أرشيف التصنيف: دروس

العنف – مجزوءة السياسة

تمهيد لفهم إشكالات الدرس:
عن العنف: ننطلق في هذا الملخص من تعريف العنف كما وردفي”المعجم الفلسفي” لــ “جميل صليبا”: “كل فعل يخالف طبيعة الشيء، ويكون مفروضاً عليه، من خارج فهو، بمعنى ما، فعل عنيف. والعنيف هو أيضاً القوي الذي تشتد صورته بازدياد الموانع التي تعترض سبيله كالريح العاصفة، والثورة الجارفة”

المحور الأول: أشكال العنف

طرح الإشكال:
هل تقتصر أشكال العنف على العنف المادي الفيزيائي العضلي كما يظهر للوهلة الأولى أم تشمل أيضا أشكالا من العنف الخفي الرمزي و اللطيف؟ ولكن كيف للعنف أن يكون خفيا لطيفا دون أن يفقد صفته كعنف والحال أن سمة العنف هو القوة التي تكسر كل مقاومة !؟ هل العنف محتاج للتخفي والتنكر ؟

1- العنف المادي: عنف على منوال الطبيعة ولكنه يتجاوزها

لا تعرف الطبيعة غير العنف المادي، وحيث أن الإنسان كائن طبيعي بدوره، ذو جسم وعضلات، فإن أحد أشكال العنف التي يمكن تصورها هي اصطدام هذه الأجسام والعضلات بهدف كبح حركة بعضها البعض أو إلحاق الأذى بها. يقول فرويد: ” كانت القوة العضلية الأكثر تفوقا هي التي تقرر من يملك الأشياء ومن تسود إرادته، وسرعان ما أضيف إلى القوة العضلية واستعيض عنها باستخدام الأدوات: فالفائز هو من يملك الأسلحة الأفضل أو يستخدمها بالطريقة الأمهر. ومن اللحظة التي أدخلت فيها الأسلحة بدأ التفوق العقلي يحل محل القوة العضلية”. لقد أصبحت الأدوات وهي استمرار لأعضاء الجسم أدوات العنف المادي الفعال بلا منازع، وقد ساهمت التكنولوجيا كما يقول إيف ميشو YVES MICHAUD في تطوير وسائل هذا العنف المادي مستفيدا من تحول هذه الوسائل إلى سلع تخضع ككل سلعة إلى مبدأ الربح في إنتاجها وتبادلها، وهكذا عملت التجارة الدولية للأسلحة على نشر وسائل العنف وجعله أكثر تخريبا وفتكا، وفي متناول كل الأفراد والجماعات. كما ساهم التقدم التقني في تطوير الآلات والأسلحة المستخدمة في العنف، مما جعل هذا الأخير مختلفا عما كان عليه في السابق، سواء من الناحية الكمية أو من الناحية الكيفية والنوعية.
بيد أن العنف المادي ومهما بلغ جبروت وسائله يظل عنفا مكلفا للطرفين لأنه يستدعي مقاومة متناسبة مع القوة الأولية وفق مبدأ الفعل ورد الفعل في الفيزياء. مما يضطر العنف إلى التخفي لتكون نتائجه أبلغ تأثيرا وأقل تكلفة خصوصا إذا ضمن تواطؤ الضحايا: إنه عنف يخفي عنفه ! مما يفسر تخلي الدول الاستعمارية مثلا عن الغزو العسكري لصالح غزو ثقافي أكثر تأثيرا وأقل انكشافا.

2-العنف الرمزي: عنف يتخفى ليضمن تواطؤ الضحايا

يتحدث بيير بورديو عن العنف الرمزي الذي هو عنف غير فيزيائي، يتم أساسا عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة و الإيديولوجيا، وهو شكل لطيف وغير محسوس من العنف، و غير مرئي حتى بالنسبة لضحاياهم أنفسهم. وينتقد بورديو الفكر الماركسي الذي لم يول اهتماما كبيرا للأشكال المختلفة للعنف الرمزي، مهتما أكثرا بأشكال العنف المادي والاقتصادي. كما أشار بورديو إلى أن العنف الرمزي يمارس تأثيره حتى في المجال الاقتصادي نفسه، فالسلع المعلن عنها عبر الإشهار في وسائل الإعلام أو المعروضة في واجهات المتاجر بقدر ما تؤجج الرغبة، بقدر ما تمارس عنفا اقتصاديا وإنهاكا مستمرا للقدرة الشرائية العاجزة أصلا.
إن العنف الرمزي يمارس على الفاعلين الاجتماعيين بموافقتهم وتواطئهم. ولذلك فهم غالبا ما لا يعترفون به كعنف؛ بحيث أنهم يستدمجونه كبديهيات أو مسلمات من خلال وسائل التربية والتنشئة الاجتماعية وأشكال التواصل داخل المجتمع. وعلى سبيل المثال، فالعنف يتسلل حتى إلى قلب العلاقات العاطفية بين الجنسين، إذ يرى عالم الاجتماع الأنجلييزي غيدنز أن المرأة كانت في الماضي بمنزلة أحد المنقولات في حيازة الرجل ومن ثم عوملت بالعنف الذي تقتضيه هذه الحيازة، غير أن الاحترام والحب يمكن أن يكون أيضا صورة من صور الهيمنة الأقوى أكثر من استخدام القوة المجردة. فلقد عوملت المرأة الفاضلة بروح المودة والتصديق والتقدير لتستمر في إلزام نفسها بالفضيلة والعفة في المجتمع الأبوي!
ومن هذه الزاوية يمكن، حسب بورديو فهم الأساس الحقيقي الذي تستند إليه السلطة السياسية في بسط سيطرتها وهيمنتها؛ فهي تستغل بذكاء التقنيات والآليات التي يمرر من خلالها العنف الرمزي، والتي تسهل عليها تحقيق أهدافها بأقل تكلفة وبفعالية أكثر، خصوصا وأن هناك توافقا بين البنيات الموضوعية السائدة على أرض الواقع وبين البنيات الذهنية الحاصلة على مستوى الفكر.
وفي سعيه الدؤوب إلى إخفاء نفسه كعنف، قد يتخد أيضا شكل عنف طقوسي أو مقدس، عندما يصبح جزءا من طقوس أو شعائر دينية: صحيح أن القرابين تقتصر اليوم على الأضاحي الحيوانية لكنها كانت في ما مضى قرابين بشرية. فياله من عنف يواري باتخاده شكل التقوى والقربات للآلهة !

المحور الثاني: العنف في التاريخ

طرح الإشكال:
كان قتل قابيل لهابيل أول حدث يقصه علينا القرآن الكريم و يكسر حالة اللاحدث التي أعقبت نزول سيدنا آدم إلى الأرض، ليكون بذلك أول حدث عرفه تاريخ الإنسانية. ما دلالة أن يستفتتح التاريخ الإنساني بحادثة قتل وعنف؟ هل كان العنف مجرد فاتحة للتاريخ كما توحي بذلك هذه الواقعة؟ أم أنه استمر ملازما للصيرورة التاريخية؟ وكيف للعنف أن يضطلع بدور في التاريخ رغم أنه خراب وهدم وإفناء ؟
هل العنف مجرد ظاهرة عابرة و نتيجة لأسباب محددة كما تذهب إلى ذلك الماركسية حين أرجعت أصل العنف إلى التفاوت الطبقي ؟ أم أنه على العكس من ذلك عنف مؤسس و محايث للتاريخ الإنساني؟

1-العنف المؤسس و المدشن للتاريخ: طوماس هوبز، فرويد

ماذا نقصد بكون العنف مؤسسا و مدشنا للتاريخ؟ نقصد بذلك أن ما هو إنساني، ما يميز الإنسان عن الحيوان من قبيل المؤسسات والأخلاق والتقديس… لا يظهر إلا عقب العنف وبفضله.
أسوة بباقي منظري العقد الاجتماعي، يتصور هوبز أن الإنسانية مرت بحالة الطبيعة قبل ولوجها حالة الاجتماع. ولما كان العدوان والحذر والتنافس غالبا على طبيعة الإنسان لدرجة تجعل منه ذئبا لأخيه الإنسان، فإن حالة الطبيعة المذكورة، وفي غياب سلطة عليا، تتحول إلى حالة حرب الكل ضد الكل، أي حالة من العنف المعمم الذي يحيل حياة الإنسان إلى حياة حيوانية بئيسة لا ينعم فيه أحد بالأمن والأمان مهما بلغت قوته، وحتى في الحالة التي يهدأ في الاقتتال ظاهريا فإنه يظل مخيما على شكل إرادة صراع واضحة ومؤكدة، مثل سحابة كثيفة مخيمة تنذر بالعاصفة والمطر.
في مثل هذه الأحوال ولد الاجتماع و الدولة كخيار قسري للخروج من حالة العنف المعمم، فيكون العنف بذلك مؤسسا للتاريخ إذا افترضنا أن هذا الأخير لا يبدأ إلا مع الاجتماع و المؤسسات والدولة.
إن العنف لا يدشن التاريخ السياسي فحسب كما رأينا مع هوبز، بل التاريخ الأخلاقي والديني أيضا: يخبرنا فرويد في كتابيه: “الطوطم والطابو” و ” موسى والتوحيد” بأن قتل الأب هي الواقعة التي تؤرخ لبداية المؤسسات وحظر المحارم وقواعد التحريم بصفة عامة: لقد كان هذا الأب ذكرا قويا، أبا للعشيرة مستحوذا على نسائها، مقصيا باقي الذكور من أبنائه، الذين لم يجدوا أمامهم من حل سوى الاتحاد لقتله و “أكله”. ولكن مشاعر الذنب التي أعقبت قتله ومشاعر الخوف من عودته وانتقامه، دفعتهم إلى تحويله إلى طوطم أي تمثال أو رمز للعبادة، كما حرموا على أنفسهم القتل و التشبه بالأب في الاستحواذ الجنسي على الأم وبناتها أي حظر المحارم… وهي على الجملة عماد الحياة الأخلاقية والدينية.
هكذا يبتبدى العنف كحدث مؤسس للتاريخ، كظاهرة قبل-تاريخية، تسبق التاريخ وتفتتحه، ولكن ألا يمكن للسيرورة التاريخية نفسها أن تفرز العنف أثناء نموها ؟

2- العنف كظاهرة عابرة في التاريخ: الماركسية

خلافا لهوبز و فرويد، فالعنف لم يظهر حسب ماركس إلا كنتيجة للانقسام الطبقي الذي أعقب المشاعة البدائية، وبعبارة أخرى فالصراع الطبقي هو المولد لظاهرة العنف في التاريخ. يقول ماركس: ” لم يكن تاريخ أي مجتمع لحد الآن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات، لقد كان المضطهدون والمضطهدون في حالة تعارض ومواجهة وأقاموا بينهم حروبا لا تتوقف تنتهي بتغيير المجتمع برمته أو هلاك الطبقتين المتصارعتين معا”
وفي مسرح الصراع هذا، تغير المتصارعان المتواجهان و لكن الصراع ظل قائما: نجد في المجتمع الروماني القديم طبقتين متمايزتين: هما السادة والفرسان من جهة والأقنان والعبيد من جهة أخرى. كما نجد في القرون الوسطى السادة والشرفاء من جهة، والأقنان والحرفيون العاديون من جهة أخرى؛ وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث، نجد البورجوازية (الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج) في مقابل البروليتاريا. ولن يتسنى إلغاء هذا الصراع العنيف إلا بإلغاء أسبابه ودواعيه وهي الطبقية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، عندها سيحل استغلال الإنسان للطبيعة محل استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. ولكن ألن تصبح هذه الأخيرة موضوعا و ضحية للعنف بدورها !؟
بين ماركس إذن أن العنف مجرد ظاهرة تاريخية ناتجة عن الصراع الطبقي الذي هو المحرك الأول لعجلة التاريخ، والمسؤول عن الصيرورة التاريخية والعامل الحاسم في الانتقال من نمط إنتاجي لآخر لدرجة أن انجلز يشبه الصراع بالمرأة القابلة التي تستطيع توليد مجتمع ولو كان هرما La violence est l’ accoucheuse de toute vielle societé! وهذا ما دفع بالماركسيين إلى شرعنة ما يسمى بــ “العنف الثوري” أي تلك الأشكال من العنف التي تستهدف تقويض النظام وبث الفوضى في أوصاله وتخريب بنيته التحتية و منشئاته للتعجيل بزواله عندما تعجز الآليات الديمقراطية عن تحقيق الانتقال المنشود.

المحور الثالث: العنف والمشروعية

ترتد إشكالية العنف والمشروعية في نهاية التحليل إلى إشكالية الدولة بين الحق والعنف التي سبق أن عالجناها في المحور الثالث من درس الدولة، وذلك لأن مشروعية العنف أو عدم مشروعيته تتحدد دائما بالقياس إلى قوانين أو مؤسسات قائمة أو مبادئ أخلاقية،
ثم أي عنف هذا الذي نبحث في مشروعيته؟ هل هو عنف الأفراد ضد بعضهم البعض؟ كلا. فهذا العنف يفقد مبرره ومشروعيته منذ اللحظة التي يظهر فيها المجتمع. وحيث أن الدولة هي الطرف الوحيد التي بات يحتكر اليوم إستعمال العنف، فإن العنف الذي نتحدث عن مشروعيته إما أن يكون عنفا صادرا عن الدولة وأجهزتها تجاه مواطنيها أو بين الدول ضد بعضها البعض، ولايمكن أن يكون عنفا صادرا من الفرد اللهم إلا إذا كان موجها ضد الدولة نفسها، ينازعها السيادة أو السلطان. وبناءا عليه يمكن الرجوع إلى محور الدولة بين الحق والعنف من أجل تبين هذه العلاقة الملتبسة القائمة بين العنف والمشروعية

ملحق: اللاعنف عند غاندي كرفض مطلق للعنف:

اكتفت المواقف التي أتينا على ذكرها بالبحث في أشكال العنف أو دوره في التاريخ، في حين أن غاندي يرفضه جملة وتفصيلا وبشكل مطلق وراديكالي مهما كان شكله أو غايته!
يعرف غاندي اللاعنف كموقف كوني تجاه الحياة، إنه “الغياب التام لنية الإساءة تجاه كل ما يحيا” بمعنى أن اللاعنف مثله مثل العنف لا يقع على مستوى الفعل فقط بل والنية أيضا. ولكن كيف نتعامل مع العنيفين والمستبدين و الظلمة؟ يجيب غاندي: عن طريقة المقاومة الأخلاقية والذهنية، أي رفض العنف والامتناع عن ممارسته بالفعل أو بالنية مهما كانت الغايات والأهداف. فمواجهتي لسيف المستبد كما يرى غاندي لا تكون باستلال سيف أكثر مضاءا وحدة يفله، بل بأن أخيب أمله في أن يراني أواجهه بمقاومة مادية، فهو سيراني بدلا من ذلك أواجهه بمقاومة روحية تفلت من تقديره وتحكمه.
يذكرنا موقف غاندي بموقف المسيح عليه السلام الذي ينصح الإنسان بأن يدير خده الأيمن لمن يلطمه على خده الأيسر !، ولكن ما هي فعالية مثل هذا الموقف في عالم يبتكر يوما بعد يوم أسئلة أكثر فتكا وأشد تنكيلا !؟

Facebooktwitterredditmailby feather

الدولة – مجزوءة السياسة

المحور الأول: مشروعية الدولة وغاياتها

طرح الإشكال:

السلطة ظاهرة محايثة للاجتماع البشري. ومادامت السلطة تقتضي الامتثال والخضوع، فإنها تحتاج دوما إلى تبرير وشرعنة، بما في ذلك سلطة الأب على أبنائه! هكذا يجد كل ذي سلطة نفسه مطالبا دائما بتبرير سلطته، وعندما تتخذ السلطة شكل دولة، فإنها تواجه بدورها سؤال التبرير والمشروعية:
لماذا الدولة؟ وما غايتها؟ ما علاقتها بالأفراد المكونين لها؟ هل تستمد الدولة من الفرد مبدأ وجودها أم أن الفرد هو الذي يستمد من الدولة مبدأ وكمال وجوده؟ هل الدولة في خدمة الفرد أم الفرد في خدمة الدولة؟

معالجة الإشكال:

1- موقف التصور التعاقدي والمذهب الفرداني: الفرد غاية الدولة
للبحث في مشروعية الدولة وتعيين غاياتها يلجأ التصور التعاقدي إلى البحث أولا في منشئها، انطلاقا من فرضية حالة الطبيعة. يقول لوك: ” لكي نفهم السلطة السياسية فهما صحيحا ونستنتجها من أصلها ينبغي أن نتحرى الحالة الطبيعية التي وجد عايها جميع الأفراد” هنا تظهر الدولة كمجرد اتحاد بين أفراد يتمتعون بحقوق طبيعية سابقة زمنيا على ظهور الدولة رغبوا لهذا السبب أو ذاك في تيسير العيش المشترك، وأولى حقوقهم هي إرادتهم التي جسدوها في هذا العقد. ينتج عن ذلك أن لا حقيقة ولا وجود للدولة قبل الفرد، الفرد مقدم و سابق عليها، منه تستمد مبرر وجودها ومن ضمان مصالحه تشتق غاياتها. ولذلك يقترن التصور التعاقدي أحيانا بالمذهب الفردي وأحيانا أخرى بالليبرالية
ماذا ينتظر من الدولة؟ وما غاياتها؟
يميز جون لوك بين الخيرات المدنية والخيرات الدينية أو نجاة الأرواح. وتتمثل الأولى في خيرات ذاتية كالحياة والحرية وسلامة البدن وخيرات خارجية كالأرض والنقود وما سواها من الممتلكات، أما الخيرات الدينية فهي تقوى النفس ونجاتها من الضلال والشقاء الأبدي في الآخرة. و اختصاص الدولة بوصفها سلطة مدنية يقتصر على حماية الخيرات المدنية أما ترامي سلطانها إلى الخيرات الدينية فلن ينجم عنه سوى الحرب وتقويض السلم المدني

2- موقف التصورات الكليانية: الدولة غاية ذاتها
بيد أن تقديم الفرد على الدولة – كما رأينا مع التصور التعاقدي والليبرالي- لا يعني عند بعض الفلاسفة سوى خراب هذه الأخيرة! إذ كيف يعقل أن يستمد مبدأ الكل من الجزء والدائم من العرضي؟
تتمثل غاية الدولة عند أفلاطون في تحقيق السعادة، لا بوصفها سعادة الفرد، بل بوصفها نظام وانسجام الكل: وعليه لا يعدو الأفراد عن كونهم مجرد لوالب في جوف هذه الآلة الضخمة المسماة دولة، يقومون بمهام تتناسب وطبائعهم التي ولدووا بها، ينتجون وينجبون ويحاربون من أجل الدولة. فلا قيمة لرغباتهم أو مسراتهم أو أحزانهم أو عواطفهم إلا بما يحقق لهذه الأخيرة النظام والانسجام.
وفي العصر الحديث، يرفض “هيجل” بدوره التصور التعاقدي السابق لكونه يجعل غاية الدولة “خارجية ” عندما يحصرها في تحقيق السلم والحرية وحماية ممتلكات الأفراد. فالدولة بهذا المعنى ستكون مجرد وسيلة لتحقيق أهداف خارجة عنها، أهداف يعتبرها “هيجل” خاصة بالمجتمع المدني، كمجال لإشباع حاجيات الأفراد اليومية والانتاج الاقتصادي وللتنافس بينهم في ظل تعارض مصالحهم الخاصة، في حين أن الدولة تمثل غاية في ذاتها بوصفها تجسيدا للمطلق. و ككيان ينتزع الفرد من الخصوصية والأنانية ليسمو به إلى مستوى الكونية ويحقق اكتماله الأخلاقي، وذلك لأنها هي الجوهر الأخلاقي وقد وصل إلى الوعي بذاته.
نخلص إلى أن هيغل يقدم الدولة على الفرد ويجعلها سابقة على الأسرة والمجتمع المدني نفسيهما لأن فكرتها محتوية لهذين العنصرين معا: ففي حضن الدولة فقط تستطيع الأسرة أن تتحول إلى مجتمع مدني.
ويبدو أن الماركسية لم ترث عن الهيغيلية منهجها الدياليكتيكي فحسب، بل تصورها الكلياني للدولة بإسم أولوية الجماعة على الفرد، وانتهت إلى صهر هذا الأخير وإلغائه لصالح الدولة وأجهزتها البيروقراطية والبوليسية: لقد غدت الدولة فعلا غاية في ذاتها وهذا ما تجلى واضحا في بعض الأشكال الواقعية للدولة في الكثير من البلدان الاشتراكية ودول العالم الثالث

المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية

طرح الإشكال:
وفق أي منطق وبموجب أي مبدأ تمارس السلطة السياسية؟ هل يمكن أن تنضبط هذه السلطة للمبادىء الأخلاقية، أم أن منطق العمل السياسي وإكراهاته يتعارض كليا مع منطق الأخلاق وإلزاماتها وقيودها، على أساس أن السياسة مجال الممكن، والأخلاق مملكة الواجب؟ ماهي غاية الفعل السياسي؟ الفضيلة أم الفعالية ؟

معالجة الإشكال:

1- التصور الأخلاقي لطبيعة السلطة السياسية: السياسة رفق واعتدال
بتأثير من أرسطو، وإلى حدود الفلسفة الحديثة، سيطرت على الفلسفة السياسية مقولة الاعتدال ضمن تصور يعتقد في وحدة الأخلاق والسياسة على أساس أن السياسة هي المجال الأوسع للممارسة الأخلاقية وأنها كمال الفلسفة العملية بوصفها تدبيرا للمدينة يتوج تدبير النفس و تدبير للمنزل معا. وقد عبر عن ذلك أستاذه أفلاطون حينما تمنى أن يكون الحاكم فيلسوفا أو أن يصير الفلاسفة حكاما ليحصل الجمع بين السلطة والحقيقة، مادام الفلاسفة على حد تعبير أفلاطون هم أصدقاء وحلفاء الحقيقة والعدالة والشجاعة والعفاف، أصحاب العقول المولعة دائما بالعلم الذي يتناول الدولة بكاملها ليقيم تنظيمها الداخلي على أفضل وجه ممكن مستلهما قوانين الجمال والخير والعدل
في إطار هذا التصور الأخلاقي للمجال السياسي وللسلطة السياسية، يوصي ابن خلدون أن تكون العلاقة بين السلطان والرعية مبنية على الرفق في التعامل: فقهر السلطان للناس وبطشه بهم يؤدي إلى إفساد أخلاقهم، بحيث يعاملونه بالكذب والمكر والخذلان، أما إذا كان رفيقا بهم ، فإنهم يطمئنون إليه ويكنون له كل المحبة والاحترام، ويكونون عونا له أوقات الحروب والمحن.
كما يتوجب عليه التحلي بالاعتدال الذي هو الوسط بين الذكاء بما هو إفراط في الفكر والبلادة بما هي إفراط في الجمود مثلما أن الكرم وسط بين التبذير والبخل، والشجاعة وسط بين التهور والجبن من جهة أخرى.
← هكذا فإن ابن خلدون يحدد طبيعة السلطة السياسية في التشبث بمكارم الأخلاق المتمثلة أساسا في الرفق والاعتدال. ولكن إلى أي حد تستطيع الأخلاق أن تنسجم وطبيعة السلطة السياسية في الممارسة العملية؟

2- التصور البراغماتي الواقعي لطبيعة السلطة السياسية:
أحدث كتاب “الأمير” قطيعة مع الفلسفة السياسية السابقة ذات المنحى الطوباوي المثالي، فلم يعد السؤال عند ميكيافيلي هو “كيف تمارس السلطة وفق المبادئ الأخلاقية أو الدينية؟” ، بل السؤال هو: “كيف يمكن الحصول على السلطة والمحافظة عليها؟” لذلك ينصح ميكيافليي الأمير باستخدام طريقتين من أجل تثبيت سلطته السياسية: الأولى تعتمد القوانين ولكنها غير موفية بأغراض الحكم، أما الثانية فتعتمد على القوة والبطش، جنبا إلى جنب مع المكر و الدهاء. وإذا استخدمنا استعارة لا تخلو من دلالة من مملكة الحيوان، فعلى الأمير أن يكون أسدا قويا لكي يرهب الذئاب، وأن يكون ثعلبا ماكرا لكي لا يقع في الفخاخ.
وقد تبين من شواهد التاريخ حسب ميكيافلي أن هناك أمراء أصبحوا عظماء دون أن يلتزموا بالمبادئ الأخلاقية السامية، كالمحافظة على العهود مثلا، بل قد استخدموا كل وسائل القوة والخداع للسيطرة على الناس والتغلب على خصومهم.
يعترف ميكيافيلي بأن مبادئ السلطة السياسية التي يبشر بها ستكون شريرة، ولكن في حالة واحدة وهي تلك التي يكون فيها جميع الناس أخيارا ! والواقع أنهم ليسوا كذلك، ومن ثم لا يلزم أن ينضبط الأمير للمبادىء الأخلاقية في تعامله معهم، بل لا بد أن تكون له القدرة الكافية على التمويه والخداع، وسيجد من الناس من ينخدع بسهولة. وقد صور شكسبير بشكل رائع سهولة انخداع العامة في مسرحية “يوليوس قيصر” حيث تناوب الخطيبان بروتوس وأنطونيوس على تجييش مشاعر العامة لصالحه رغم أن أولهما قاتل قيصر والثاني صديقه المنادي بالثأر له !!
هكذا يتبين أن السياسة، مع ماكيافيلي، تنبني على القوة والمكر والخداع.

المحور الثالث: الدولة بين الحق والعنف

طرح الإشكال:
يمثل العنف العدو المعلن لكل دولة. فما من دولة في الماضي أو الحاضر إلا ورفعت شعار استتباب الأمن والنظام والعدالة والحق ، وبعبارة أخرى محاصرة نواتج العنف من رعب وفوضى وظلم ، ولكن هل يمكن للدولة أن تحاصر العنف وتواجهه إلا بعنف مضاد أشد هولا ؟ وفي هذه الحالة كيف نضمن مشروعية هذا العنف وقد غدت الدولة خصما وحكما في نفس الوقت ؟

معالجة الإشكال:

1- الدولة واحتكار الاستعمال المشروع للعنف
من المفيد في البداية أن نرفع بعض اللبس: لا تمثل الدولة المصدر الوحيد للعنف، فالمجتمع ينتج ويفرز بدوره عنفه الخاص، سواء تعلق الأمر بالعنف المعزول للأفراد كالمجرمين أو عنف الجماعات ضد بعضها البعض بسبب الطابع الانقسامي للمجمتع ( انقسامه إلى طبقات اقتصادية، أحزاب سياسية، إثنيات، مشجعي الفرق الرياضية…)
ورغم أن الدولة تعلن العنف عدوها اللدود، فإنها لا تستطيع مع ذلك مواجهته إلا بمثله أي بعنف مضاد، ولذلك لم يجد ماكس فيبر من خاصية يعرف بها الدولة غير هذه الخاصية: “احتكار الاستعمال المشروع للعنف”. صحيح أن العنف ليس الوسيلة الوحيدة للدولة لكنه وسيلتها الخاصة بحيث تقوم بينها وبينه علاقة حميمة، خصوصا بالنسبة للدولة المعاصرة التي خلقت لنفسها طبقة بيروقراطية ينفصل فيها المنصب عن الموظف الذي يسميه فيبر “خادم الدولة الحديثة”، فغدت الدولة من حيث هي أجهزة متمايزة عن المجتمع، مما اقتضى تجريد جميع أفراد المجتمع وهيئاته من حق استخدام العنف: وهكذا لم يعد هناك سيد ليجلد عبده أو إقطاعي يعاقب أقنانه، أو زوج ليضرب زوجته وأبناءه، وتزامن كل ذلك مع نزع الطابع العنيف عن العقوبات القضائية الماسة بالسلامة الجسدية والاكتفاء بتلك العقوبات السالبة للحرية.

2- الدولة والعنف: علاقات ملتبسة
لا مراء في أن الدولة المعاصرة تدعي لنفسها قانونيا احتكار الاستعمال المشروع للعنف، ولا يوجد اعتراض على مبدأ الاحتكار في حد ذاته، بيد أن ممارستها لهذا الشيء المحتكر لا تخلو واقعيا من مفارقات حتى في أكثر الدول ديموقراطية.
تتعلق المفارقة الأولى بثنائية الشرعية والمشروعية: من اليسير على الدولة أن تثبت أن العنف الممارس ضد فرد أو جماعة كان شرعيا محتجة بحفظ النظام أو استباق المخاطر… ولكن هل كان عنفا مشروعا؟ بل هل كان ضروريا؟ وفي هذه الحالة، هل مورس ضمن الحدود التي لا تتعارض فيها مع حقوق الإنسان وكرامته؟
تقحمنا هذه الأسئلة في قلب المفارقة الثانية المتعلقة بكمية العنف اللازم لمواجهة عنف الأفراد والجماعات: كيف يمكن تقدير كمية العنف لوقف عنف مشجعي فريق رياضي غاضبين؟ هل يحتاج الأمر إلى عنف أكبر من عنفهم أم أقل منه أو مساو له ؟ تلك هي الأسئلة التي تواجه السلطة القضائية باستمرار.
ومن جهة أخرى، وبسبب احتكارها وتكديسها لوسائل وتقنيات العنف المعززة بتكنلوجيا تزداد تطورا يوما بعد يوم، تتحول الدولة إلى نوع من الليفياتان/التنين، إلى عنف بدون حق خصوصا في غياب إمكانية اللجوء إلى قاض ضمن فصل واضح للسلطات.
وأخيرا فإن احتكار الدولة للعنف المشروع لا يكتسي كامل معناه عند فيبر إلا من واقعة استقلالها عن المجتمع وتناقضاته، ولكن ما حقيقة استقلال الدولة عن المجتمع وحيادها؟ هل تقتصر وظيفتها على التنظيم والتدبير المحايدين والمستقلين عما يعرفه المجتمع من نزعات وانقسامات وتناقضات؟
تشكك الماركسية في هذه الاستقلالية المزعومة، لتخلص أن العنف المحتكر من قبل الدولة لن يكون مشروعا أبدا في ظل مجتمع منقسم طبقيا. ذلك إن تناقض المصالح الطبقية وما ينجم عنه من صراع يهدد بتيديد المجتمع قد فرض الحاجة إلى الدولة كسلطة عليا تضع نفسها ظاهريا فوق المجتمع لتقلل من حدة الصراع وتبقيه ضمن حدود النظام أي فرملة التناقضات القائمة بين طبقات المجتمع. غير أن الدولة وقد تولدت في قلب الصراع، فلن تكون سوى دولة الطبقة المسيطرة اقتصاديا وأداة أخرى من أدوات تيسير مهمة الاستغلال بالوسائل العنيفة ان اقتضى الأمر. إنها عنف طبقة ضد أخرى

Facebooktwitterredditmailby feather

علمية العلوم الإنسانية- مجزوءة المعرفة

بين يدي الإشكال: مقدمة لابد منها- العلوم الإنسانية بين الفلسفة والعلوم الحقة:

هذه بعض الأبجديات التي سنستخدمها مرارا في الدرس، فوجب استيعابها منذ البداية
صحيح أن العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع أو علم النفس أو الانثربلوجيا أو الاقتصاد، حديثة النشأة في القرن التاسع عشر، بيد أن الدراسات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية قد وجدت دوما مبثوثة في ثنايا المصنفات الفلسفية؛ بل إننا إذا تأملنا علما إنسانيا خاصا هو علم التاريخ نجده علما عريقا عراقة علم الرياضيات نفسه. ولكننا نلاحظ أيضا أن علم التاريخ نفسه ورغم عراقته لم يطرح وجوده أية إشكالية منهجية أو ابستملوجية إلا منذ القرن الثامن عشر. لماذا؟
لقد تزامن ذلك مع الميلاد الحديث للعلوم التجريبية التي قدمت نموذجا باهرا للعلمية سواء من حيث دقة المناهج والنتائج أو نجاعتها لما وفرته من قدرة على التحكم في الظواهر الطبيعية، ولن يكف هذا النموذج عن ممارسة تأثيره وجاذبيته منذ ذلك الوقت.
هكذا سيكون وجود العلوم الإنسانية موسوما منذ البداية بالتوتر بين قطبين، موجودان أصلا في الاسم نفسه “علوم / إنسانية

  • -“علوم” يحيل هذا المكون بشكل لا مفر منه على العلوم التجريبية التي تمثل كما أسلفنا- النموذج المثالي للعلمية؛
  • إنسانية“: يحيل هذا النعت إلى الفلسفة من حيث أن هذه الأخيرة تتخذ بدورها الإنسان كموضوع لها

ويتضح ذلك في الجدول التالي:

طرح أولي للإشكال:
هل تستطيع العلوم الإنسانية أن تنأى عن الفلسفة ؟ وفي هذه الحالة هل ستسعى إلى التطابق مع العلوم الحقة؟ أم أنها ستزاوج بين مناهج الفلسفة ومناهج علوم الطبيعة؟ أم ستبدع لنفسها منهجها الخاص ها بحيث يلاءم خصوصية الظواهر الإنسانية؟
ماهي خصوصيات الظواهر الإنسانية أولا؟

  • ظواهر فريدة، غير قابلة للتكرار وما يستخلص من دراسة ظاهرة واحدة يصعب تعميمه لنذرة الظواهر المماثلة،
  • ظواهر معقدة، متعددة ومتداخلة الأبعاد يصعب عزلها بيسر أو تعيين دور كل منها في تحديد الظاهرة. والأبعاد المقصودة هي: البعد البيولوجي، الاجتماعي، الثقافي، النفسي، التاريخي، الاقتصادي…

إعادة صياغة الطرح الإشكالي:

إذا علمنا أن العلم، كيفما كان، يتحدد من خلال موضوع ومنهج. فيمكننا طرح إشكالية “مسألة العلمية في العلوم الإنسانية” من زاويتين: زاوية الموضوع وزاوية المنهج

  • إشكالية الموضوع: كيف يمكن للظاهرة الإنسانية أن تغدو موضوعا للعلم أي موضوعا لدراسة منهجية ؟ والحال أنها ظاهرة واعية و الدارس والمدروس معا هو الإنسان !
  • إشكالية المنهج: بعد أن تعين العلوم الإنسانية موضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أ ي شرط نتحدث ؟ إذا كان النموذج الذي أتبث فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم الحقة، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد استبدادية نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟

المحور الأول: إشكالية موضعة الظاهرة الإنسانية

يقصد بالموضعة مختلف الإجراءات المنهجية الهادفة إلى تعيين ظاهرة ما أو طائفة من الظواهر كموضوع علمي متمايز عن الذات الدارسة.
كيف يمكن للظاهرة الإنسانية أن تغدو موضوعا للعلم أي موضوعا لدراسة منهجية ؟ والحال أنها ظاهرة واعية والدارس والمدروس معا هو الإنسان !

1-في سبيل موضعة الظاهرة الإنسانية:

غالبا ما تطرح إشكالية الموضعة في مرحلة نشأة علم ما، عندما ينشغل رواده بتعريف موضوع علمهم ليتسنى لهم دراسته. في هذا الإطار نفهم تعريف إميل دوركايم لموضوع السوسيولوجيا بوصفه مرافعة من أجل موضعة الظاهرة الإنسانية. يرى دوركايم أن هذه الموضعة ممكنة لأن الظاهرة الاجتماعية شيء كباقي الأشياء. وتعريف الشيء عنده هو الموجود وجودا خارجيا بحيث يعطى للملاحظة؛ ولذلك تنص أولى قواعد المنهج السوسيولوجي على معاملة الظواهر الاجتماعية كأشياء مادامت تتميز بالخارجية والوجود المستقل عن وعي الأفراد الذين يعونها ويتمثلونها ويخضعون لقسرها ولا يسعهم اختراعها أو تغييرها. وبذلك تتحقق مسافة وانفصال منهجي بين الذات ( عالم الاجتماع) و الموضوع وهو هنا الظاهرة الاجتماعية: إن ظاهرة الزواج مثلا أو الظاهرة الدينية وغيرها من ضروب السلوك والتفكير والشعور الاجتماعي لا توجد فقط خارج وعي الفرد، بل إنها تمتاز أيضا بقوة آمرة قاهرة بحيث تفرض نفسها على الأفراد.
وبذلك يظهر ان دوركايم يراهن على تحييد الوعي أي إفراغ الظواهر الإنسانية من خاصية الوعي ليتسنى موضعتها، لأن الوعي “عدو العلم” كما يقول ليفي شتروس

فقرة انتقالية: هل يكفي تعريف الظاهرة الاجتماعية / الإنسانية بالخارجية والقسر والاستقلال عن وعي الفرد لحل مشكلة الموضعة وتداخل الذات والموضوع؟

2- عوائق الموضعة
يرى جون بياجي أن موضعة الظاهرة أكثر تعقيدا نظرا لتداخل الذات والموضوع على أكثر من صعيد.

  • فالذات الملاحظة بقدر ما تلاحظ غيرها وتجرب على غيرها، فإنها في نفس الوقت تلاحظ ذاتها وتجرب على ذاتها، وينتج عن ذلك أن تفاعل الذات والموضوع في فعل الدراسة يؤثر في سير الظاهرة المدروسة مثلما يؤثر في الذات الدارسة
  • غالبا ما تكون الذات الدارسة حاملة لمعرفة عفوية، مسبقة وحدسية حول الظاهرة المدروسة. لأن الدارس وقبل أن يكون عالم اجتماع مثلا فهو فاعل اجتماعي يتعرض لتأثير المعرفة الاجتماعية المتداولة. نقول إذن إن تحقيق القطيعة الابستملوجية بين المعرفة العفوية والمعرفة العلمية ليس بالأمر اليسير كما هو حال في علوم الطبيعة
  • يضاف إلى كل ما سبق الالتزام الفلسفي أو الايديلوجي لعالم الإنسانيات بحيث قد يميل إلى التبرير أو الإدانة ويجانب الحياد فيتجاوز الوصف إلى التقييم، وهو ما يسمى بمشكلة “أحكام القيمة”

خلاصة: إن السعي الحثيث لعلماء الإنسانيات من أجل تعريف موضوع علمهم وتحيييد الوعي وابتكار تقنيات لتحقيق القطيعة مع المعرفة العفوية لدليل على خصوصية الموضوع وما تطرحه موضعته من عوائق.

المحور الثاني: العلوم الإنسانية أمام نموذج علوم الطبيعة: مشكلة الفهم والتفسير

بعد تعيين العلوم الإنسانية لموضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أي شرط نتحدث ؟ إذا كان النموذج الذي أتبث فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم التجريبية، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد استبدادية نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟

1- العلوم الإنسانية ومنهج التفسير:

يقصد بالتفسير هنا كشف العلاقات الثابتة الموجودة بين حادثتين أو أكثر، وإقامة علاقات سببية بينها بموجب ذلك. وهذا هو التفسير السببي، أما التفسير الغائي فقد أهمله العلم. ولايلائم التفسير السببي سوى الظواهر المتماثلة المطردة والقابلة للتكرار ليتم التعميم ( تفسير سقوط الأجسام بقانون الجاذبية)
وقد ارتبط منهج التفسير بالاتجاه الوضعي وخصوصا لدى المدرسة السوسيولوجية الفرنسية مع دوركايم ومارسيل موس. في محاولتها الرقي بعلم الاجتماع إلى مصاف العلم الدقيق بعيدا عن المناهج التأملية.
وبما أن التفسير يقوم – كما أسلفنا – على ربط ظاهرة بأخرى ربطا سببيا، فإننا نعثر في دراسة دوركايم لظاهرة “الانتحار” على حالة تكاد تكون نموذجية لمنهج التفسير في العلوم الإنسانية: فبناءا على إحصائيات الانتحار في عدد من الدول الأوروبية، خلص إلى أن معدلات الانتحار تتناسب عكسيا مع درجة التماسك الديني، لذلك ينتحر البروتستانت أكثر من الكاثوليك؛ و مع درجة التماسك الأسري، لذلك ينتحر العازبون أكثر من المتزوجين، والمتزوجون بدون أطفال أكثر من ذوي الأطفال؛ وأخيرا مع درجة التماسك السياسي، إذ ترتفع معدلات الانتحار في أوقات الهدوء السياسي والسلم الاجتماعي أكثر من فترات الحروب والأزمات الدبلوماسية .

مثال2: ينحصر موضوع علم النفس ، حسب المدرسة السلوكية، في دراسة السلوك الإنساني القابل للملاحظة، منظورا إليه كرد فعل على مثيرات قابلة للملاحظة بدورها، وكشف القوانين المتحكمة في علاقات المثيرات بالاستجابات، والامتناع عن صياغة فرضيات حول ما يقع داخل العلبة السوداء أي الوعي الإنساني

2-عوائق منهج التفسير وامكانيات منهج الفهم:

لقد لجأ دوركايم إلى المقاربة الإحصائية لظاهرة الانتحار من أجل غربلة المحددات الذاتية، والفردية للظاهرة والاحتفاظ فقط بالمكون الجمعي للظاهرة الذي يهم السوسيولوجيا، والذي يمكن الوصول بصدده إلى تفسير سببي قابل للتعميم.
ولكن ألا يؤدي تحليل الظواهر الإنسانية على غرار الظواهر الطبيعية إلى إفراغ الأولى من أهم مقوماتها، من مكونها الداخلي أي الدلالات والنوايا والمقاصد والاكتفاء بالمحددات الخارجية للفعل ؟
بهذه الأسئلة ننفتح على دعاة المنهج المقابل، منهج الفهم والذي صاغته عبارة ديلتاي الشهيرة: ” إننا نفسر الطبيعة، لكننا نفهم ظواهر الروح”
ولكن ماذا نقصد أولا بالفهم؟
لأن الفاعل الإنساني يمنح دلالة لأفعاله وللعالم من حوله ويسلك وقف غاية من حيث هو كائن واع، فالمقصود بالفهم – في مناهج العلوم أو الميتودلوجيا – إدراك الدلالة التي يتخدها الفعل بالنسبة للفاعل، وتتكون هذه الدلالات من المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل وتتحدد بالقيم التي توجهه، وغالبا ما يتم النفاذ إلى هذه الدلالات بواسطة فعل “التأويل”، الذي اقترن ظهوره بالدراسات اللاهوتية في سعيها إلى استكناه مقاصد النصوص المقدسة ودلالاتها الخفية.
ويقدم لنا التحليل النفسي مثالا نموذجيا لعلم إنساني يكاد يعتمد كلية على الفهم بمعنى التأويل : إذ تُتناول مختلف الظواهر النفسية السوية منها والمرضية، بما في ذلك الأحلام كعلامات حاملة لدلالات يتعين تأويلها وذلك بتجاوز المعاني الظاهرة والمقاصد الواعية، لدرجة دفعت الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كان التحليل النفسي علما أو فنا في نهاية المطاف !
أما في علم الاجتماع، فيقدم لنا ماكس فيبر في دراسته الرائدة حول “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” مثالا آخر لتطبيق منهج الفهم يتركيزه على القيم المشتركة بين كل من السلوك الرأسمالي والموقف الأخلاقي البروتستانتي. وليس غريبا أن يقع اختيار فيبر على ظاهرة فريدة هي نشأة الرأسمالية في أوروبا، لأن منهج الفهم لا يهدف أصلا إلى اكتشاف انتظامات أوعلاقات سببية قابلة للتعميم على نطاق واسع

– 3-حدود منهج الفهم وعوائقه:

يستدعي منا منهج الفهم بدوره بعض الملاحظات النقدية، وأهمها لامبالاته تجاه ضرورة التمييز، الذي يحرص منهج التفسير على إقامته، بين الذات والموضوع، ومادام الفهم ينصب على الدلالات ويقوم على ضرب من التعاطف والمشاركة الوجدانية بين الدارس وموضوع دراسته، ألا يخشى أن يسقط الدارس قيمه ودلالاته الخاصة على الظاهرة ؟ وكيف لنا آنذاك أن نميز بين دلالات الفعل لدى الفاعل/موضوع الدراسة ودلالاتها لدى الدارس؟
لعل هذا هو ما حذا بغاستون غرانجي إلى تشبيه منهج الفهم بالتفكير الأسطوري السحري حيث تسقط الذات خصائصها على الموضوع، وتنصهر فيه خلاصة عامة للدرس:
بأي معنى وضمن أية شروط يمكن الحديث عن “علوم إنسانية” ؟ يحاول بعض علماء الإنسانيات استلهام مناهج العلوم الطبيعية التي أثبتت فعاليتها، بينما يرافع آخرون من أجل ابتكار منهج أصيل بدعوى عدم وجود معيار أو نموذج وحيد للعلمية. وبعبارة أخرى، يسعى البعض إلى الاستفادة من المكتسبات المنهجية للعلوم الحقة، بينما يجتهد آخرون لتأسيس نموذج مغاير للعلمية. إن هذه الإشكالات الميتودولوجية التي تعترض العلوم الإنسانية نابعة أساسا من خصوصية الموضوع وهو الظاهرة الإنسانية

Facebooktwitterredditmailby feather

الحقيقة – مجزوءة المعرفة

المحور الأول: الحقيقة والرأي

تمهيد لفهم الإشكال:
ماهو التقابل أو المفارقة الموجهة لمسار تفكيرنا في هذا المحور؟
إذا كانت الحقيقة هي مطابقة الفكر لموضوعه، فماذا نقصد بالرأي؟
لا يقصد به في هذا المقام وجهة النظر الشخصية كما في قولك: ” رأيي أن نقوم عوض أن نجلس” أي وجهة نظري أو موقفي، بل يقصد به فكرة أو تمثل أولي أو اعتقاد يعوزه اليقين في مقابل الحقيقة التي يفترض أنها يقينية مبرهن عليها بطريقة من طرق التدليل والاثبات والتحقق.
بيد أن العلامة المميزة للرأي كخطاب وكنمط من المعرفة هو كونه متداولا ومتاحا للجميع، وبهذا المعنى الأخير يغدو الرأي مرادفا للحس المشترك أي الفهم الطبيعي المشترك بين الناس، المتاح مباشرة لكل فرد دونما حاجة إلى دراسات متخصصة أو منهجية.

طرح الإشكال:
دأبت الفلسفة على تقديم نفسها كخطاب للحقيقة والحقيقة المنزهة عن الغرض بالخصوص، تلك التي تنتج عن مجهود عقلي وروحي خاص. وإذا كانت الحقيقة نقيضا للخطأ والوهم والظن والتسرع والأحكام المسبقة، فإن كل هذه الأضداد تجتمع تحت مسمى واحد: الرأي !
ولكن من يقيم هذه التقابلات أولا؟ هل هناك رأي يشير إلى نفسه باعتباره رأيا!؟ وهذه الحقيقة اليقينية الناتجة عن منهج وتدليل ومجهود عقلي، هل هي استمرار للرأي أم أنها تشكل قطيعة معه؟

معالجة الإشكال:

1- تسفيه الرأي: الحقيقة كقطيعة مع الرأي

يميز أفلاطون بين الحقيقة من جهة والرأي أو الظن أو الدوكسا من جهة ثانية بحيث أن الأولى مرادفة لليقين والجوهر بينما يرادف الرأي الوهم والمظاهر وتقدم لنا محاورة مينون مثالا لشخصين أولهما يعلم الطريق إلى مدينة “لاريسا” علم اليقين وسبق له أن زارها بينما لا يعلم الثاني هذا الطريق إلا من جهة السماع والتخمين. من الممكن أن يهتدي الثاني إلى الطريق. إن معرفته لا تتجاوز الرأي بيد أنه “رأي سديد” ، ولكن بينما يصل ذو العلم إلى مبتغاه على الدوام وبشكل يقيني، يمكن لصاحب الرأي أن يبلغ مبتغاه حينا ويضل عنه حينا آخر.
سيتخد الحذر من الرأي عند ديكارت طابعا منهجيا راديكاليا: تقع الحقيقة في نهاية سرداب يبدأ بالشروع ولو مرة واحدة في حياتنا في الشك في جميع الآراء التي تلقيناها وصدقناها وفي الأشياء التي نجد فيها أدنى شبهة من عدم اليقين بغية التخلص من الأحكام المسبقة و الآراء المتداولة التي تعجلنا في إطلاقها والتي تتشبت بأنفسنا بقوة.
وتستمر فكرة القطيعة بين الحقيقة و الرأي في الفلسفة المعاصرة وبالضبط في الابستملوجيا الباشلارية: الرأي دائما خاطئ، الرأي نوع من التفكير السيء، بل إنه ليس تفكيرا على الاطلاق. وليس تاريخ العلوم إلا تاريخ دحض وهدم مستمرين للرأي أو بالأحرى لبادئ الرأي الذي يعد واحدا من أقوى العوائق الابستملوجية ومن حيث كونه فكرا تفرزه الحياة اليومية الغارقة في البراغماتية، فإن الرأي يكتفي بترجمة الحاجات إلى معارف من خلال تعيينه للأشياء وفق منفعتها فيحرم نفسه بذلك من معرفتها.

فقرة انتقالية: لأن الفلسفة لا تتوانى عن وضع كل شيء موضع تساؤل بما في ذلك نفسها وادعاءاتها، فلامناص من أن نتساءل: ما “حقيقة” القطيعة بين الحقيقة والرأي؟ إذا كانت الحقيقة تفضل الرأي بكونها مبناة وفق منهج ودليل، ألا تقوم بعض الحقائق بدورها على اعتقادات وآراء لا سبيل للبرهنة أو التدليل على صحتها؟ هل يصح أن نقارب علاقة الحقيقة الفلسفية بالرأي كمقاربتنا لعلاقة الحقيقة العلمية به؟
2- إعادة الاعتبار للرأي: أوجه الاستمرارية بين الحقيقة والرأي

يعتبر الاسكتلندي توماس ريد (1710-1796) مؤلف “بحث في الفكر الانساني وفق مبادئ الحس المشترك” من الفلاسفة القلائل الذين سعوا صراحة إلى اعادة الاعتبار إلى مقولات الحس المشترك وبداهاته والتي يرى أن افتراضاتها لا تقل قبولا عن الافتراضات الميتافيزية لأغلب المذاهب الفلسفية. بل إنها تتضمن من الصواب أكثر ما تحويه النظريات الفلسفية المنافسة والمبخسة لها. كما أن ما يدخله الفلاسفة في عداد الرأي او الحس المشترك أقدر ببداهاته على مقاومة مذاهب الشك الهدامة أكثر مما تستطيع أنساقهم الفلسفية نفسها. وتتميز اعتقادات الحس المشترك حسب توماس ريد بكونيتها، إذ لا يماري فيها سوى بعض الفلاسفة والحمقى، وببداهتها إذ أن نكرانها يوقع في التناقض
وقد في نفس الإطار يندرج كتاب جورج توماس مور (1873–1958) ” دفاع عن الحس المشترك”
ويذكر فيتجنشتاين في كتابه “في اليقين” أزيد من 300 من القضايا والاعتقادات التي لا يكاد يتطرق إليها الشك ولم يجر أبدا التحقق أو التفكير في التحقق منها، بل ويستحيل التحقق من بعضها شخصيا كالاعتقاد بأن للناس أدمغة في جماجمهم أو أن هذين هما والدي فعلا وأن لي أجدادا وأسلافا وأنه توجد قارة تدعى استراليا…تدخل هذه القضايا وغيرها ضمن ما يسميه فيتجنشتاين بــ “صورة العالم” وهي أساس لكل ما أبحث عنه وأود تأكيده لاحقا وكل القضايا التي تريد وصف تلك الصورة غير خاضعة بدورها للتحقق. وبذلك يتطابق الرأي مع البداهات والحدوس الأولية التي يملكها الفرد عن العالم

خلاصة: ماحقيقة التعارض بين الحقيقة والرأي؟

مما لا مراء فيه أن الحقيقة في العلم الذي يزداد موضوعه تخصصا ومناهجه دقة، تتعارض في أحيان كثيرة مع الرأي والحس والمشترك؛ والدوران البادي للشمس حول الأرض خير دليل على ذلك، ولكن ماذا عن حقائق الحياة اليومية والحقائق الأخلاقية والسياسية، وهي المجالات التي تنازع فيها الفلسفة الحس المشترك المشروعية وتنعته بالرأي؟
نسجل أولا أن الرأي أو الحس المشترك ليس كونيا أو لازمنيا كما اعتقد طوماس ريد، بل هو منتوج ثقافي يترجم القيم السائدة في حقبة أو مجتمع معين. ألم يكن الرق في وقت من الأوقات مقبولا من قبل الحس المشترك كممارسة لا غبار عليها من الناحية الأخلاقية ؟
ولكننا نسجل من جهة أخرى ميل الديمقراطيات الحديثة إلى إعادة الاعتبار للرأي فيما يسمى بالرأي العام واستطلاعات الرأي وكأن القرار السياسي أو الاقتصادي أو الأخلاقي الحق والصائب ليس سوى جماع الرأي السائد والمتداول على أوسع نطاق. قد نفسر ذلك بتعذر الحديث عن حقيقة يقينية في هذه المجالات التي يسود فيها الاحتمال والترجيح le plausible، ويبدو اليوم أن الحقيقة كمرادف لليقين البرهاني أصبحت مجرد وهم في النظرية الحجاجية المعاصرة، إذ لايتعلق الأمر ببرهنة على حقائق، بل بمنح اعتقدات ما أعلى درجات الاتساق والمعقولية لتحصل على إذعان العقول، أضف إلى ذلك أن الرأي والحس المشترك لم يعد مجرد اعتقادات ساذجة، بل اصبح “رأيا متنورا” منذ اختراع المطبعة وصولا إلى ثورة وسائل الإعلام. فهل يعني ذلك أن الفيلسوف مضطر تجنبا لتهمة النخبوية لعقد مصالحة بين الحقيقة كما ينشدها والرأي الذي طالما عمل على ازدرائه وتسفيهه؟

المحور الثاني: معايير الحقيقة

طرح الإشكال:
المعيار لغة هو المكيال أو وحدة أو مرجع القياس، نقول “عاير الميزان” إذا قايسه وامتحنه بغيره لمعرفة صحته، وعيار الشيء ما جعل قياسا ونظاما له. ونستعملها هنا بمعنى الشرط أو العلامة المميزة، فيكون التساؤل عن معيار الحقيقة تساؤلا عن العلامة التي تسمح بالتعرف على الفكرة الحقيقة وتمييزها أو الشرط الذي إن توفرت في فكرة ما نعتت بالحقيقة
لايتعلق الأمر هنا بالبحث عن معيار الحقيقة؟ بل بالبحث في إمكانية الحديث عن معيار بصيغة المفرد أو عن معيار كوني: أمام تعدد مواضيع الفكر الإنساني، ما وجاهة التساؤل عن معيار الحقيقة ؟

معالجة الإشكال:
1- محاولة لتحديد معيار كوني : الوضوح والتميز

عندما ينخرط المرء في مغامرة الشك الشامل وفي عملية مسح الطاولة، لابد له من معيار أو علامة يهتدي بها إلى بر الحقيقة من جديد حسب التعبير المجازي لهيغل. ولما كان هدف الفلسفة حسب ديكارت هو كشف المبادئ الأولى التي تستنبط منها كل معرفة ممكنة، وجب وضع معيار شامل لفحص حقيقة هذه المبادئ المؤسسة وما يستنبط منها.
لننظر في الكوجيطو مثلا: لا يمثل الكوجيطو الحقيقة الأولى في النسق الديكارتي فحسب، بل يقدم لنا نموذج الحقيقة بامتياز: فهو حقيقة بسيطة واضحة استخرجها الفكر من ذاته. لذلك يشترط في جميع الحقائق أن تكون حقائقا أولية بسيطة يدركها الفكر بالحدس بكل وضوح وتميز أو حقائقا مركبة مشتقة منها عن طريق الإستنباط. وبعبارة أخرى، فالحقائق إما موضوع حدس إذا كانت أفكارا ومعان عقلية بسيطة، بديهية وفطرية يدركها العقل مباشرة؛ أو موضوع استنباط إذا كانت أفكارا وقضايا مركبة ومشتقة. وفي جميع الأحوال فالحقيقة صفة ذاتية للفكرة ولا تخرج عن دائرة الفكر وكأن الأفكار الحقيقية تحمل في ذاتها دليل حقيقتها، لذلك يقول اسبينوزا : ” الحقيقة معيار ذاتها كالنور يعرف بذاته وبه يعرف الظلام ” ولعل ذلك صادق بالخصوص بالنسبة لحقائق الرياضيات حيث لا يهتم الفكر إلا بالتطابق مع ذاته أي احترام مبادئه ومعاييره.

