.
أسوة بباقي منظري العقد الاجتماعي، يتصور هوبز أن الإنسانية مرت بحالة الطبيعة قبل ولوجها حالة الاجتماع. ولما كان العدوان والحذر والتنافس غالبا على طبيعة الإنسان لدرجة تجعل منه ذئبا لأخيه الإنسان، فإن حالة الطبيعة المذكورة، وفي غياب سلطة عليا، تتحول إلى حالة حرب الكل ضد الكل، أي حالة من العنف المعمم الذي يحيل حياة الإنسان إلى حياة حيوانية بئيسة لا ينعم فيه أحد بالأمن والأمان مهما بلغت قوته، وحتى في الحالة التي يهدأ في الاقتتال ظاهريا فإنه يظل مخيما على شكل إرادة صراع واضحة ومؤكدة، مثل سحابة كثيفة مخيمة تنذر بالعاصفة والمطر.
في مثل هذه الأحوال ولد الاجتماع و الدولة كخيار قسري للخروج من حالة العنف المعمم، فيكون العنف بذلك مؤسسا للتاريخ إذا افترضنا أن هذا الأخير لا يبدأ إلا مع الاجتماع و المؤسسات والدولة.
إن العنف لا يدشن التاريخ السياسي فحسب كما رأينا مع هوبز، بل التاريخ الأخلاقي والديني أيضا: يخبرنا فرويد في كتابيه: “الطوطم والطابو” و ” موسى والتوحيد” بأن قتل الأب هي الواقعة التي تؤرخ لبداية المؤسسات وحظر المحارم وقواعد التحريم بصفة عامة: لقد كان هذا الأب ذكرا قويا، أبا للعشيرة مستحوذا على نسائها، مقصيا باقي الذكور من أبنائه، الذين لم يجدوا أمامهم من حل سوى الاتحاد لقتله و “أكله”. ولكن مشاعر الذنب التي أعقبت قتله ومشاعر الخوف من عودته وانتقامه، دفعتهم إلى تحويله إلى طوطم أي تمثال أو رمز للعبادة، كما حرموا على أنفسهم القتل و التشبه بالأب في الاستحواذ الجنسي على الأم وبناتها أي حظر المحارم… وهي على الجملة عماد الحياة الأخلاقية والدينية.
هكذا يبتبدى العنف كحدث مؤسس للتاريخ، كظاهرة قبل-تاريخية، تسبق التاريخ وتفتتحه، ولكن ألا يمكن للسيرورة التاريخية نفسها أن تفرز العنف أثناء نموها ؟
2- العنف كظاهرة عابرة في التاريخ: الماركسية
خلافا لهوبز و فرويد، فالعنف لم يظهر حسب ماركس إلا كنتيجة للانقسام الطبقي الذي أعقب المشاعة البدائية، وبعبارة أخرى فالصراع الطبقي هو المولد لظاهرة العنف في التاريخ. يقول ماركس: ” لم يكن تاريخ أي مجتمع لحد الآن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات، لقد كان المضطهدون والمضطهدون في حالة تعارض ومواجهة وأقاموا بينهم حروبا لا تتوقف تنتهي بتغيير المجتمع برمته أو هلاك الطبقتين المتصارعتين معا”
وفي مسرح الصراع هذا، تغير المتصارعان المتواجهان و لكن الصراع ظل قائما: نجد في المجتمع الروماني القديم طبقتين متمايزتين: هما السادة والفرسان من جهة والأقنان والعبيد من جهة أخرى. كما نجد في القرون الوسطى السادة والشرفاء من جهة، والأقنان والحرفيون العاديون من جهة أخرى؛ وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث، نجد البورجوازية (الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج) في مقابل البروليتاريا. ولن يتسنى إلغاء هذا الصراع العنيف إلا بإلغاء أسبابه ودواعيه وهي الطبقية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، عندها سيحل استغلال الإنسان للطبيعة محل استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. ولكن ألن تصبح هذه الأخيرة موضوعا و ضحية للعنف بدورها !؟
بين ماركس إذن أن العنف مجرد ظاهرة تاريخية ناتجة عن الصراع الطبقي الذي هو المحرك الأول لعجلة التاريخ، والمسؤول عن الصيرورة التاريخية والعامل الحاسم في الانتقال من نمط إنتاجي لآخر لدرجة أن انجلز يشبه الصراع بالمرأة القابلة التي تستطيع توليد مجتمع ولو كان هرما La violence est l’ accoucheuse de toute vielle societé! وهذا ما دفع بالماركسيين إلى شرعنة ما يسمى بــ “العنف الثوري” أي تلك الأشكال من العنف التي تستهدف تقويض النظام وبث الفوضى في أوصاله وتخريب بنيته التحتية و منشئاته للتعجيل بزواله عندما تعجز الآليات الديمقراطية عن تحقيق الانتقال المنشود.
المحور الثالث: العنف والمشروعية
ترتد إشكالية العنف والمشروعية في نهاية التحليل إلى إشكالية الدولة بين الحق والعنف التي سبق أن عالجناها في المحور الثالث من درس الدولة، وذلك لأن مشروعية العنف أو عدم مشروعيته تتحدد دائما بالقياس إلى قوانين أو مؤسسات قائمة أو مبادئ أخلاقية،
ثم أي عنف هذا الذي نبحث في مشروعيته؟ هل هو عنف الأفراد ضد بعضهم البعض؟ كلا. فهذا العنف يفقد مبرره ومشروعيته منذ اللحظة التي يظهر فيها المجتمع. وحيث أن الدولة هي الطرف الوحيد التي بات يحتكر اليوم إستعمال العنف، فإن العنف الذي نتحدث عن مشروعيته إما أن يكون عنفا صادرا عن الدولة وأجهزتها تجاه مواطنيها أو بين الدول ضد بعضها البعض، ولايمكن أن يكون عنفا صادرا من الفرد اللهم إلا إذا كان موجها ضد الدولة نفسها، ينازعها السيادة أو السلطان. وبناءا عليه يمكن الرجوع إلى محور الدولة بين الحق والعنف من أجل تبين هذه العلاقة الملتبسة القائمة بين العنف والمشروعية
ملحق: اللاعنف عند غاندي كرفض مطلق للعنف:
اكتفت المواقف التي أتينا على ذكرها بالبحث في أشكال العنف أو دوره في التاريخ، في حين أن غاندي يرفضه جملة وتفصيلا وبشكل مطلق وراديكالي مهما كان شكله أو غايته!
يعرف غاندي اللاعنف كموقف كوني تجاه الحياة، إنه “الغياب التام لنية الإساءة تجاه كل ما يحيا” بمعنى أن اللاعنف مثله مثل العنف لا يقع على مستوى الفعل فقط بل والنية أيضا. ولكن كيف نتعامل مع العنيفين والمستبدين و الظلمة؟ يجيب غاندي: عن طريقة المقاومة الأخلاقية والذهنية، أي رفض العنف والامتناع عن ممارسته بالفعل أو بالنية مهما كانت الغايات والأهداف. فمواجهتي لسيف المستبد كما يرى غاندي لا تكون باستلال سيف أكثر مضاءا وحدة يفله، بل بأن أخيب أمله في أن يراني أواجهه بمقاومة مادية، فهو سيراني بدلا من ذلك أواجهه بمقاومة روحية تفلت من تقديره وتحكمه.
يذكرنا موقف غاندي بموقف المسيح عليه السلام الذي ينصح الإنسان بأن يدير خده الأيمن لمن يلطمه على خده الأيسر !، ولكن ما هي فعالية مثل هذا الموقف في عالم يبتكر يوما بعد يوم أسئلة أكثر فتكا وأشد تنكيلا !؟