أرشيف التصنيف: ديداكتيك الفلسفة

المجرم الذي أصبح تقيا

المجرم الذي أصبح تقيا: أو كيف نطرح إشكاليات درس الشخص إنطلاقا من وضعية مشكلة حياتية

 

   
وضعية مشكلة: لو أن أحدهم كان سكيرا، قاطع طريق، فظا غليظ القلب، ثم تاب- بقدرة قادر – فأصبح من أتقى الأتقياء، يفيض قلبه رحمة ويداه عطاءا وعيناه دمعا !! فهل نحن أمام نفس الشخص أم لا ؟ وماذا تعني عبارة "نفس الشخص"؟
لنتخيل وضعية أخرى: شخصا يهيم حبا بشخص آخر،لاتبارح صورته مخيلته ليل نهار، يسعد بقربه ويشقى بالبعد عنه، ثم حدث أن خبا هذا الحب لسبب أو لآخر، أو تعلق الهوى بمحبوب جديد وكأن شيئا لم يكن ! هل نحن هنا أمام نفس الشخص قبل الإنقلاب العاطفي وبعده؟
ألم تقل أم كلثوم في أغنية " ثورة الشك":
أكاد أشك في نفسي لأني أشك فيك وأنت مني!
ومرة أخرى: ماذا تعني عبارة "نفس الشخص"؟
  المجرم الذي أصبح تقيا!
اانتبه ملاحظات ديداكتيكية أولية:1- موجز الحصة:
يقتصر نص الوضعية-المشكلة البدئية التي سيعرضها المدرس على تلامذته على مايلي:
لو أن أحدهم كان سكيرا، قاطع طريق، فظا غليظ القلب، ثم تاب- بقدرة قادر – فأصبح من أتقى الأتقياء، يفيض قلبه رحمة ويداه عطاءا وعيناه دمعا !!
وبعد عرض الوضعية وشرحها جيدا بأسلوب يبتغي التشويق والإثارة، أتقدم بأول سؤال:
هل نحن أمام نفس الشخص أم لا ؟

 

 

 

 

1- عوامل فشل الوضعية المشكلة: الحل المتسرع للمشكل
حيث أن الهدف من الوضعية المشكلة هو "وضع" التلميذ في "مشكلة"، فما أشبهها هنا بقنبلة ينتظر ان تحدث زوبعة ذهنية تخرج المتعلمين من لامبالاتهم وطمأنينتهم وإحساسهم بوضوح العالم و خلوه من أي جديد أو ألغاز محيرة!! باستثناء جديد التكنلوجيا وألغازها طبعا: جوال، MP4 ، دراجات نارية… والتي تبهرهم وتدهشهم وتخرجهم بالفعل من لامبالاتهم!
ولم يكن اختيار مجاز القنبلة عبثا! فانفجار القنبلة حدث يثير الاهتمام لدرجة الفزع، كما أنه يرغم المرء على "التصرف" و فعل شيء ما! وبالمثل يتعين على الوضعية-المشكلة أن تكون مثيرة فعلا للاهتمام والانتباه أولا ومحفزة على التفكير ثانيا،
ينتج عن ذلك أن المدرس مطالب -قبل بدء الحصة- بانتقاء وضعية مشكلة مثيرة للاهتمام حقا، تنطلق من معيش التلميذ وتمسه بشكل مباشر وتخاطب انشغالاته التي حتى لو حكمنا عليها بالتفاهة وأصررنا على انتشاله من شرنقتها، فلابد من مخاطبتها أولا لأنها مدخلنا الضروري إلى وجدان المتعلم المتعلم ومن ثم عقله، بحيث لا نترك له فرصة لعدم المبالاة، وهنا يتعين التمييز بين "الانشغالات العالِمة" و"انشغلات المعيش" وهكذا فالسؤال: هل توجد علاقة ثابتة بين كتلة الجسم وحجمه (الكتلة الحجمية)؟ هو انشغال عالم، انشغال ارخميدس فقط، في حين أن السؤال: كيف نعرف أن تاج الملك مصنوع من ذهب خالص هو "إنشغال معيش" أي انشغالل الملك صاحب التاج. لكن هذا لا ينفي أن هذا يقود إلى ذاك؛
هذا عن دور المدرس وهو يعد الحصة وينتقي الوضعية، أما عن دوره أثناء الحصة، فيتمثل بالدرجة الأولى في الحفاظ على على أعلى درجات التوتر أثناء مسار الوضعية المشكلة
لذا أرجو ان يتجنب المدرس ما أمكن -في ما يخص الوضعية الحالية-أن تصل جماعة القسم إلى خلاصات من قبيل: "هناك تقدم في التاريخ" أو "إنها قرصنة أو جهاد بحري" أو "الرجال/الأبطال يصنعون الظروف او الظروف تصنع الرجال/الأبطال"… وإلا سنكون قد أبطلنا مفعول القنبلة بأيدينا ونقضنا غزلنا !!
إذا كان الأمر كذلك، فقد تحولت الوضعية المشكلة إلى وضعية مريحة، او تحولت إلى لحظة من لحظات البناء الإشكالي حيث يتم تقديم موقف فلسفي من خلال نص كإجابة ممكنة على السؤال المفترض (طبعا، قبل مناقشته ومساءلته لاحقا للانفتاح على غيره)
3- عوامل نجاح الوضعية المشكلة: أ-تأزيم كل جواب ممكن
ينتج عن ذلك أنه ولكي تكون الوضعية المشكلة وضعية-مشكلة بالفعل، على المدرس أن يحاول بكل الوسائل الممكنة البرهنة على استحالة الجواب أو تأجيله على الأقل ! ألم يقل برغسون: إن الفلسفة هي فن طرح السؤال وتأجيل الجواب باستمرار، ولا يفعل المدرس في هذه الحالة غير لعب دور سقراط: إثبات التناقضات أو الإحراجات الممكنة التي تنجم عن قبولنا بجواب المحاور !!
ينبغي أن نمنع بكل وسيلة ممكنة اللقاء الذي يحاول التلاميذ جاهدين إقامته بين السؤال وجواب ما، للتخلص من حالة التوتر التي احدتثها الوضعية المشكلة، للعودة على حالة التوازن والطمأنينة الأولى

لأجل ذلك، على المدرس أن يكون مستعدا لتأزيم أي جواب قد يقترحه التلميذ !؟ وهذا يتطلب يقظة ذهنية وحضور بديهة تستنزف الطاقة الفكرية للمدرس والتلاميذ على السواء
ففي الحالة التي نحن بصددها الآن: هل نحن أمام نفس الشخص؟ ينتظر أن يقول التلاميذ: نعم ! نفس الشخص.
على المدرس ان يشكك في هذا الجواب ويؤزمه ويكشف عن المفارقات التي تترب عنه، وبينين أن هناك دلائل كثيرة تدعو إلى الاعتقاد أننا لسنا في الواقع أمام نفس الشخص !! :quoi:
وبالمثل لو افترضنا أن "الله ضْربهم" :quoi: وقالوا: "لسنا أمام نفس الشخص !"
هنا لاينبغي أن يّسقط في يد المدرس، بل عليه أن يدعم الرأي القائل: "إننا لانزال أمام نفس الشخص" … :icon_biggrin:

ب-وضوح الإشكال في ذهن المدرس
بيد أن تأدية الوضعية المشكلة لوظيفتها البيداغوجية والمتمثلة في انبثاق السؤال بشكل تلقائي وطبيعي وغير مصطنع يتوقف على مدى وضوح الإشكالات أصلا في ذهن المدرس، أقصد الإشكالات التي يفترض أن تمضي نحوها الوضعية-المشكلة، لأننا نخوض غمار حصة الوضعية المشكلة ونحن على علم مسبق بما نود طرحه والتساؤل عنه دون أن ينفي ذلك إمكانية توصل الجماعة المفكرة/جماعة القسم إلى استنتاجات وأسئلة لم تكن متوقعة، ويمكن استدماجها في الصياغة النهائية للإشكال حسب درجة ملاءمتها!
وقد يعترص علي بالقول: بأن هذه لعبة مصطنعة مادمت تعرف مسبقا إلى أين تود قيادة تلامذتك !!
وأجيب نعم، ولا إمكانية لخلاف ذلك !! لايمكن للمرء أن يحسن "قيادة العقل" مالم يعرف إلام يقود عقله! وليس ذلك بقادح في وظيفة الوضعية المشكلة، خصوصا وأن الإشكال المصاغ في النهاية لايتجسد بالضرورة في نفس العبارات والأسئلة والتراكيب في كل الأقسام التي نقوم بتدريسها، بل يتلون بشيء من المسار الخاص الذي عرفه النقاش مع كل قسم على حدة. و.. من الممكن أن تكتسب أسئلتنا التي نحمل في أذهاننا مسبقا خصوبة إشكالية غير متوقعة من قسم لآخر او من سنة لأخرى، لكن لا أحد يستطيع الادعاء بالخروج عن الإطار الإشكالي العام الذي يرسمه المنهاج أو المؤسسة.
أما الإشكال الذيأضعه نصب عيني فهو:
هل هناك جوهر يظل ثابتا رغم تغيرات الجسم وأحوال النفس وانفعالاتها؟ هل أنا اليوم هو نفسه الذي كان قبل عشرين سنة؟ هل أنا الآن "شيء" واحد أم متعدد بحكم تعددية مايجيش بداخلي المتعددات والمتناقضات؟
إذا كان الجواب بــ "نعم" فما هذا "الواحد فيّ"؟ وماهذا الذي يظل تابثا رغم التغيرات؟ أي أين تكمن هوية الشخص؟ وإذا كان الجواب بــ "لا"، فما هي هذه الهويات أو الكيانات التي تسكنني التي ما فتئت أتوهمها كيانا واحدا !؟

5- ملاحظة أخيرة حول وصفي لما شهدته حجرة الدرس
لاشك أن حصة الوضعية-المشكلة هي حصة نشاط سيكو/سوسيو-معرفي؛ وعليه، فطبيعة التفاعلات التي تستثيرها الوضعية والمفعولات الناجحة أو الفاشلةالتي قد تحدثها لاتنفصل بدورها عن المناخ السيكو/سوسيو-معرفي الذي يكون القسم مسرحا له..وعلى ذكر المسرح، فإنجاز هذه الحصة التي أقدم لكم أدناه وقائعها يحتاج مني دوما إلى إعادة ابتكارها من جديد مع كل قسم وفي كل سنة، إنها أشبه بنص مسرحي ينبغي إخراجه دوما بديكوره وإكسوسواراته وسيناريوه و … بالكثير من الارتجال
,غني عن البيان أنني حاولت بقدر ما تسمح به مواهبي القصصية المتواضعةأن يكون أمينا ما أمكن للمجريات "النموذجية" للحصة، أقول "النموذجية" لأن الحصة أنجزت مع ثلاثة أقسام (ومع عدد أكبر طبعا طيلة السنوات الماضية) بأشكال مختلفة نسبيا وبدرجات نجاح وإمتاع متفاوتة
كما أنوه إلى أن هذه الحصة هي أول ما أبدأ به الدرس قبل أي شيء آخر أي قبل أي حديث لا عن الشخص ولا عن الدرس او إشكالاته
وأخيرا فما أنقله لكم أدناه لايعكس تنوع مداخلات التلاميذ ومداخلاتي ، لأنني لا أذكر كل ماقالوه وكل ما قلته

وقائع الحصة:

-المدرس: أرجو الانتباه! وأن تصغوا إلى حكاية غريبة أود أن أقصها عليكم (صمت قصير ، ثم..)
لنفترض أن أحدهم كان سكيرا، قاطع طريق، فظا غليظ القلب، ثم تاب- بقدرة قادر – فأصبح من أتقى الأتقياء، يفيض قلبه رحمة ويداه عطاءا وعيناه دمعا !!
(طبعا مع تفاصيل أخرى حول حياته الإجرامية السابقة.. وحياته الجديدة.. :icon_biggrin: من أجل خلق الإثارة والانتباه.. )
هل نحن أمام نفس الشخص أم إزاء شخص مختلف كليا عن صديقنا السكير الأول !؟
– التلاميذ (مباشرة على شكل رد فعل): طبعا نحن أمام نفس الشخص !
-المدرس: مالذي يجعلكم تعتقدون ذلك !؟ مالذي بقي في هذا المؤمن التقي من ذلك المجرم الحقير !؟
– التلاميذ ( إجابات كثيرة محتملة.. من بينهما): لأنه هو نفسه !
لأنه نفس الهيئة أو الجسد،
-المدرس: كيف "هو نفسه" !؟ ثم هل مايجعل الشخص هو نفسه هو بقاء جسده !؟ (هنا أكون قد صرحت بأول سؤال له علاقة بإشكالنا، ولكن دون أن أثير انتباههم إليه كثيرا) ولكن ماذا لو خضع لعملية تجميل؟ ما وجه الشبه بينك انت الآن وبين الطفل الصغير ذي السنتين؟ هل تستطيع خالتك التي لم ترك منذ أن كان عمرك سنتين أن تتعرف عليك اليوم؟
– التلاميذ: بالتأكيد ، لا
-المدرس: فلم قلتم إن المؤمن التائب مؤخرا هو نفسه المجرم السابق؟ مالذي بقي من مجرم الأمس في مؤمن اليوم؟ وقبل ذلك دعونا نعقد الأمور أكثر. سيقال لخالتك: هذا هو ابن أختك، فتستغرب لكنها في النهاية ستقبل، ماذا يعني ذلك؟
– التلاميذ:( لايبدو عليهم انهم فهموا السؤال !؟ :icon_confused: والخطأ خطئي طبعا)
-المدرس: على ماذا اعتمدَت في تقرير أنك أنت هو الذي كان؟ على أي أساس قررت أنك أنت اليوم هو الذي رأتك وانت رضيع؟
– التلاميذ: على كلام أمي وأبي
-المدرس: حسنا، إذن الآن عندما نسأل عن المؤمن التائب او المجرم السابق، بالمناسبة ، لا أعرف ماذا سنسميه؟ أهو المجرم السابق أم المؤمن التائب
– التلاميذ (بعضهم) :المؤمن التائب، (والبعض الآخر): المجرم السابق
(هنا دخلنا في دوامة أخرى، لايهمني طبعا الجواب، في غمرة النقاش، "قذفتهم" بالسؤال التالي:)
-المدرس: أم أنه "المجرم" وكفى بالنسبة لرجال الشرطة الباحثين عنه، أم انه "المؤمن" وكفى بالنسبة لأهل المدينة الذين حل بين ظهرانيهم مؤخرا والذين لايعرفون عنه غير استقامته ونبله
– التلاميذ: زادت الحيرة أكثر، وتوزعوا الآن بين أربعة مواقف :quoi:
-المدرس: إذن لكي أحدد ما إذا كنت "أنا هو أنا" ؟ لايتعلق الأمر بي أنا فقط، بل هناك عدة مرجعيات
– التلاميذ: أنا، الآخرين،
-المدرس: وهناك وثائق إثبات الهوية أيضا!! حسنا لهذا السبب تذكروا أننا سنصل إلى درس عنوانه "الغير"، والآن أجيبوني بالله عليكم: هل نحن امام نفس الشخص ام لا؟
– التلاميذ:( يظهر عليم انهم أصبحوا أكثر حذرا بعضهم قد يطلب رأيك، وسواء طلبوه أو لم يطلبوه، فإنني أبادر إلى قول مايلي:)
-المدرس: حسنا يا إخوان (وفعلا أنديهم دائما بــ "يا إخوان") ! يظهر لي أنه لايزال نفس الشخص (تتهلل أسارير التلاميذ) إنما .. آه !! إنما المشكلة عندي هو ماهذا الذي لايزال فيه هو هو !؟ إذا سمينا هذه ال" هو هو" هويته، فأين تختبئ هويته يا ترى !؟ :icon_scratch: لأنه لايمكن أن نستأمن جسده على هويته !؟
– التلاميذ: (أحيانا): روحه (وأحيانا أخرى، بسبب وجود مكررين للسنة) ذاكرته
(وحتى لو لم يتحدث أحدهم عن ذاكرتهم، فإنني أدفعهم الى التفكير في معطى الذاكرة الذي لاشك أنه ليس غريبا عنهم، لكنه قد لايخطر ببالهم)
-المدرس: حسنا وروحه هذه أين توجد؟ في أظافره؟ في السيالة العصبية واإشارات الكهرمغناطيسية التي تجري في الدماغ كما رأينا في السنة الأولى العام الماضي !؟
(نقاش، بحث، ..)
(يحدث أن بعض التلاميذ يتحدثون عن ثبات "شخصيته"، وهذه هي الفرصة المواتية للوقوف مع التلاميذ على مفهوم الشخص وتمييزه عن مفهوم الشخصية، لأنني لا أكره شيئا قدر كرهي لطريقة : درسنا اليوم هو الشخص فما معنى شخص؟ أيي طريقة درسنا اليوم X فماذا تعني X ، لأن البحث عن دلالة كلمة ليس غاية في حدذاته، ثم لماذا سيقبل التلاميذ معك على تعريف الكلمة!!؟ الأفضل ان يتم تعريفها عندما تظهر الحاجة إلى تعريفها)
أما بالنسبة لذاكرته أتفق معكم، ولكن ماذا لو فقد ذاكرته؟ ألن يظل هو نفسه بالنسبة لأمه !؟
أحد التلاميذ (ذات سنة): بمعنى إذا فقد هذا المجرم ذاكرته فلن يعود نفس الشخص، إذن الهوية تكمن في الذاكرة،
-المدرس: رأي صائب على مايبدو، بمعنى لو افترضنا أنهما مجرمان وليس واحدا، اشتركا في اقتراف نفس الجرائم لنفترض ان أحدهما فقد ذاكرته والآخر لايزال يتذكر، كيف سيتعامل القانون معهما!؟
– التلميذ السابق نفسه: سيخلي سبيل فاقد الذاكرة!! ولكن في هذه الحالة سنعاقب الآخر ليس لأنه فعل بل لأنه لايزال يتذكر !!!!!
-المدرس: اصبت وهذه معضلة أخرى من معضلات العدالة البشرية، ولكن دعنا من العدالة والمحاكم وقل لي: هل نحن امام نفس الشخص؟ ثم هذا السؤال هل يمكن صياغته بعبارة أعم؟ ألا ترون أنني سألتكم في البداية هل نحن أمام نفس الشخص، ثم مالبثت أن سألتكم…
– التلاميذ: مالذي بقي فيه ثابتا؟
-المدرس: إذن هل يمكن إعادة صياغة هذا السؤال بعبارة أعم؟
(المهم استكشاف قدرتهم على صياغة سؤال من قبيل: مالذي يجعل من شخص ما هو هو ؟ أو أين تكمن هويته)
-المدرس: دعونا نعقد الأمور أكثر
– التلاميذ: أوليست معقدة بما فيه الكفاية؟
-المدرس: على كل حال استمعوا: لنفترض أن سفينة لنقل الركاب، تعمل في البحر منذ أربعين عاما.. وطيلة هذه المدة، كلما اهترأت قطعة خشب، استبدلناها بقطعة جديدة، وهكذا … وهكذا دواليك على امتداد الشهور والفصول والأعوام… إلى أن جاء يوم استبدلنا فيه آخر قطعة مهترئة من الجيل القديم
السؤال الآن: بعد عملية الاستبدال الأخيرة، ألا نزال أمام نفس السفينة، هل يمكن لمسافر أن يقول: آه هذه السفينة التي ركبتها قبل 10 أو 20 أو 30 سنة !!؟
– التلاميذ (ولكن هذه المرة بتررد وبنبرة غير واثقة): نعم إنها نفس السفينة، نفس الشكل
-المدرس: ونفس القطعة المعدنية التي تحمل إسم السفينة
تلميذ: ونفس المحرك
-المدرس: لماذا قلت نفس المحرك
– التلميذ: لأنه روح السفينة مايحركها
-المدرس: جيد! ولكن انتبه، أعتقد أن المحرك بدوره قد حصل له ما حصل لقطعالخشب فقد استبدلت أجزائه ربما،
ثم لو أننا نزعنا هذا المحرك العتيد، و"زرعناه" في جوف سفينة أخرى، فهل ستصبح السفينة الأولى هي الثانية !؟
– التلاميذ: لا
-المدرس: إليكم الآن أخير التوابل لتعقيد الأمر:
– التلاميذ: (ينتظرون)
-المدرس: لو أننا كنا، كلما استبدلنا قطعة مهترئة، وعوض أن نرميها نقوم بحفظها في مخزن Depot ، سنحصل في الأخير على ركام هو مجموع خشب السفينة من الجيل الأول
في هذه الحالة، أين هي السفينة، هل هي الراسية الآن في الميناء ام ذلك الحطام الذي يمكن لمهندس متاحف ان يركبه ويقيم به أود السفينة مثلما فعلوا مع سفن الصين القديمة أو سفينة الفرعون !؟
– التلاميذ: (تفرقوا شيعا ! البعض يعتقد ان) السفينة التي ركبناها هي الراسية (وهناك من يعتقد انها) هي مجموع الحطام !!!
-المدرس: (وبعد هدوء الزوبعة): دعونا من السفن والخشب، ولنعد إلى مجرمنا السابق أو مؤمننا التائب أو لست أدري.. أجيبوني: هل هو الآن "مؤمن" أم "مؤمن-مجرم" أم "مجرم" ؟ ألم تبق في نفسه ذرة من المجرم!؟ هل هو الآن واحد ام متعدد !!؟
– التلاميذ أو بالأحرى بعض التلاميذ: كما رأينا في السنة الماضية عند فرويد، نحن مسكونون نبثلاثة، حتى وإن كنا نبدو واحد
-المدرس: اصبت
إلخ…
إلخ..
-المدرس: والآن دعونا نستجمع أفكارنا: ماهي الأسئلة التي أجهدنا البحث عن جواب لها لحد الآن
– التلاميذ: هل نحن امام نفس الشخص؟
-المدرس: صحيح، ولكن لاتسوا باقي الأسئلة
إن لم يتذكروا، وهذا مستبعد، ما على المدرس سوى تذكيرهم ببعض المحطات المحددة في النقاش السابق، ليمكنوا من تذكر الأسئلة التي كنا بصدد معالجتها (ألم يقل أفلاطون: المعرفة تذكر والجهل نسيان :icon_wink: !!؟)
في النهاية نتفق على ان الأسئلة التي كانت تشغلنا هي:
هل هناك شيء ما يظل تابثا في الشخص ؟ وإذا كان لكل شيء ماهية وهوية تخصه بها يتميز عن غيره ففيم تتحدد هوية الكائن البشري/الشخص؟ مالذي يمنح الشخص هويته التي يستشعرها على امتداد الزمان وتغيرات أحوال النفس والجسد؟ هل تكمن الهوية في الجسد أم الذاكرة ام ماذا؟ وهل تحيل هذه الهوية على كيان واحد أم كيانات متعددة لايجمع بينها سوى وهم الوحدة؟

أخيرا أرجو أن يقرأ الحوار أعلاه على أنه مجرد نص، لايكتسب الحياة إلى من فعل الأداء، أنا نفسي عندما أقرأه الآن، أدرك ان هذا الحوار يخون تلك الحيوية التي كانت حجرة الدرس مسرحا لها.

ولكن حسبي أو أكون وفقت في نقل ولو جزء بسيط لما كانت حجرة درسي مسرحا له، ولاشك أنني لم أنقلها كما هي حرفيا وأنى لي ذلك اللهم إلا إذا تحولت إلى جهاز كاميرا أو مسجل صوتي :icon_biggrin:
يبدو سردي كما لو أن الحصة كانت تمضي في طريق معبدة بل قل في طريق سيار !! للأسف الشديد لم أستطع إعادة سرد قصص المآزق والطرق المسدودة التي كنا نرتادها من حين لآخر، ولحظات الصمت والفوضى عوض الزوبعة الذهنية، ولكن على العموم يمكن القول أن الإطار النموذجي للحصة هو ما حكيتهم لكم، لأنني لم أخترعه الآن من خيالي :icon_wink:
كل ما أتمناه أن يشكل هذا البوح قدوة حسنة لكي يتجرأ زملائي المدرسون للقيام بالمثل !! أو على الأقل لنقد التجربة أي قراءتها

Facebooktwitterredditmailby feather

أيها الرجل الذي لا يدرك مني سوى جسدي

شكالية الغير في أغنية ماجدة الرومي “كن صديقي”

أو قصة الصداقة المستحيلة بين الرجل والمرأة !!

 اانتبه ماذا ؟!! شريط غنائي في حصة الفلسفة؟

ذللك بلا شك هو السؤال المكتوم الذي يتبادر إلى ذهن التلاميذ كل سنة وأنا أخبرهم بتخصيص الحصة المقبلة للإستماع إلى شريط غنائي.ولاشك أن هذا السؤال ينطلق بدافع الفكرة الشائعة عن جدية التفكير الفلسفي من حيث جدية بل”تجهم ” المفهوم وصرامة الحجاج: فحصة الفلسفة فضاء للفهم والتذكر والإستدلال والحجاج، وليس للتذوق الجمالي، فمابالك بالإستمتاع والطرب، مادة تخاطب العقل والمنطق لا الوجدان أو الحساسية!!ء.ء
. والتلاميذ إزاء هذا الإقتراح فئتان: فئة متحمسةاعتقادا منها أنها فرصة ناذرة ل “النشاط” والخروج من روتينية الحصص؛ وفئة ثانية متشككة تكاد تكتم ريبها وشكها في العلاقة الممكنة أو الإستفاذة المحتملة من الغناء والطرب في الفلسفة !
 شفيق اكَريكَر

!

ملاحظات ديداكتيكية أولية:

للحصة هدف رئيسي وهدفان جانبيان: فأما الهدف الأساسي فيتمثل في دفع التلميذ إلى التفكير إشكاليا في علاقة الذات بالغير: ضرورتها، رهاناتها، دلالاتها وصعوباتها ، الأمال المعقودة عليها وخيبات الأمل الناجمة عنها؛ وكل ذلك إنطلاقا من وضعية مشكلة حقيقية تستوقفه وتسائله بشكل حميمي وشخصي….
أما الهدفان الجانبيان فأولهما: التربية الجمالية، ونقصد بها تربية الذوق الفني والتدرب على الإصغاء ومحاولة التقاط عناصر الجمال في العمل الغنائي ( كلمات، لحنا وأداءا… )؛ وثانيهما تربية وجدانية، تتمثل في مساعدة التلميذ/ المراهق على التفكير   في تجربته الشخصية وفي طبيعة علاقاته وإندفاعاته وانجذابه نحو الجنس الآخر على الخصوص ونحو الغير بصفة عامة.
ملاحظة أخيرة تتمثل في اننا وإن كنا على المستوى المعرفي نستعمل هذا الحامل السمعي البصري لإثارة بعض إشكاليات الغير، إلا أننا نلتقي عرضا بإشكالات تنتمي إلى دروس أو موضوعات أخرى،

القصيدة كما تغنيها ماجدة الرومي

كم جميل لو بقينا أصدقاء
ان كل امرأة تحتاج الى كف صديق
كن صديقي…
هواياتي صغيرة و اهتماماتي صغيرة
وطموحي ان أمشي ساعات معك
تحت المطر…
عندما يسكنني الحزن و يبكيني الوتر.
كن صديقي…
أنا محتاجة جدا لميناء سلام
و أنا متعبة…
من كل قصص العشق و أخبار الغرام
فتكلم…
لماذا تنسى حين تلقاني نصف الكلام
ولماذا تهتم بشكلي و لا تدرك عقلي
كن صديقي…
ليس في الأمر انتقاص للرجولة
غير ان الشرقي لا يرضى بدور
غير أدوار البطولة

القصيدة كما كتبتها سعاد الصباح:

كن صديقي
كم جميلاً لو بقينا أصدقاء
إن كل امرأة تحتاج أحيانا إلى
صديق
و كلام طيب تسمعه
و إلى خيمة دفء صنعت من كلمات
لا إلى عاصفة من قبلات
فلماذا يا صديقي ؟
لست تهتم بأشيائي الصغيرة
و لماذا .. لست تهتم بما يرضي النساء ؟
كن صديقي
إني احتاج أحيانا لأن أمشي على
العشب معك
و أنا أحتاج أحيانا لأن أقرأ ديواناً من شعر معك
و أنا كامرأة يسعدني أن أسمعك
فلماذا أيها الشرقي تهتم بشكلي؟
و لماذا تبصر الكحل بعيني
و لا تبصر عقلي؟
إني أحتاج كالأرض إلى ماء الحوار
فلماذا لا ترى في معصمي إلا السوار ؟
و لماذا فيك شيء من بقايا شهريار
كن صديقي
ليس في الأمر انتقاص للرجولة
غير أن الرجل الشرقي لا يرضى بدور
غير أدوار البطولة!
فلماذا تخلط الأشياء و ما أنت
العشيق؟
إن كل أمراة في الأرض تحتاج إلى
صوت ذكي.. وعميق
و إلى النوم على صدر بيانو أو كتاب
فلماذا تهمل البعد الثقافي
و تعنى بتفاصيل الثياب؟
كن صديقي
انا لا أطلب أن تعشقني العشق الكبير
(لا أطلب أن تبتاع لي يختاً و تهديني قصورا وتمطرني عطراً فرنسياً)*
و تعطيني مفاتيح القمر
هذه الأشياء لا تسعدني
فاهتماماتي صغيرة .. و هواياتي صغيرة
و طموحاتي هو أن أمشي ساعات و ساعات معك
تحت موسيقى المطر
و طموحي هو أن أسمع في الهاتف صوتك
عندما يسكنني الحزن ويضنيني الضجر.
كن صديقي
فأنا محتاجة جدا لميناء سلام
و أنا متعبة من قصص العشق
و الغرام
و أنا متعبة من ذلك العصر الذي
يعتبر المرأة تمثال رخام
فتكلم حين تلقاني
لماذا الرجل الشرقي ينسى
حين يلقى امرأة نصف الكلام؟
و لماذا لا يرى فيها سوى قطعة حلوى
و زغاليل حمام
و لماذا يقطف التفاح من أشجارها
ثم ينام؟!

الإستماع إلى الأغنية:

 استمـــــــــع:  mp3

الإشتغال والإستثمار الديداكتيكي للأغنية:

الدلالات المستخلصة والأسئلة المثارة مقاطع القصيدة/الأغنية
ملاحظات وامتدادات ممكنة
لماذا هذه الرغبة البسيطة الغريبة؟ المشي ساعات تحت المطر؟ ألا ينبئ ذلك عن رغبة أو لذة طفلية تم كبتها استجابة لمبذأ الواقع والمعايير الإجتماعية للسلوك والنظافة؟ وعليه فاستحضار الطفولة يوازيه استحضار تلك البراءة المميزة للعلاقات بين الجنسين قبل بلوغهم المرحلة التناسلية.. هواياتي صغيرة و اهتماماتي صغيرة
وطموحي ان أمشي ساعات معك
تحت المطر…
قراءة فرويدية للرغبة
جانب من العالم النفسي الداخلي للذات. هل يمكن ياترى للغير أن ” يدرك” الحزن الساكن في أعماق الذات أو  هذا البكاء الذي يحدثه الوتر؟ الوتر غير مبك في حد ذاته،  المبكي هو  تداعي المشاعر الذي يثيره… عندما يسكنني الحزن و يبكيني الوتر. مقدمات لإثارة إمكانية معرفة الغير لاحقا
إذا قرأنا   الصداقة على أنها   ميناء السلام المنشود،  فهل يجعل ذلك من أنواع العلاقات الأخرى وخصوصا العشق محيطات للحرب؟! أنا محتاجة جدا لميناء سلام
و أنا متعبة…
من كل قصص العشق و أخبار الغرام
يعرف كانط الصداقة على انها عاطفة تجمع بين المودة والإحترام، قارن ذلك مع مايميز العشق من نزوع إلى الإستئثار والتملك والإستحواد على الموضوع، نقول: ملك أو أسر قلبه…!
بناءا على السؤال اللاحق، يمكن القول أن الرجل يستحضر نصف الكلام المتعلق بجسدها، وينسى نصف الكلام المتعلق بعقلها أو لنقل علمها الداخلي بأحزانه وهواياته الصغيرة… لماذا تنسى حين تلقاني نصف الكلام هل ينسى أم يتناسى؟ قارن مع السؤال اللاحق
هنا نعثر على بؤرة القصيدة، وعلى جوهر إشكالية الغير: إدراكه للذات كجسم ، كامتداد يفرض نفسه على الحواس. و ” عجزه” عن إدراك العالم الداخلي للغير الممتنع الإدراك نظرا لطبيعته الداخلية الحميمية نفسها. ولماذا تهتم بشكلي و لا تدرك عقلي بالعودة إلى درس الشخصية، لابد ان نتساءل: هل الرجل لايريد أم أنه لايستطيع، هل يتعلق الأمر بإصرار مسبق على ” تشييئ ” المرأة أم بوقوعه ضحية إشراطات سيكو-فيزيولوجية ( دوافع الليبيدو والغرائز عموما )، وإشراطات سوسيو-ثقافية ( التنشئة الإجتماعية، القيم الذكورية ومفهوم الرجولة والفحولة). قارن مع المقطع التالي.
نعثر هنا على  جواب الشاعرة على السؤال السابق: إن قيم المجتمع الشرقي ومفهومه للرجولة، تصور الصداقة على أنها دور ثانوي ينتتقص من الرجولة وأبعد مايكون عن البطولة التي لاتتحقق إلا من خلال دور المحبوب والمعشوق ( روميو )! كن صديقي…
ليس في الأمر انتقاص للرجولة
غير ان الشرقي لا يرضى بدور
غير أدوار البطولة
دور الشخص في بناء شخصيته، وتأثير الإشراطات والحتميات السوسيو ثقافية.

كيف تساعدنا القصيدة على طرح إشكاليتنا الخاصة، إشكالية الغير ؟

تبدأ القصيدة بطلب ورجاء وتتنتهي بما يشبه خيبة الأمل.
ولكن لماذا الحاجة إلى الصديق / الغير ؟ ألا يكفي المرأة إدراكها لذاتها كعقل ووعي؟ إما انني عاجز عن إدراك ذاتي ووعيي إلا بمساعدة الغير، فيكون الغير بمثابة وسيط بيني وبين نفسي؛  أو ان هذا الإدراك لايبلغ درجة اليقين بدون شهادة الغير و ” تواطئه” واعترافه ؟
إذا كانت هذه المرأة على علم ومعرفة بتعبها و أحزانها وإهتماماتها الصغيرة، لأن الذات العارفة تتطابق مع موضوع المعرفة في فعل الحدس او الإدراك الباطني المباشر، فكيف للغير / الرجل أن ينفذ إلى كل هذه التفاصيل الحميمية؟ ألا يتوجب علينا المرور أولا عبر جسم الغير وملامحه الخارجية؟  هل من سبيل غير هذه  العلامات الخارجية الصادرة عن الغير نفسه؟ وفي حالة غياب هذه المعرفة لسبب أو لآخر، ألا تتحول المرأة في هذه الحالة إلى مجرد شئء في أعين الرجل؟
ماتأثير ذلك على وعينا بذاتنا؟
بأي معنى تتيح الصداقة المنشودة تجاوز هذه المفارقات؟

وأخيرا، هذه صورة التقطتها خِلسة في أواخر أكتوبر 2010 فيما كان التلاميذ “مستغرقين” بكل معاني الكلمة .. يستمعون إلى الأغنية من المذياع وفي نفس الوقت يتابعون كلمات الأغنية التي وزعتها عليهم في أوراق مطبوعة عند بداية الحصة..

اي حصة كنت أعرض فيها للتلاميذ فيلم الغزالي-كيميائي السعادة

Facebooktwitterredditmailby feather