2- لاوجود لمعيار كوني إلا بالنسبة للحقائق الصورية

بخلاف ديكارت واسبينوزا اللذين اعتقدا في وجود معيار كوني للحقيقة بصفة عامة، لا يمكن حسب كانط الحديث عن معيار كوني للحقيقة إلا بصدد الحقائق الصورية، فمادامت المعرفة تتطلب مادة وصورة: حدوسا حسية ومقولات عقلية، فإن الأحكام التي تتضمن حدوسا حسية وهي الأحكام التركيبية لا يمكن معرفة حقيقتها بمجرد تحليل مكوناتها أو النظر فيها بذاتها، لابد أن نتأكد من مطابقتها لموضوعها وهو مادتها. وهكذا وبتأمل القضايا الثلاث التالية “السماء غائمة ، ” الوقت متأخر” ، ” جميع المعادن تتمدد بالحرارة” نجد ثلاث أحكام لكل منها موضوع وفي كل مرة ينبغي فحص الموضوع/الواقع للتأكد من مطابقة الحكم له . والمواضيع تتعدد إلى ما لانهاية، لذلك يستحيل العثور على معيار كوني شامل للحقائق المادية أو لنقل للأحكام التركيبية.
لننظر الآن في الحقائق الرياضيات والمنطق : لا يتضمن هذان العلمان أحكاما متعلقة بالعالم الخارجي، ولذلك يكفي لفحص صدق أحكامهما النظر في عدم تناقضها مع قواعد العقل والاستدلال أو المنطق أي في صحة صورتهما .غير أن المنطق لا يستطيع أن يذهب بعيدا : فما من محك بوسعه أن يتيح للمنطق كشف الخطأ حين يتعلق الأمر بمادة المعرفة وليس بصورتها

المحور الثالث: قيمة الحقيقة

طرح الإشكال:
قيمة الشيء هي تلك الصفة التي تجعله موضع تقدير أو اهتمام أو رغبة او احترام. وعلى هذا الأساس نصوغ إشكالية قيمة الحقيقة على النحو التالي: لماذا نطلب الحقيقة ونرغب فيها ؟ مالذي يجعل الحقيقة محط نقاش وجدال وادعاء؟ هل تطلب الحقيقة لذاتها أم كوسيلة لنيل غايات تتجاوزها؟ هل تتمتع الحقيقة بقيمة أخلاقية أم بمجرد قيم أداتية

معالجة الإشكال:

1- القيمة الأداتية للحقيقة: نموذج التصور البراغماتي

يتساءل وليام جيمس (1842-1910) عن وظيفة الحقيقة وعن الغاية من امتلاك أفكار صحيحة ويجيب بكل بساطة: أن امتلاك الحقيقة ليس غاية في حد ذاته بل مجرد وسيلة يتوصل بها إلى إشباع حاجات حيوية، إنه يكافىء امتلاك أدوات ثمينة للعمل. وبعبارة أوجز: الحقيقى هو المفيد
ذلك هو التصور البراجماتي لقيمة الحقيقة، حيث يتوقف صدق القضية على قدرتها على تمكيننا من تناول الواقع ذهنيا أو عمليا وتوجيهنا بنجاح نحو الإستفادة من وجودنا، ونحن كما يقول برغسون نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود كما نخترع الأجهزة الصناعية لتسخير القوى الطبيعية. إن الحقائق ليست أكثر من مخترعات نافعة ووسائل مفيدة في تصور الأشياء واستخدامها؛ بل إن الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859-1952) يرى في نشأة التفكير العقلي عند النوع البشري استجابة لدواع عملية براغماتية وهي الرغبة في الحياة والبقاء، لأنه يسمح للإنسان بصنع شيء أوإنجاز فعل على نحو أفضل مما لو اعتمد على الغريزة والإندفاع وحدهما. وعليه، يعلن ديوي أن الفكرة التي لا تستهدف عملا يمكن إنجازه ليست فكرة بل ليست شيئا على الإطلاق إلا أن تكون وهما في ذهن صاحبها. وإذن، فليس للحقيقة من قيمة مطلقة، بل مجرد قيمة وظيفية عملية ونسبية بالضرورة.

2- الحقيقة كقيمة أخلاقية مطلقة: سقراط، كانط

ولكن ألا نسقط مرة أخرى في القول بتعدد الحقائق بتعدد وتعارض المنافع الفردية؟ ألا تنتهي البراغماتية إلى تصور لاأخلاقي تبرر فيه الغاية الوسيلة، مادام الصواب و الخطأ صفتان مؤقتتان متغيرتان ترتبطان بالنافع والضار أكثر من ارتباطهما بمبادئ عامة مجردة، ومادام أن الحقيقة لاتمثل غاية في حد ذاتها، بل مجرد وسيلة وأداة.
على العكس من التصور البرغماتي، تقدم لنا سيرة سقراط وفلسفته تصور أخلاقيا للحقيقة. فلم تكن غاية التفلسف عند سقراط تعلم المهارة الجدلية أو الحذق أو تكديس المعارف في الذهن، بل تدريب النفس على اكتساب الفضيلة، وبذلك تتطابق الحقيقة والكمال الأخلاقي، لقد كانت الحقيقة غاية في حد ذاتها، تعاش بصفة شخصية كما لاحظ كيركجارد، ولم يكتف سقراط بأن عاش الحقيقة فحسب، بل مات من أجلها! بمعنى ألا شيء مقدم على الحقيقة، بما في ذلك حياة المرء نفسها !
نجد نفس القيمة المطلقة اللامشروطة عند كانط حيث تتحول الحقيقة أو بالأحرى قول الحقيقة والصدق إلى واجب أخلاقي في ذاته، واجب مطلق غير مشروط ولايعرف الاستثناءات بغض النظر عن الظروف والملابسات حتى أنه يرفض حجة بنيامين كونسطان القائلة بأن قول الحقيقة ليس واجبا إلا نحو من لهم الحق أو يستحقون معرفة الحقيقة. ومادام كانط يقيس أخلاقية الفعل بمدى قدرتنا على تعميمه لجعله قانونا كونيا، فإن شرعنة الكذب تعني تعميمه أي تجريد التصريحات أو الأقوال من أية مصداقية وتجعل جميع الحقوق المؤسسة على العقود والوعود باطلة ولاغية وهذا ظلم وجور في حق الإنسانية جمعاء.
ماذا عنا نحن؟
غالبا ما تتعامل الذات مع الحقيقة بشكل براغماتي في أغلب مواقف الحياة، لكنها تطالب الغير بالتعامل مع الحقيقة.

Facebooktwitterredditmailby feather

الشخص – مجزوءة الوضع البشري

I-الشخص والهوية الشخصية

استشكالات أولية:
رغم تعدد وتنوع بل وتعارض الحالات النفسية التي يمر منها الشخص طيلة حياته، فإن كل واحد منا يحيل باستمرار إلى نفسه بضمير “أنا” بوصفه وحدة وهوية تظل مطابقة لذاتها على الدوام. غير ان هذه الوحدة التي تبدو بديهية تطرح مع ذلك أسئلة عديدة

بل إن البديهي يشكل الموضوع الأثير والمفضل للفكر الفلسفي. ويمكن القول أن الفيلسوف يصادف إشكالية الوحدة المزعومة للهوية الشخصية في معرض بحثه في الماهيات والجواهر. يتساءل الفيلسوف: إذا كان لكل شيء ماهية تخصه، بها يتميز عن غيره، فهل هناك ماهية تخص الفرد، بها يتميز عن غيره بشكل مطلق؟ خصوصا إذا علمنا أنه ما من صفة فيه، جسمية او نفسية، إلا ويشاطره التخلق بها عدد قليل أو كثير من الأفراد؛ وإذا عرضنا الشخص على محك الزمن والتاريخ، فهل هناك جوهر يظل ثابتا رغم تغيرات الجسم وأحوال النفس وانفعالاتها؟ وهل هذا الجوهر كيان ميتافيزيقي مكتمل التكوين منذ البدأ، أم أنها سيرورة سيكلوجية تجد سندها المادي في الذاكرة، وعملية تطورية تنشأ تدريجيا بفضل تفاعل الفرد مع الغير؟.

أ-ثبات الأنا واستمراريته في الزمان:

موقف ديكارت: التصور الجوهراني الماهوي للهوية الشخصية
نلاحظ أن الفرد يستطيع التفكير في الموجودات الماثلة أمام حواسه أو المستحضرة صورتها عبر المخيلة، ولكنه يستطيع أيضا التفكير في ذاته ، في نفسه هذه التي تفكر!!
يسمى هذا التفكير وعيا وهو نفس الوعي الذي اعتمدعليه ديكارت في ” الكوجيطو” وخصوصا وعي الذات بفعل التفكير الذي تنجزه في لحظة الشك أي الوعي بالطبيعة المفكرة للذات التي تقابل عند ديكارت طبيعة الإمتداد المميزة للجسم.
تساءل ديكارت في التأمل الثاني: “أي شيءأنا إذن؟ ” وأجاب: ” أنا شيء مفكر”
ولكن هل وراء أفعال الشك والتذكر والإثبات والنفي والتخيل والإرادة…هل وراءها جوهر قائم بذاته؟
يجيب ديكارت بنعم : إنها النفس، جوهر خاصيته الأساسية التفكير، أي أن للكائن البشري طبيعة خصائصها هي أفعال التفكير من شك وتخيل وإحساس …وهي مايشكل الهوية الشخصية للكائن البشري، بل إنها صفته الأكثر يقينية، والأكثر صمودا أمام أقوى عوامل الشك
موقف جون لوك:نقد التصور الجوهراني الماهوي: ليست الهوية الشخصية سوى ذلك الوعي أو المعرفة المصاحبة لإحساساتنا
يرى “جون لوك” أن مايجعل الشخص ” هو نفسه” عبر أمكنة وأزمنة مختلفة، هو ذلك الوعي أو المعرفة التي تصاحب مختلف أفعاله وحالاته الشعورية من شم وتذوق وسمع وإحساس وإرادة، تضاف إليها الذاكرة التي تربط الخبرات الشعورية الماضية بالخبرة الحالية، مما يعطي لهذا الوعي استمرارية في الزمان
“إذن فلوك” و “ديكارت” مجمعان بأن الشخص هو ذلك الكائن الذي يحس ويتذكر و -يضيف التجريبي لوك- يشم ويتذوق!
ولكنهما يختلفان فيما يخص وجود جوهر قائم بذاته يسند هذا الوعي وهذه الاستمرارية التي يستشعرها الفرد؛، والواقع أن ” الجوهر المفكر” -من وجهة نظر المحاكمة الحسية- كينونة ميتافيزيقية لايسع لوك قبولها انسجاما مع نزعته التجريبية التي لاتقر لشيء بصفة الواقعية والحقيقة مالم يكن إحساسا أو مستنبطا من إحساس،
وباختصار فالهوية الشخصية تكمن في فعل الوعي، وعندما يتعلق الأمربالماضي يصبح الوعي ذاكرة بكل بساطة، وكل هذا لكي يتجنب لوك القول بوجود جوهر مفكر، أي أن الهوية لاتقوم في أي جوهر مادي كان أو عقلي، ولاتستمر إلا مادام هذا الوعي مستمرا
موقف دافيد هيوم: النقد الجذري للتصور الديكارتي الماهوي
دافيد هيوم فيلسوف تجريبي، لايعترف بغير الانطباعات الحسية مصدرا أولا للأفكار، وعليه فلكي تكون فكرة ما واقعية، فلابد لها أن تشتق من انطباع حسي ما، والحال أن فكرة “الأنا” أو “الشخص” ليست انطباعا حسيا مفردا، بل هي ماتنسب إليه مختلف الانطباعات. وإذا ما وجد انطباع حسي مولد لفكرة “الأنا” فلابد أن يتصف هذا الانطباع بنفس صفات الأنا وهي الثبات والاستمرارية طيلة حياتنا، والحال أنه لاوجود لانطباع مستمر وثابت: إن الألم واللذة، الفرح والحزن، الأهواء والاحساسات…، حالات شعورية تتعاقب ولاتوجد أبدا متزامنة أومجتمعة. وعليه ففكرة الأنا لايمكن ان تتولد عن هذه الانطباعات ولاعن أي إنطباع آخر، ومن ثم فلا وجود لمثل هذه الفكرة واقعيا، ومن باب أولى ينبغي الامتناع عن أي حديث عن الهوية الشخصية كجوهر قائم بذاته.

ب- الذاكرة والهوية الشخصية

بغض النظر عما إذا كانت الهوية جوهرا قائما بذاته أو تعاقبا لحالات شعورية متباينة، فإن الهوية ليست كيانا ميتافيزيقيا مكتمل التكوين منذ البدأ، إنها سيرورة سيكلوجية تجد سندها المادي في الذاكرة، وعملية تطورية تنشأ تدريجيا بفضل تفاعل الفرد مع الغير
سبق لــ ابن سينا أن لاحظ، في هذا الإطار، بأن فعل التذكر هو الذي يمنح الفرد شعورا بهويته وأناه وبثباتها.ويتجلى هذا واضحا في شعور الفرد داخلياً وعبر حياته باستمرار وحدة شخصيته وهويتها وثباتها ضمن الظروف المتعددة التي تمر بها، كما يظهر بوضوح في وحدة الخبرة التي يمر بها في الحاضر واستمرار اتصالها مع الخبرة الماضية التي كان يمر بها.
إذا كانت الذاكرة هي مايعطي لشعور الشخص بأناه وبهويته مادتهما الخام، فإن امتداد هذه الهوية في الزمان، كما يلاحظ جون لوك، مرهون باتساع أو تقلص مدى الذكريات التي يستطيع الفكر أن يطالها الآن: وبعبارة أخرى إنني الآن هو نفسه الذي كان ماضيا وصاحب هذا الفعل الماضي هو نفس الشخص الذي يستحضره الآن في ذاكرته.
لهذا السبب، وعندما يتساءل برغسون عن ماهية الوعي المصاحب لجميع عمليات تفكيرنا، يجيب ببساطة: إن الوعي ذاكرة، يوجد بوجودها ويتلف بتلفها
ومن الجدير بالذكر أن الوعي بالذات على هذا النحو الأرقى ليس مقدرة غريزية او إشراقا فجائيا، بل هو مسلسل تدريجي بطيء يمر أولا عبر إدراك وحدة الجسم الذي ينفصل به الكائن عما عداه وعبر العلاقة مع الغير.

II-الشخص بوصفه قيمة

استشكالات أولية:
مالذي يؤسس البعد القيمي-الأخلاقي للشخص؟ وهل يمكن فلسفيا تبرير الاحترام والكرامة الواجبة بشكل مطلق للشخص البشري ؟ وما علاقة ذلك بمسؤوليته والتزامه كذات عاقلة وحرة تنسب إليها مسؤولية افعالها ؟
يستفاد من المحورين السابقين أن الفرد وبشكل مجرد سابق على كل تعيين – أي وقبل أن يتحدد بطول قامته أو لون عينيه او مزاجه أو ثروته- هو ذات مفكرة، عاقلة، واعية قوامها الأنا الذي يمثل جوهرها البسيط الثابت ، وذلك بغض النظر عن الاختلاف القائم بين الفلاسفة حول طبيعة هذا الأنا وعلاقته بالجسد والانطباعات الحسية والذاكرة…
ولكن مافائدة هذا التجريد النظري على المستوى العملي؟ هل يمكن أن نرتب عليه نتائج أخلاقية ملموسة؟

موقف كانط:العقل أساس قيمة الشخص وكرامته
انطلاقا من هذا التجريد، ذهب كانط بأن الإنسان هو أكثر من مجرد معطى طبيعي، إنه ذات لعقل عملي أخلاقي يستمد منه كرامة أي قيمة داخلية مطلقة تتجاوز كل تقويم أو سعر.إن قدرته كذات أخلاقية على أن يشرع لنفسه مبادئ يلتزم بها بمحض إرادته، هي ما يعطيه الحق في إلزام الآخرين باحترامه أي التصرف وفق هذه المبادئ. ومادام هذا العقل الأخلاقي ومقتضياته كونيا، فإن الأنسانية جمعاء تجثم بداخل كل فرد مما يستوجب احترامه ومعاملته كغاية لاكوسيلة والنظر إليه كما لو كان عينة تختزل الإنسانية جمعاء. وهذا الاحترام الواجب له من طرف الغير لاينفصل عن ذلك الاحترام الذي يجب للإنسان تجاه نفسه،إذ لا ينبغي له أن يتخلى عن كرامته، وهو ما يعني أن يحافظ على الوعي بالخاصية السامية لتكوينه الأخلاقي الذي يدخل ضمن مفهوم الفضيلة، .
لقد كتب كانط هذه الأفكار في “أسس ميتافيزيقا الأخلاق” في القرن الثامن عشر .وصحيح أن القرن العشرين قد شهد تحسنا كبيرا للشرط البشري مقارنة مع قرن الأنوار: إلغاء الرق، التخفيف من الميز ضد النساء…، بيد أنه عرف أيضا أهوال حربين عالميتين جسدتا واقعيا فكرة الدمار الشامل، إنضافت إليهما حروب محلية شهدت أبشع أنواع التطهير العرقي ومعسكرات الاعتقال… مما جعل التأمل الفلسفي، في القرن العشرين يعاود مجددا طرح السؤال حول حرمة الكائن البشري وسلامته الجسدية وبالخصوص حقه في عدم التعرض للأذى، ”

موقف طوم ريغان:قيمة الشخص نابعة من كونه كائنا حيا حاسا
تنتمي فلسفة طوم ريغان إلى التقليد الكانطي، لكن في حين يؤسس كانط القيمة المطلقة التي نعزوها إلى الكائنات البشرية على خاصية العقل، وبالضبط العقل الأخلاقي العملي، التي تتمتع بها هذه الكائنات،بما يجعل منها ذواتا أخلاقية، فإن طوم ريغان يعتبر هذا التأسيس غير كاف، وحجته في ذلك أننا ملزمون باحترام القيمة المطلقة لكائنات بشرية غير عاقلة مثل الأطفال وكذا الذين يعانون من عاهات عقلية جسيمة
وعليه فإن الخاصية الحاسمة والمشتركة بين الكائنات البشرية ليست هي العقل، بل كونهم كائنات حاسة واعية أي كائنات حية تستشعر حياتها، بما لديها من معتقدات وتوقعات ورغبات ومشاعر مندمجة ضمن وحدة سيكلوجية مستمرة في الماضي عبر التذكر ومنفتحة على المستقبل من خلال الرغبة والتوقع…، مما يجعل حياتها واقعة يعنيها أمرها، بمعنى ان مايحدث لها، من مسرة تنشدها أو تعاسة تتجنبها، يعنيها بالدرجة الأولى بغض النظر عما إذا كان يعني شخصا آخر أم لا ”
ويمضي توم ريغان بهذا المبدأ إلى مداه الأقصى فبخلص إلى أن جميع المخلوقات التي يمكنها أن تكون «قابلة للحياة»، أي مواضيع لوجود يمكن أن يتحول للأفضل أو للأسوأ بالنسبة إليها، تمتلك قيمة أصلية في ذاتها وتستحق أن تحترم مصالحها في عيش حياة أفضل..

إذا كان تصور طوم ريغان يتجاوز بعض مفارقات التصور الكانطي، فإنه يثير مفارقات لاتقل عنها إحراجا لأن معيار “الذات الحية التي تستشعر حياتها” يلزمنا بإضفاء قيمة أصيلة مطلقة ليس فقط على الكائنات البشرية، بل وحتى الحيوانات ووبالخصوص الثدييات التي سنصبح مطالبين بمعاملتها كغاية لا كمجرد وسيلة!

 

III-الشخص بين الضرورة والحتمية

 

استشكالات أولية:
يبدو أن مدار الحديث عن مفهوم الشخص – كذات عاقلة وحرة تنسب إليها مسؤولية افعالها – ينحصر في قضيتين: الكرامة والمسؤولية. يشير المفهوم الأول إلى مايحق للمرء النمتع به بوصفه شخصا، بينما يشير المفهوم الثاني إلى ماهو ملزم او ملتزم به أو مطالب به بوصفه شخصا أيضا.
بحثنا المفهوم الأول في المحور السابق. إذا اقتصرنا الآن على المفهوم الثاني، فمن اليسير أن نتصور بأن المسؤولية لاتنفصل عن صفة أخرى وهي الحرية التي يطالب بها الفرد كجزء من كرامته، وهذه المرة أيضا، بوصفه شخصا.
لن نتوقف عند الحريات السياسية لأن المانع دونها جلي واضح، وهو النظام السياسي ومختلف أشكال التضييق والقمع التي يمارسها على حرية الأفراد في التجمع والتعبير، سيقتصر بحثنا فقط على الحرية التي يحاسب الشخص بموجبها أخلاقيا من قبل الغير أو من قبل ضميره الشخصي (تأنيب الضمير) ؛أو تلك الحرية التي تترتب عنها المسؤولية المدنية أو الجنائية والتي بموجبها يحاسب المرء قانونيا أمام العدالة، ذلك أن القاضي ملزم بإثبات خلو الفعل من الإكراه كشرط لإثبات المسؤولية أي توفر عنصر الحرية والاختيار، وبناءا عليه يعرض المتهم نفسه للعقوبات المقررة
هل هذه الحرية المفترضة موهومة، لأن الشخص يرزح تحت وطأة مجموعة من الإكراهات والإشراطات التي لايطالها وعيه أحيانا، أم أن الشخص البشري ليس موضوعا ولاتجوز في حقه مقولات العلم وعلى رأسها الحتمية؟
موقف العلوم الإنسانية: تتمثل الضرورة في خضوع الشخص لحتميات تتجاوز وعيه وتلغي حريته
في المحورين السابقين تمت مقاربة مفهوم الشخص من زاوية الوعي وبشكل مجرد من كل تعيين، بيد أن الكائن الشري بنية سيكوفيزيولوجية وكائن سوسيوثقافي، فلا يسعه الإنفلات من قوانين الفيزيولوجيا والمحددات النفسية والإكراهات السوسيوثقافية.
إن تجاهل هذه الشروط هي مايجعل كل إنسان يعتقد أنه السيد في مملكة نفسه، وأنه من اختار بمحض إرادته بعض ملامح شخصيته،
هناك مذاهب فلسفية كثيرة قامت على فكرة الحتمية الكونية الشاملة فلم تر في الشعور بالحرية سوى وهم ناتج عن جهل بسلسلة العلل والأسباب، وكما يقول اسبينوزا، فإنا الناس يعوون حقا رغباتهم لكنهم يجهلون العلل الخفية التي تدفعهم إلى الرغبة في هذا الموضوع او ذاك. وبيدو أن العلوم الإنسانية المعاصرة تقدم دلائل إضافية داعمة للتصور الحتمي السبينوزي،: فالتحليل النفسي مثلا يرى البناء النفسي للشخصية كنتيجة حتمية لخبرات مرحلة الطفولة، كما أن الكثير من الأنشطة الإنسانية تحركها دوافع الهو اللاشعورية ذات الطبيعة الجنسية أو العدوانية. هذا الهو الذي قال عنه “نيتشه”: وراء أفكارك وشعورك يختفي سيد مجهول يريك السبيل، إسمه الهو. في جسمك يسكن، بل هو جسمك، وصوابه أصوب من صواب حكمتك”، بل إن بول هودار يذهب إلى حد القول بأن: ” كلام الإنسان كلام مهموس له به من طرف الهو، الذي يعبر عن نفسه في الإنسان عندما يحاول الإنسان أن يعبر عن ذاته !!”
أما بالنسبة لعلماء الإجتماع والأنثربولوجيا، فإن طبقات مهمة في الشخصية لاتعدو أن تكون سوى انعكاس للشخصية الأساسية للمجتمع أو الشخصية الوظيفية لجماعة الإنتماء، بحيث يمكن القول مع دوركايم أنه كلما تكلم الفرد أو حكم ، فالمجتمع هو الذي يتكلم أو يحكم من خلاله. وإذا كانت التنشئة الإجتماعية تزود الفرد بعناصر من ثقافة المجتمع، فأن هذه الثقافة بدورها حسب التحليل الماركسي ليست سوى انعكاس للبنية التحتية المستقلة عن وعي الذوات: لأن الوجود المادي هو الذي يحدد الوعي لاالعكس.
حاصل الكلام هو اختفاء الإنسان أو موته كما أعلنت البنيوية، لأن البنيات النفسية الإجتماعية اللغوية… هي التي تفعل وليس الذات أو الفرد. هل يمكن بعد كل هذا الحديث عن الإنسان كما نتحدث عن ذات أي عن كائن قادر على القيام بعمل إرادي؟ هل للسؤال “من أنا ” بعد من قيمة؟ !!

موقف سارتر ومونييه:إن كون الكائن البشري شخصا هو بالضبط مايسمح له بأن يبارح مملكة الضرورة؟
رغم كل ماذكر فإن الإنسان لازال يقنع نفسه بأن له شيئا يفعله، شيئا يبقى عليه أن يفعله. إن النظر إلى الشخص باعتباره ذاتا ووعيا يمكننا من القول بأن وعي الإنسان بالحتميات الشارطة يمثل خطوة أولى على طريق التحرر من تأثيرها وإشراطها المطلق، بلقد اشتقت الوجودية مقولة ” أسبقية الوجود على الماهية ” من خاصية الوعي،، لأن الإنسان ليس وجودا في ذاته كالأشياء، بل وجودا لذاته: يوجد ويعي وجوده، مما يجعل وجوده تركيبة لانهائية من الإختيارات والإمكانيات؛ وعلى عكس الطاولة أو الشبل اللذان يتحدد نمط وجودهما بشكل خطي انطلاقا من ماهيتهما القبلية، فإن الإنسان مفتقر إلى مثل هذه الماهية التي قد تسمح بتعريفه أو الحديث عن شخصيته على نحو قبلي مسبق. صحيح أن الفرد يحيا على الدوام لا في المطلق، بل في وضعية محددة اجتماعيا وتاريخيا، لكن ردود أفعاله واختياراته لاتحددها هذه الشروط الموضوعية وحدها، بل وأيضا المعنى الذاتي الذي يفهم بموجبه هذه الشروط والأوضاع مما يفسح مجالا واسعا للحرية وانفتاح الممكنات. من هنا نفهم تصريح سارتر بأن الإنسان مشروع في سماء الممكنات، محكوم عليه بأن يكون حرا، وبان الإنسان ليس شيئا آخر غير مايصنع بتفسه.
ونستطيع استثمار أطروحة سارتر التي أتينا على ذكرها للقول بأن الإنسان ليس آلة إلكترونية، حتى لو أضفنا لها صفات الذكاء والصنع المتقن كما يقول إيمانويل مونييه الذي يرفض كل اختزال للشخص إلى شيء أو موضوع لأن البشر ليسوا صنفا من أشجار متحركة أو جنسا من حيوانات ذكية بمعنى أن كل المعرفة الوضعية التي راكمتهاالعلوم الإنسانية لا يمكنها أن تستنفذ حقيقة الشخص الذي يظل أكثر من مجرد شخصية أي أكثر من مجرد نظام سيكوفيزيولولجي وسوسيوثقافي
نلاحظ أن وجودية سارتر وشخصانية مونييه يتقاطعان في رفض الخطاطة التبسيطية التي تجعل الشخص والظاهرة الإنسانية عموما ظاهرة خاضعة على غرار الظواهر الطبيعية لمقولات العلم الموضوعي وعلى رأسها الحتمية، إن الإنسان بالنسبة لفلاسفة الحرية تجربة ذاتية منغرسة في العالم لاتتوقف عن إبداع نفسها ولكن تقول العلوم الإنسانية: إنه لايبدع ولايعبر إلا عن مجمل الشروط التي يتلقى!

خلاصة عامة للدرس:
إذا كان لابد من خلاصة تجمع أطراف موضوع متشعب كموضوع “الشخص”، فسنقول بأن الشخص، تلك الوحدة الصورية، ذلك الكائن المفكر العاقل والواعي…إلخ ينطوي في المستوى المحسوس على شخصية هي حصيلة تفاعل بين عوامل باطنية وأخرى متعلقة بالمحيط الخارجي، إنها ذلك الشكل الخاص من التنظيم الذي تخضع له البنيات الجسمية، النفسية والإجتماعية. صحيح أن هذا التنظيم يخضع لعوامل ومحددات موضوعية كثيرة، لكن ذلك لايلغي دور الشخص في بناء شخصيته. وإذا ما بدا موضوع الشخص إشكاليا متعدد الأبعاد، فماذلك إلا لأن دراسة الشخص ليست إلا إسما آخر لدراسة الإنسان بكل تعقده وغموضه.

Facebooktwitterredditmailby feather

موارد لانجاز درس التاريخ – مجزوءة الوضع البشري

إذا كنت مدرسا فيمكنك الاضطلاع هنـــأ على خارطة طريق من أجل استثمار أفضل للدرس، تشرح خارطة الطريق الخلفيات الفلسفية والديداكتيكية التي تحكمت في صياغة الدرس على هذا النحو

 

 طارق والقوارب وإسبانيا وضعية مشكلةوضعية مشكلة: ما العلاقة بين إحراق طارق بن زياد للسفن عند عبوره إلى إسبانيا، وحراكَة اليوم في قوارب الموت!؟؟
أقرأ هذا الحوار الطريف بين جد وحفيده حول تاريخ المسلمين وعلاقتهم بالغرب، والذي يمكن من خلاله أن يكتشف التلميذ بشكل بسيط، ويطرح بنفسه إشكاليات المحاور الثلاث: المعرفة التاريخية، التاريخ وفكرة التقدم، ودور الإنسان في التاريخ هنــــــــــــــــــــا ذاك هو الشاطئ الإسباني هذا هو القارب ..!مرة ركبه المغربي طارق بن زياد واليوم يركبه المغربي المهاجر السري.لكن لماذا تمر علاقة المغربي، ماضيا وحاضرا، بذلك الشاطئ عبر عملية الحريكَ (أي الإحراق)!!؟

بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال):

يواجه علم التاريخ ومعه المعرفة التاريخية وضعية فريدة بين العلوم الإنسانية: فهو علم دراسة الماضي، مما يعني أن المؤرخ يدرس واقعا ولى وانقضى كما يقول ريمون آرون، واقعا تفصله عنه مسافة زمنية وثقافية، واقعا لم يعد له وجود! فما يوجد اليوم وجودا ماديا فيزيائيا ينحصر في الآثار والوثائق. يتعين على المؤرخ إذن أن ينطق ويستنطق وينتقي هذه “المخلفات” ليعيد بناء الوقائع التاريخية مما يجعل من المعرفة التاريخية معرفة مبناة بامتياز

طرح الإشكال:

ضمن أية شروط تكون المعرفة التاريخية المبناة مطابقة لموضوعها أي للحدث كما وقع فعلا؟ ما هي شروط إمكان المعرفة التاريخية كمعرفة علمية؟ هل يمكن للمؤرخ أن يستفيد من المسافة الزمنية التي تفصله عن الواقعة التاريخية وعن الفاعلين التاريخيين ليتناول مادة علمه بموضوعية بعيدا عن الذاتية أم أن دراسة الماضي لاتتم إلا بدافع من انشغالات الحاضر وضمن ايديولوجياته؟ كيف للمعرفة التاريخية أن تستعيد ليس فقط الواقعة التاريخية في بعدها الحدثي المادي بل وأيضا “أحداث الوعي”أي نيات الفاعلين ومقاصدهم ومحتويات وعيهم؟

 إعادة بناء الواقعة التاريخية
وضعية مشكلةصورة للتأمل: المؤرخ أمام مهمة بناء الواقعة التاريخية!!مخلفات الماضي: مراسلات ديبلوماسية كوثائق محفوظة في الأرشيف وإلى اليسار أطلال رومانية.كيف للمؤرخ أن يستخرج الحياة مما لاحياة فيه!؟ يذهب العلم من الأسباب إلى النتائج، بينما يضطر المؤرخ إلى الذهاب من النتائج إلى الأسباب …


معالجة الإشكال:
مثلما حذر بورديو من السوسيولوجيا العفوية أي تلك المعرفة الاجتماعية التلقائية التي يملكها الفاعل الاجتماعي حول الظواهر الاجتماعية من حوله، يتعين على المؤرخ أيضا أن يحذر من المعرفة التاريخية العفوية التي يدعوها ابن خلدون بظاهر علم التاريخ وهي تلك المعرفة التي يملكها كل واحد عن الماضي في شكل روايات وأخبار تتداولها وتتناقلها الأجيال. لايكون التاريخ علما إلا بوصفه نقدا وتفسيرا. فالنقد يتجلى في تمحيص وتحقيق هذه الروايات وسبرها بمعيار الحكمة و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار وفحصها على ضوء أصول العادة و قواعد السياسة و طبيعة العمران و الأحوال في الاجتماع الإنساني و الوقوف على طبائع الكائنات وقياس الغائب على الشاهد.
ولكن تحقيق الخبر التاريخي يحتاج أيضا إلى تفسيره للكشف عن علة ومنطق الأحداث التاريخية المتضمنة فيه والمبدأ المتحكم في حدوثها وتعاقبها…

نص ابن خلدون : من الرواية إلى المعرفة التاريخية: أهمية المنهج النقدي

فإن فن التاريخ من الفنون التي (…) تتساوى في فهمه العلماء و الجهال إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول (…) وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير(…)
اعلم (*) أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم. و الأنبياء في سيرهم. و الملوك في دولهم و سياستهم. حتى تتم فائدة الإقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين و الدنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعددة و معارف متنوعة و حسن نظر و تثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق و ينكبان به عن المزلات و المغالط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل و لم تحكم أصول العادة و قواعد السياسة و طبيعة العمران و الأحوال في الاجتماع الإنساني و لا قيس الغائب منها بالشاهد و الحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور و مزلة القدم و الحيد عن جادة الصدق و كثيراً ما وقع للمؤرخين و المفسرين و أئمة النقل من المغالط في الحكايات و الوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً و لم يعرضوها على أصولها و لا قاسوها بأشباهها و لا سبروها بمعيار الحكمة و الوقوف على طبائع الكائنات و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق و تاهوا في بيداء الوهم و الغلط و لا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال و العساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب و مطية الهذر و لا بد من ردها إلى الأصول و عرضها على القواعد.
المصدر: ابن خلدون ، المقدمة


نص إضافي : ابن خلدون-نموذج لتطبيق المنهج النقدي في تحقيق الخبر

و هذا كما نقل المسعودي و كثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل بأن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون و يذهل في ذلك عن تقدير مصر و الشام و اتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش لكل مملكة من الممالك حصة من الحامية تتسع لها و تقوم بوظائفها و تضيق عما فوقها تشهد بذلك العوائد المعروفة و الأحوال المألوفة ثم أن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق مساحة الأرض عنها و بعدها إذا اصطفت عن مدى البصر مرتين أو ثلاثاً أو أزيد فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصفين و شيىء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر و الحاضر يشهد لذلك فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء.
المصدر: ابن خلدون، المقدمة (من فصل بعنوان : في فضل علم التاريخ و تحقيق مذاهبه و الالماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط و ذكر شيىء من أسبابها)

 

 معركة بحرية
وضعية مشكلةصورة للتأمل:لوحة تظهر معركة بحرية في البحر الأبيض المتوسط بين سفينة موريسكية وأخرى أوروربية حوالي القرن 16هذه بالتأكيد معركة حربية. ولكن هل هي جهاد بحري أم قرصنة بحرية!؟ يختلف الجواب حسبما إذا كان المؤرخ ينتمي إلى الضفة الجنوبية أو الشمالية للبحرالمتوسط !!


ماهي حدود المنهج النقدي في التاريخ؟ ربما يوحي النقد بأن المؤرخ منكب على موضوعه بتجرد وقد وضعه على طاولة البحث تحت مجهر النقد، ولكن الموضوع ظاهرة إنسانية. والمعركة كما يقول آرون ليست فقط حدثا ماديا فحسب ذلك أن لتصرفات المحاربين دلالاتها ولتصرفات الضباط مقاصد وغايات ونيات…، وباختصار فالمؤرخ يدرس أحداث الوعي أيضا. الا تستدعي المعرفة التاريخية بهذا المعنى نوعا من التعاطف والتفهم من قبل المؤرخ للنفاذ إلى دلالات الواقعة بالنسبة للفاعل التاريخي؟ ولكن ألا تتعارض هذه الذاتية مع مطلب الدراسة العلمية الموضوعية كما يلح عليها الوضعانيون؟ وماهي حدود الدقة التفسيرية التي التي يطمح إليها المؤرخ؟ يرى مارو أن بناء الواقعة التاريخية ثمرة تلاقح بين المنهج النقدي والتعاطف، بحيث يصحح أحد الطرفين إفراط الآخر. والتعاطف أو المشاركة الوجدانية عند مارو خروج المؤرخ من ذاته لملاقاة الغير (التاريخي)، بحيث تقوم بينه وبين موضوعه ضرب من الصداقة لايصح الفهم والتفسير بدونها. إن التعاطف هو مرحلة البناء التي تعقب الهدم الذي يمثله المنهج النقدي

نص مارو : المعرفة التاريخية كخلاصة لمزاوجة دقيقة بين المنهج النقدي والتعاطف

أما وقد وصلنا إلى الحد، فعلينا أن ننظر في الشروط الذاتية التي تسمح يفهم الماضي وتحد منه في نفس الوقت. لقد رأينا كيف أن المؤرخ أشبه ما يكون بالإنسان الذي من خلال الإيبوخي Epoché يعرف كيف يخرج من ذاته لملاقاة الآخر. ومن الممكن أن نسمي هذه الفضيلة بالتعاطف. ولكن مصطلح التعاطف لايفي بالغرض: إذا أراد المؤرخ فهم موضوعه فلابد أن تجمعه بهذا الموضوع صداقة ما، ذلك أننا لانعرف أحدا إلا بواسطة الصداقة حسب عبارة القديس أوغسطين الجميلة. إذا كان الحس النقدي والتعاطف غير متناقضين في حد ذاتهما، فليس من السهل التوفيق بينهما أو العدل بينهما في ذهن العالم. بيد أن بناء الواقعة التاريخية ثمرة لمجهود متظافر وإفراط البعض يعادل تقصير البعض الآخر. ومن المفيد لتقدم علمنا أن يعمل نقد صارم ومجحف أحيانا على إيقاظ تعاطف نائم وهو تنزلق خفية نحو التواطؤ والتساهل. عندما نفحص المساهمة الخاصة بكل واحدة من هاتين المرحلتين في البحث التاريخي، نجد أن التعاطف يضطلع دوما مرحلة البناء، في الوقت الذي يدمر فيه النقد الصرح المؤقت لمعرفة غير تامة، ويضع شرائط إعادة البناء اللاحقة، لكنه في حد ذاته لايضيف للمعرفة التاريخية سوى القليل.
المصدر: H.-I Marrou De la connaissance historique 1954


نص إضافي : مارك بلوخ: الذاتية كشرط لفهم الماضي ودلالاته

ينجم سوء فهم الحاضر من جهلنا بالماضي، غير أنه من العبث الانكباب على محاولة فهم الماضي ونحن نجهل كل شيئ عن الحاضر (…) وإذا كنا نعاين في الحاضر بحواسنا رعشة الحياة البشرية، فإن على المخيلة بذل مجهودات شاقة لنفخ الحياة في هذه النصوص العتيقة. لقد قرأت وسردت مرارا قصص حروب ومعارك، ولكن هل كنت أعرف حقا – بالمعنى الحقيقي للفظ المعرفة – أي هل كنت أعرف من الداخل ماذا يعني الحصار لجيش وماذا تعني الهزيمة لشعب قبل أن اختبر الغثيان المروع لكل ذلك بنفسي؟ وقبل أن استنشق هواء النصر في صيف وخريف 1918 هل كنت أعرف حقا ماذا تعني هذه الكلمة الجميلة؟ الواقع أننا نستمد عن وعي وبدونه من تجاربنا اليومية العناصر التي نستعملها في نهاية المطاف لإعادة بناء الماضي. ولولا أننا نرى من حولنا بشرا يحيون، أي معنى ستتخده الكلمات التي نستعملها لوصف الحالات الشعورية الغابرة والأشكال الاجتماعية المندثرة؟
المصدر: Marc Bloch; Apologie pour l’histoire ou métier d’historien 1949


المحور الثاني: التاريخ وفكرة التقدم

بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال):

أوضح ابن خلدون بأن ظاهر علم التاريخ لا يختلف عن باطنه في التحقيق والتمحيص فحسب بل يزيد عليه بالتعليل والتفسير أي الكشف عن علل الأحداث ومبادئها. وبذلك يكون التصور الخلدوني جامعا لعلم التاريخ وفلسفة التاريخ معا، لأن هذه الأخيرة تتجاوز تحقيق الوقائع إلى البحث في علة حدوثها ومبدأ تعاقبها بل في منطق ومعنى السيرورة التاريخية ككل.

طرح الإشكال:

هل هناك منطق ثاو خلف تعاقب الأحداث التاريخية أم أن التاريخ هو مملكة الصدفة والعرضي؟ هل هناك معنى لهذه السيرورة وهل التاريخ قابل للتعقل؟ وإذا كانت ثمة منطق للسيرورة التاريخية فهل يمكن أن نستخلص منها غاية التاريخ ونتنبأ بوجهته التي يمضي نحوها ؟ وإذا وجدت غاية للتاريخ أفلا يعني أن صيرورة التاريخ يمضي نحو نهاية التاريخ؟


 ملجأ للمشردين في نيويورك
وضعية مشكلةصورة للتأمل:ملجأ للمشردين في مدينة نيويورك، العاصمة الإقتصادية للدولة صاحبة أكبر اقتصاد عالمي بأي معنى يمكن الحديث عن تقدم في التاريخ ؟!
يقول ريمون آرون: من السهل إثبات التقدم في المجالين العلمي والتقني، ولكن هل يمكننا الحديث عن التقدم في مجالات السياسة والاقتصاد؟
يمكننا القول أن النشاط الاقتصادي يقاس بمقدار الكمية التي ينتجها كل فرد أو بزيادة الدخل العام، ولكن ليست غاية الاقتصاد إنتاج أكبر قدر من السلع إنما الغاية منه حل مشاكل الفقر وتأمين أوضاع الحياة الانسانيةلأكبر عدد ممكن من الأفراد. ولكن ما من دليل على أن أوضاع تتحسن بقدر مايزيد ألإنتاج العام ولا أن إعادة توزيع المنتجات الجاهزة بين الأفراد يكون عادلا بقدر ماتنمو الثروة الجماعية.
التاريخ والتقدم، ضمن كتاب المجتمع الصناعي


معالجة الإشكال:
-1 التاريخ الدوري والغياب التام لفكرة التقدم
السيرورة التاريخية في المستوى الخام وقبل كل تفسير هي تعاقب لأحداث. وأبسط أنواع الظواهر المتعاقبة التي يسهل الكشف عن منطقها هي الظواهر الطبيعية الكبرى ( تعاقب الليل والنهار، الفصول، أطوار حياة الكائن…) ولقد اتضح للإنسان مبكرا أن منطقها منطق دوري إذ أن الظواهر تتالى وتتعاقب وتنمو وتندثر لتعود مجددا إلى طورها الأول . لقد استعير هذا المنطق لفهم السيرورة التاريخية فيما يعرف بالعود الأبدي الذي نجده في الكثير من الميثلوجيات وبعض الفلسفات كفلسفة نيتشه تمثل فلسفة التاريخ الخلدونية ونظريته في العصبية نموذجا للتصور الدوري للتاريخ الذي تغيب عنه فكرة التقدم والتراكم. لقد استطاع ابن خلدون أن يلتقط المبدأ المفسر للسيرورة التاريخية أو للعمران البشري متمثلا في أهم مظاهره وهي الظاهرة السياسية أو الدولة. إن العصبية هي العامل المفسر لقيام الدول وانهيارها. والعصبية كما الدولة يبدآن بالفتوة ثم القوة فالهرم والشيخوخة والإندثار: تبدأ الدولة الجديدة كدعوة تتخد من العصبية مصدرا لقوتها داخل قبيلة واحدة تتقوى لتضم تحت سيطرتها قبائل أخرى وبمقدار ماتتسع سطوتها تتحول إلى طور الدولة وما يصاحب ذلك من استقرار وتشييد وتنظيم إداري ومالي وعسكري… ولكن بقدر ما تتوسع مظاهر العمران، تضعف وظيفة العصبية والحاجة إليها لممارسة السلطان. وكأن تطور الدولة يحمل في ذاته بذور تلاشيه: ذلك إن اتساع الرقعة الجغرافية للدولة وعدد جيوشها ودواوينها وتنوع أصناف البذخ يرهق ميزانيتها فيدفعها إلى فرض المزيد من المكوس والضرائب وممارسة صنوف الجور والإفراط… فتدب الإنشقاقات والثورات والوهن في جسمها، مما يوفر الشروط لنشوء دعوة جديدة تنقض عليها لاتزال العصبية فيها فتية قوية… وهكذا دواليك ليبدأ دور أو طور جديد

نص ابن خلدون : من فتوة الدولة إلى قوتها فهرمها: سيرورة دورية cyclique

فلنذكر أولا طروق الخلل في الشوكة و العصبية ثم نرجع إلى طروقه في المال و الجباية.
اعلم أن تمهيد الدولة و تأسيسها كما قلناه إنما يكون بالعصبة و أنه لابد من عصبية كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها و هي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة و قبيلة فإذا جاءت الدولة طبيعة الملك من الترف و جدع أنوف أهل العصبية كان أول ما يجدع أنوف عشيرته و ذري قرباه القاسمين له في اسم الملك فيستبد في جدع أنوفهم (…) فيأخذهم بالقتل و الإهانة و سلب النعمة و الترف الذي تعودوا الكثير منه فيهلكون و يقلون و تفسد عصبيبة صاحب الدولة منهم و هي العصبية الكبرى التي كانت تجمع بها العصائب و تستتبعها فتنحل عروتها و تضعف شكيمتها و تستبدل عنها بالبطانة من موالي النعمة و صنائع الإحسان و تتخذ منهم عصبة إلا أنها ليست مثل تلك الشدة الشكيمية لفقدان الرحم و القرابة منها (…) فتقل الحماية التي تنزل بالأطراف و الثغور فتتجاسر الرعايا على بعض الدعوة في الأطراف و يبادر الخوارج على الدولة من الأعياص و غيرهم إلى تلك الأطراف لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم و أمنهم من وصول الحامية إليهم و لا يزال ذلك يتدرج و نطاق الدولة يتضايق حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة (…)
و أما الخلل الذي يتطرق من جهة المال فاعلم أن الدولة في أولها تكون بدوية كما مر فيكون خلق الرفق بالرعايا و القصد في النفقات و التعفف عن الأموال (…) ثم يحصل الاستيلاء و يعظم و يستفحل الملك فيدعو إلى الترف و يكثر الإنفاق بسببه فتعظهم نفقات السلطان (…) و يدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند و أرزاق أهل الدولة ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف في النفقات (…) و يحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية (…) ثم تزيد عوائد الترف فلا تفي بها المكوس و تكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة و القهر لمن تحت يدها من الرعايا
و يعظم الهرم بالدولة و يتجاسر عليها أهل النواحي و الدولة تنحل عراها في كل طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلال و تتعوض من الاستيلاء الكلل فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها و إلا بقيت و هي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته و طفئ و الله مالك الأمور و مدبر الأكوان لا إله إلا هو.
المصدر: ابن خلدون ، المقدمة


-2 التاريخ وفكرة التقدم
ألا يمكن أن نجد للصيرورة التاريخية منطقا آخرا غير التكرار الدوري الارتدادي الذي يعيد إنتاج نفسه ولا يضيف شيئا؟ ألا تتضمن السيرورة التاريخية نوعا من التراكم بحيث يحتفظ الدور اللاحق بشيء من الدور السابق ويضيف له ويتجاوزه؟ وإذا صح شيء من ذلك فإلى أية وجهة يمضي هذا التراكم والتجاوز؟
يرى “تيودور شانين” أن جاذبية فكرة التقدم تعود إلى بساطتها وتفاؤليتها، فهي تعني أن كل مجتمع يسير نحو الأعلى على طريق طويل بيتعد فيه الفقر والبربرية والاستبداد والجهل ليمضي نحو الثراء والحضارة والديموقراطية والعقل.
تعكس لنا فلسفة التاريخ مع هيغل هذا التفاؤل الذي ميز بالخصوص عصر الأنوار في امكانية تقدم مطرد للجنس البشري نحو مزيد من المعرفة والحرية والسيطرة على الطبيعة، وقد استدمج التصور الهيجيلي مفهوم السلب والنفي ضمن صيرورة جدلية يتجاوز فيها اللاحق السابق و في نفس الوقت يحتفظ في مركب أعلى بما هو جوهري فيه. ولكن هذا “الرقي” يفترض غائية للتاريخ، ومادام التاريخ ليس سوى تجليات لفكرة أو روح تسعى لوعي نفسها وللتطابق مع ذاتها بدءا من أبسط مظاهر الطبيعة وصولا إلى أعقد مظاهر التاريخ وأرقى أشكال المعرفة، فإن التاريخ الكوني هو سيرورة التقدم الذي يحرزه وعي الحرية، ولامناص من الاعتراف بالطابع الضرروري لهذا التقدم والتي هي ضرورة منطقية في العقل قبل أن تكون ضرورة واقعية في التاريخ. بهذا المعنى فحتى مشاهد الدمار وظواهر الحرب ولحظات الكبوات ليست سوى انتكاسات سطحية تخفي التقدم العميق والصامت الذي تخوضه الفكرة وهي تتقدم نحو غايتها المتمثلة في الحرية ( قارن هذه التفاؤلية ونظرتها “الإيجابية للكوارث” مع نص لايبنز، كتاب منار الفلسفة ص 50)

نص هيغل : وراء كوارث التاريخ ونكباته غاية تتقدم نحوها الصيرورة

يشعرنا الجانب السلبي من مشهد التغير بالحزن. وإنه لمحبط أن نعرف أن كل هذه الأبهة والحيوية الجميلة قد اندثرت وتحولت إلى حطام نمشي بين أطلاله. لقد انتزع منا التاريخ أجمل وأنبل شيء، لقد دمرت الأهواء البشرية كل شيء، والزوال مصير كل شيء
. [لنتجاوز]هذه التأملات التي تعكر صفو النفس، ونتساءل: ماهي غاية كل هذه الوقائع المفردة؟ إن غايتها لاتختزل في أهدافها الخاصة، إذ يتوجب على كل شيء أن يساهم بناء الصرح oeuvre فوراء التضحيات الجسيمة للروح توجد غاية نهائية. علينا فقط أن نعرف هل يوجد تحت الموج الهائج في السطح إنجاز خفي صامت يحتفظ في داخله بكل قوة الظواهر [الماضية] ؟ مايحول دون الجواب هو هذا التنوع والتباين الشديد بين هذه المحتويات: لقد شهدنا أشياءا متناقضة يتم تقديسها على أساس أنها تعبر عن مصالح العصر والشعوب. من هنا تظهر الحاجة إلى أن نتخد من الفكرة Idee مبدءا لتفسير هذا الانهيار. ومن هذه الاعتبارات نصل إلى المقولة الثانية: مقولة العقل نفسه. يوجد في الوعي إيمان بالقوة وبالسيطرة اللامتناهية للعقل على العالم. وستقدم لنا دراسة التاريخ نفسه الدليل على ذلك، لأن التاريخ لايعدو عن كونه صورة وإنجازا من إنجازات العقل
المصدر: Hegel, La raison dans l’histoire


-3 نقد فكرة التقدم – ريمون آرون
تتضمن فكرة التقدم بالنسبة لريمون آرون حكما معياريا قيميا ينتقص من صلاحيتها العلمية مفاده أن المجتمع اللاحق أفضل من السابق، علاوة على أنه حكم ذو صلاحية قطاعية لايمكن أن تنسحب على التاريخ برمته: فإذا كنا نعاين في مجالي العلم والتقنية تراكما وتقدما لاسبيل إلى انكارهما لأن طبيعتهما تفرض تقدما يمكن قياسه دون تقييم، فإن إثبات التقدم في مجالات الفن والدين والاقتصاد والسياسة يظل قضية إشكالية.
في النص التالي ينتقد ريمون آرون الخلفية الميثولوجية وكذا الاستعمال السيء لفكرة التقدم داخل فلسفة التاريخ، الهيغيلية منها أو الماركسية، .بل إن نقد آرون يطال أيضا الأطروحات اللاحقة لفوكوياما حول نهاية التاريخ. ذلك أن فكرة التقدم لاتنفصل عن فكرة نهاية التاريخ: فالقول بفكرة التقدم يفترض أولا وجود غائية تاريخية وحتمية ترسم للسيرورة التاريخية مسارها المحدد سلفا بهذه الغائية، ويفترض ثانيا وجود نهاية للتاريخ تمضي نحوها هذه السيرورة بما هي مسيرة نحو الخلاص.
بيد أن فلسفات التقدم تسقط بشكل لامفر منه في نزعة محافظة وتبريرية وذلك في خلطها بين فكرة عقلية ليس لها سوى استعمال معياري وبين شكل متعين قائم من أشكال النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي ( مثلما فعل هيغل حين طابق بين الدولة البروسية والعقل، أو ماركس حين جعل من المرحلة الشيوعية وسيطرة البروليتاريا نهاية الصيرورة التاريخية، أو فوكوياما حين جعل من الديموقراطية الليبرالية نهاية التاريخ…)
ومثلما ميز كانط بين استعمال مشروع وآخر غير مشروع لمقولات العقل وأفكاره، فإن لفكرة التقدم استعمالا مشروعا كفكرة موجهة لطموح الإنسانية في سبيل تجاوز حالة الفقر والعوز الظلم واللامساواة التي لايمكن تبريرها بنسبتها إلى نظام الكون أو مشيئة الإلاه.

نص ريمون آرون : مفهوم التقدم مفهوم نسبي

إن النقد التاريخي لايرفض مفهوم الحتمية أو نهاية التاريخ لذاتهما. ذلك أننا نجد بالفعل في كل حقبة قوى يتوجب علينا التعايش معها ما دمنا عاجزين عن قهرها، وسيولا ينبغي توجيهها إذا كانت محاولة وقفها عبثية. بيد أن لهذا النوع من الاستدلالات خطورته لأنه يتخد أحيانا كذريعة لتبرير الجبن أو الهزيمة.
يستطيع الفيلسوف بل يتوجب عليه أن يكشف عن الخطأ المبدئي المقترف عندما نطبق على التاريخ برمته، استدلالا مقبولا في أحسن الأحوال إذا طبق على حالات محددة.
وبالمثل فإذا كان من الضلال أن نخترع بواسطة الفكر حالة اجتماعية تتحقق فيها جميع التطلعات، فمن المشروع بالمقابل بناء فكرة عقلية لجماعة يسودها العدل والنظام تبرر التاريخ الطويل والشاق الدامي للإنسانية.
يبدو أننا لانستطيع التخلي عن الأمل في مثل هذا المجتمع الذي يرضي طموح الحكيم حيث يعيش الناس وفق مقتضيات العقل، لأن الإنسان، والإنسان الغربي على الخصوص، لم يقبل أبدا تكريس الظلم بنسبته إلى [نظام] الكون أو [مشيئة] الإلاه. لكننا نسقط في نوع من الهذيان المتطرف حالما نطابق بين هذه الفكرة العقلية وسياسة الحزب أو نمط الملكية أو النظام الاقتصادي. [لانفهم] من كون للتاريخ ذا معنى سوى دعوة الإنسان إلى معالجة طبيعته وجعل نظام الحياة المشتركة مطابقا لقوانين العقل، أما إدعاء المعرفة المسبقة بالغاية النهائية وبسبل الخلاص فليس سوى مُداراة للتقدم المتعثر للمعرفة والممارسة بميثولوجيات تاريخية
إنه لتفريط من الإنسان في إنسانيته أن يتخلى عن البحث متوهما أنه قد اهتدى إلى القول الفصل
المصدر: Aron, Dimensions de la conscience historique 1964


المحور الثالث: دور الإنسان في التاريخ:

بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال):

إن البحث في دور الإنسان في التاريخ لهو استمرار للتساؤل حول منطق التاريخ وغايته، ذلك أن القول بوجود منطق وغاية للتاريخ يقتضي أن الصيرورة التاريخية تمضي وفق مبادئ وقوانين موضوعية مادية أو عقلية بعيدا عن الذاتية المتقلبة للإنسان المفرد أو المسارات المباغتة للصدفة العمياء، أي إحلال عامل أو مبدأ ما محل الإنسان في توجيه دفة التاريخ.
فمن جهة يبدو الإنسان هو صانع تاريخه من خلال بطولة الأبطال وتضحيات المحاربين و ثورات الشعوب، ومن جهة أخرى يبدو أن بطولة هؤلاء وثورات أولئك قد صنعتها ظروف مواتية. هل يمكن مثلا أن نرجع توسع الدولة الإسلامية ماضيا إلى استبسال المسلمين وقوة إيمانهم وشجاعتهم ونفسر إنحسارها اليوم بتخاذلهم وجبنهم أم أن ذاك التوسع وهذا الإنحسار إنما يرجع إلى عوامل اقتصادية وسياسية عالمية تتجاوز الإطار المحلي. من قبيل الاكتشافات الجغرافية والنهضة الأروربية…

طرح الإشكال:

إذا كان المؤرخ لا يعتني بهبوب الرياح قدر اعتنائه بمجهود الإنسان في استخدام قوتها لتوجيه سفنه للتجارة أو شن الحروب، ولايهتم بفيضانات الأنهار إلا من حيث أنها تتقاطع أو تؤثر على حياة إنسانية قائمة بجوارها… فلأن أحداث الماضي لاتكون موضوعا للتاريخ إلا من حيث أن الإنسان هو مُحدثها أو محورها على الأقل. ما حقيقة كون الإنسان “مُحدثا” للحدث التاريخي؟ هل يعني ذلك أن الإنسان هو من يصنع تاريخه ويوجه دفة صيرورته؟ أم أن الصيرورة التاريخية مشروطة بعوامل موضوعية تفوق إرادة الإنسان نفسه الذي ليس سوى جزء من بنية تتجاوز وعيه وإدراكه؟


 لوثر وكالفن وضعية مشكلةصورة للتأمل:جون كالفن ( 1509-1564) و مارتن لوثر(1483-1546

صنعا التاريخ أم صنعهما التاريخ؟
يقترن إسم هذين الرجلين بحركة الإصلاح الديني التي ساهمت بنصيب وافر في تشكيل ملامح حركة النهضة الأوروبية. هل يعود الأمر إلى عبقرية وإرادة الرجلين وتصميمهما الشخصي أم ان عظمتهما تفسر في استجابتهما لروح العصر، بحيث لم يكونا سوى أداة عابرة لتحقيق غاية بدأت قبلهما واستمرت بعدهما؟
معطيات للإستئناس: بدأت بوادر الإصلاح الديني قبلهما مع “جون ويكليف” في أوكسفود و”جون هس” في براغ ، كما استفاد الإصلاح من أخطاء الكنيسة نفسهاوانشقاقاتها و”استُعمل” الاصلاح سياسيا من طرف الأمراء الأوروبيين في سعيهم للاستقلال عن سلطة الكرسي البابوي، وأخيرا فإن حركة الاصلاح استمرت بعدهما في علاقتها مع عوامل النهضة الأخرى كاختراع المطبعة والكشوفات الجغرافية وإعادة اكتشاف الثراث اليوناني… !!


معالجة الإشكال:
-1 الإنسان مجرد أداة مؤقتة لتحقق الفكرة – هيغل
يرى هيغل أن تاريخ العالم مجرد تمظهر لسعي الروح نحو معرفة ذاته، وإذا كانت البذرة تحوي في ذاتها كامل خصائص الشجرة من مذاق وشكل فاكهة التي ستظهر لاحقا، فإن اللحظات الأولى للتاريخ بما هي آثار أولى للروح تحتوي بالقوة مسبقا أيضا كل التاريخ. ماذا يتبقى إذن للإنسان من دور في تاريخ محدد قبليا؟ لاأهمية للبشر الأفراد عند هيغل إلا بقدر ما يكون هؤلاء أدوات لتحقيق اغراض أسمى، وبقدر ما تتمثل فيهم حقبة من حقب الفكر المطلق. بل إن أبطال التاريخ وعظماءه بدورهم لايحققون إرادتهم الخاصة ولا يسعون لنيل سعادتهم الشخصية بقدر ما يمتثلون لروح العصر التي تستعملهم وتتحقق بهم ومن خلالهم وتجاوزهم

نص هيغل: عظماء التاريخ مجرد أدوات لتحقيق روح العصر

[هؤلاء هم عظماء التاريخ] تمارس الأعمال الجليلة عليهم ومن خلالهم سلطة لا قبل لهم بمقاومتها، حتى لو أحسوها سلطة خارجية وغريبة عنهم، حتى لو تعارضت مع ما يعتقدون أنه إرادتهم الخاصة. ذلك أن الروح المتقدم نحو أشكال جديدة هو نفسه الروح الداخلية للأفراد. لأنه دخيلتهم اللاواعية التي رفعها العظماء إلى مستوى الوعي. منجزاتهم هي المبتغى الحقيقي لإرادة الآخرين، يمارسون على غيرهم سلطة لايملك هؤلاء سوى الإذعان لها رغم معارضتها لإرادتهم الخاصة. وإذا كانوا ينقادون لهداة الروح هؤلاء فلأنهم يستشعرون منهم نداءا لايقاوم صادرا من روحهم الداخلية نفسها.
وإذا تأملنا قدر هاته الشخصيات التاريخية، سنجد أنهم سعدوا بكونهم أدوات لتحقيق غاية تشكل مرحلة في المسيرة المتدرجة للعقل الكوني، ولكنهم لم يشعروا بما نسميه عادة بالسعادة من حيث أنهم أدوات مفردة لهذا الجوهر [الذي يسكنهم] وهم أصلا لم ينشدوها وكل مانالوه من رضى جاء من سعيهم لبلوغ غاياتهم من خلال الكدح الشاق، تلك الغاية الكونية. وحيث أنهم ألفوا أنفسهم منذورين لهذه الغاية الجليلة، فقد هبوا لها بكل جرأة غير أبهين بمعارضة غيرهم لهم. لم يختاروا السعادة بل الشقاء والكفاح والعمل لبلوغ غاياتهم. وعندما أدركوها لم يهنئوا بأية سعادة أو متعة ذلك أن كينونتهم هي فعلهم. وطبيعتهم ومزاجهم يرسمه شغفهم. ما إن بلغوا غايتهم حتى تهاووا كغشاء ثمرة فارغة. من المحتمل أنهم عانوا ليصلوا نهاية الشوط، ولما أدكوه ماتوا شبابا كالإسكندر، غيلة اكقيصر أو منفيين كنابليون. قد نتساءل: ماذا غنموا؟ لقد غنموا مفهومهم، غايتهم وإنجازهم ، ولاشيء غير ذلك وما نعموا بالمتعة والهناء.
المصدر: Hegel, La raison dans l’histoire


2- ماركس: (الشروط المادية)تطور قوى الإنتاج هي المحركة للصيرورة التاريخية
ماهذه الفكرة أو الروح المطلق التي تستعمل البشر – شعوبا وقادة – لتحقق نفسها !؟ في هذه النقطة بالذات تمثل فلسفة التاريخ الماركسية تجاوزا لفلسفة التاريخ الهيغيلية، إذ أن الفكرة أو الروح المطلق التي كانت تتجلى تدريجيا عبر التاريخ وتحرك خيوطه وتسير أبطاله، حلت محلها – في الماركسية – عوامل مادية هي ظروف الإنتاج المادي للحياة بيد أن موقع الذات الإنسانية في التاريخ ظل في الماركسية على ماهو عليه، : ففي الوقت الذي يعتقد الفاعل التاريخي أنه يتصرف وفق ما يختاره من معتقدات دينية أو ما يتبناه من مبادئ سياسية يبين التحليل المادي للتاريخ أن المعتقدات الدينية المبادئ السياسية ماهي إلا انعكاس للبينة التحتية الإقتصادية، أي لمستوى معين من تطور قوى الإنتاج
وإذا كان الوعي هو النمط الوحيد الذي يمكن من خلاله إثبات فعل الإنسان في التاريخ، فإن هذا الوعي نتاج للوجود الاجتماعي وليس العكس، كما يتضح من خلال النص التالي:

نص ماركس: نقد التصور المثالي للحتمية التاريخية عند هيغل

تتأسس تصورنا للتاريخ على قاعدة تطور السيرورة الواقعية للإنتاج، انطلاقا من الانتاج المادي للحياة الفعلية، وننظر إلى شكل العلاقات البشرية في ارتباطها بنمط الانتاج الذي يفرزها. وعلى خلاف التصور المثالي للتاريخ لانرى داعيا للبحث في كل حقبة عن مقولة [عقلية] لأننا نقف باستمرار فوق الأرضية الحقيقة للتاريخ: لانفسر الممارسة انطلاقا من الفكرة، بل نفسر الأفكار انطلاقا من الممارسة المادية (…)
لقد تم لحد الآن تجاهل هذه القاعدة الواقعية للتاريخ ونظر إليها كعنصر ثانوي لاعلاقة له بالصيرورة التاريخية (…) وتم استبعاد علاقة الإنسان بالطبيعة خارج دائرة التاريخ مما خلق تعارضا [مصطنعا] بين الطبيعة والتاريخ. لذا لم تر هذه النظرة المثالية في التاريخ سوى أحداثه الكبرى التاريخية والسياسية اوالحروب الدينية التي تظل خلافات نظرية في نهاية المطاف. وفي دراستها لكل حقبة تاريخية تسقط هذه النظرة ضحية لنفس الوهم المسيطر على أهل تلك الحقبة، إذ يعتقدون أن يتحركون بدوافع سياسية أو دينية في حين أن السياسي والديني ليس سوى مظهر خارجي للمحرك الواقعي.
المصدر: Marx-Engels, L’édeologie allemande (1846) éd 1975


-3 سارتر- الإنسان صانع تاريخه
ولكن إذا كانت الماركسية تقدم نفسها كتحليل علمي للتاريخ يكشف النقاب عن القاعدة المادية المسؤولة في الواقع عن الصيرورة التاريخية، ألا تتيح هذه المعرفة للإنسان الانفلات حتمية هذه الصيرورة؟
يرى سارتر أن الماركسية قد أسيء تأويلها بشكل تبسيطي أو أن إمكانيتها لم تستثمر بشكل كامل: إن الماركسية فلسفة للحرية أو بالأحرى للتحرر ليس فقط للإنسان الفرد بل للطبقة المستغلة بأسرها، ذلك أن التاريخ لايكون قوة غريبة تستلب البشر إلا مادامت دلالة مجهوداتهم غريبة عنهم والحال أن التحليل الماركسي يقدم الأدوات الكفيلة بالتعرف على المنتوج وفهم سيرورته، من خلال مفاهيم قوى الإنتاج ، علاقات الانتاج،الصراع الطبقي، وأشكال الاستيلاب والايديولوجيا… وبذلك تصبح الممارسة الإنسانية ممارسة مستنيرة بالوعي لاممارسة عمياء تنقلب نتائجها ضدها.

نص سارتر: إذا لم أكن أنا صانع التاريخ، فذلك لأن آخر غيري قد صنعه

لكي ننأى بالفكر الماركسي عن الاختزالية والتبسيط، لابد من القول بأن الإنسان في لحظات الاستغلال هو في نفس الوقت نتاج لمنتوجه الخاص و فاعل تاريخي لايمكن اختزاله إلى مجرد منتوج. ولكلا يتخد هذا التناقض مظهرا جامدا، لابد من إدراكه ضمن حركة البراكسيس (الممارسة) نفسها، عندها تتضح دلالة عبارة انجلز: الناس يصنعون تاريخهم انطلاقا من شروط واقعية سابقة على وجودهم ( في عداد هذه الشروط، نجد: السمات المكتسبة، التشوهات المفرضة من طرف نمط الشغل والحياة وكذا الاستيلاب) ولكن البشر هم الذين يصنعون التاريخ وليس الشروط السابقة وإلا تحولوا إلى مجرد آلات تحركها قوى لاإنسانية وتتحكم من خلالهم في الوجود الاجتماعي. صحيح أن هذه الشروط موجودة [مسبقا] وهي وحدها التي تمنح للتغييرات الوشيكة وجهتها ووجودها المادي، بيد أن حركية البراكسيس الإنسانية تتجاوز هذه الشروط وتحتفظ بها.
من المؤكد أن البشر لايعون جيدا الامتدادات الفعلية لإنجازاتهم، وستظل هذه الامتدادات عصية على الإدراك مادامت البروليتاريا وهي الفاعل التاريخي لم تحقق بعد وحدتها ولم تع بعد دورها التاريخي. لكن إذا كان التاريخ ينفلت مني، فليس معنى ذلك أنني لاأصنعه بقدر مايعني أن آخرا غيري قد صنعه بدوره(…) وهكذا فالقول بأن الإنسان يصنع تاريخه يعني أن التاريخ فضاء يتموضع داخله الإنسان ويستلب فيه أيضا. وهكذا سيظل التاريخ بالنسبة للبشر قوة غريبة رغم أنه المنتوج الخاص بمجموع الفاعلية البشرية ماداموا لم يتعرفوا على دلالة مجهوداتهم الناجحة محليا في المنتوج النهائي والموضوعي.
تمثل الماركسية في القرن التاسع عشر أعظم محاولة ليس فقط لصناعة التاريخ بل ولتملكه أيضا عمليا ونظريا من خلال توحيد الطبقة العاملة وترشيد الفعل العمالي من خلال التعرف على السيرورة الرأسمالية والموقع الموضوعي للعمال [داخلها]. بهذا يكتسي التاريخ معناه بالنسبة للإنسان. وبقدر ماتعي البروليتاريا فاعلا تاريخيا تتعرف على نفسها في هذا التاريخ.
المصدر: Sartre, Critique de la raison dialectique
Facebooktwitterredditmailby feather

موارد لانجاز درس الغير – مجزوءة الوضع البشري

يمكنك الاضطلاع هنـــأ على خارطة للطريق تشرح الخلفيات الفلسفية والديداكتيكية التي تحكمت في صياغة الدرس على هذا النحو

 

 ماجدة الرومي-كن صديقي وضعية مشكلةوضعية مشكلة: الصداقة المستحيلة بين الرجل والمرأة!!
أو كيف يمكن طرح إشكالبة الغير انطلاقا من أغنية “كن صديقي” لماجدة الرومي؟لمزيد من التفاصيل، أنظر هنــــــــــــــــــــا

دلالات: الغير ذلك الأنا الذي ليس أنا

الإنسان كائن اجتماعي، واجتماعيته هذه تعني وتقتضي التفاعل مع الآخرين أي مع الغير. وإذا كان تفاعلي مع الأشياء وتمييز نفسي عنها لايكاد يطرح مشكلة، فالأمر خلاف ذلك فيما يخص الغير، لأنه ببساطة ذلك الشبيه المختلف : إنه شبيهي مادام يشاطرني كثيرا من الصفات العامة (الفيزيولوجية ،النفسية، السلوكية…)، لكنه لايفتأ يؤكد – ضمن هذا التشابه – اختلافه عني في مؤهلاته واختياراته ورغباته ومشاريعه …

تقع هذه الإزدواجية في صلب أغلب الإشكالات الفلسفية للغير، فلقد عرفه سارتر: بأنه “الأخر، الأنا الذي ليس أنا ” أي ذلك الوعي وتلك الذات المباينة، المنفصلة عن ذاتي ووعيي؟ كيف يمكن لذاتي أن تذرك وجود الذوات الأخرى؟ هل يمكن والحالة هذه إثبات وجود مثل هذه الذات (المفكرة حتما) بواسطة الأسلوب الديكارتي الشهير مثلا؟ ماعلاقة وجوده بوجودي؟ هل يرتبط ويتوفق وعيي بوجودي على وعيي بوجود الغير أم ينفصل ويستغني عنه؟

لنطرح قضية الغير بتجريد أقل: كيف يتبدى الغير لذاتي؟ كيف أعرف الغير؟ وهل هذه المعرفة ممكنة أصلا؟ إذا انطلقت من افتراض معرفتي لذاتي ولحالاتي النفسية الشعورية بواسطة إدراك ووعي باطني مباشر، فكيف السبيل لمعرفة الغير؟ ألا تحيله عملية المعرفة إلى موضوع وتنفيه كذات؟

ولنطرح القضية بتجريد أقل مما سبق: تتعدد وجوه الغير فهو معشوق وصديق وعدو ومنافس وغريب…معرفة ونكرة.. ولكن الثابت هو مغايرته واختلافه التي ما يفتأ يؤكدها حتى داخل علاقة صداقة حميمية أو عشق حلولي!. كيف أتعامل إذن مع غيرية الغير؟ هذه الغيرية التي تتحداني وتحيرني وخصوصا في حالات نموذجية كحالة الغريب مثلا، تحيرني بسبب أنها ليست اختلافا مطلقا مادام الآخر شبيها بي من بعض الوجوه؟ وعليه ألا يثير الغير/الغريب بسبب تماثله ومغايرته مشاعر مزدوجة ومتناقضة تتراوح بين الإحترام والإعتراف وأيضا الإقصاء والنفي؟ بين الاعتراف بإنسانيته من مبدأ وحدة الإنسانية جمعاء وبين الإنكفاء داخل خصوصيتي الذاتية أو الثقافية؟ وباختصار:كيف أتعرف على غيرية الغير وكيف اقرؤها؟ !

إشكالية وجود الغير

عرف سارتر الغير: بأنه “الأخر، الأنا الذي ليس أنا ” أي ذلك الوعي وتلك الذات المباينة، المنفصلة عن ذاتي ووعيي؟ كيف يمكن لذاتي أن تذرك وجود الذوات الأخرى؟ هل يمكن والحالة هذه إثبات وجود مثل هذه الذات (المفكرة حتما) بواسطة الأسلوب الديكارتي الشهير مثلا؟ ماعلاقة وجوده بوجودي؟ هل يرتبط ويتوفق وعيي بوجودي على وعيي بوجود الغير أم ينفصل ويستغني عنه؟

تنبيه: يمكن استثمار معطيات هذاالمحور لمعالجة قضايا واشكاليات عديدة: الغير كأنا آخر- مفهوم الوعي أو الذات المفكرة- علاقة أوضرورة وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا- الوجود والإعتراف بالوجود- مكانة الغير في عالم الذات …

يلاحظ أن وجود الغير يمثل بالنسبة للحس المشترك قضية بديهية مسلما بها. وكلما تماهينا مع الحس المشترك بداخلنا وافتقدنا الخاصية النقدية الإستفزازية للتفكير الفلسفي ،إلا وصعب علينا إدراك جوهر اشكالية وجود الغير ومكامن الصعوبة والتعقيد بداخلها. وفي الواقع فهذه اشكالية حديثة في تاريخ الفلسفة نفسه. وقد طرحت نفسها بحدة انطلاقا من الفلسفة الديكارتية: ذلك أن اكتشاف الذات كمصدر للحقيقة ومرجع للحكم قد فجر – ليس فقط اشكالية وجود العالم والأشياء – بل وإشكالية وجود الذوات الأخرى (الغير) أيضا: من المعروف أن إثبات وجود الذات أو مايعرف بالكوجيطو يأتي تتويجا لمغامرة الشك الشامل. إن الشك هو الحقيقة الأولى التي لانستطيع الشك فيها دون أن نؤكدها،والشك يكشف اذن عن وجود الذات وطبيعتها المفكرة. ولكن بما ان الكوجيطو ترجمة لوعي الذات بنشاطها المفكر وعيا مباشرا بواسطة حدس باطني، فهل يمكن استعمال الكوجيطو في غير ضمير المتكلم واستغلال قوته الإثباتية في إثبات وجود الغير كذات وأنا واعية؟ إن ديكارت وهو ملتزم بالحذر المنهجي وبأن لا يعلن قضية على أنها حق قبل اجتيازها اختبار الشك الصارم، يعلن أنه عندما ينظر من النافذة إلى الأسفل يحكم بأنه يرى أناسا يسيرون في الشارع رغم أنه لايدرك في الحقيقة غير قبعات ومعاطف قد تكون غطاءا لآلات تحركها لوالب !!

نص ديكارت : كيف يمكن لوعيي أن يدرك وجود وعي آخر!؟

‏لا اعجب كتيرا حين ألاحظ ما في ادرا كي من ضعف وميل يجعلانه عرضة للخطأ من غير وعي مني. ذلك لآن ‏الالفاظ تصدني [عن إدراك الحقيقة]حتى ولو استغنيت عنها وطفقت اجيل هذا كله في ذهني صامتا. العبارات الشائعة المتداولة تكاد تخدعني: فنحن نقول باننا ‏نرى الشمعة ذاتها حين تكون امامنا ولا نقول باننا نحكم» انها هي الشمعة عينها، لأن لها لون وشكل الشمعة ذاتيهما وهكذا نميل عادة إلى الاستنتاج باننا نعرف الشمعة بالعينين وليس بواسطة فحص عقلي. وكذلك لو نظرت بالمصادفة من النافذة وشاهدت رجالا يسيرون في الشارع لقلت عند رؤيتهم بأني ارى رجالا بعينهم ، مثلما قلت اني أرى شمعة بعينها . ولكن هل ارى في الواقع من النافذة سوى قبعات ومعاطف قد تكون غطاءا لآت صناعية تحركها لوالب ؟ ومع ذلك احكم انهم أناس !اذن فأنا ادرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت احسب أنني اراه بعيني
المصدر: ديكارت ، ـاملات ميتافيزيقية، الترجمة العربية ، كمال الحاج ، عويدات 1982 ص 82 (بتصرف)


وبالمثل فإن الإعلان عن وجود الغير كذات لايمكن النظر إليه إلا كاستدلال عقلي قائم على ملاحظة التماثل في الصفات بين الأنا والغير كالكلام والسلوك التلقائي الذكي..، ثم الإستنتاج بأنها تمظهرات دالة على وجود ذات مفكرة واعية يستحيل إدراكها مباشرة لأن ذلك مناقض لمعنى الوعي باعتباره حضور الذات إزاء نفسها. ولكن مالمشكلة في مثل هذا الإستدلال؟ على عكس حكم الحدس يظل حكم الإستدلال -ومن ثم وجود الغير- احتماليا مفترضا وجائزا لايبلغ درجة يقين وجود الأنا أفكر. نحن أمام مذهب فلسفي تنتهي نتائجه إلى “وحدانية الذات ” التي لاتستطيع أن تجزم يقينا سوى بوجودها الخاص، وذلك بسبب تبنيها لمفهوم الوعي باعتباره تطابق الأنا مع ذاته.

<

لكن هل يمكن حقا لفعل الوعي أن يستغني عن حضور الغير والعلاقة به بشكل من الأشكال؟ هل يمكن لكائن ولموجود وحيد في عزلة انطلوجية مطلقة أن يعي ذاته ويشير إليها بضمير”أنا”؟

يتناول هيغل التركة الديكارتية من زاوية مغايرة: فالوعي ليس كيانا ميتافيزيقيا مجردا ثابتا أو معطى أوليا إنه بالأحرى كيان ينمو ويتطور في علاقته بما عداه من الأشياء (الطبيعية) أولآ ثم الغير(وعي الذات الأخرى) ثانيا. كيف ذلك؟ من المعروف أن المنطق الجدلي عند هيغل يؤكد على مبدأي التناقض والصيرورة التي تتجلّى بوضوح في العملية الثلاثية المستمرة : الأطروحة – النقيض – التركيب؛ وبعبارة أخرى فكل كائن يحمل بالضروة نقيضه كشرط لوجوده ومن ثم فالوعي يحمل بالضرورة نقيضه كعنصر سلب ونفي متمثل في ماسواه. يتخد هذا الأخير شكل الطبيعة أولا: فمن خلال تغييرها وترك آثار عليها واشباع الحاجات البيولوجية، يبدأ الوعي في اكتشاف نفسه و”وعيها” ، لكن هذا الإكتشاف لايتجاوز درجة الإحساس المباشر بالذات التي تظل مع ذلك غارقة ومنغمسة في الطبيعة لكون رغباتها لاتتجاوز الرغبات الطبيعية، لكن هذا يدلنا على كل حال على أهمية”التوسط”في وعي الذات، وبعبارة أخرى لايمكن للوعي أن ينبثق من خلال العلاقة المباشرة للأنا بذاته بل عبر آخر يتوسط بينه وبين ذاته ولن يكون هذا الآخر في المرحلة التالية سوى الغير أو الذات الأخرى التي يتعين أن يكتشف الأنا نفسه فيها من خلال إعترافها به. هكذا ينتقل الأنا من الرغبة في شيء طبيعي إلى الرغبة في رغبة أخرى هي هذا الإعتراف الذي لايمنح بشكل سلمي لأنه إعتراف منشود من الطرفين معا. على ضوء هذا التحليل يقرأ هيغل علاقة أو “جدلية السيد والعبد” باعتبارها أول علاقة إنسانية مدشنة للتاريخ البشري: إنها علاقة فردين يغامران بحياتهما ويسموان فوق الطبيعة بدخولهما في صراع ينشد فيه كل طرف موت الآخر، بيد أن المنتصر في نهاية المطاف يبقي على حياة المنهزم لأن موته لايحقق الإعتراف المنشود. إن السيد والعبد وجهان لعملة واحدة هي وعي الذات: الأول وعي لذاته خالص، والثاني وعي تابع أو ” وجود – من – أجل – الغير”. صحيح أن علاقة الأنا بالغير لاتتخد دوما هذا الطابع الدراماتيكي، لكن الصراع الضمني أو المعلن يظل خاصيتها المؤسسة. لأن كل علاقة من هذا القبيل هي نشدان للإعتراف أو بالأحرى إنتزاع له.

نص هيغل : جدل الأنا والآخر

‏يكون وعي الذات (الإنسان) أولا وجودا لذاته بسيطا. وهو اذ يقصي عن ذاته كل ما هو آخر بالنسبة اليه، فانه يكون مساويا أو مطابقا لذاته، وتقوم ماهيته فى كونه أنا. وهو فى وجوده المباشر هذا (إدراكه لذاته كأنا ) شيء فردى. ويكون مإ هو أخر بالنسبة إليه موضوعا … أي شيئا غير جوهري، متسما بطابع السلب (لكونه لا – أنا). غير أن الآخر البشري هو أيضا وعي للذات (لذاته) هكذا ينبثق فرد أمام فرد، ويقف أمامه وجها لوجه. «وبظهورهما على هذا النحو المباشر ، يكونان في صورة موضوعين اأحدهما بالنسبة للآخر). إنهما شيئان أو وجهان مستقلان… غارقان أو منغمسان في الحياة لازال أحدهما لم يقم تجاه الآخر بحركة التجريد، التي تتمثل في أن يستأصل كل منهما من ذاته كل وجود مباشر ،.. وبعبارة أخرى، ان هذين الوعبين، لم يقدم بعد أحدهما نفسه للآخر بوصفه وجودا لذاته خالصا ، أى وعيا لذاته. كل منهما متييقن من ذاته، وليس متيقنا من الآخر. وهكذا فإن هذا اليقين لا يكتسي بعد طابع الحقيقة
‏تتمثل عملية تقديم الذات لنفسها (أمام الآخر) بوصفها تجريدا خالصا لوعي الذات، في إظهارها أنها ليست متشبثة بالحياة. وهذه العملية مزدوجة : يقوم بها الآخر كما تقوم بها الذات. وأن يقوم بها الآخر معناه أن كلا منهما يسعى إلى موت الأخر. وأن تقوم بها الذات يعني أنها تخاطر بحياتها الخاصة. يتخد سلوك كل من وعيي الذات (الفردين البشريين المتواجهيين) إذن، بكون كل منهما يثبت ذاته لنفسه، كما يثبتها للآخر بواسطة الصراع من أجل الحياة والموت.إنهما مجبران بالضرورة على الإنخراط في هذا الصراع، لأن على كليهما أن يسمو بيقين وجوده إلى مستوى الحقيقة بالنسبة
‏لذآتة وبالنسبة إلى الآخر.فالمخاطرة بالحياة هى وحدها التي يتم بواسطتها، الحفاظ على الحرية، وبها وحدها يقدم الدليل ‏على أن وعي الذات ليس (مجردا وجود، وليس موجودا على نمط مباشر مثل نمط وجود الأشياء) … ولا انغماسا أو تشبثا ‏بالحياة.أن الفرد الذي لم يخاطر بحياته، قد يعترف به كشخص، ولكنه لا يبلغ حقيقة الاعتراف به كوعي لذاته مستقل. كذلك يكون على كل فرد عندما يخاطر بحياته الخاصة أن يسعى إلي موت الآخر. لأن الآخر لم يعد أسمى منه قيمة، وانما تتجلى له ماهيته كأخر يوجد خارجا عن ذاته، وعليه أن يلغي وجوده الخارج عن ذاته.
‏غير أن هذا الدليل الأعلى (على ارتقاء الفرد من مجرد أنا مباشر إلى وعي للذات معترف به ا الذي يقدم بواسطة الموت، يلغي … الحقيقة التي كان من المفروض أن تنجم عنه، كما يلغي، في نفس الوقت، اليقين الذاتي بوجه عام ..> ‏يتعلم وعي الذات في هذه التجربة أن الحياة هي بالنسبة إليه شيء جوهري مثل وعي الذات … عن طريق هذه التجربة يتقابل وعي خالص لذاته من جهة، ووعي ليس وعيا لذاته بكيفية خالصة، من جهة أخرى وإنما هو وعي من أجل ‏وعي آخر، أي أنه..وعي يوجد على نمط وجود الأشياء. هاتان اللحظتان جوهريتان، إنهما لما كانتا غير متساويتين ومتعارضتين… فإنهما بمثابة وجهين متقابلين للوعي : إحداهما لحظة وعي مستقل، تقوم ماهيته في كونه وجودا لذاته، والأخرى لحظة وعي تابع تقوم ماهيته في الحياة والوجود من أجل الآخر، أحدهما سيد والآخر عبد
. ‏هيغل ، فينومينولوجيا الروح، ترجمة جون هيبوليت،أوبييه، ج 1.1977 ص.ص: 158-159
نقلا عن الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة وزارة التربية الوطنية – الطبعة الأولى 1996-1997
 ماجدة الرومي-كن صديقي وضعية مشكلةصورة للتأمل: الصراع كنمط من أنماط اتباث الوجود من خلال تحدي الآخر وهزيمته وإخضاعه!!

لوحة تظهر مبارزة بالسيوف بين سيدات المجتمع الإسباني الارستقراطي على مشارف مدريد في نهايات القرن 19.
اضغط هنــــــــا لمشاهدة الصورة بحجم كبير

يتقوى الشعور بالانتصار والتفوق لدى المنتصر والشعور بالخضوع لدى المنهزم بسبب حضور أغيار آخرين يشهدون الموقف كانت المبارزة في اوروبا وسيلة قانونية codifié لحل النزاعات بين الأفراد ورد الاعتبار رغم أنها تكون أحيانا مبارزات مميتة يفقد فيها أحد الطرفين حياته !!لقد تجاوزت الإنسانية اللحظة التاريخية التي يصفها هيغل في جدلية السيد والعبد، ولكن نمط العلاقة بين الأنا والغير لا يزال هو نفسه. يفترض أننا تجاوزنا حالة الطبيعة بحيث غدت العلاقات بين الأفراد خاضعة لقانون موضوعي، غير أن حاجة االفرد إلى الاجتماع والسلم لاتقل عن حاجته إلى اخضاع الغير وانتزاع اعترافه…

تدفعنا المقاربة الهيغيلية إلى القول بأن وعي الذات يقتضي وعي الغير، وأن الأنا والغير ينبثقان من خلال علاقتهما وليس قبلها. ونضيف تأكيدا لضرورة وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا حالة ” الأطفال المتوحشين” الذين لاحظ إتيان مالصون أن بعضهم يشكو من ضعف أو غياب سيرورات الوعي بالذات كعدم التعرف على النفس في المرآة وعدم القدرة على الإحساس بالفخر والخجل… بسبب إفتقادهم طيلة طفولتهم إلى العلاقة مع الغير. إنها إذن علاقة ضرورية في سيرورة نمو الوعي وظهوره. ولنسأل أنفسنا أخيرا: هل يستطيع الواحد منا أن يعتبر نفسه ذكيا أو بليدا، ودودا أو حقودا، جميلا أو ذميما، بطلا أوجبانا… من غير أن نكون قد إستخلصنا ذلك من نظرة الغير أو شهادته؟

إشكالية معرفة الغير

قراءة مباشرة في أفكار الغيروضعية مشكلةوضعية مشكلة: في الكاريكاتور المقابل، يطلع الرجل ذو السترة السوداء مباشرة على أفكار الرجل المنهمك في القراءة، لاشك أنه لايطلع فقط على السطور التي يتلوها القارئ، بل يطلع أيضا على الانطباعات وردود الأفعال والذكريات والصور الحميمية التي تثيرها في ذهنه السطور المقروءة!! يالها من قدرة سحرية!! لقد أصبح الغير شفافا، ولم تعد هناك حاجة للتعبير أي للصياغة اللغوية للأفكار. ولكن أنى لنا هذه القدرة! لامفر إذن من طرح السؤال: كيف أعرف الغير؟ أي كيف لي أن أنفذ إلى محتويات وعيه وشعوره؟ تلك القلعة المغلقة بإحكام! وهل هذه المعرفة ممكنة أصلا؟ ألا تحيله عملية المعرفة إلى موضوع وتنفيه كذات؟ كما نرى في هذا الكاريكاتور

 

تنبيه: يمكن استثمار المعطيات اللاحقة لمعالجة إشكالات موازية مثل: التواصل مع الغير، الإعتراف بالغير وإحترامه أو إقصاؤه، الغير والمشاركة الوجدانية، الغير كذات أو كموضوع، الإتصال والإنفصال بين الذوات…

يبدو أن إثبات التلازم الجدلي بين الأنا والغير عند هيغل لايتم إلا من خلال الطابع الصراعي لعلاقتهما، أفلا يحضر هذا الطابع الصراعي أيضا على مستوى العلاقة المعرفية؟ إذا كنت في معرفتي لذاتي أؤكدها من خلال وعيي المباشر بحالاتي النفسية الداخلية، أفلا تعني معرفة الغير تحويله إلى موضوع ومن ثم نفيه كذات؟
تحيل العلاقة المعرفية على ذات وموضوع: ذات تمارس فعل المعرفة مكرسة بذلك حريتها وتلقائيتها وفعاليتها، وموضوع خاضع لشتى العمليات المعرفية كالإدراك والحكم والتصنيف أو حتى الشك والنفي. إنه إذن تحت رحمة الذات أو “الأنا أفكر”مجردا من صفات الذات كالتلقائية والحرية غارقا في العطالة كالأشياء. وهذا ماتؤكه على نحو ملموس تحليلات سارتر لتجربة الخجل الناجمة عن نظرة الغير: فقبل الخجل يتصرف الأنا في تطابق مع ذاته بحرية وتلقائية ،إنه مركز عالمه الداخلي، وما إن يحس الأنا حضور الغير من خلال نظرته،حتى تتجمد حريته وعفويته(التوتر-الإرتباك-الإحساس بالتفاهة …) وينسحب من مركز عالمه إلى هامشه، وقد تحول إلى موضوع أو شيئ . يقول سارتر:”عندما ينظر إلى الغير فهو يفرض نفسه خارجا عني ليحولني إلى شيء : قادرا على تأويل سلوكي وإعطائه معنى قد لا يكون هو المعنى نفسه الذي أقصده، وبذلك أسقط تحت رحمته وسلطته … “وذلك لأني أحس أن صورتي كما يراها الأخر مستقلة عني في وجودها كصورتي الفوتوغرافية، ويرجع سارتر الطبيعة التشييئية لعلاقة الأنا بالغير إلى أن هذا الأخير هو “لا- أنا” مما يعني السلب والنفي والإنفصال، هذاالإنفصال الذي تؤكده واقعة الإنفصال الأمبريقي بين جسمينا. وهكذا لايمكن للغير أن يتبدى لي(والعكس صحيح ) سوى كـــ”شيئ في ذاته” ولعل خير ما يلخص التصور السارتري السابق هو عبارته الشهيرة “الجحيم هم الأخرون “. في نفس السياق

نص غاستون بيرجي : الذوات كمونادات أو جزر معزولة عن بعضها

كيف لى الأ أشعر بان هذه الحميمية التى تحمينى و تحدنى هى عائق يحول بصورة نهانية بينى وبين أي تواصل ( مع الفير) ؟ فحين كنت قبل قليل تانها بين الاخرين كاد وجودي ان يتلاشى، و الآن اكتشف لم بمعزل عنهم غبطة الإحساس بالحياة، لكن هذه الغبطة لا يتذوق طعمها احد سواى. حقا ان نفسي هى ملك لى، إلا أننى حبيس داخلها. إن الآخرين لا يستطيعون ولوج وعيى كما لا يمكن لى أن أخلى لهم السبيل للنفاذ إليه حتى لو تمنيت ذلك بكل قوة فأقوالى و حركاتى هي علامات أو إشارات لا تستطيع أن تفعل أكثر من التلميح او الإشارة إلى تجربة أعيشها أنا دون ان يكون فى مقدور من أتوجه إليهم معايشتها
‏ان آلام الآخرين هى التى تكشف لى اكثر عن آلامى أنا، عما بيننا من انفصال و تباعد لا يقبل التقليص. لا شك اننى استطيع، عندما يتالم صديق لي ان أقوم بافعال ناجعة لمساعدته، و ان أواسيه وان احاول بكل ما اوتيت من رقة و لطف أن أخفف من شدة الالم الذى يمزقه إلا ان المه يظل مع نلك خارجا عنى، و تظل محنته محنة شخصية خاصة به. فقد أتالم مثله و ربما اكثر منه، لكن تألمى يكون دائما مختلفا عن تالمه. ‏و بما ان الإنسان حبيس فى المه، متفرد في سروره فإنه محكوم عليه ألآ يشبع ابدا رغبته فى التواصل مع الغير مع انه لا يستطيع ان يستغنى عن هذا التواصل
غاستون بيرجي، من الشبيه إلى القريب
ورد كنص ضمن: الامتحان الوطني لمادة الفلسفة – الشعبة الأدبية – الدورة الإستدراكية – يوليوز 2003


القائل باستحالة أو على الأقل صعوبة معرفة الغير يندرج تصور غاستون بيرجي حول عزلة كل ذات داخل عالمها الخاص بسبب إستحالة التعبير عن العالم الحميمي للذات، عندما يقول: ” إن ما هو خاص به، ما هو حميمي وما يميزني عن الأخرين يشكل أكبر عائق أمام كل محاولة للتواصل مع الغير: فأنا الوحيد الذي أملك روحي، لكني سجينها في نفس الوقت، وحتى عندما أرغب في الخروج منها للتواصل أفشل، لأن حركاتي وكلماتي ليست سوى تلميحات وإشارات إلى ما أحسه لكن الأخر المستمع لا يعيش هذا الإحساس ! إن ألم ومعاناة الأخرين هي التي تكشف عزلة الذوات على بعضها ” .
هل يمكن و الحالة هذه أن نعلن إستحالة معرفة الغير وأن نجعل من الذوات جزرا وقلاعا حصينة مغلقة أو” مونادات ” بتعبير لايبنز ؟ الواقع أن تحليلات فلسفية عديدة ترى غير ذلك: فهذا ميرلوبونتي يقوم بوصف فينومينولوجي لعملية التواصل ليستدل بها على إمكانية معرفة الغير معتبرا أن العلاقة مع الغير لا تحوله إلى موضوع وتنفيه. وأن النظرة لا تشيؤه إلا إذا كانت نظرة نافية لإنسانيته بإصرار مسبق: أي نظرة تفحص ومراقبة لا نظرة تفهم وتقبل (كنظرة الأم وهي تتابع مشجعة خطوات إبنها الأولى )، وإلا إذا آنسحبت كل ذات إلى طبيعتها المفكرة وتموقعت داخل تعالي الكوجيطو متخدة ما عداها مجرد موضوعات لعملياتها المعرفية. وبالمقابل فإن أبسط تجارب التواصل بعد صمت لا تنقل إلي بعض أفكار الغير وأصواته فحسب، بل وعالمه الذي كان يتبدى لي من قبل متعاليا غريبا منفصلا عن عالمي. إن التواصل يثبت أن الإختلاف والمغايرة بين الذوات ليست من نمط الإختلاف الطبيعي ( كذاك القائم بين شيئين: طاولة وكرسي حيث الهوة و الإنفصال) بل إختلاف إنساني لا يلغي التقاطع ضمن المجال “البينذاتي ” المشترك . لهذا السبب لا يتحدث ميرلوبونتي عن المعرفة (connaissance) بل عن الإنبثاق المشترك (co-naissance ).

نص ميرلوبونتي : الغير والتواصل والمجال البينذاتي

‏يقال إن من الواجب علينا أن نختار أحد اثنين : إما أنا واما الفير. غير أننا نختار أحدهما ضد الآخر، ونحن، بذلك، فؤكدهما معا . ويقال أيضا إن الفير يحولني إلى موضوع وينفيني، وأحوله إلى موضوع وأنفيه. والواقع أن نظرة الغير لا تحولني إلي موضوع، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع، إلا إذا انسحب كل منا وقبع داخل طبيعته المفكرة، وجعلنا نظرة بعضنا إلى بعض لا إنسانية، والا إذا شعر كل منا بأن أفعاله، بدلا من أن تتقبل وتفهم، تخضع للملاحظة مثل أفعال حشرة. ذلك ما يحصل مثلا عندما تقع علي نظرة شخص مجهول. غير أنه حتى في هذه الحالة لا يتحول كل منا إلى
موضوع أمام الآخر بفعل نظرة الفير، ولا تولد هذه النظرة الشعور بالضيق، إلا لكونها تحل محل تواصل ممكن. فالإمتناع عن التواصل هو أيضا نمط من التواصل. إن الحرية ذات الأوجه والأشكال المتعددة، والطبيعة المفكرة، والأعماق التي تستباح فيها ، والوجود الخالي من الصفة أو الإسم، إن كل هذا الذي يضع فينا أنا والفير حدودا لكل تعاطف، يجعل التواصل معلقا ، ولكن لا يعدمه. إذا ما ربطتني صلة بشخص مجهول لم ينبس بعد بكلمة، فإنني أستطيع أن أعتقد أنه يعيش في عالم آخر لا تستحق أفعالي وأفكاري أن توجد فيه. لكن ما أن ينطق بكلمة حتى يكف عن التعالي علي : هو ذا صوته وهي ذي أفكاره، هو ذا المجال الذي كنت أعتقد أنه يستعصي على بلوغه. فلا يعلو كل وجود معين على الآخرين بصورة نهائيه إلا حين يبقى. عاطلا، ويتوطد فى اختلافه الطبيعي .
ميرلوبونتي، فينومنلوجيا الإدراك
نقلا عن الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة وزارة التربية الوطنية – الطبعة الأولى 1996-1997

 

لكن الإقرار بإمكانية معرفة الغير لا يمنعني من البحث عن أنماط وطرائق هذه المعرفة، لأن التواصل يفترض وجود علامات، سنن وقنوات. وفي هذا الإطار يبدو كما لو أن معرفتنا بالغير قائمة على نوع من الإستدلال الضمني هو “الإستدلال بالمماثلة”، فإذا كانت حالة الخجل تترافق عندي مع احمرار الوجه، والألم مع البكاء وبعض الكلمات مع بعض المعاني أو المشاعر، فإني أسارع إلى تأويل احمرار الوجه كعلامة على خجل الغير،كما أنسب إلى كلماته المعاني والمشاعر المعهودة لدي … وهكذا. إن معرفة الغير على هذا النحو قائم على افتراض أن الغير شبيه ومماثل للأنا، وأن العلامات الخارجية الصادرة عنه ( كلمات ،حركات، تعابير الوجه … ) تترافق مع حالات نفسية داخلية معينة كما هو الحال لدى الذات ،إننا ببساطة لا نعرف الغير مباشرة، بل عبر وساطة ما يصدر عنه من علامات . غير أن تناول معرفة الغير على هذا النحو يطرح صعوبات واستحالات : فقد يظهر الغير خلاف ما يبطن قاطعا الصلة بين الحالة النفسية وعلاماتها المعهودة ، وقد تفشل التعابيرالخارجية (الكلمات مثلا ) في التصوير الدقيق لتلوينات المعاني والأحاسيس والمشاعر، بل هناك ماهو أكبر من ذلك: عندما أدرك وراء إحمرار وجه الغير خجله، فأي خجل أدرك بالضبط؟ ألا أستحضر هنا تجربة خجلي الخاصة لفهم خجل الغير؟ ألا أدرك إذن خجلي الخاص فحسب؟ إنني ألتقي هنا مجددا بذاتي أنا وليس بذات الغير مادمت أختزل خجل الغير إلى خجلي الذي سبق أن خبرته وعشته؟

إن معرفة الغير من خلال إستدلال المماثلة تنتهي إلى تناقضات كثيرة نعيها بدرجات مختلفة في حياتنا اليومية، لذلك يرى ماكس شيلر أنه لتجاوز هذه الصعوبات ،ينبغي تجاوز الخلفيات الميتافيزيقية للتحليل السابق الذي يتناول الغير من خلال ثنائيات النفس/ الجسم أو الظاهر / الباطن وإعتبار الغير كلية أو كلاّ موحدا لايقبل التجزئة والإنقسام ولا يحيل فيه ظاهر مادي (جسدي) على باطن أو عمق مستحيل المنال ، بل إن حقيقته وهويته مجسدتان فيه كما يظهر ويتجلى للأنا : إن حركات التعبير الجسدية لديه حاملة لمعناها ودلالاتها مباشرة كما تظهر. وينبغي التشديدعلى هذه الكلمة الأخيرة لأنها تدل على أن التحليل الظاهراتي أو الفينومينولوجي (أي وصف التجربة المعيشية مباشرة قبل خضوعها للمعالجة العقلية المجزئة ) يظهر أن معرفتنا للغير هي معرفة كلية مباشرة لا يمكن تجزيئها إلى عناصر ومراحل دون الإخلال بحقيقتها : فعندما أدرك فرح الغير ،فإني لا أدرك إبتسامته أولا منفصلة عن فرحه الداخلي الذي أستنتجه لاحقا، بل أدرك الأمرين معا ككلية متزامنة . ومما يدل على الطابع المباشر لعلاقتنا المعرفية بالغير ،قدرة الرضيع على التجاوب مع أمه والرد على إبتسامتها بابتسامة مماثلة مدركا مشاعر الأمان والحنان والتشجيع الكامنة خلفها وهو غير قادر بعد على القيام بأي نشاط أستدلالي معقد . ألا يشهد ذلك أن معرفتنا للغير تفترض نوعا من التعاطف والمشاركة الوجدانية بين الذوات . وهي مشاركة تبدو كمعطى شبه غريزي وكشرط لإندماج الكائن البشري ضمن جماعة الذوات الأخرى . وإذا استعملنا مصطلحات دلتاي سنقول بأن معرفة الغير تنتمي إلى مجال الفهم لا إلى مجال التفسير.

هكذا تبدو معرفة الغير أكثر تعقيدا مما يتصور الحس المشترك، بحيث تصدق هنا مقولة التوحيدي: ” لقد أشكل الإنسان على الإنسان” وهو تعقيد يتزايد عندما نتأمل تعدد وجوه الغير.

وجوه الغير: الصداقة والغرابة

ليست علاقتنا بالغير مجرد علاقة معرفية، بل هي علاقة مركبة: عاطفية، وجدانية، إقتصادية، سياسية… ولذلك لايمكن فهمها في المجرد والمطلق بل بالتخصيص والتمييز: ورغم أن وجوه الغير تتعدد فهو معشوق وصديق وعدو ومنافس وغريب…معرفة ونكرة.. ولكن الثابت هو مغايرته واختلافه التي ما يفتأ يؤكدها حتى داخل علاقة حب حميمية. كيف أتعامل إذن مع غيرية الغير؟ هذه الغيرية التي تتحداني وتحيرني كما في حالة الغريب مثلا، لأنها ليست اختلافا مطلقا مادام الآخر شبيها بي من بعض الوجوه؟ وعليه ألا يثير الغير بسبب تماثله ومغايرته مشاعر مزدوجة تتراوح بين الإحترام والإعتراف وأيضا الإقصاء والنفي؟ بين الاعتراف بإنسانيته ببوحدة الإنسانية جمعاء وبين الإنكفاء داخل خصوصيتي الذاتية أو الثقافية؟ وباختصار:كيف أتعرف على غيرية الغير وكيف اقرؤها؟ !

تنبيه: يمكن إستثمار المعطيات اللاحقة كنماذج تطبيقية وأمثلة ملموسة أثناء الإشتغال على إشكاليات متعلقة بوجود الغير أو معرفته.

من بين كل الأغيار، يظهر الغريب أقدر من غيره على تمثيل طبيعة علاقتي بالغير: فإذا كان الغير من “المغايرة” أي الاختلاف فإن الغريب هو الغير بامتياز، إنه المختلف، الأجنبي الذي يندس وسط جماعة من دون أن يشاطرها ثقافتها؛ لذلك نتساءل:ماذا أعرف عن طبيعة علاقتي بالغير على ضوء علاقتي بالغريب؟ وماهي دلالة الحذر والتوجس بل والكراهية التي يثيرها الغريب لدى الذات؟

موقف كريستيفا:علاقتي بالغير على ضوء النظر الأخلاقي العقلي
نحترم الغريب لأنه القوة الخفية لهوية الذات

يبدو الغريب للوهلة الأولى عنوانا للحذر، للمجهول، للنكرة، للإبتعاد والإقصاء. لكن من هو الغريب تحديدا؟ إنه مفهوم زئبقي لأنه يتحدد دوما كغريب بالنسبة لجماعة مرجعية ما؛ إنه ذلك الذي لا يشاطر أعضاء الجماعة مرجعيتهم المشتركة، ذلك الذي يجر خلفه ثقافة مغايرة مجهولة، إنه الدخيل بكل بساطة، وباعتباره كذلك فقد نظر إليه عبر التاريخ كمسؤول عن كل شرور المدينة أو الجماعة والذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن هذا الموقف الإقصائي حاضر بقوة في كل مكان بدءا من ساكن المدينة الذي يعتبر نفسه “مدينيا” أصيلا محملا جميع مشاكل المدينة إلى هؤلاء الغرباء “البدو” (الْعْروبيهْ-بالدارجة!!) القادمين من البعيد، وصولا إلى الخطابات السياسية القائمة على كراهية الأجنبي المهاجر و ضرورة طرده كحل للأزمات … . لماذا و هل ينبغي أن يكون الغريب دائما إسما مستعارا للحقد و الإقصاء؟

نص كريستيفا : من هو الغريب؟!

‏ليس الغريب، الذي هو اسم مستعار للحقد وللآخر… هو ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلها . . . ولا ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن الغريب يسكننا على نحو غريب. إنه القوة الخفية لهويتنا ، والفضاء الذي ينسف بيتنا ، والزمان الذي يتبدأ فيه وفاقنا وتعاطفنا . ونحن إذ تنعرف على الغريب فينا نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته. إن الغريب، بوصفه عرضا دالا يجعل النحن» إشكاليا وربما مستحيلا، يبدأ عندما ينشأ لدي الوعي باختلافي، وينتهي عندما تنعرف على أنفسنا جميعا على أننا غرباء متمرون على الروابط والجماعات ( . ..)
‏كيف يكون الإنسان غريبا ؟
‏نادرا ما يخطر على بالنا هذا السؤال، لشدة اقتناعا بكوننا مواطنين بصورة طبيعية. . . أو أننا إن انقدنا إلى طرحه طرحا سطحيا ، فلكي نحط، على الفور، في جهة من يتمتعون بالحقوق الوطنية، ونقصي إلى خارجية خرقاء، من ينتمون إلى بلد آخر لم يعرفوا كيف يحرصون على الإنتماء إليه ولم يعد ملكا خاصا لهم. حقا إن لفكرة الغريب اليوم، دلالة حقوقية، فهي تدل على من لا يتمتن بمواطنة البلد الذي يقطنه. ومن المؤكد أن مذاهالضبط من شأنه تهدئة الخواطر واتاحة إخضا ع الأهوا ء الشائكة للقوانين، كك الأهوا ء التي ميسثيرها تطفل الآخر وانحشاره داخل انسجام أسرة أو جماعة بشرية. غير أنه يسكت عن ضروب القلق والإنزعاج التي تتصل بهذه الوضعية الشاذة، التي تتمثل في أن يتخذ الإنسان وضعية المختلف ‏داخل جماعة بشرية تنفلق، بالتعريف، على نفسها مقصية عنها المخالفين .
جوليا كريستسفا، غرباء عن أنفسنا
نقلا عن الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة وزارة التربية الوطنية – الطبعة الأولى 1996-1997


تقوم سيكولوجية الجماعة على تطابق الأنا أو الذوات الفردية مع النحن/الجماعة انطلاقا من آليات معقدة للتنشئة الإجتماعية، مع اعتقاد راسخ في الطابع الخالص لهوية الجماعة و ثقافتها. مما يسهل على أفراد الجماعة التعرف على بعضهم و استبعاد كل غريب و آخر، وهنا تتساءل الفرنسية ذات الأصل البلغاري “جوليا كريستيفا”: ألا تحمل كل جماعة غريبها في ذاتها قبل قدوم الغريب الأجنبي؟ و ذلك عندما يشعر أفرادها بالرغبة في التمرد على روابط و قيم جماعتهم ووضعها موضع تساؤل و تشكك أو عندما لايستطيعون العثور على “أناهم” من خلال “نحن” الجماعة. وهل هناك جماعة ذات هوية خالصة تبرر استبعاد العناصر الأجنبية عنها؟ ما الهوية المغربية مثلا؟ أليست مزيجا من هويات أمازيغية ،افريقية، عربية، إسلامية، اندلسية، غربية…واللائحة طويلة. إذا فالغريب أو الآخر ليس سوى ذلك الجزء أو القوة الخفية لهويتنا التى نحاول انكارها باستمرار بحثا عن نقاء خالص موهوم. ثم ألا تحمل الذات الفردية بدورها غريبها في ذاتها متمثلا في ذلك الجزء المجهول – اللاشعور – الذي لايكاد الأنا يعلمه أو يعيه.

كخلاصة، ماذا ينبغي أن يعني الغريب بالنسبة إلى الأنا؟ إنه يحيل كل هوية فردية أو جماعية إلى هوية إشكالية وربما مستحيلة. والأهم من ذلك – كما تقول كريستيفا – فإننا عندما نتعرف على الغريب في ذاتنا، نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته فنتخد حياله موقف الحوار والتسامح عوض العداء والإقصاء.

إذا كان موقف كريستيفا مقنعا من الناحية النظرية-العقلية ، فلماذا لا يجد سبيله إلى التطبيق على أرض الواقع؟ لماذا يرتسم الحقد والحذر عنوانا لعلاقتي بالغير/الغريب؟ ألا يعني ذلك أن علاقتي بالغريب/الغير تتحدد أيضا على المستوى الوجداني -النفسي اللاشعوري (الأهواء)؟

موقف فرويد:علاقتي بالغير على ضوء التحليل النفسي-نحترم الغريب لأنه يسكن في قلب الذات
في النص التالي ينطلق فرويد من نظرية “الطابع الغريزي المتأصل للنزعات العدوانية لدى الإنسان”، وما يستتبع تفريغها من لذة، ليحاجج بأن محبة الجار/القريب مستحيلة، فمالك بالغير/الغريب. وبعد تحليل وفحص مختلف الأسباب التي يمكنها أن تدعوني إلى حب الغير واحترامه، يخلص إلى نتيجة مستفزة، لكنها تعكس جيدا الخاصية النقدية للتفكير الفلسفي، و هي أن الغريب ليس غير جدير بالحب بوجه عام فحسب، بل ينبغي أيضا أن اقر، توخيا للصدق، بأنه يستأهل في غالب الأحيان عدائي،!وبعبارة أرى يحاول فرويد أن يكشف مقدار النفاق والتناقض الذي يقف وراء الحكم الأخلاقية وعلى رأسها الحكمة الشهيرة: ” أحب قريبك كما تحب نفسك” ومن ثم استحالة تنظيم علاقتي بالغير وفق مبدأ أو أمر أخلاقي عام ومجرد

نص فرويد : كيف لي أن أحب قريبي كحب لنفسي؟!

الحال انه في عداد المطالب المثالية للمجتمع المتحضر مطلب قمين هنا بأن يهدينا إلى سواء السبيل. هذا المطلب يقول لنا: “أحبب قريبك كنفسك”. وهذه الكلمة الجامعة، المشهورة في العالم قاطبة، اقدم عهدا بكل تأكيد من المسيحية التي وضعت اليد عليها كما لو أنها المرسوم الذي يحق لها ان تفاخر غاية المفاخرة بصدوره عنها. لكنها بالتأكيد ليست سحيقة في القدم. فقد كانت ما تزال مجهولة من البشر حتى في عهود ما بعد التاريخ.
لكن لنقف منها موقفا ساذجا كما لو اننا نسمع بها للمرة الأولى، وفي هذه الحال لا نستطيع ان ندفع عن أنفسنا شعورا بالمباغتة إزاء غرابتها. فلماذا نعتبر ما ورد فيها واجبا علينا؟ وأي عون تمدّنا به؟ ثم كيف السبيل، على الأخص، إلى العمل بها وتطبيقها؟ وهل سيكون ذلك في مستطاعنا؟
ان حبي لهو في نظري شيء ثمين ثمين بحيث لا أملك الحق في هدره والتفريط به دونما وعي وهو يفرض علي واجبات يفترض فّي أن أكون قادرا على الوفاء بها ولو مقابل تضحيات. وإذا أحببت كائنا آخر، فلا بد ان يكون مستأهلا لذلك بصفة من الصفات (أستبعد هنا علاقتين لا تدخلان في حساب حب القريب: الأولى أساسها الخدمات التي يمكن ان يؤديها لي، والثانية أساسها أهميته الممكنة كموضوع جنسي). انه يستأهل حبي حين يشبهني في وجوه مهمة شبها عظيما يمكن معه ان احب فيه نفسي أنا. إنه يستأهله إذا كان اكمل مني إلى حد يتيح لي إمكانية ان احب فيه مَثَلي الأعلى بالذات. وعلي ان احبه إذا كان ابن صديقي، لان ألم صديقي، إذا وقع مكروه لابنه، سيكون أيضا ألمي، ولن يكون أمامي مناص من أن أشاطره إياه.
ولكن إذا كان بالمقابل مجهولا مني، وإذا لم يجتذبني بأي صفة شخصية، ولم يلعب بعد أي دور في حياتي العاطفية، فانه من العسير جدا علي ان أشعر تجاهه بعاطفة حب. ولو فعلت لاقترفت ظلما، لأن أهلي وأصحابي جميعا يقدّرون حبي لهم على انه إيثار وتفضيل، وسأكون مجحفا بحقهم لو خصصت غريبا بالمحاباة نفسها. وإذا كان لا بد، والحالة هذه، ان أشركه في مشاعر الحب التي تخالجني كما يقتضي العقل إزاء الكون قاطبة، وهذا فقط لأنه يحيا على هذه الأرض مثله مثل الحشرة أو دودة الأرض أو الحفت، فانني أخشى ألا يشع من قلبي باتجاهه سوى قدر ضئيل للغاية من الحب، كما أخشى بكل تأكيد الا يكون في مقدوري ان أغدق عليه من الحب بقدر ما يأذن لي العقل ان احتبسه من اجل نفسي. ولكن ما الفائدة من هذه الفذلكة المفخمة بصدد وصية لا يبيح لنا العقل ان ننصح أحدا بإتباعها؟
حين أمعن النظر في المسألة عن قرب اقرب، ألمح المزيد من الصعاب والإشكاليات أيضا. فذلك الغريب ليس غير جدير بالحب بوجه عام فحسب، بل ينبغي أيضا أن اقر، توخيا للصدق، بأنه يستأهل في غالب الأحيان عدائي، بل كراهيتي. فهو لا يبدو انه يكنّ لي أي عطف، ولا يدلل نحوي على أي مراعاة. وإذا ما وجد في الأمر نفعا له، فلن يتردد في إنزال الأذى بي، بل هو لا يتساءل ان كانت أهمية الكسب الذي يجبيه تتناسب مع عظم المضرة التي ينزلها بي. والأدهى من ذلك والأمّر انه حتى إذا لم يَجْنِ ربحا، وإنما فقط مجرد لذة ومتعة، فلن يتردد البتة في الهزء مني وإهانتي والافتراء علي، ولو تباهيا منه فقط بالسلطان الذي له علي. وفي وسعي أن أتوقع حتمية هذا السلوك حيالي بقدر ما يشعر بمزيد من الثقة بنفسه وبقدر ما يعتبرني أضعف منه ولا حول لي ولا قوة. أما إذا سلك غير هذا السلوك، وأما إذا قابلني، حتى من دون أن يعرفني، بالاحترام والمراعاة، فانني لعلى أتم استعداد عندئذ لمقابلته بالمثل، دونما حاجة إلى توسط وصية أخلاقية. ومن المؤكد ان تلك الوصية السامية لو صيغت على النحو التالي: “أحبب قريبك كما يحبك هو نفسه”، لما كان لي عليها من اعتراض.
ولكن ثمة وصية ثانية تبدو لي أشطّ من الأولى فأياً عن المعقول وتضرم فيّ نار تمرد أعنف وأقوى. وصية تقول لنا: “أحبب عدوك”. ولكني أجدني، عند إمعان التفكير، مخطئا إذ أطعن فيها باعتبارها تنطوي على دعوى أشد بطلانا من تلك التي تنطوي عليها الوصية الأولى. وفي الواقع، كلتاهما سيان. المصدر: سغموند فرويد، قلق في الحضارة، ضمن “الحب والحرب والحضارة والموت” ترجمة عبد المنعم الحفني دار الرشاد، القاهرة 1992 ص.ص: 71-73
النص في الحقيقة مقتطف من الترجمة العربية لكتاب “قلق في الحضارة” لجورج طرابيشي ولكن احالاته قد ضاعت!

انفتاحات ممكنة للدرس: الغير والهوية
أطروحة الأنا/ الذات في مقابل الآخر/ المختلف تفرض ثباتًا حيث لا ثبات، في حين أن الذات منزلة من منازل الآخر، و الآخر منزلة من منازل الذات في دورة واحدة دائمة ودائبة لا تتوقف، ولا تنفصل فيها منزلة عن منزلة إلا إلى حين،. بمعنى أن “الهوية” حالة متحركة دينامية لا تكف عن التشكل والتبلور، والتداخل والتشابك، والانكماش والتمدد الداخلي، وهذا مخالف للهوية كمادة صلبة تتراكم طبقاتها أو تنكسر تحت الضغوط.
وإذا صح هذا التصور الدينامي الزئبقي للهوية،يغدو الغريب مفهوما نسبيا، وكثيرا مايحدث أن تتبادل الذات والغريب المواقع، فيستعصي تمييز أحدهما من الآخر:
لننظر في هذا النص ولنحاول أن نعرف هل الغريب هم الأهالي المحملقون في الرحالة الأوروبي؟ أم هو الرحالة الأوروبي الذي حل فجأة بين ظهرانيهم؟

Facebooktwitterredditmailby feather

موارد لانجاز درس الشخص – مجزوءة الوضع البشري

-الشخص والهوية الشخصية

أ-ثبات الأنا واستمراريته في الزمان:

مجرم تائب! كان سكيرا، مجرما، قاطع طريق، فظا غليظ القلب، ثم تاب- بقدرة قادر – فأصبح من أتقى الأتقياء، يفيض قلبه رحمة ويداه عطاءا وعيناه دمعا !! فهل نحن أمام نفس الشخص أم لا ؟ وماذا تعني عبارة "نفس الشخص"؟ ماذا تبقى منه؟ جسده؟ هل نختزل الشخص إذن في هيأته وجسده؟ ماذا لو أعترى الهيأة تشوه أو أصاب الجسد بتر ؟ أو تغيير جذري بسبب عملية تجميل ؟ هل نظل هنا إزاء نفس الشخص أيضا؟
لنتخيل وضعية أخرى: شخصا يهيم حبا بشخص آخر،لاتبارح صورته مخيلته ليل نهار، يسعد بقربه ويشقى بالبعد عنه، ثم حدث أن خبا هذا الحب لسبب أو لآخر، أو تعلق الهوى بمحبوب جديد وكأن شيئا لم يكن ! هل نحن هنا أمام نفس الشخص قبل الإنقلاب العاطفي وبعده؟
ألم تقل أم كلثوم في أغنية " ثورة الشك":
أكاد أشك في نفسي لأني أشك فيك وأنت مني!
ومرة أخرى: ماذا تعني عبارة "نفس الشخص"؟
ولمزيد من التفاصيل حول كيفية إنجازي لهذه الحصة، انظر هنــــــــــــــــــــا

استشكالات أولية:

رغم تعدد وتنوع بل وتعارض الحالات النفسية التي يمر منها الشخص طيلة حياته، فإن كل واحد منا يحيل باستمرار إلى نفسه بضمير "أنا" بوصفه وحدة وهوية تظل مطابقة لذاتها على الدوام. غير ان هذه الوحدة التي تبدو بديهية تطرح مع ذلك أسئلة عديدة

بل إن البديهي يشكل الموضوع الأثير والمفضل للفكر الفلسفي. ويمكن القول أن الفيلسوف يصادف إشكالية الوحدة المزعومة للهوية الشخصية في معرض بحثه في الماهيات والجواهر. يتساءل الفيلسوف: إذا كان لكل شيء ماهية تخصه، بها يتميز عن غيره، فهل هناك ماهية تخص الفرد، بها يتميز عن غيره بشكل مطلق؟ خصوصا إذا علمنا أنه ما من صفة فيه، جسمية او نفسية، إلا ويشاطره التخلق بها عدد قليل أو كثير من الأفراد؛ وإذا عرضنا الشخص على محك الزمن والتاريخ، فهل هناك جوهر يظل ثابتا رغم تغيرات الجسم وأحوال النفس وانفعالاتها؟.
نلاحظ أن الفرد يستطيع التفكير في الموجودات الماثلة أمام حواسه أو المستحضرة صورتها عبر المخيلة، ولكنه يستطيع أيضا التفكير في ذاته ، في نفسه هذه التي تفكر!!
يسمى هذا التفكير وعيا وهو نفس الوعي الذي اعتمدعليه ديكارت في " الكوجيطو" وخصوصا وعي الذات بفعل التفكير الذي تنجزه في لحظة الشك أي الوعي بالطبيعة المفكرة للذات التي تقابل عند ديكارت طبيعة الإمتداد المميزة للجسم.

كيف يتمظهر أولا هذا الوعي بالذات في التجربة البسيطة؟

الشعور بالهوية الشخصية هي ما يميز كائنا مفكرا عن آخر:

نص جون لوك : "الوعي المصاحب لجميع الحالات الشعورية أساس الهوية الشخصية"

اانتبه يرى "جون لوك" أن مايجعل الشخص " هو نفسه" عبر أمكنة وأزمنة مختلفة، هو ذلك الوعي أو المعرفة التي تصاحب مختلف أفعاله وحالاته الشعورية من شم وتذوق وسمع وإحساس وإرادة، تضاف إليها الذاكرة التي تربط الخبرات الشعورية الماضية بالخبرة الحالية، مما يعطي لهذا الوعي استمرارية في الزمان

لكي نهتدي إلي ما يكون الهوية الشخصية لا بد لنا ان نتبين ما تحتمله كلمة الشخص من معنى. فالشخص، فيما اعتقد، هو كانن مفكر عاقل قأدر على التعقل و التأمل وعلي ‏الرجوع الى ذاته بأعتبار أنها مطابقة لنفسها، و انها هي نفس الشيء الذى يفكر في أزمنة و أمكنة مختلفة. ووسيلته الوحيدة لبلوغ ذلك هو الشعور الذى يكون لديه عن أفعاله ألخاصة، و هذا الشعور لايقبل االانفصال عن الفكر بل هو، فيما يبدو لي، ضروري وأساسي تماما بالنسبة للفكر، ما دام لا يمكن لأى كائن بشري كيفما كان، أن يدرك ادراكا فكريا دون أن يشعر انه يدرك إدراكا فكريا
‏عندما نعرف أننا نسمع أو نشم أو نتذوق و نحس بشيء ما أو نتأمله أو نريده، فإنما نعرف ذلك فى حال حدوثه لنا. إن هذه المعرفة تصاحب على نحو دائم احساساتنا و إدراكاتنا الباطنة، و بها يكون كل واحد منا هو نفسه بالنسبة إلى ذاته
لندع جانبا مسألة البحث فيما إذا كان الأنا مستمر الوجود من خلال نفس الجوهر أو من خلال جواهر مختلفة، اذ لما كان الشعور يقترن بالفكر على نحو دانم، و كان هذا هو ما يجعل كل وأحد هو نفسه و يتميز به، من ثم، عن كل كائن مفكر آخر، فإن ذلك هو وحده ما يكون الهوية الشخصية أو الإنية وما يحعل كأئنا عاقلا يبقى دانما هو هو
وإن هوية الشخص لَتمتد بعيدا في الماضي امتدادا أقصاه أبعد وأقدم فكرة أو فعل يستطيع وعيه الحاضر أن يمتد إليهما ؛ في هذه الحالة نقول إن نفس الذات التي أنجزت هذه الأفعال في الماضي هي نفسها الآن التي تستذكرها.

أفكار عامة موجهة لعملية فهم النص وتحليله:
لفهم هذا النص وتأطيره نظريا، لابأس من أن نتذكر جميعا سؤال ديكارت في التأمل الثاني: "أي شيءأنا إذن؟ " والجواب: " أنا شيء مفكر"
لكن إذا كان كل من "لوك" و "ديكارت" يتفقان بأن الشخص هو ذلك الكائن الذي يحس ويتذكر و -يضيف التجريبي لوك- يشم ويتذوق!
فإنهما يختلفان في الجواب على السؤال التالي: ولكن هل وراء هذه الأفعال جوهر قائم بذاته؟
يجيب ديكارت بنعم : إنها النفس جوهر خاصيته الأساسية هي التفكير، بينما يجيب لوك بالنفي انسجاما مع نزعته التجريبية التي لاتقر لشيء بصفة الواقعية والحقيقة مالم يكن إحساسا أو مستنبطا من إحساس، والواقع أن " الجوهر المفكر" -من وجهة نظر المحاكمة الحسية- كينونة ميتافيزيقية لايسع لوك قبولها
، لاحظ العبارة المكتوبة بخط غليط souligné والتي يؤجل فيها لوك مناقشة السؤال: هل هذه الاستمرارية قائمة من خلال جوهر واحد او جواهر مختلفة متعاقبة ولكن دافيد هيوم أوضح من مواطنه بحيث ينكر إنكارا تاما وجود أي جوهر يسند افعال الوعي من تذكر وإحساس بالبرد او الفرح….
وباختصار فالهوية الشخصية تكمن في فعل الوعي، وعندما يتعلق الأمربالماضي يصبح الوعي ذاكرة بكل بساطة، وكل هذا لكي يتجنب لوك القول بوجود جوهر مفكر باختصار أكثر : الوعي عند "جون لوك" فعل أو علاقة تربط الكائن بأفعاله وإحساساته وماضيه، وليس جوهرا

انقتاحات ممكنة للنص:
قارن نص لوك مع القولة التالية لكانط : "إنّ "الأنا أفكر" يرافق بالضّرورة كلّ تمثّلاتي" أي أنه يمثل شرط الوحدة والتّأليف بين الحدوس والإدراكات المتنوعة المعطاة في الوعي.
ولنلاحظ كبف يكتفي جون لوك في بداية الفقرة الأخيرة بإثارة مسألة شائكة دون التوقف عتدها وهي : " هل هذه الأنا التي نحس باستمراريتها في الزمان، هل هي واحد أم مجموع هل هي جوهر بسيط أم مركب؟ هل هي جوهر واحد كما اعتقد ديكارت أم أنها ليست سوى ذلك الركام من الخبرات والذكريات والأفكار والانطباعات الحسية؟ كما سيقول مواطنه الفيلسوف التجريبي دافيد هيوم

يقدم لنا النص التالي مثالا حيا للفكرة القائلة بأن الفلاسفة غالبا مايطرحون نفس السؤال ولكن بصيغ مختلفة! لننظر كيف يطرح "باسكال" السؤال حول ماهية هذا " الأنا"

هل هناك فعلا ذات أي جوهر قائم بذاته وراء المتغير ؟ أم الموجود هو الصفات العرضية لاغير؟

نص لباسكال : " ذاك الذي يحب شخصا لجمال محياه، هل يحبه فعلا؟"

ماهو الأنا؟ عندما يطل إنسان من النافذة من أجل رؤية المارة، وإذا ما مررت أنا من أمام النافذة التي يطل منها ذاك الإنسان، فهل يمكنني أن أقول إن الذي يقف وراء النافذة إنما يقوم بذلك من أجل رؤيتي؟ كلا، لأنه لا يفكر فيّ أنا على وجه الخصوص. وذاك الذي يحب شخصا لجمال محياه، كل يحبه فعلا؟ كلا، لأن داء الجذري قد يقضى على جماله دون أن يقضي على شخصه مما قد يدفع بالشخص المحب إلى إعراضه عن الشخص المحبوب.
‏و إذا كنت أنا محبوبا بسبب سداد رأيي و قوة ذاكرتي، فهل أنا محبوب حقا؟ كلا، لأنني قد أفقد هاتين الصفتين، دون أن أفقد ذاتى. فأين هو إذن ذاك الأنا، إذا لم يكن موجودا لا في الجسم و لا في النفس؟ كيف يمكن إذن أن نحب الجسم أو النفس إن لم نكن نحبهما لتلك الصفات التي لا تشكل الأنا البتة ما دامت فانية. فهل نستطيع أن نحب، بصفة مجردة، جوهر النفس مهما كانت الصفات التي تسمها؟ إن هذا أمر غير ممكن و غير عادل. نحن إذن لانحب أحدا[في ذاته]، لكننا نحب صفاته فقط

بعد فحص إحتمالات وجود الذات في النفس أو الجسم، لايعثر باسكال على غير صفات عرضية زائلة، فيخلص إذن إلى أن وجود الذات وجود إشكالي وليس وجودا بديهيا كما يتراءى لأول وهلة،متسائلا: فأين هو إذن ذاك الأنا، إذا لم يكن موجودا لا في الجسم و لا في النفس؟ على هذا السؤال سيجيب الفيلسوف التجريبي دافيد هيوم : لاوجود للأنا في أي مكان!

لاوجود للأنا !
نص دافيد هيوم: "لاوجود للأنا !"

اانتبهحول صاحب النص: دافيد هيوم فيلسوف تجريبي، لايعترف بغير الانطباعات الحسية مصدرا للأفكار، وفي هذا الإطار رفض إضفاء صفات الموضوعية والضرورية على فكرة السببية، وردها بعد التحليل إلى العادة.
من وجهة النظر التجريبية (لوك وهيوم) هناك نوعان لاغير من الحالات الشعورية أو محتويات الوعي: إحساسات بسيطة مباشرة وأفكار مشتقة أو مركبة منها.
إن مصوغات إنكار السببية هي نفسها مسوغات إنكار " الأنا". مثلما لا أعثر في الواقع سوى على حدثين يتكرر حدوث أحدهما بعد الآخر، كذلك، عندما أتأمل مايسمى بأناي، لاأعثر سوى على انطباعات مفردة كإحساس بالبرد او الحر، بالضوء أو الظل، بالحب أو الكراهية….
يعتقد بعض الفلاسفة أننا نكون في كل لحظة على وعي بما يسمى الأنا، وأننا نشعر بوجوده واستمرارية وجوده، واننا متيقنون من هويته وبساطته التامتين يقينا تفوق بداهته ما يمنحنا إياه البرهان، إن أقوى الاحساسات وأعنف الأهواء – في نظرهم – لاتصرفنا عن الوعي بالأنا ولا تزيده إلا قوة، ذلك أن اللذة و والألم اللذين يرافقان هذه الاحساسات إنما يوجهان انباهنا إلى تأثيرات تمارس على هذا الأنا. إن كل محاولة لتقديم دليل إضافي على هذا اليقين لن يؤدي سوى إلى إضعاف بداهته، لأن من المحال -في نظر هؤلاء الفلاسفة- إقامة دليل على واقعة نعيها بشكل حميمي، ولانستطيع أن نتيقين من أي شيء أخر لو لم نتيقن منها أولا
والواقع أن كل هذه الأطروحات تتناقض بالضبط مع التجارب التي تقدم لتبريرها، لأننا لانملك اي فكرة عن الأنا على النحو الذي قدموه
حسنا، ماهو بالضبط الانطباع الحسي المولد لهذه الفكرة؟ من الصعب تجنب التناقض والحيرة أثناء الجواب على هذا السؤال. ولكن لامفر من التصدي لهذا السؤال من أجل أن تغدو فكرة الأنا واضحة ومفهومة.
لكي تكون فكرة ما واقعية، فلابد أن تشتق من انطباع حسي ما، لكن الأنا أو الشخص ليس انطباعا حسيا مفردا، بل هو ماتنسب إليه مختلف الانطباعات. فإذا وجد انطباع حسي مولد لفكرة "الأنا" فلابد أن يتصف هذا الانطباع بنفس صفات الأنا وهي الثبات والاستمرارية طيلة حياتنا، والحال أنه لاوجود لانطباع مستمر وثابت: إن الألم واللذة، الفرح والحزن، الأهواء والاحساسات، تتعاقي ولاتوجد أبدا متزامنة مجتمعة. وعليه ففكرة الأنا لايمكن ان تتولد عن هذه الانطباعات ولاعن أي إنطباع آخر، ومن ثم فلا وجود لمثل هذه الفكرة واقعيا.
عندما أجهد نفسي لاستبطان هذا الأنا، لاأعثر دائما سوى على هذا الانطباع أو ذاك: على احساس بالبرد او الحر، بالضوء أو الظلام، بالحب أو الكراهية، بالألم أو اللذة. أي انني لاأستطيع ان اتصور نفسي إلا مقرونة بادراك ما، ولا أظفر بغير هذا الإدراك.
عندما يغيب الإدراك لمدة معينةكما في النوم العميق، فإنني لاأعي ذاتي. بل أستطيع القول وبكل صواب أنني غير موجود

ب- الذاكرة والهوية الشخصية

الإنسان-الذي ميحت ذاكرته

 


تريد هوية جديدة؟ تفضل هذه ذاكرة جديدة !
لم تعد أنت هو أنت!
وضعية مشكلة:لو خيرنا شخصا بين قتله ومسح ذاكرته مسحا تاما كاملا ، لاختار مسح الذاكرة، رغم أن النتيجة في كلتا الحالتين واحدة
كيف ولماذا؟
وما رأيك وتعليقك على الجواب التالي؟
إن مسح ذاكرته كقتله سواء بسواء، في كلتا الحالتين ينتهى الشخص الأول ولا يعود له أي وجود! لم يعد نفس الشخص إلا بالنسبة للغير، أما بالنسبة لإدراكه هو لذاته، فإنه لايعرف حتى من هو! ولا ماذا يفعل في هذا المكان بالضبط! عليه أن يتعلم كل شيء من جديد بدءا من اللغة و أسماء أيام الأسبوع وصولا إلى الدين والمعتقد،

 

يميزابن سينا بين بين عنصر متغير ومتحلل هو الجسم وعنصر ثابت مستمر هو النفس، بيد أن هذه الاستمرارية لاتحضر إلا من خلال فعل التذكر وملكة الذاكرة
يقول الشيخ الرئيس:

" تأمل أيها العاقل أنك اليوم في نفسك هو الذي كان موجودا جميع عمرك حتى إنك تتذكر كثيرا مما جرى من أحوالك، فأنت إذن ثابت مستمر لاشك في ذلك وبدنك وأجزاؤه ليس ثابتا مستمرا بل هو أبدا في التحلل والإنتقاص…

والواقع أن ابن سينا يشير هنا إلى ظاهرة "الوعي بالذات" التي تصاحب مختلف حالات الوجود البشري بحيث تمنح الفرد شعورا بهويته وأناه وبثباتها.ويتجلى هذا واضحا في شعور الفرد داخلياً وعبر حياته باستمرار وحدة شخصيته وهويتها وثباتها ضمن الظروف المتعددة التي تمر بها، كما يظهر بوضوح في وحدة الخبرة التي يمر بها في الحاضر واستمرار اتصالها مع الخبرة الماضية التي كان يمر بها.

إذا كانت الذاكرة هي مايعطي لشعور الشخص بأناه وبهويته مادتهما الخام، فإن امتداد هذه الهوية في الزمان، كما يلاحظ جون لوك، مرهون باتساع أو تقلص مدى الذكريات التي يستطيع الفكر أن يطالها الآن: وبعبارة أخرى إنني الآن هو نفسه الذي كان ماضيا وصاحب هذا الفعل الماضي هو نفس الشخص الذي يستحضره الآن في ذاكرته.
لهذا السبب، وعندما يتساءل برغسون عن ماهية الوعي المصاحب لجميع عمليات تفكيرنا، يجيب ببساطة: إن الوعي ذاكرة، يوجد بوجودها ويتلف بتلفها:

نص برغسون: "الوعي ذاكرة"

إن من يقول فكرا يقول قبل كل شيء وعيا. لكن ما الوعي؟ إنك تعتقد تماعا أنني لن أعرف شيئأ يتسم بمثل هذا الطابع الملموس وبمثل هذا الحضور الدائم في تجربة كل واحد منا. ولكن أستطيع دون اعطاء تحديد للوعي أقل وضوحا منه، أن أميزه بأكثر سماته بروزا:
يعني الوعي قبل كل شيء الذاكرة. قد تفتقر الذاكرة إلى الاتساع، وقد لا تشمل ‏إلا قسما من الماضي، وقد لا تحفظ إلا ما حصل من قريب. ولكن الذاكرة تكون موجودة ء وإلا فلن يكون الوعي موجودا فيها. فالوعي الذي لا يحفظ شيئا من ماضيه، وينسى ذاته باستمرار يتلف تم يعود في كل لحظة…
إن كل وعي هو ذاكرة أي احتفاظ بالماضي وتراكم في الحاضر. ولكن ‏كل وعي هو استباق للمستقبل. انظر إلى توجهك في أية لحظة، وستجد ‏أنه يهتم بما هو قائم، لكن من أجل ماسوف يكون، إن الانتباه انتظار، ولا يوجد وعي بدون انتباه لحياة المستقبل. إنه يوجد هناك، وهو يدعونا، بل إنه يجرنا إليه. وهذا الجر الذي لا ينقطع، يجعلنا نتقدم على طريق الزمن، هو أيضا دافع يدفعنا إلى التحرك باستمرار، وكل عمل هو استشراف للمستقبل. . .لنقل إذن، إن شئتم ألوعي هو وصل بين ما كان وها سيكون، بين ألماضي والمستقبل. ‏هزي برغسون، الطاقة الروحية، المطابع الجامعية الفرنسية 1985 ص: 4 ‏- 5

II-الشخص بوصفه قيمة

استشكالات أولية:
مالذي يؤسس البعد القيمي-الأخلاقي للشخص؟ وهل يمكن فلسفيا تبرير الاحترام والكرامة الواجبة بشكل مطلق للشخص البشري ؟ وما علاقة ذلك بمسؤوليته والتزامه كذات عاقلة وحرة تنسب إليها مسؤولية افعالها ؟

  وضعية مشكلةوضعية مشكلة:ماذا يقول القرآن الكريم في سورة المائدة آية 32 : " أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"
ولماذا توصف بعض الجرائم بعبارة جرائم ضذ الإنسانية رغم أنها لم تستهدف ولم يذهب ضحيتها سوى عدد محدد من الناس قد يقل أو يكثر؟ وماهي بالضبط هذه الجرائم؟

يستفاد من المحورين السابقين أن الفرد وبشكل مجرد سابق على كل تعيين – أي وقبل أن يتحدد بطول قامته أو لون عينيه او مزاجه أو ثروته- هو ذات مفكرة، عاقلة، واعية قوامها الأنا الذي يمثل جوهرها البسيط الثابت ، بغض النظر عن الاختلاف القائم بين الفلاسفة حول طبيعة هذا الأنا وعلاقته بالجسد والانطباعات الحسية والذاكرة…
ولكن مافائدة هذا التجريد النظري على المستوى العملي؟ هل يمكن أن نرتب عليه نتائج أخلاقية ملموسة؟ انطلاقا من هذا التجريد، ذهب كانط بأن الإنسان هو أكثر من مجرد معطى طبيعي، إنه ذات لعقل عملي أخلاقي يستمد منه كرامة أي قيمة داخلية مطلقة تتجاوز كل تقويم أو سعر. مادم هذا العقل ومقتضياته كونيا، فإن الأنسانية جمعاء تجثم بداخل كل فرد مما يستوجب معاملته كغاية لاكوسيلة والنظر إليه كما لو كان عينة تختزل الإنسانية جمعاء.

نص إيمانويل كانط: "العقل أساس كرامة الشخص وقيمته المطلقة"

‏يعتبر الإنسان داخل نظام الطبيعة (كظاهرة من ظواهر الطبيعة وكحيوان عاقل) غير ذي أهمية قصوى : إذ أنه يمتلك مع مجموع الحيوانات الأخرى – بوصفها منتوجات للارض – قيمة مبتذلة. لكن ما جعله – إضافة إلى امتلاكه ملكة الفهم – يسمو على جميع الكائنات الأخرى هو كونه قادرا على تحديد غايات لنفسه لا يكسب بذلك إلا قيمة خارجية نفعيه، هذا بالرغم من كوننا قادرين على تفضيل هذا الإنسان عن ذاك (وكأننا أمام تجارة للبشر). الأمر الذي يؤدي بنا إلى القول أن الإنسان يقوم بسعر وكأنه بضاعة داخل تجارة للبشر منظورا إليهم من زاوية الحيوان أو الأشياء، لكن سعره ذاك يظل أقل قيمة من قيمة متوسط العملة السائدة والتي تؤخذ كقيمة عليا . .
لكن عندما نعتبره كشخص، أي كذات لعقل أخلاقي عملي، سنجده يتجاوز كل سعر. وبالفعل لا يمكن أن تقدره – بوصفه كذلك أي بوصفه شيئا في ذاته – فقط كوسيلة لتحقيق غايات الآخرين أووسيلة لتحقيق غاياته الخاصة بل يمكن تقديره كغاية في ذاته وهذا معنى أنه يمتلك كرامة (وهي قيمة داخلية مطلقة). وبامتلاكه لهذه القيمة يرغم كل الكائنات العاقلة الأخرى على احترام ذاته ويتمكن من مقارنة ذاته بكل مخلوقات نوعه، ويتبادل معها نفس الاحترام على أساس قاعدة المساوا ة. .
‏وهكذا تكون الإنسانية التي تجثم في شخصه موضوع احترام يمكنه أن يلزم به كل الآخرين. ولن يستطيع أي إنسان أن يحرم نفسه منه أو أن يتخلى عنه (..) .
‏وهذا يعني أنه لا ينبغي عليه أن يبحث عن غايته – وهذا من واجباته – بطريقة منحطة (…) ولا ينبغي عليه أن يتخلى عن كرامته، بل يجب عليه دائما أن يحافظ على الوعي بالخاصية السامية لتكوينه الأخلاقي الذي يدخل ضمن مفهوم الفضيلة، .
‏إن هذا الاحترام للذات إذن هوواجب على كل إنسان تجاه نفسه.
‏إ . كانط، ميتافيزيقا الأخلاق – الجزء الثاني، فران ، ص 109-108.

(مقتطف من الكتاب المدرسي -السنة الثانية-الشعبة الأدبية الطبعة الأولى 1996)

كتب كانط هذه الأفكار في "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" في القرن الثامن عشر .صحيح أن القرن العشرين قد شهد تحسنا كبيرا للشرط البشري مقارنة مع قرن الأنوار: إلغاء الرق، التخفيف من الميز ضد النساء…، بيد أنه عرف أيضا أهوال حربين عالميتين جسدتا واقعيا فكرة الدمار الشامل، إنضافت إليهما حروب محلية شهدت أبشع أنواع التطهير العرقي ومعسكرات الاعتقال… مما جعل التأمل الفلسفي يعاود مجددا طرح السؤال حول حرمة الكائن البشري وسلامته الجسدية وبالخصوص حقه في عدم التعرض للأذى، مثلما نرى في النص التالي لطوم ريغان

نص توم ريغان: "ليست الكائنات البشرية أحياء فحسب، إنهم يمتلكون حياة"

توم ريغان تقديم النص:
طوم ريغان Tom Regan فيلسو أمريكي معاصر ولد في 28 نونبر 1938 بمدينة بيطسبورغ بولاية بنسيلفانيا. عمل أستاذا جامعيا إلى حين تقاعده مؤخرا، مهتم بفلسفة "حقوق الحيوان" "وهو موضوع كتابه الشهير: "قضية حقوق الحيوان"
تنتمي فلسفة طوم ريغان إلى التقليد الكانطي، لكن في حين يؤسس كانط القيمة المطلقة التي نعزوها إلى الكائنات البشرية على خاصية العقل، وبالضبط العقل الأخلاقي العملي، التي تتمتع بها هذه الكائنات،بما يجعل منها ذواتا أخلاقية، فإن طوم ريغان يعتبر هذا التأسيس غير كاف، وحجته في ذلك أننا ملزمون باحترام القيمة المطلقة لكائنات بشرية غير عاقلة مثل الأطفال وكذا الذين يعانون من عاهات عقلية جسيمة
وعليه فإن الخاصية الحاسمة والمشتركة بين الكائنات البشرية ليست هي العقل، بل كونهم كائنات حاسة واعية يحيون حياة يعنيهم أمرها، بمعنى ان مايحدث لنا يعنينا نحن بالدرجة الأولى بغض النظر عما إذا كان يعني شخصا آخر أم لا "
ويمضي توم ريغان بهذا المبدأ إلى مداه الأقصى فبخلص إلى أن جميع المخلوقات التي يمكنها أن تكون «قابلة للحياة»، أي مواضيع لوجود يمكن أن يتحول للأفضل أو للأسوأ بالنسبة إليها، تمتلك قيمة أصلية في ذاتها وتستحق أن تحترم مصالحها في عيش حياة أفضل.

في النص التالي، يحاول الفيلسوف الأمريكي المعاصر "توم ريغان" أن يبين الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه هذه القيمة المطلقة المسندة للشخص البشري، إن التساؤل الرئيسي بالنسبة لتوم ريغان هو "هل للحيوانات الحق في عدم الأذى ؟ " ولكنه وللجواب على السؤال يضطر أولا ليفحص الحجج والمبرات التي تمنع معاملة الكائنات البشرية كوسائل أو تعريضها للأذى

من السهل تقديم نظرية أخلاقية جديدة، ولكن من الصعب تبرير أسسها وتقديم مسوغات كافية لإقناعنا بوجوب تبنيها(…)
[ينطبق ذلك على التصور الكانطي]ا فرغم مايتمتع به هذا التصور من عمق وحصافة، وبالرغم من استلهامي إياه، فإنه لايخلو من تناقضات ومفارقات بعضها في اعتقادي عويص يصعب حله؛ سأكتفي هنا بإثارة أهم هذه المفارقات من خلال السؤالين التالين: "ماهي الكائنات البشرية التي تستحق صفة الشخص؟ وماذا يترتب أخلاقيا إذا ما أجبنا على مثل هذا السؤال من منظور كانطي؟
نبدأ بالجلي الواضح: ليس كل إنسان شخصا بالمعنى الكانطي. فالبويضة المخصبة حديثا، والمرضى الذين دخلوا حالة الغيبوبة (الكوما) الدائمة يظلون بشرا، لكنهم ليسوا أشخاصا وفق التعريف الكانطي؛ ونفس الحكم ينسحب أيضا على حديثي الولادة وعلى الأطفال حتى سن معينة، تضاف إليهم كل الكائنات البشرية التي تفتقد لهذا السبب أو ذاك القدرات الفكرية التي بموجبها يعرف كانط الشخص البشري. إن هؤلاء جميعا تعوزهم الخاصية الأخلاقية المميزة للشخص، فيفقدون بالتالي الحق في الاحترام. فكيف تستطيع النظرية الكانطية إثبات خطئنا لو أننا عاملنا أحد هذه الكائنات البشرية – الذي ليس شخصا – كمجرد وسيلة!
يتضمن الجواب الذي أقدمه هنا تخليا عن التصور الكانطي للشخص كمعيار للقيمة الأصلية للكائن البشري وتعويضه بفكرة(…) "الذوات التي تستشعر حياتها".Subject-of-life دعوني أشرح لكم المقصود بذلك:
لقد أضاف وجود الإنسان الوعي إلى ظاهرة الحياة، هذه الإضافة التي لم يستطع العلم حتى اليوم تفسيرها بشكل مقنع، ومع ذلك يظل المعطى قائما: نحن لانوجد في العالم فحسب، لكننا على وعي بهذا الوجود أيضا، بل وعلى دراية بما يعتمل في "الداخل" أي في عالم المشاعر والمعتقدات والرغبات. وبهذا المعنى، فنحن أكثر من مجرد مادة حية، إننا شيء مختلف عن النبات الذي يحيا ثم يموت أيضا مثلنا. إننا ذوات حية تستشعر حياتها، كائنات لها سيرة وتاريخ biography لا مجرد جسم تدرسه البيولوجيا biology
وما يزيد اللغز غموضا هو أن هذه الحياة التي نعيشها ونختبرها هي وحدة ونظام وليست مجرد ركام وفوضى: فوراء مشاعرنا ومعتقداتنا ورغباتنا توجد وحدة سيكلوجية، بعبارة أخرى فالمشاعر لا تنتمي إلى الشخص "أ" بينما تنتمي المعتقدات إلى الشخص "ب" فيما تعود الرغبات إلى الشخص "ج".
وعلى ضوء انتماء هذا الكل إلى نفس الفرد المتمايز عن الآخرين نستطيع أن نفهم كيف تشكلت سيرتي وقصة حياتي الفريدة عبر الزمن، وكيف أن قصة حياة كل واحد منا مختلفة عن الآخر.
[أخلص إلى القول أن قيمتنا وحقوققنا نابعة من كوننا] ذواتا نحيا حياة يمكن أن تتحول للأفضل أو للأسوأ بالنسبة إلينا بشكل مستقل منطقيا عن أي تقييم لنا من قبل أي أحد آخر او اعتباره إيانا نافعين، ولا أقصد مما سبق أن الآخرين لا يستطيعون الإسهام فيء أو الانتقاص من، قيمة حياتنا . بل على العكس، إن الخيرات الكبرى للحياة (الحب، والصداقة، وعموما ، الشعور بالرفقة) وشرورها الكبرى (الكراهية والعداوة والعزلة والاغتراب) كلها تشتمل على علاقاتنا بالأشخاص الآخرين؛ فما أقصده، بدلا من ذلك، أن كوننا ذواتا نحيا حياة هي في مختلف الظروف لأجلنا لا يعتمد منطقيا على ما يفعله الآخرون أو لا ‏يفعلونه لنا . (…)
كلنا إذن متساوون من حيث قدرتنا على استشعار النعيم، وهذا مايجعل كل واحد منا مكافئا للآخر بغض النظر عن الجنس، الذكاء، الطبقة، السن، الديانة، مسقط الرأس، الموهبة أو المساهمة الاجتماعية
ومن منظور الحقوق الذي أتبناه، فإن كون االفرد "ذاتا تستشعر حياتها" هي القاعدة التي بموجبها يمتلك القيمة الأصيلة، وكل من يحقق هذا الشرط يلزمنا بواجب مباشر في معاملته باحترام، وبعبارة أخرى فنظرية الحقوق تعترف للكائنات البشرية المقصاة بموجب المعيار الكانطي – تعترف لها بحقوق أخلاقية: كالأطفال أو بصفة عامة كل كائن بشري مهما كان سنه ممن يعانون عاهات تمنعهم من أن يكونوا أشخاصا، لكنهم يحققون بامتياز شرط " الذات التي تستشعر حياتها" لأن كل واحد منهم يحيى حياة يمكن أن تتحول للأفضل أو للأسوأ بالنسبة إليه
[بيد اني مضطر للإعتراف ]بأن نظرية الحقوق التي أتيت على ذكرها لاتبدد كل الغموض، وككل نظرية تتناول المعايير الأخلاقية، فإن نظريتي تواجه تحديات جدية، بعضها مماثل للتحديات التي طرحتها على التصور الكانطي آنفا! بعض البشر ليسواأشخاصا حسب كانط، ولكن بعضهم أيضا ليس " ذاتا تستشعر حياتها" وفق نظريتي مثل البويضة المخصبة حديثا والمواليد بدون دماغ أو بوظائف دماغية تتجاوز بالكاد وظائف النخاع الشوكي
هل يعني ذلك أن هذه الكائنات البشرية لاتمتلك أي قيمة أو حق في أن تعامل باحترام؟ إن نظرية الحقوق تترك السؤال مفتوح، ذلك أني اقترحت معيار " الذات التي تستشعر حياتها" كمعيار كاف وليس كمعيار حصري . بمعنى أن الذين يتحقق فيهم هذا الشرط يحوزون قيمة أصيلة، ولكن هل هم الفئة الوحيدة التي تحظى بهذه القيمة؟ هذا سؤال تتركه نظريتي مفتوحا
المصدر:Tom Regan & Cal Cohen, The animal right debate. Rowman & Littlefield, 2001 pp:191-203 ‏

يبدو أن طوم ريغان نفسه يعترف بحدود تصوره أو تبريره الفلسفي لقيمة الشخص،
أين تكمن هذه الحدود ياترى؟ هل تكمن في أساس النظرية أم في النتائج المترتبة عنها؟

وضعية ادماجية مع انفتاحات ممكنة على القضايا الدولية الراهنة ومادة التاريخ

تعريف الجرائم ضد الإنسانية حسب المحكمه الجناءيه الدولية
من السهل أن نلاحظ ان هذه الاعتبارات الفلسفية حول قيمة الشخص البشري وحرمة جسده… هي نفسها التي نجدها حاضرة بقوة في مختلف إعلانات ومواثيق حقوق الإنسان. كما أنها الأساس الفلسفي المعتمد عند وصف جرائم الحرب والإبادة بجرائم " ضد الإنسانية".
مالمقصود بهذه الجرائم؟ وكيقف تكون جرائم ضد الإنسانية؟
أنشئت المحكمه الجناءيه الدولية في لاهاي (هولندا) في عام 2002 ، ويقدم نظام روما الاساسي القانون الأساسي للمحكمة الجناءيه الدولية ويمنحها اختصاص النظر في جرائم الاباده الجماعية والجرائم ضد الانسانيه وجرائم الحرب.
المطلوب:
لنحاول من خلال المادة 7 من المعاهدة القتبسة أدناه، أن نتبين كيف أن كل واحد من هذه الجرائم والانتهاكات يهدد وأحيانا يلغي قيمة الشخص على النحو المحد سابقا، وبأي معنى تكون هذه الجرائم فعلا جرائم لا ضد شخص بل ضد الإنسانية
ويفترض فينا في نهاية النقاش أن نكون قادرين على إدراك مفهوم الشخص ومن ثم قيمته في مدلولهما الكوني المجرد الذي لا تتعلق فقط بهذا "الشخص" او ذاك من بني البشر :

  جماجم لضحايا التطهير العرقي!

وضعية إدماجية: تعريف الجرائم ضد الإنسانية حسب المحكمه الجناءيه الدولية (مقتطف من النظام الأساسي للمحكمة)
لغرض هذا النظام الاساسي ، فإن "جريمه ضد الانسانيه" تعني اي فعل من الافعال التالية عندما ترتكب كجزء من هجوم مدبر واسع النطاق او منهجي موجه ضد اي مجموعة من السكان المدنيين :
الاسترقاق؛ ابعاد السكان او النقل القسري للسكان ؛ االسجن او الحرمان الشديد علي اي نحو آخر من الحرية البدنيه بما يخالف القواعد الاساسية للقانون الدولي، الاختفاء القسري للاشخاص؛ جريمه الفصل العنصري؛ التعذيب؛ لاغتصاب والاستعباد الجنسي والبغاء القسري والحمل او التعقيم القسري ، أو أي شكل آخر من الأشكال الخطيرة للعنف الجنسي ؛ اضطهاد اية جماعة محددة ، سياسية أو عرقيه او قوميه او اثنيه أو ثقافية أو دينية ، حسبما عرف في الفقره 3 ، أو لأسباب أخرى من المسلم عالميا بأن القانون الدولي لا يجيزها ، وذلك فيما يتصل باي فعل مشار اليه في هذه الفقره او بأية جريمه تقع ضمن اختصاص المحكمه ؛ الافعال اللاانسانيه الاخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمدا فى معاناة شديدة او ضرر بالغ بالجسم او بالصحه العقليه او البدنيه (الصورة جانبه لجماجم لضحايا التطهير العرقي معروضة في موقع مورابي التذكاري بجنوب شرق رواندا)

 

III-الشخص بين الضرورة والحتمية

الإنسان-الدمية

وضعية مشكلة:

 

 

هل الشخص مجرد دمية تحرك خيوطها إشراطات لاواعية وتحدد حركاتها حتميات موضوعية؟
في فيلم "جعلوني مجرما" مثل فريد شوقي شخصية طفل يتيم، قادته إلى الانحراف ومن ثم إلى السجن قسوة الأب وزوجة الأب وظلم الوسط الاجتماعي،
لم تكن تظهر عليه في البداية أية بوادر للإنحراف والإجرام، لكن سوء المعاملة والظلم البين اللذين تعرض لهما، سيدفعانه يوما إلى رد فعل يقوده إلى السجن، وفي السجن تعلم ان يكون وحشا حتى لايفترسه الآخرون، و سيترقى سلالم التراتبية في مجتمع المساجين (المدانين كمجرمين)، مما سيجعل الوسط الاجرامي يتلقفه بالأحضان مباشرة بعد خروجه من السجن
لم يكن السجين السابق يزداد كل يوم إلا غوصا في أوحال الجريمة والقسوة والعنف، وعندما ألقي عليه القبض أخيرا، ووقف في قفص الإتهام انتصب محاميه يسرد "أوديسة" اليتم والبؤس والظلم التي عاشها موكله ليتساءل أخيرا:
ياحضرات القضاة، إن موكلي ضحية وليس مجرما! من ينبغي أن يحاكم هو المجتمع الظالم لا موكلي المظلوم…!

 

استشكالات أولية:
يبدو أن مدار الحديث عن مفهوم الشخص – كذات عاقلة وحرة تنسب إليها مسؤولية افعالها – ينحصر في قضيتين: الكرامة والمسؤولية. يشير المفهوم الأول إلى مايحق للمرء النمتع به بوصفه شخصا، بينما يشير المفهوم الثاني إلى ماهو ملزم او ملتزم به أو مطالب به بوصفه شخصا أيضا.
بحثنا المفهوم الأول في المحور السابق. إذا اقتصرنا الآن على المفهوم الثاني، فمن اليسير أن نتصور بأن المسؤولية لاتنفصل عن صفة أخرى وهي الحرية التي يطالب بها الفرد كجزء من كرامته، وهذه المرة أيضا، بوصفه شخصا.
لن نتوقف عند الحريات السياسية لأن المانع دونها جلي واضح، وهو النظام السياسي ومختلف أشكال التضييق والقمع التي يمارسها على حرية الأفراد في التجمع والتعبير، سيقتصر بحثنا فقط على الحرية التي يحاسب الشخص بموجبها أخلاقيا من قبل الغير أو من قبل ضميره الشخصي (تأنيب الضمير) ؛أو تلك الحرية التي تترتب عنها المسؤولية المدنية أو الجنائية والتي بموجبها يحاسب المرء قانونيا أمام العدالة، ذلك أن القاضي ملزم بإثبات خلو الفعل من الإكراه كشرط لإثبات المسؤولية أي توفر عنصر الحرية والاختيار، وبناءا عليه يعرض المتهم نفسه للعقوبات المقررة

أ- هل هي إذن حرية موهومة؟
في المحورين السابقين تمت مقاربة مفهوم الشخص من زاوية الوعي وبشكل مجرد من كل تعيين، بيد أن الكائن الشري بنية سيكوفيزيولوجية وكائن سوسيوثقافي، فلا يسعه الإنفلات من قوانين الفيزيولوجيا والمحددات النفسية والإكراهات السوسيوثقافية.
إن تجاهل هذه الشروط هي مايجعل كل إنسان يعتقد أنه السيد في مملكة نفسه، وأنه من اختار بمحض إرادته بعض ملامح شخصيته، بيد أن العلوم الإنسانية تكشف خلاف ذلك: فالشخصية في علم النفس السلوكي لاتعدو أن تكون خلاصة ومحصلة لإستجابات ترسخت كردود فعل على مثيرات خارجية تعمل على تشجيع أو كبح بنيات نفسية معينة؛ أما التحليل النفسي، فيرى البناء النفسي للشخصية كنتيجة حتمية لخبرات مرحلة الطفولة، كما أن الكثير من الأنشطة الإنسانية تحركها دوافع الهو اللاشعورية ذات الطبيعة الجنسية أو العدوانية. هذا الهو الذي قال عنه "نيتشه": وراء أفكارك وشعورك يختفي سيد مجهول يريك السبيل، إسمه الهو. في جسمك يسكن، بل هو جسمك، وصوابه أصوب من صواب حكمتك"، بل إن بول هودار يذهب إلى حد القول بأن: " كلام الإنسان كلام مهموس له به من طرف الهو، الذي يعبر عن نفسه في الإنسان عندما يحاول الإنسان أن يعبر عن ذاته !!"

أما بالنسبة لعلماء الإجتماع والأنثربولوجيا، فإن طبقات مهمة في الشخصية لاتعدو أن تكون سوى انعكاس للشخصية الأساسية للمجتمع أو الشخصية الوظيفية لجماعة الإنتماء. وإذا كانت التنشئة الإجتماعية تزود الفرد بعناصر من ثقافة المجتمع، فأن هذه الثقافة حسب التحليل الماركسي تعكس البنية التحتية المستقلة عن وعي الذوات: لأن الوجود المادي هو الذي يحدد الوعي لاالعكس. ويلاحظ غي روشيه من جهة أخرى بأن " معظم رغبات الإنسان وحاجاته وآماله لاتتكون تلقائيا أو تبعا لنوع من الضرورة اليبولوجية، بل إنها تتحدد بحسب التشجيع الذي تلقاه والمكافآت التي تقدم لها ومن ثم تنقش في الشخصية " ، وعلى هذا الأساس : فكلما تكلم الفرد أو حكم ، فالمجتمع هو الذي يتكلم أو يحكم من خلاله حسب عبارة دوركايم.

حاصل الكلام هو اختفاء الإنسان أو موته كما أعلنت البنيوية، لأن البنيات النفسية الإجتماعية اللغوية… هي التي تفعل وليس الذات أو الفرد. هل يمكن بعد كل هذا الحديث عن الإنسان كما نتحدث عن ذات أي عن كائن قادر على القيام بعمل إرادي؟ هل للسؤال "من أنا " بعد من قيمة؟ !!

ب- أم أن كونه شخصا هو بالضبط مايسمح له بأن يبارح مملكة الضرورة؟

رغم كل ماذكر فإن الإنسان لازال يقنع نفسه بأن له شيئا يفعله، شيئا يبقى عليه أن يفعله. إن النظر إلى الشخص باعتباره ذاتا ووعيا يمكننا من القول بأن وعي الإنسان بالحتميات الشارطة يمثل خطوة أولى على طريق التحرر من تأثيرها وإشراطها المطلق، بل إن مذاهبا فلسفية كثيرة وعلى رأسها الوجودية تؤسس " أسبقية الوجود على الماهية " على خاصية الوعي، لأن الإنسان ليس وجودا في ذاته كالأشياء، بل وجودا لذاته، مما يجعل وجوده مركبا لانهائيا من الإختيارات والإمكانيات، فعلى عكس الطاولة التي أو الشبل اللذان يتحدد نمط وجودهما بشكل خطي انطلاقا من ماهيتهما القبلية، فإن الإنسان مفتقر إلى مثل هذه الماهية التي قد تسمح بتعريفه أو الحديث عن شخصيته على نحو قبلي مسبق. صحيح أن الفرد يحيا على الدوام لا في المطلق، بل في وضعية محددة اجتماعيا وتاريخيا، لكن ردود أفعاله واختياراته لاتحددها هذه الشروط الموضوعية وحدها، بل وأيضا المعنى الذاتي الذي يفهم بموجبه هذه الشروط والأوضاع مما يفسح مجالا واسعا للإحتمال والحرية. من هنا نفهم تصريح سارتر بأن الإنسان مشروع في سماء الممكنات، محكوم عليه بأن يكون حرا، وبان الإنسان ليس شيئا آخر غير مايصنع بتفسه.
ونستطيع استثمار أطروحة سارتر التي أتينا على ذكرها للقول بأن الإنسان ليس آلة إلكترونية، حتى لو أضفنا لها صفات الذكاء والصنع المتقن يقول إيمانويل مونييه رافضا كل اختزال للشخص إلى شيء أو موضوع:

نص لإيمانويل مونييه: ليس البشر صنفا من أشجار متحركة أو جنسا من حيوانات ذكية

ليس الشخص ‏موضوعا ، بل هو بالذات ، في أي إنسان، مالا يمكن أن يعامل بوصفه موضوعا. هذا شخص مجاور لي مثلا، إن له إحساسا فريدا بجسده ليس بإمكاني أن أعايشه فيه لكن بإمكاني النظر إليه من الخارج وفحص حالاته المزاجية ورصيده الوراثي. . . وبعبارة واحدة يمكنني مقاربته كمادة لمعرفة فيزيولوجية أو طبية . . . انه موظف، وهناك نظام خاص بالموظف وسيكولوجيا خاصة بالموظف أستطيع دراستهما مطبقين على حالته، بالرغم من أن هذه المعارف ليست هي هو ولا تعبر عنه في كليته وفي حقيقته.
لانقول إن هناك الأحجار والأشجار والحيوانات وبجوارهم الأشخاص كما لو كان هؤلاء صنفا من أشجار متحركة أو جنسا من حيوانات ذكية ! كلا بل حتى القول بأن "الشخص أكثر الموجودات إتقانا وروعة" قول غير صحيح لأنه ليس مجرد شيء يمكن معرفته من الخارج كبقية الأشياء.
إن الشخص هو الواقعة الوحيدة التي نعرفها ونعيشها في نفس الوقت من الداخل. واقعة حاضرة في كل مكان، لكنها ليست معطاة في أي مكان، ومع ذلك فنحن لا نلقي بها في مجال الأشياء الفير القابلة للوصف. فهي تجربة غنية منغرسة في العالم، تعبر عن نفسها بواسطة إبداع لا يتوقف لأوضاع وقواعد ومؤسسات، إنها نشاط معيش، أساسه الإبداع الذاتي والتواصل والانخراط… وهذا النشاط هو حركة شخصنة

وهكذا، فنحن أبعد مانكون عن الخطاطة التبسيطية التي تجعل الشخص والظاهرة الإنسانية عموما خاضعة على غرار الظواهر الطبيعية لمقولة الحتمية، وماذلك إلا لأن الشخصية كما يقول " برغسون" بناء مستمر وتعاقب لاينقطع لحالات نفسية فريدة لاتقبل التكرار، والحال أن الحتمية ومن ثم التنبؤ لايصدقان إلا في حالة الظواهر المتشابهة القابلة للتكرار. وماأشبه العلاقة الفريدة التي تجمع الشخصية بالفعل الصادر عنها بعلاقة المبدع بعمله الفني.
إذا كان لابد من خلاصة تجمع أطراف موضوع متشعب كموضوع "الشخص بين الضرورة والحرية"، فسنقول بأن الشخص الكائن المفكر العاقل والواعي…إلخ ينطوي في المستوى المحسوس على شخصية هي حصيلة تفاعل بين عوامل باطنية وأخرى متعلقة بالمحيط الخارجي، إنها ذلك الشكل الخاص من التنظيم الذي تخضع له البنيات الجسمية، النفسية والإجتماعية. صحيح أن هذا التنظيم يخضع لعوامل ومحددات موضوعية كثيرة، لكن ذلك لايلغي دور الشخص في بناء شخصيته. وإذا ما بدا موضوع الشخص إشكاليا متعدد الأبعاد، فماذلك إلا لأن دراسة الشخص ليست إلا إسما آخر لدراسة الإنسان بكل تعقده وغموضه.

Facebooktwitterredditmailby feather