المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز-الجزء الأول

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز – الجزء الأول

إضافة إلى الأهداف/الكفايات المنهجية والقيمية للدرس الفلسفي، تعتبر الأهداف/الكفايات المعرفية أو الثقافية عنصرا أساسيا وحاسما، يتوقف عليه تحقيق الكفايات الأخرى المنشودة. فسواء تعلق الأمر بكفايات قيمية كالتسامح أو احترام الاختلاف أو الاستقلالية أو اكفايات منهجية كالمحاججة، لابد لكل ذلك من سند وحامل هو المعرفة الفلسفية.
تبدو عبارة “معرفة فلسفية” للوهلة الأولى واضحة المعنى جلية الدلالة، لكن لنغامر مع ذلك بطرح السؤال على الطريقة السقراطية: ماالمعرفة الفلسفية؟ انقصد بها حصريا مجموع المعارف التي حفظها لنا التراث الفلسفي أو تاريخ الفلسفة؟ والتي يمكن العثور عليها بشكل موجز ومركز في مصنفات تناول تاريخ الفلسفة أو المذاهب الفلسفية. ولكن هل هانك حقا معارف فلسفية أم مجرد تناول فلسفي للمعرفة!؟ إذا كانت مادة المعرفة الفلسفية مستمدة من نصوص الفلاسفة فمِمَ استمد الفلاسفة أصلا مادة نصوصهم تلك!؟
لكن السؤال “ما المعرفة الفلسفية؟” لايطرح فقط استجابة لنزعة سقراطية! بل لدواع متعلقة بديداكتيك الدرس الفلسفي نفسه. إذ نعتقد أن هاهنا مجالا بكرا، و ورشة مفتوحة للتفكير والتفكر، ودربا إن تم ارتياده واستكشاف آفاقه فربما نجد في نهايته أو في إحدة منعرجاته مخرجا لمآزق كل من الدرس الفلسفي (الذي ينجزه المدرس) وصورته المرآوية أي الإنشاء الفلسفي (الذي ينجزه التلميذ)

تشخيص المشكل بدءا من إنشاء التلميذ وصولا إلى ملخص مدرسه
يستشعر الكثير من المدرسين وجود “شيئ ما ليس على مايرام” :icon_scratch: في إنشاء تلامذته، ويصل الصفاء الذهني La lucidité ببعض المدرسين إلى الإحساس بأن “هذا الذي ليس على مايرام” يعتري درسهم أيضا !!
لنتأمل أولا إنشاءات تلامذتنا لأنها الصورة المرآوية التي تضخم صورة درسنا إلى حد الكاريكاتور:
يطرح التلميذ في مقدمة إنشائه أسئلة ما
إذا تعلق الأمر بتحليل نص،فإن التلميذ يخدش سطح النص خدشا رفيقا ثم تطل المواقف واحدة بعد أخرى على شاكلة:
من المواقف المؤيدة لصاحب النص نجد
وفي نفس السياق نجد..
ونجد…
ونجد مع فلان..
غير أن فلان يرى…
أما فلان الثاني فيرى ..
وفلان الرابع.. الخامس.. إلخ

أمام مثل هذه الإنشاءات يدون أغلب المصححين الملاحظات التالية: السقوط في السردية (سرد المواقف) و غياب ذات المتعلم وانعدام التفكير الشخصي، بحيث يبدو التلميذ غير قادر على الحديث إلا بلسان أحد الفلاسفة !!
ولكن مهلا..
هل يتحمل التلميذ وزر هذا الخطأ لوحده !؟ ألا يمكن ان نجد في دروسنا نفس البنية السردية وغياب التفكير الشخصي !!؟
لنتأمل الملخص التالي الذي وجدت في الأنترنت والذي طمست معالمه بشكل مقصود لئلا أحرج أحدا:
المحور الأول-الواجب والإكراه :
ما هو الواجب؟ وما هو مصدره؟ ومن يستمد مشروعيته؟
موقف كانط : إن كانط في سياق مشروعه (…) سعى إلى (…)
موقف غويو : إذا كان التصور الكانطي ينتهي إلي(…) فإن جون ماري غويو يقدر أن (…)
موقف هيوم : يميز دافيد هيوم بين نوعين من الواجبات الأخلاقية، (…)
موقف هيجل : يرجع هيجل الواجب إلى (…)

المحور الثاني-الوعي الأخلاقي :
ما هو مصدر الوعي الأخلاقي؟
موقف إريك فايل : إن الفعل الأخلاقي هو(…)
موقف برونتانو:تعتبر المدرسة الإمبريقية الوعي الأخلاقي(…)
موقف ابن مسكويه :من منظور التصور الإسلامي، يعتبر ابن مسكويه(…)

المحور الثالث-الواجب والمجتمع:
موقف إميل دوركايم :يعالج إميل دوركايم الواجب الأخلاقي من منظور (…)
موقف برجسون : إن المجتمع هو الذي يرسم للفرد (…)
موقف إنجلز : يؤكد إنجلز على أهمية مفهوم(…)

