المجرم الذي أصبح تقيا

المجرم الذي أصبح تقيا: أو كيف نطرح إشكاليات درس الشخص إنطلاقا من وضعية مشكلة حياتية

 

   
وضعية مشكلة: لو أن أحدهم كان سكيرا، قاطع طريق، فظا غليظ القلب، ثم تاب- بقدرة قادر – فأصبح من أتقى الأتقياء، يفيض قلبه رحمة ويداه عطاءا وعيناه دمعا !! فهل نحن أمام نفس الشخص أم لا ؟ وماذا تعني عبارة "نفس الشخص"؟
لنتخيل وضعية أخرى: شخصا يهيم حبا بشخص آخر،لاتبارح صورته مخيلته ليل نهار، يسعد بقربه ويشقى بالبعد عنه، ثم حدث أن خبا هذا الحب لسبب أو لآخر، أو تعلق الهوى بمحبوب جديد وكأن شيئا لم يكن ! هل نحن هنا أمام نفس الشخص قبل الإنقلاب العاطفي وبعده؟
ألم تقل أم كلثوم في أغنية " ثورة الشك":
أكاد أشك في نفسي لأني أشك فيك وأنت مني!
ومرة أخرى: ماذا تعني عبارة "نفس الشخص"؟
  المجرم الذي أصبح تقيا!
اانتبه ملاحظات ديداكتيكية أولية:1- موجز الحصة:
يقتصر نص الوضعية-المشكلة البدئية التي سيعرضها المدرس على تلامذته على مايلي:
لو أن أحدهم كان سكيرا، قاطع طريق، فظا غليظ القلب، ثم تاب- بقدرة قادر – فأصبح من أتقى الأتقياء، يفيض قلبه رحمة ويداه عطاءا وعيناه دمعا !!
وبعد عرض الوضعية وشرحها جيدا بأسلوب يبتغي التشويق والإثارة، أتقدم بأول سؤال:
هل نحن أمام نفس الشخص أم لا ؟

 

 

 

 

1- عوامل فشل الوضعية المشكلة: الحل المتسرع للمشكل
حيث أن الهدف من الوضعية المشكلة هو "وضع" التلميذ في "مشكلة"، فما أشبهها هنا بقنبلة ينتظر ان تحدث زوبعة ذهنية تخرج المتعلمين من لامبالاتهم وطمأنينتهم وإحساسهم بوضوح العالم و خلوه من أي جديد أو ألغاز محيرة!! باستثناء جديد التكنلوجيا وألغازها طبعا: جوال، MP4 ، دراجات نارية… والتي تبهرهم وتدهشهم وتخرجهم بالفعل من لامبالاتهم!
ولم يكن اختيار مجاز القنبلة عبثا! فانفجار القنبلة حدث يثير الاهتمام لدرجة الفزع، كما أنه يرغم المرء على "التصرف" و فعل شيء ما! وبالمثل يتعين على الوضعية-المشكلة أن تكون مثيرة فعلا للاهتمام والانتباه أولا ومحفزة على التفكير ثانيا،
ينتج عن ذلك أن المدرس مطالب -قبل بدء الحصة- بانتقاء وضعية مشكلة مثيرة للاهتمام حقا، تنطلق من معيش التلميذ وتمسه بشكل مباشر وتخاطب انشغالاته التي حتى لو حكمنا عليها بالتفاهة وأصررنا على انتشاله من شرنقتها، فلابد من مخاطبتها أولا لأنها مدخلنا الضروري إلى وجدان المتعلم المتعلم ومن ثم عقله، بحيث لا نترك له فرصة لعدم المبالاة، وهنا يتعين التمييز بين "الانشغالات العالِمة" و"انشغلات المعيش" وهكذا فالسؤال: هل توجد علاقة ثابتة بين كتلة الجسم وحجمه (الكتلة الحجمية)؟ هو انشغال عالم، انشغال ارخميدس فقط، في حين أن السؤال: كيف نعرف أن تاج الملك مصنوع من ذهب خالص هو "إنشغال معيش" أي انشغالل الملك صاحب التاج. لكن هذا لا ينفي أن هذا يقود إلى ذاك؛
هذا عن دور المدرس وهو يعد الحصة وينتقي الوضعية، أما عن دوره أثناء الحصة، فيتمثل بالدرجة الأولى في الحفاظ على على أعلى درجات التوتر أثناء مسار الوضعية المشكلة
لذا أرجو ان يتجنب المدرس ما أمكن -في ما يخص الوضعية الحالية-أن تصل جماعة القسم إلى خلاصات من قبيل: "هناك تقدم في التاريخ" أو "إنها قرصنة أو جهاد بحري" أو "الرجال/الأبطال يصنعون الظروف او الظروف تصنع الرجال/الأبطال"… وإلا سنكون قد أبطلنا مفعول القنبلة بأيدينا ونقضنا غزلنا !!
إذا كان الأمر كذلك، فقد تحولت الوضعية المشكلة إلى وضعية مريحة، او تحولت إلى لحظة من لحظات البناء الإشكالي حيث يتم تقديم موقف فلسفي من خلال نص كإجابة ممكنة على السؤال المفترض (طبعا، قبل مناقشته ومساءلته لاحقا للانفتاح على غيره)
3- عوامل نجاح الوضعية المشكلة: أ-تأزيم كل جواب ممكن
ينتج عن ذلك أنه ولكي تكون الوضعية المشكلة وضعية-مشكلة بالفعل، على المدرس أن يحاول بكل الوسائل الممكنة البرهنة على استحالة الجواب أو تأجيله على الأقل ! ألم يقل برغسون: إن الفلسفة هي فن طرح السؤال وتأجيل الجواب باستمرار، ولا يفعل المدرس في هذه الحالة غير لعب دور سقراط: إثبات التناقضات أو الإحراجات الممكنة التي تنجم عن قبولنا بجواب المحاور !!
ينبغي أن نمنع بكل وسيلة ممكنة اللقاء الذي يحاول التلاميذ جاهدين إقامته بين السؤال وجواب ما، للتخلص من حالة التوتر التي احدتثها الوضعية المشكلة، للعودة على حالة التوازن والطمأنينة الأولى

لأجل ذلك، على المدرس أن يكون مستعدا لتأزيم أي جواب قد يقترحه التلميذ !؟ وهذا يتطلب يقظة ذهنية وحضور بديهة تستنزف الطاقة الفكرية للمدرس والتلاميذ على السواء
ففي الحالة التي نحن بصددها الآن: هل نحن أمام نفس الشخص؟ ينتظر أن يقول التلاميذ: نعم ! نفس الشخص.
على المدرس ان يشكك في هذا الجواب ويؤزمه ويكشف عن المفارقات التي تترب عنه، وبينين أن هناك دلائل كثيرة تدعو إلى الاعتقاد أننا لسنا في الواقع أمام نفس الشخص !! :quoi:
وبالمثل لو افترضنا أن "الله ضْربهم" :quoi: وقالوا: "لسنا أمام نفس الشخص !"
هنا لاينبغي أن يّسقط في يد المدرس، بل عليه أن يدعم الرأي القائل: "إننا لانزال أمام نفس الشخص" … :icon_biggrin:

ب-وضوح الإشكال في ذهن المدرس
بيد أن تأدية الوضعية المشكلة لوظيفتها البيداغوجية والمتمثلة في انبثاق السؤال بشكل تلقائي وطبيعي وغير مصطنع يتوقف على مدى وضوح الإشكالات أصلا في ذهن المدرس، أقصد الإشكالات التي يفترض أن تمضي نحوها الوضعية-المشكلة، لأننا نخوض غمار حصة الوضعية المشكلة ونحن على علم مسبق بما نود طرحه والتساؤل عنه دون أن ينفي ذلك إمكانية توصل الجماعة المفكرة/جماعة القسم إلى استنتاجات وأسئلة لم تكن متوقعة، ويمكن استدماجها في الصياغة النهائية للإشكال حسب درجة ملاءمتها!
وقد يعترص علي بالقول: بأن هذه لعبة مصطنعة مادمت تعرف مسبقا إلى أين تود قيادة تلامذتك !!
وأجيب نعم، ولا إمكانية لخلاف ذلك !! لايمكن للمرء أن يحسن "قيادة العقل" مالم يعرف إلام يقود عقله! وليس ذلك بقادح في وظيفة الوضعية المشكلة، خصوصا وأن الإشكال المصاغ في النهاية لايتجسد بالضرورة في نفس العبارات والأسئلة والتراكيب في كل الأقسام التي نقوم بتدريسها، بل يتلون بشيء من المسار الخاص الذي عرفه النقاش مع كل قسم على حدة. و.. من الممكن أن تكتسب أسئلتنا التي نحمل في أذهاننا مسبقا خصوبة إشكالية غير متوقعة من قسم لآخر او من سنة لأخرى، لكن لا أحد يستطيع الادعاء بالخروج عن الإطار الإشكالي العام الذي يرسمه المنهاج أو المؤسسة.
أما الإشكال الذيأضعه نصب عيني فهو:
هل هناك جوهر يظل ثابتا رغم تغيرات الجسم وأحوال النفس وانفعالاتها؟ هل أنا اليوم هو نفسه الذي كان قبل عشرين سنة؟ هل أنا الآن "شيء" واحد أم متعدد بحكم تعددية مايجيش بداخلي المتعددات والمتناقضات؟
إذا كان الجواب بــ "نعم" فما هذا "الواحد فيّ"؟ وماهذا الذي يظل تابثا رغم التغيرات؟ أي أين تكمن هوية الشخص؟ وإذا كان الجواب بــ "لا"، فما هي هذه الهويات أو الكيانات التي تسكنني التي ما فتئت أتوهمها كيانا واحدا !؟

5- ملاحظة أخيرة حول وصفي لما شهدته حجرة الدرس
لاشك أن حصة الوضعية-المشكلة هي حصة نشاط سيكو/سوسيو-معرفي؛ وعليه، فطبيعة التفاعلات التي تستثيرها الوضعية والمفعولات الناجحة أو الفاشلةالتي قد تحدثها لاتنفصل بدورها عن المناخ السيكو/سوسيو-معرفي الذي يكون القسم مسرحا له..وعلى ذكر المسرح، فإنجاز هذه الحصة التي أقدم لكم أدناه وقائعها يحتاج مني دوما إلى إعادة ابتكارها من جديد مع كل قسم وفي كل سنة، إنها أشبه بنص مسرحي ينبغي إخراجه دوما بديكوره وإكسوسواراته وسيناريوه و … بالكثير من الارتجال
,غني عن البيان أنني حاولت بقدر ما تسمح به مواهبي القصصية المتواضعةأن يكون أمينا ما أمكن للمجريات "النموذجية" للحصة، أقول "النموذجية" لأن الحصة أنجزت مع ثلاثة أقسام (ومع عدد أكبر طبعا طيلة السنوات الماضية) بأشكال مختلفة نسبيا وبدرجات نجاح وإمتاع متفاوتة
كما أنوه إلى أن هذه الحصة هي أول ما أبدأ به الدرس قبل أي شيء آخر أي قبل أي حديث لا عن الشخص ولا عن الدرس او إشكالاته
وأخيرا فما أنقله لكم أدناه لايعكس تنوع مداخلات التلاميذ ومداخلاتي ، لأنني لا أذكر كل ماقالوه وكل ما قلته

وقائع الحصة:

-المدرس: أرجو الانتباه! وأن تصغوا إلى حكاية غريبة أود أن أقصها عليكم (صمت قصير ، ثم..)
لنفترض أن أحدهم كان سكيرا، قاطع طريق، فظا غليظ القلب، ثم تاب- بقدرة قادر – فأصبح من أتقى الأتقياء، يفيض قلبه رحمة ويداه عطاءا وعيناه دمعا !!
(طبعا مع تفاصيل أخرى حول حياته الإجرامية السابقة.. وحياته الجديدة.. :icon_biggrin: من أجل خلق الإثارة والانتباه.. )
هل نحن أمام نفس الشخص أم إزاء شخص مختلف كليا عن صديقنا السكير الأول !؟
– التلاميذ (مباشرة على شكل رد فعل): طبعا نحن أمام نفس الشخص !
-المدرس: مالذي يجعلكم تعتقدون ذلك !؟ مالذي بقي في هذا المؤمن التقي من ذلك المجرم الحقير !؟
– التلاميذ ( إجابات كثيرة محتملة.. من بينهما): لأنه هو نفسه !
لأنه نفس الهيئة أو الجسد،
-المدرس: كيف "هو نفسه" !؟ ثم هل مايجعل الشخص هو نفسه هو بقاء جسده !؟ (هنا أكون قد صرحت بأول سؤال له علاقة بإشكالنا، ولكن دون أن أثير انتباههم إليه كثيرا) ولكن ماذا لو خضع لعملية تجميل؟ ما وجه الشبه بينك انت الآن وبين الطفل الصغير ذي السنتين؟ هل تستطيع خالتك التي لم ترك منذ أن كان عمرك سنتين أن تتعرف عليك اليوم؟
– التلاميذ: بالتأكيد ، لا
-المدرس: فلم قلتم إن المؤمن التائب مؤخرا هو نفسه المجرم السابق؟ مالذي بقي من مجرم الأمس في مؤمن اليوم؟ وقبل ذلك دعونا نعقد الأمور أكثر. سيقال لخالتك: هذا هو ابن أختك، فتستغرب لكنها في النهاية ستقبل، ماذا يعني ذلك؟
– التلاميذ:( لايبدو عليهم انهم فهموا السؤال !؟ :icon_confused: والخطأ خطئي طبعا)
-المدرس: على ماذا اعتمدَت في تقرير أنك أنت هو الذي كان؟ على أي أساس قررت أنك أنت اليوم هو الذي رأتك وانت رضيع؟
– التلاميذ: على كلام أمي وأبي
-المدرس: حسنا، إذن الآن عندما نسأل عن المؤمن التائب او المجرم السابق، بالمناسبة ، لا أعرف ماذا سنسميه؟ أهو المجرم السابق أم المؤمن التائب
– التلاميذ (بعضهم) :المؤمن التائب، (والبعض الآخر): المجرم السابق
(هنا دخلنا في دوامة أخرى، لايهمني طبعا الجواب، في غمرة النقاش، "قذفتهم" بالسؤال التالي:)
-المدرس: أم أنه "المجرم" وكفى بالنسبة لرجال الشرطة الباحثين عنه، أم انه "المؤمن" وكفى بالنسبة لأهل المدينة الذين حل بين ظهرانيهم مؤخرا والذين لايعرفون عنه غير استقامته ونبله
– التلاميذ: زادت الحيرة أكثر، وتوزعوا الآن بين أربعة مواقف :quoi:
-المدرس: إذن لكي أحدد ما إذا كنت "أنا هو أنا" ؟ لايتعلق الأمر بي أنا فقط، بل هناك عدة مرجعيات
– التلاميذ: أنا، الآخرين،
-المدرس: وهناك وثائق إثبات الهوية أيضا!! حسنا لهذا السبب تذكروا أننا سنصل إلى درس عنوانه "الغير"، والآن أجيبوني بالله عليكم: هل نحن امام نفس الشخص ام لا؟
– التلاميذ:( يظهر عليم انهم أصبحوا أكثر حذرا بعضهم قد يطلب رأيك، وسواء طلبوه أو لم يطلبوه، فإنني أبادر إلى قول مايلي:)
-المدرس: حسنا يا إخوان (وفعلا أنديهم دائما بــ "يا إخوان") ! يظهر لي أنه لايزال نفس الشخص (تتهلل أسارير التلاميذ) إنما .. آه !! إنما المشكلة عندي هو ماهذا الذي لايزال فيه هو هو !؟ إذا سمينا هذه ال" هو هو" هويته، فأين تختبئ هويته يا ترى !؟ :icon_scratch: لأنه لايمكن أن نستأمن جسده على هويته !؟
– التلاميذ: (أحيانا): روحه (وأحيانا أخرى، بسبب وجود مكررين للسنة) ذاكرته
(وحتى لو لم يتحدث أحدهم عن ذاكرتهم، فإنني أدفعهم الى التفكير في معطى الذاكرة الذي لاشك أنه ليس غريبا عنهم، لكنه قد لايخطر ببالهم)
-المدرس: حسنا وروحه هذه أين توجد؟ في أظافره؟ في السيالة العصبية واإشارات الكهرمغناطيسية التي تجري في الدماغ كما رأينا في السنة الأولى العام الماضي !؟
(نقاش، بحث، ..)
(يحدث أن بعض التلاميذ يتحدثون عن ثبات "شخصيته"، وهذه هي الفرصة المواتية للوقوف مع التلاميذ على مفهوم الشخص وتمييزه عن مفهوم الشخصية، لأنني لا أكره شيئا قدر كرهي لطريقة : درسنا اليوم هو الشخص فما معنى شخص؟ أيي طريقة درسنا اليوم X فماذا تعني X ، لأن البحث عن دلالة كلمة ليس غاية في حدذاته، ثم لماذا سيقبل التلاميذ معك على تعريف الكلمة!!؟ الأفضل ان يتم تعريفها عندما تظهر الحاجة إلى تعريفها)
أما بالنسبة لذاكرته أتفق معكم، ولكن ماذا لو فقد ذاكرته؟ ألن يظل هو نفسه بالنسبة لأمه !؟
أحد التلاميذ (ذات سنة): بمعنى إذا فقد هذا المجرم ذاكرته فلن يعود نفس الشخص، إذن الهوية تكمن في الذاكرة،
-المدرس: رأي صائب على مايبدو، بمعنى لو افترضنا أنهما مجرمان وليس واحدا، اشتركا في اقتراف نفس الجرائم لنفترض ان أحدهما فقد ذاكرته والآخر لايزال يتذكر، كيف سيتعامل القانون معهما!؟
– التلميذ السابق نفسه: سيخلي سبيل فاقد الذاكرة!! ولكن في هذه الحالة سنعاقب الآخر ليس لأنه فعل بل لأنه لايزال يتذكر !!!!!
-المدرس: اصبت وهذه معضلة أخرى من معضلات العدالة البشرية، ولكن دعنا من العدالة والمحاكم وقل لي: هل نحن امام نفس الشخص؟ ثم هذا السؤال هل يمكن صياغته بعبارة أعم؟ ألا ترون أنني سألتكم في البداية هل نحن أمام نفس الشخص، ثم مالبثت أن سألتكم…
– التلاميذ: مالذي بقي فيه ثابتا؟
-المدرس: إذن هل يمكن إعادة صياغة هذا السؤال بعبارة أعم؟
(المهم استكشاف قدرتهم على صياغة سؤال من قبيل: مالذي يجعل من شخص ما هو هو ؟ أو أين تكمن هويته)
-المدرس: دعونا نعقد الأمور أكثر
– التلاميذ: أوليست معقدة بما فيه الكفاية؟
-المدرس: على كل حال استمعوا: لنفترض أن سفينة لنقل الركاب، تعمل في البحر منذ أربعين عاما.. وطيلة هذه المدة، كلما اهترأت قطعة خشب، استبدلناها بقطعة جديدة، وهكذا … وهكذا دواليك على امتداد الشهور والفصول والأعوام… إلى أن جاء يوم استبدلنا فيه آخر قطعة مهترئة من الجيل القديم
السؤال الآن: بعد عملية الاستبدال الأخيرة، ألا نزال أمام نفس السفينة، هل يمكن لمسافر أن يقول: آه هذه السفينة التي ركبتها قبل 10 أو 20 أو 30 سنة !!؟
– التلاميذ (ولكن هذه المرة بتررد وبنبرة غير واثقة): نعم إنها نفس السفينة، نفس الشكل
-المدرس: ونفس القطعة المعدنية التي تحمل إسم السفينة
تلميذ: ونفس المحرك
-المدرس: لماذا قلت نفس المحرك
– التلميذ: لأنه روح السفينة مايحركها
-المدرس: جيد! ولكن انتبه، أعتقد أن المحرك بدوره قد حصل له ما حصل لقطعالخشب فقد استبدلت أجزائه ربما،
ثم لو أننا نزعنا هذا المحرك العتيد، و"زرعناه" في جوف سفينة أخرى، فهل ستصبح السفينة الأولى هي الثانية !؟
– التلاميذ: لا
-المدرس: إليكم الآن أخير التوابل لتعقيد الأمر:
– التلاميذ: (ينتظرون)
-المدرس: لو أننا كنا، كلما استبدلنا قطعة مهترئة، وعوض أن نرميها نقوم بحفظها في مخزن Depot ، سنحصل في الأخير على ركام هو مجموع خشب السفينة من الجيل الأول
في هذه الحالة، أين هي السفينة، هل هي الراسية الآن في الميناء ام ذلك الحطام الذي يمكن لمهندس متاحف ان يركبه ويقيم به أود السفينة مثلما فعلوا مع سفن الصين القديمة أو سفينة الفرعون !؟
– التلاميذ: (تفرقوا شيعا ! البعض يعتقد ان) السفينة التي ركبناها هي الراسية (وهناك من يعتقد انها) هي مجموع الحطام !!!
-المدرس: (وبعد هدوء الزوبعة): دعونا من السفن والخشب، ولنعد إلى مجرمنا السابق أو مؤمننا التائب أو لست أدري.. أجيبوني: هل هو الآن "مؤمن" أم "مؤمن-مجرم" أم "مجرم" ؟ ألم تبق في نفسه ذرة من المجرم!؟ هل هو الآن واحد ام متعدد !!؟
– التلاميذ أو بالأحرى بعض التلاميذ: كما رأينا في السنة الماضية عند فرويد، نحن مسكونون نبثلاثة، حتى وإن كنا نبدو واحد
-المدرس: اصبت
إلخ…
إلخ..
-المدرس: والآن دعونا نستجمع أفكارنا: ماهي الأسئلة التي أجهدنا البحث عن جواب لها لحد الآن
– التلاميذ: هل نحن امام نفس الشخص؟
-المدرس: صحيح، ولكن لاتسوا باقي الأسئلة
إن لم يتذكروا، وهذا مستبعد، ما على المدرس سوى تذكيرهم ببعض المحطات المحددة في النقاش السابق، ليمكنوا من تذكر الأسئلة التي كنا بصدد معالجتها (ألم يقل أفلاطون: المعرفة تذكر والجهل نسيان :icon_wink: !!؟)
في النهاية نتفق على ان الأسئلة التي كانت تشغلنا هي:
هل هناك شيء ما يظل تابثا في الشخص ؟ وإذا كان لكل شيء ماهية وهوية تخصه بها يتميز عن غيره ففيم تتحدد هوية الكائن البشري/الشخص؟ مالذي يمنح الشخص هويته التي يستشعرها على امتداد الزمان وتغيرات أحوال النفس والجسد؟ هل تكمن الهوية في الجسد أم الذاكرة ام ماذا؟ وهل تحيل هذه الهوية على كيان واحد أم كيانات متعددة لايجمع بينها سوى وهم الوحدة؟

أخيرا أرجو أن يقرأ الحوار أعلاه على أنه مجرد نص، لايكتسب الحياة إلى من فعل الأداء، أنا نفسي عندما أقرأه الآن، أدرك ان هذا الحوار يخون تلك الحيوية التي كانت حجرة الدرس مسرحا لها.

ولكن حسبي أو أكون وفقت في نقل ولو جزء بسيط لما كانت حجرة درسي مسرحا له، ولاشك أنني لم أنقلها كما هي حرفيا وأنى لي ذلك اللهم إلا إذا تحولت إلى جهاز كاميرا أو مسجل صوتي :icon_biggrin:
يبدو سردي كما لو أن الحصة كانت تمضي في طريق معبدة بل قل في طريق سيار !! للأسف الشديد لم أستطع إعادة سرد قصص المآزق والطرق المسدودة التي كنا نرتادها من حين لآخر، ولحظات الصمت والفوضى عوض الزوبعة الذهنية، ولكن على العموم يمكن القول أن الإطار النموذجي للحصة هو ما حكيتهم لكم، لأنني لم أخترعه الآن من خيالي :icon_wink:
كل ما أتمناه أن يشكل هذا البوح قدوة حسنة لكي يتجرأ زملائي المدرسون للقيام بالمثل !! أو على الأقل لنقد التجربة أي قراءتها

Facebooktwitterredditmailby feather

تعليقاتكم وتفاعلاتكم

تعليقات وملاحظات

17 تعليقا على “المجرم الذي أصبح تقيا”

  1. شكرا جزيلا لك يا استاد على هذا الدرس القيم والاسلوب والمنهج المتبع من طرفك من اجل ترسيخ المعلومة والفهم

  2. شكرا جزيلا يا استاذ على هذا الشرح المبسط لدرس رغم انني فهمته و عرفت كيفية النقاش الفلسفي.وارجوا منك المزيد يا استاذنا العزيز كما هذا الدرس لاني لم ارى مثل هذا الشرح من قبل شكرا جزيلا.

  3. السلام عليكم هده المراحل التي مررت بها جيد جدا ونتمنى لك التوفيق وشكرا جزيلا.Thumbs up

  4. جازاكم الله خيرا على مجهوداتكم فعلا طريقة مبتكرة للشرح و مسلية في نفس الوقت امل من الله تعالى ان يوفقكم لامدادنا بشرح الدروس الاخرى على غرار هته الطريقة…..والشلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

  5. حصة فلسفة بامتياز هدا ما نحتاج اليه من اساتدة الفلسفة فقلما تجد استاد الفلسفة وليس استاد يدرس الفلسفة . حتى التسلسل الاشكالي الدي قدم به الدرس يساعد على استشعار المشكلة لكل من يهمه الامر . لان الفلسفة ان تتلدد لاول مرة في حياتك وتعرف لمادا تتلدد…

  6. موضوع جيد لكن انتقي كلمات افضل من- وبالمثل لو افترضنا أن \\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\”الله ضْربهم\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\”- وصحح الجملة التي تقول فيها ثم تاب \\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\”بقدرة قادر\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\” الى قدرة القادر

  7. في البدئ الشكر الموصول على سخائك المعرفي وبشاشتك في نقل تفاصيل هذه الأحداث التي جعلتني أسافر عبر الزمان والمكان وأعيش عالم المغامرة الفكرية التي سلكتم دروبها الوعرة.
    ما أثار انتباهي هو أن الوضعية المشكلة ليست غاية في حد ذاتها، ذلك أن توفر المدرس عليها لا يعني بالمقابل نجاحة في إستشكال الدرس الفلسفي، بل إنها تتطلب يقظة مفرطة حتى تصير اللحظة نحو بناء الاشكالات في بعدها الفلسفي، لأنه حالما تم تجاهل بعض الاجابات المقدمة وعدم إرباكها وإظهار قصورها فإن الوضعية المشكلة تفقد وظيفتها، ولعل هذا هو ما يميزها عن بيداغوجيا حل المشكلات التي تتجاوز مرحلة التساؤل إلى إقتراح فرضيات والتحقق منها.
    لكني لن أفوت الفرصة دون طرح بعض الأسئلة التي من شأن الاجابة عنها أن تساعدنا في تطوير الاشتغال بالوضعية المشكلة وهي أولا: من الملاحظ أن التلاميذ يركزون كثيرا في الوضعية ويتعاملون معها كغاية في ذاتها دون القدرة علة الانتقال إلى ما هو فلسفي محض. فكيف يحقق ذلك ويمكن تخليص التلميذ من هذه الوضعية؟ ثانيا من الواضح أيضا ان هذا العمل يتطلب إيفاءه حقه من الوقت لأن فهم إشكالات الدرس يعتبر لبنة أولى ضرورية تساعد في تفاعل التلاميذ بالموضوع وتشوقهم لإكتشاف خباياه. ألا يعتبر عامل ضيق الوقت عائق إذن؟ في ظل كثرة المفاهيم المقررة مقارنة بالساعات المخصصة لكل مفهوم، وفي ظل عدم تخصيص المنهاج حيز من الزمن للوضعية المشكلة!

  8. هذا الموقع جد راااااائع نشكركم على هذا المجهود الراااااائع Thumbs up ونتمنى المزيد شكرا لكم Blush

اترك رداً على عبد الله إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *