مفهوم “الحق”في درس الفلسفة:عشر سنوات من الالتباس
الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع |
الجزءالثاني: مقولتا “الحق” و “الحق الطبيعي” كما تمت معالجتهما في بعض الكتب المدرسية
قبل الخوض في المشروعية الفلسفية للتقابل الذي أقامه الكتاب المدرسي المقرر بين تصور كل من هوبز واسبينوزا من جهة و روسو من جهة أخرى، لابأس أن نعرض في البداية لنماذج من المعالجات التي خضعت لها مقولة الحق الطبيعي في بعض الكتب المدرسية مركزين بالخصوص على كتابين مدرسيين فرنسيين و ثالث مغربي.
1/
أما الكتاب المدرسي الفرنسي الأول فهو:
Parcours philosophiques, Terminal A, Nathan 1985
تأليف
Denis Huisman et autres
يقسم الدرس في هذا الكتاب عادة إلى أبواب تابثة:
pre-texte == استهلال
extrait === مقتطفات
grand texte === نصوص أساسية
leçon === الدرس
في هذا الكتاب، قدمت مقولة الحق الطبيعي على النحو التالي:
تحت باب الاستهلال :
يفتتح الدرس (الصفحتان 376 و 377) باعلان “حقوق الانسان والمواطن” للثورة الفرنسية،
مع تعليق تتخلله جملة من الأسئلة. نلخص كل ذلك كما يلي:
-من خلال ديباجته التي تستوحي نظرية الحق الطبيعي ومن خلال بنوده السبعة عشر، يكون هذا الاعلان قد حدد أهم حقوق الانسان وحقوق الأمة (…)
ثم نقرأ أسطرا بعد ذلك:
– هل الحق نقيض القوة؟ ألا يمثل بالأحرى أحد ادواتها؟
ومن خلال استعراض مختلف التناقضات التي واجهها إعلان الثورة داخليا (تعارض مصالح طبقات المجتمع الفرنسي)وخارجيا (الموقف من الرق وكونية الحق)، يطرح الكتاب الأسئلة التالية:
هل الحق طبيعي أم نتاج لمواضعة؟ هل تنحصر قيمته بالنسبة لمجتمع معين؟ أم أن هناك قانونا عادلا وأزليا تحاول القوانين الوضعية محاكاته بدرجات نجاح متفاوتة؟
ويضيف الكتاب:
– ينص إعلان 1789على أن حقوق الانسان طبيعية مقدسة وغير قابلة للتفويت، وإذا لم تكن الجمعية الوطنية تدعي بهذا الإعلان، اختراع حقوق، بل مجرد الكشف عنها و ونزع ماتراكم فوقها بسبب النسيان والجهل والاهمال،، فلأن المؤتمرين يستوحون روسو وايديولوجية الحق الطبيعي: من حيث أنهم ينيطون بالمشرع مهمة الاهتداء بالقانون الطبيعي الذي ليس شيئا آخر غير القانون الذي يمليه العقل. ومما ينص عليه هذا القانون العقلي- في المقام الأول – أنه لاحق لأحد بموجب الطبيعة في حكم شخص آخر أو السيطرة عليه
أما تحت باب ّنصوص أساسية”، فقد أورد الكتاب المدرسي المذكور نصا أساسيا بالفعل لصمويل بوفندورف من كتابه ” واجبات الانسان والمواطن”، وعلى هامشه ثمان فقرات قصيرة من الكتاب نفسه لإضاءة النص المركزي
وقد قدم الكتاب لكل ذلك على النحو التالي:
مثل باقي منظري مدرسة الحق الطبيعي، يقول الفقيه الألماني صامويل بوفندورف بوجود “قانون طبيعي سابق على كل المواضعات الخاصة” وبهذا المعنى ستكون منهجية البحث عقلية مثالية صرفة، لأن اكتشاف هذا القانون الطبيعي يتم من خلال التأمل في مكونات الطبيعة الانسانية
ومن أجل تصور القوانين أو العقد الاجتماعي الذي سيختاره البشر لو استرشدوا بالعقل وحده، يتخيل بوفندورف – شأنه في ذلك شأن غروسيوس، هوبز،لوك، روسو،…إلخ – حالة طبيعة سابقة على حالة الاجتماع، حيث يفترض أن الناس عاشوا بدون أي نوع من المؤسسات
أما تحت باب “الدرس” فقد تناول الكتاب المدرسي مفهوم الحق من خلال ثلاث محاور:الحق والأخلاق-الحق الطبيعي والحق الوضعي- الحق والسياسة
2/
أما الكتاب المدرسي الفرنسي الثاني فهو:
philosophie, Terminal A et B, Hatier 1989
تحت إسراف
Laurence HANSEN-LOVE et Florence KHODDES .
وقد تناول هذا الكتاب مفهوم الحق عبر المحاور التالية:
-ما هو حق وماهو فعلي واقعي؛
-حق القوة: حيث تمت الإحالة على كاليكليس وميكيافيلي والنقد الروسوي المعروف؛
-تعدد وتعقد مصادر الحق والتشريع؛
-القانون كقاعدة للحق؛
-القانوني والمشروع؛
– “بأي حق؟” وفي هذا المحور بالضبط نعثر على مقولة “الحق الطبيعي”.
يقول الكتاب:
” عند تصديهم لمشكلة المرجعية والتأسيس، صاغ الفلاسفة مفهوم الحق الطبيعي، ووضعوه مقابل الأنساق الاصطناعية النسبية للحق الوضعي (…) وقد شكل مفهوم الحق الطبيعي دعامة لكل الحركات الاحتجاجية ضد الانظمة القائمة (…) وهذا ماعبرت عنه ديباجة إعلان 1789 (…)
ولم يفت مؤلفي هذا الكتاب المدرسي الإشارة إلى:
” أن مفهوم الحق الطبيعي مفهوم إشكالي، فكبير الأسماك محتم عليها بحكم الطبيعة أن ياكل صغيرها (…) كما قال اسبينوزا، فهل هذا هو الحق الذي ندعي تأسيسه؟ ألا يجدر بنا أن نقول مع كيلسن بأننا لانقبل بوجود معايير محايثة للطبيعة إلا إذا جعلنا هذه الأخيرة محلا لإرادة إلاهية”
3/
أما الكتاب الثالث فهو كتاب مغربي يحمل عنوان ” دليل مرجعي في مجال حقوق الإنسان” أصدرته وزارة التربية الوطنية بالاشتراك مع وزارة حقوق الإنسان، وقد صدر عن مطبعة المعارف الجديدة، بدون تاريخ
رب معترض يقول: بأن ” الدليل المرجغي..” ليس “مرجعا ” فلسفيا ! نعم، ولكنه دليل أصدرته نفس الوزارة التي أصدرت الكتاب المدرسي وكلا الكتابين موجهان للمتعلم ويطمحان في المساهمة في تكوين النشء في نفس المجال ” حقوق الإنسان”.
يقول هذا الدليل في الصفحة 137:
وأصحاب الإتجاه العقلي في مدرسة ( الحق الطبيعي) وضعوا نصب أعينهم تخليص الفلسفة السياسية من تأثير الكنيسة الكاثوليكية وكذا تأسيس الحق على الإرادة والعقل البشريين. كما أنهم جميعا تقريبا يقولون بفكرة العقد الاجتماعي بل إن أصحاب المدرسة التعاقدية ( هوبز – لوك -روسو) قد استعاروا منهم الكثير من الأفكار. ولعل هذين الاتجاهين يلتقيان في جعل العقل أساس الحق، وفي إفساح المجال للإرادة والفعل البشريين، وكذا في تأسيس كل من السلطة واللمجتمع على أساس التعاقد”
أما في الصفحة 135 فنقرأ:
” وبغض النظر عن الفروق التي تفصل بين رواد نظرية العقد الاجتماعي (بوفندورف- هوبز-لوك-روسو)، فإن بالامكان إبراز بعض السمات المشتركة (…)”ء
4/ خلاصة عامة:
أين هو إذن التعارض المزعوم بين حق طبيعي، حيواني، مختزل إلى حق القوة وحق ثقافي، إنساني؟
أين نعثر على ذلك التأويل الذي انفرد به الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة، والذي تم بموجبه إعلان “إفلاس مقولة الحق الطبيعي” لصالح “حق ثقافي” ؟
ألا نلاحظ أن قيمة مقولة الحق الطبيعي في الفلسفة السياسية لاتدرك إلا بوضعها في تقابل مع أو على ضوء نظرية الحق الإلاهي أولا، ثم على محك الحق الوضعي، وكذا تيار الوضعية القانونية ممثلا في هانز كيلسن؟
هذا ما سنفصل فيه القول في الجزء الموالي من بحثنا