لا تشير نقط الحذف الذي استعملتها سوى إلى تفصييلات تعرض الموقف وتشرحه
إذن هاهنا مدرس فلسفة لكنه منسحب بدوره وشبه غائب عن ملخصه ، لا أثر لأي تفكير شخصي من قبله!؟ لا أثر لتأملات شخصية إضافية، وكأن الإكراه أو المجتمع أو مصدر الوعي الأخلاقي لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد !!
إذا كان المثل يقول: “هذا الشبل من ذاك الأسد” فيحق لنا القول: “هذا الإنشاء من ذاك الملخص” (قلبا وقالبا)
إنه مجرد “متحدث بإسم”..
وباستثناء تلك الجملة التي حاول فيها الربط بين ما قاله كانط وماسيقوله غويو، يبدو الملخص كما لو كان نسخا ولصقا لفقرات من كتاب في تاريخ الفلسفة أو معجم فلسفي
إزاء مثل هذه الملخصات، ألا يحق للمتعلم الشكوى من الأطروحات التي يدوّخ تشابهها العقل وترهق كثرتها الذاكرة، وذلك في غياب تحديد دقيق لأطروجتين رئيسيتين ومواقف تملأ هذه الأطروحات (بتعبير زارا) وتمدها بالقوة الحجاجية
سيقال أن هذا ملخص يضم عصارة الأطروحات الفلسفية لمحو “الأمية الفلسفية” للمتعلم أو لحشو عقله الفارغ بمعارف موضوعية بتعبير هيغل ! ولكن أخشى أن الملخص لايعكس في النهاية سوى الدرس، وأن تردي هذا يتجلى في تردي ذاك. وقد قلت في شريط آخر إن تحرير ملخصات أشق مهمة وأثقلها على النفس، لأنك مطالب بالمحافظة على الحياة والحيوية والتوتر الذي شهده الدرس المنجز داخل الفصل الدراسي واستعادة كل ذلك في بضع فقرات مكتوبة في مايسمى بالملخص !!
إن العَرَض الذي يعاني منه هذا الملخص بوصفه مرآة لعمل المدرس هو الانسحاب شبة الكلي للمدرس من درسه أو ملخصه: لا أثر للتفكير الشخصي في ما أنتجه، رغم أن هذا المدرس لا يفتأ يقصف عقول تلامذة الجذع المشترك بأن الفلسفة تفكير شخصي في المقام الأول

أين يمكن أن يتمظهر المجهود أو التفكير الشخصي للمدرس؟
يمكن للتفكير الشخصي للمدرس ويمكن لذاته أن تتجلى في مايلي:
أ- الطرح الإشكالي وهنا تظهر حوالي ثمانين في المائة من مجهود المدرس، لأن الإشكال ليس مجرد جملة في آخرها علامة استفهام. كأن يقول القائل في محور الحرية والإرداة: ماعلاقة الحرية بالإرداة؟ أو يقول في محور العقلانية العلمية: ماطبيعة العقلانية العلمية؟
الطرح الإشكالي ثمرة تفكير عقلي مرهق وشاق، يحاول الفكر أثناءه استكشاف المحير والمدهش والمفارقاتي في موضوع تفكيره.. الطرح الإشكالي أهم لحظات الدرس، لسبب بسيط ندرسه لتلامذتنا مفاده أن الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجوبة في الفلسفة!! :icon_biggrin:
ب- التمهيد لأطروحة الفيلسوف قبل عرضها
ج- التعقيب عليها بعد عرضها تعقيبا نقديا
د – نسج وشائج بينها وبين ما سبقها أو ما سيليها.. أي العثور على خيط إشكالي ناظم والمحافظة على درجة كافية من التوتر الإشكالي وإلا تحول البناء الإشكالي إلى عرض مريح لأجوبة ودوغمات!!
هـ- وأخيرا تأملات شخصية حول الإشكالات المثارة تغني أطروحات الفلاسفة وتمتزج بها أو تنضاف إليها كأطروحات فلسفية إضافية.

لكن مالذي يجعل ملخص المدرس وربما درسه أيضا مادة محنطة لا حياة فيها !؟ يعود ذلك في نظري إلى سببين (قد يستنتجان مما سبق):
1- التفريط في الطابع الإشكالي للتفكير الفلسفي بوصفه تفكيرا مسكونا بالمفارقات والتناقضات والحيرة والدهشة ..
2- تصورنا المغلوط لما يسمى “معرفة فلسفية”
سأركز فيما يلي على السبب الثاني، لأنه موضوع المقالة، على أن نفرد للسبب الأول موضوعا مستقلا.

التتمة:

Facebooktwitterredditmailby feather

تعليقاتكم وتفاعلاتكم

تعليقات وملاحظات

0 تعليق على “المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز-الجزء الأول”

  1. السلام عليكم و رحمة الله .

    شخصيا أجد أن الموضوع جيد من الناحية التقييمية حيث أن له عدة فوائد و نصائح و ارشادات للتلميذ.نشكركم جزيل الشكر.

  2. Smileبصراحة هاذي هي الحقيقة انا تدرسني استاذة تحضر وقت مابغات تمشي كذلك وقت مابغات لاشرح لافهم حتى انو نحنا الى حد الان مانعرفو نكتبو انشاء فلسفي وماتابعين بالوطني

  3. بسم الله الرحمن الرحيم
    تشكراتنا للأخ على هذا الموضوع
    أود أن أفيدكم برسالة مهمة ?ألاوهي أنه من كان يريد أن يتقن كل شيء?فليأتي إلى مدينة أزيلال فالأساتذة هنا أكثر من رائعين? وذوي حمولة ثقافية أكبر?والتلاميذ قد أتقنوا كل شيء

اترك رداً على خالد الدقيق إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *