أرشيف التصنيف: دروس 2 باك

دروس الفلسفة للسنة الثانية باكالوريا

دروس السنة الثانية

تجدون في هذه الصفحات دروس مادة الفلسفة وفق مقرر وزارة التربية الوطنية بالمملكة المغربية. وبما أن درس الفلسفة خلاصة مؤقتة لفعل التفكير الحي والمستمر الذي يكون الفصل الدراسي مسرحا له، فإن هذه الدروس لاتقدم نفسها كصيغة جامدة ونهائية بقدر ماتريد أن تكون أداة من بين أدوات أخرى كثيرة لتغذية تفكير التلميذ
وقد حرصت حرصا مقصودا على تقديم المواد المعرفية بشكل مجزأ متمفصل ما أمكن ليتسنى إستعمالها وإعادة إستعمالها لمعالجة إشكالات متعددة ومتنوعة ذلك أن التحدي الأكبر الذي يواجه درس الفلسفة ودارسه ( أي التلميذ) هو نفس التحدي المطروح على اللغة ومستعملها، ويتمثل في القدرة على التعامل الذكي مع مواقف وإشكالات متعددة لاحصر لها ولايمكن التنبؤ بها مسبقا ( الأسئلة المفتوحة، النصوص، الأقوال المطلوب تحليلها ومناقشتها)إنطلاقا من أدوات معرفية محدودة ينبغي إعادة تركيبها كل مرةلتتلاءم مع الوضعية المشكلة أو الإشكال مما يعني أن هذه الدروس لاتقوم مقام التلميذ ولاتعفيه من المهمة المطالب بها وهي إعمال الفكر بشكل حقيقي وصادق لفهم النصوص والأسئلة المطروحة عليه مستعينا بالأدوات المعرفية من مواقف ومفاهيم وإستشهادات ومعالجات التي تقدمها هذه الدروس وغيرها مما في متناوله. . وأخيرا فمادام أن درس الفلسفة درس لمعالجة إشكالات، فإنه لايخلو من الطابع الإشكالي بدوره، يتجلى ذلك في أنه، وإن كان محاولة للفهم، فإنه يترك على الدوام بقية من عدم الفهم…
هذا وقد توخيت في هذه الدروس البساطة من غير تفريط في الدقة، وابتعدت ما أمكن عن الجعجعات التجريدية التي لا تنتج فهما في ذهن المتعلم، ملتزما في ذلك مبدأين:

  • مبدأ بيداغوجي، تلح عليها المذكرات والتوجيهات التربوية منها ماورد مثلا في منهاج الفلسفة 1996 والذي نقرأ في صفحته الحادية عشرة:
    "يتم تقريب الفكر الفلسفي من التلميذ من خلال احترام مطالب التفكير الفلسفي وهي مطالب تقوم على إدراك صدق المشكل المطروح بالنسبة للإنسان؛ ووضوح تفريعاته وقيادة الفكر قيادة سليم، منطقية و نزيهة، فبعل هذه السيرورة تقرب الأفكار الفلسفية من التلميذ، لإذا ماكانت سيرورة منطقية وواضحة تدعو الفرد إلى الإنخراط فيها انخراطا طبيعيا
  • -مبدأ فلسفي، عبره عنه جون لوك يقوله:
    لاينبغي أن نتسرع في طرح أسئلة على أنفسنا وعلى الآخرين يغلب عليها طابع السجال والتردد بشأن مواضيع لا نقدر على تكوين أية فكرة واضحة ومتميزة عنها

وأخيرا فإني أتوقع أن يجد الكثير من تلاميذتي في ثنايا هذه الدروس أصداءا لأقكار أَدْلوْا بها أو نقاشات ساهموا فيها في لحظة من لحظات الدرس ؛ وإذا حدث ذلك، فليعتبروه جزءا من رد الجميل لهم جزاءا لانخراطهم الرائع والصادق في سيرورة الدرس…

cours2kitab

Facebooktwitterredditmailby feather

التاريخ – مجزوءة الوضع البشري

ا

I-المحور الأول: إشكالية المعرفة التاريخية

بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال) يواجه علم التاريخ ومعه المعرفة التاريخية وضعية فريدة بين العلوم الإنسانية: فهو علم دراسة الماضي، مما يعني أن المؤرخ يدرس واقعا ولى وانقضى كما يقول ريمون آرون، واقعا تفصله عنه مسافة زمنية وثقافية، واقعا لم يعد له وجود! فما يوجد اليوم وجودا ماديا فيزيائيا ينحصر في الآثار والوثائق. يتعين على المؤرخ إذن أن ينطق ويستنطق وينتقي هذه “المخلفات” ليعيد بناء الوقائع التاريخية مما يجعل من المعرفة التاريخية معرفة مبناة بامتياز

طرح الإشكال: ضمن أية شروط تكون المعرفة التاريخية المبناة مطابقة لموضوعها أي للحدث كما وقع فعلا؟ ما هي شروط إمكان المعرفة التاريخية كمعرفة علمية؟ هل يمكن للمؤرخ أن يستفيد من المسافة الزمنية التي تفصله عن الواقعة التاريخية وعن الفاعلين التاريخيين ليتناول مادة علمه بموضوعية بعيدا عن الذاتية أم أن دراسة الماضي لاتتم إلا بدافع من انشغالات الحاضر وضمن ايديولوجياته؟ كيف للمعرفة التاريخية أن تستعيد ليس فقط الواقعة التاريخية في بعدها الحدثي المادي بل وأيضا “أحداث الوعي”أي نيات الفاعلين ومقاصدهم ومحتويات وعيهم؟

معالجة الإشكال:

1- المعرفة التاريخية ورهان الدقة والموضوعية: المنهج النقدي

مثلما حذر بورديو من السوسيولوجيا العفوية أي تلك المعرفة الاجتماعية التلقائية التي يملكها الفاعل الاجتماعي حول الظواهر الاجتماعية من حوله، يتعين على المؤرخ أيضا أن يحذر من المعرفة التاريخية العفوية التي يدعوها ابن خلدون بظاهر علم التاريخ وهي تلك المعرفة التي يملكها كل واحد عن الماضي في شكل روايات وأخبار تتداولها وتتناقلها الأجيال. لايكون التاريخ علما إلا بوصفه نقدا وتفسيرا. فالنقد يتجلى في تمحيص وتحقيق هذه الروايات وسبرها بمعيار الحكمة و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار وفحصها على ضوء أصول العادة و قواعد السياسة و طبيعة العمران و الأحوال في الاجتماع الإنساني و الوقوف على طبائع الكائنات وقياس الغائب على الشاهد.
ولكن تحقيق الخبر التاريخي يحتاج أيضا إلى تفسيره للكشف عن علة ومنطق الأحداث التاريخية المتضمنة فيه والمبدأ المتحكم في حدوثها وتعاقبها…

2- حدود المنهج النقدي في التاريخ:

ماهي حدود المنهج النقدي في التاريخ؟ ألا يواجه علم التاريخ نفس الصعوبات الميتودلوجية ونفس الإشكالات الإبستملوجية التي تواجهها باقي العلوم الإنسانية؟
ربما يوحي النقد بأن المؤرخ منكب على موضوعه بتجرد وقد وضعه على طاولة البحث تحت مجهر النقد، ولكن الموضوع ظاهرة إنسانية. والمعركة كما يقول آرون ليست فقط حدثا ماديا فحسب ذلك أن لتصرفات المحاربين دلالاتها ولتصرفات الضباط مقاصد وغايات ونيات…، وباختصار فالمؤرخ يدرس أحداث الوعي أيضا. الا تستدعي المعرفة التاريخية بهذا المعنى نوعا من التعاطف والتفهم من قبل المؤرخ للنفاذ إلى دلالات الواقعة بالنسبة للفاعل التاريخي؟ ولكن ألا تتعارض هذه الذاتية مع مطلب الدراسة العلمية الموضوعية كما يلح عليها الوضعانيون؟ وماهي حدود الدقة التفسيرية التي التي يطمح إليها المؤرخ؟ يرى مارو أن بناء الواقعة التاريخية ثمرة تلاقح بين المنهج النقدي والتعاطف، بحيث يصحح أحد الطرفين إفراط الآخر. والتعاطف أو المشاركة الوجدانية عند مارو خروج المؤرخ من ذاته لملاقاة الغير (التاريخي)، بحيث تقوم بينه وبين موضوعه ضرب من الصداقة لايصح الفهم والتفسير بدونها. إن التعاطف هو مرحلة البناء التي تعقب الهدم الذي يمثله المنهج النقدي

I-المحور الثاني: التاريخ وفكرة التقدم

بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال) أوضح ابن خلدون بأن ظاهر علم التاريخ لا يختلف عن باطنه في التحقيق والتمحيص فحسب بل يزيد عليه بالتعليل والتفسير أي الكشف عن علل الأحداث ومبادئها. وبذلك يكون التصور الخلدوني جامعا لعلم التاريخ وفلسفة التاريخ معا، لأن هذه الأخيرة تتجاوز تحقيق الوقائع إلى البحث في علة حدوثها ومبدأ تعاقبها بل في منطق ومعنى السيرورة التاريخية ككل.

طرح الإشكال: هل هناك منطق ثاو خلف تعاقب الأحداث التاريخية أم أن التاريخ هو مملكة الصدفة والعرضي؟ هل هناك معنى لهذه السيرورة وهل التاريخ قابل للتعقل؟ وإذا كانت ثمة منطق للسيرورة التاريخية فهل يمكن أن نستخلص منها غاية التاريخ ونتنبأ بوجهته التي يمضي نحوها ؟ وإذا وجدت غاية للتاريخ أفلا يعني أن صيرورة التاريخ يمضي نحو نهاية التاريخ؟

معالجة الإشكال:

1- التاريخ الدوري والغياب التام لفكرة التقدم

السيرورة التاريخية في المستوى الخام وقبل كل تفسير هي تعاقب لأحداث. وأبسط أنواع الظواهر المتعاقبة التي يسهل الكشف عن منطقها هي الظواهر الطبيعية الكبرى ( تعاقب الليل والنهار، الفصول، أطوار حياة الكائن…) ولقد اتضح للإنسان مبكرا أن منطقها منطق دوري إذ أن الظواهر تتالى وتتعاقب وتنمو وتندثر لتعود مجددا إلى طورها الأول . لقد استعير هذا المنطق لفهم السيرورة التاريخية فيما يعرف بالعود الأبدي الذي نجده في الكثير من الميثلوجيات وبعض الفلسفات كفلسفة نيتشه.
تمثل فلسفة التاريخ الخلدونية ونظريته في العصبية نموذجا للتصور الدوري للتاريخ الذي تغيب عنه فكرة التقدم والتراكم. لقد استطاع ابن خلدون أن يلتقط المبدأ المفسر للسيرورة التاريخية أو للعمران البشري متمثلا في أهم مظاهره وهي الظاهرة السياسية أو الدولة. إن العصبية هي العامل المفسر لقيام الدول وانهيارها. والعصبية كما الدولة يبدآن بالفتوة ثم القوة فالهرم والشيخوخة والإندثار: تبدأ الدولة الجديدة كدعوة تتخد من العصبية مصدرا لقوتها داخل قبيلة واحدة تتقوى لتضم تحت سيطرتها قبائل أخرى وبمقدار ماتتسع سطوتها تتحول إلى طور الدولة وما يصاحب ذلك من استقرار وتشييد وتنظيم إداري ومالي وعسكري… ولكن بقدر ما تتوسع مظاهر العمران، تضعف وظيفة العصبية والحاجة إليها لممارسة السلطان. وكأن تطور الدولة يحمل في ذاته بذور تلاشيه: ذلك إن اتساع الرقعة الجغرافية للدولة وعدد جيوشها ودواوينها وتنوع أصناف البذخ يرهق ميزانيتها فيدفعها إلى فرض المزيد من المكوس والضرائب وممارسة صنوف الجور والإفراط… فتدب الإنشقاقات والثورات والوهن في جسمها، مما يوفر الشروط لنشوء دعوة جديدة لاتزال العصبية فيها فتية قوية، تنقض على الدولة الواهنة… وهكذا دواليك ليبدأ دور أو طور جديد

2 -التاريخ وفكرة التقدم

ألا يمكن أن نجد للصيرورة التاريخية منطقا آخرا غير التكرار الدوري الارتدادي الذي يعيد إنتاج نفسه ولا يضيف شيئا؟ ألا تتضمن السيرورة التاريخية نوعا من التراكم بحيث يحتفظ الدور اللاحق بشيء من الدور السابق ويضيف له ويتجاوزه؟ وإذا صح شيء من ذلك فإلى أية وجهة يمضي هذا التراكم والتجاوز؟
يرى “تيودور شانين” أن جاذبية فكرة التقدم تعود إلى بساطتها وتفاؤليتها، فهي تعني أن كل مجتمع يسير نحو الأعلى على طريق طويل بيتعد فيه تدريجيا عن الفقر والبربرية والاستبداد والجهل ليمضي نحو الثراء والحضارة والديموقراطية والعقل.
يظهر التصور التراكمي للتاريخ في كتابات باسكال (1662-1623) وبالخصوص في مقدمته لكتاب “عن الفراغ” حيث تصور تاريخ البشرية كرجل واحد، عمره كل هذه القرون، لايتوقف خلالها عن التعلم المستمر ؛ كوندورسيه (1743-1794) في كتابه ذي العنوان الدال: ” جدول تاريخي لتقدم الجنس البشري”
تعكس لنا فلسفة التاريخ مع هيغل هذا التفاؤل الذي ميز بالخصوص عصر الأنوار في امكانية تقدم مطرد للجنس البشري نحو مزيد من المعرفة والحرية والسيطرة على الطبيعة، وقد استدمج التصور الهيجيلي مفهوم السلب والنفي ضمن صيرورة جدلية يتجاوز فيها اللاحق السابق و في نفس الوقت يحتفظ في مركب أعلى بما هو جوهري فيه. ولكن هذا “الرقي” يفترض غائية للتاريخ، ومادام التاريخ ليس سوى تجليات لفكرة أو روح تسعى لوعي نفسها وللتطابق مع ذاتها بدءا من أبسط مظاهر الطبيعة وصولا إلى أعقد مظاهر التاريخ وأرقى أشكال المعرفة، فإن التاريخ الكوني هو سيرورة التقدم الذي يحرزه وعي الحرية، ولامناص من الاعتراف بالطابع الضرروري لهذا التقدم والتي هي ضرورة منطقية في العقل قبل أن تكون ضرورة واقعية في التاريخ. بهذا المعنى فحتى مشاهد الدمار وظواهر الحرب ولحظات الكبوات ليست سوى انتكاسات سطحية تخفي التقدم العميق والصامت الذي تخوضه الفكرة وهي تتقدم نحو غايتها المتمثلة في الحرية. ونجد نفس هذه النظرة التفاؤلية وتأويلها “الإيجابية للكوارث” لدى لايبنز أيضا

3- نقد فكرة التقدم – ريمون آرون

قلنا إن فكرة التقدم بنت عصر الأنوار، ولذلك فقد ورثت هذه الفكرة النزعة الإنسية الكونية لذلك العصر ، مما يعني أن كل المجتمعات البشرية تتقدم بوتائر متفاوتة، ولكن على نفس المسار الخطي التراكمي، وهو مايؤدي حسب ليفي ستروس إلى إذابة الاختلافات بين المجتمعات والثقافات والحكم عليها بمنطق التقدم الغربي العلمي،التقني، الصناعي والقيمي.
أما بالنسبة لريمون آرون،فإن فكرة التقدم تتضمن حكما معياريا قيميا ينتقص من علميتها، مفاده أن المجتمع اللاحق أفضل من السابق، علاوة على أنه حكم ذو صلاحية قطاعية لايمكن أن تنسحب على التاريخ برمته: فإذا كنا نعاين في مجالي العلم والتقنية تراكما وتقدما لاسبيل إلى انكارهما لأن طبيعتهما تفرض تقدما يمكن قياسه دون تقييم، فإن إثبات التقدم في مجالات الفن والدين والاقتصاد والسياسة يظل قضية إشكالية.
ويمضي ريمون آرون في نقده لفكرة التقدم إلى إبراز خلفيتها الميثولوجية وكذا استعمالاتها السيئة داخل فلسفة التاريخ، الهيغيلية منها أو الماركسية،وكذا الأطروحات اللاحقة لفوكوياما حول نهاية التاريخ. ذلك أن فكرة التقدم لاتنفصل عن فكرة نهاية التاريخ: فالقول بفكرة التقدم يفترض أولا وجود غائية تاريخية وحتمية ترسم للسيرورة التاريخية مسارها المحدد سلفا بهذه الغائية، ويفترض ثانيا وجود نهاية للتاريخ تمضي نحوها هذه السيرورة بما هي مسيرة نحو الخلاص.
بيد أن فلسفات التقدم تسقط بشكل لامفر منه في نزعة محافظة وتبريرية وذلك في خلطها بين فكرة عقلية ليس لها سوى استعمال معياري وبين شكل متعين قائم من أشكال النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي ( مثلما فعل هيغل حين طابق بين الدولة البروسية والعقل، أو ماركس حين جعل من المرحلة الشيوعية وسيطرة البروليتاريا نهاية الصيرورة التاريخية، أو فوكوياما حين جعل من الديموقراطية الليبرالية نهاية التاريخ…)

 

المحور الثالث: دور الإنسان في التاريخ:

بين يدي الإشكال (تمهيد لفهم الإشكال) إن البحث في دور الإنسان في التاريخ لهو استمرار للتساؤل حول منطق التاريخ وغايته، ذلك أن القول بوجود منطق وغاية للتاريخ يقتضي أن الصيرورة التاريخية تمضي وفق مبادئ وقوانين موضوعية مادية أو عقلية بعيدا عن الذاتية المتقلبة للإنسان المفرد أو المسارات المباغتة للصدفة العمياء، أي إحلال عامل أو مبدأ ما محل الإنسان في توجيه دفة التاريخ.
فمن جهة يبدو الإنسان هو صانع تاريخه من خلال بطولة الأبطال وتضحيات المحاربين و ثورات الشعوب، ومن جهة أخرى يبدو أن بطولة هؤلاء وثورات أولئك قد صنعتها ظروف مواتية. هل يمكن مثلا أن نرجع توسع الدولة الإسلامية ماضيا إلى استبسال المسلمين وقوة إيمانهم وشجاعتهم ونفسر إنحسارها اليوم بتخاذلهم وجبنهم أم أن ذاك التوسع وهذا الإنحسار إنما يرجع إلى عوامل اقتصادية وسياسية عالمية تتجاوز الإطار المحلي. من قبيل الاكتشافات الجغرافية والنهضة الأروربية…

طرح الإشكال: إذا كان المؤرخ لا يعتني بهبوب الرياح قدر اعتنائه بمجهود الإنسان في استخدام قوتها لتوجيه سفنه للتجارة أو شن الحروب، ولايهتم بفيضانات الأنهار إلا من حيث أنها تتقاطع أو تؤثر على حياة إنسانية قائمة بجوارها… فلأن أحداث الماضي لاتكون موضوعا للتاريخ إلا من حيث أن الإنسان هو مُحدثها أو محورها على الأقل. ما حقيقة كون الإنسان “مُحدثا” للحدث التاريخي؟ هل يعني ذلك أن الإنسان هو من يصنع تاريخه ويوجه دفة صيرورته؟ أم أن الصيرورة التاريخية مشروطة بعوامل موضوعية تفوق إرادة الإنسان نفسه الذي ليس سوى جزء من بنية تتجاوز وعيه وإدراكه؟

معالجة الإشكال:

1- الإنسان مجرد أداة عرضية لتحقق الفكرة – هيغل

تاريخ العالم عند هيغل مجرد تمظهر لسعي الروح نحو معرفة ذاته، وإذا كانت البذرة تحوي في ذاتها كامل خصائص الشجرة من مذاق وشكل فاكهة التي ستظهر لاحقا، فإن اللحظات الأولى للتاريخ بما هي آثار أولى للروح تحتوي بالقوة مسبقا أيضا كل التمظهرات اللاحقة التاريخ. ماذا يتبقى إذن للإنسان من دور في تاريخ محدد قبليا؟
لاأهمية للبشر /الأفراد عند هيغل إلا بقدر ما يكون هؤلاء أدوات لتحقيق اغراض أسمى، وبقدر ما تتمثل فيهم حقبة من حقب الفكر المطلق. بل إن أبطال التاريخ وعظماءه بدورهم لايحققون إرادتهم الخاصة ولا يسعون لنيل سعادتهم الشخصية بقدر ما يمتثلون لروح العصر التي تستعملهم وتتحقق بهم ومن خلالهم وتجاوزهم

2- ماركس: (الشروط المادية)تطور قوى الإنتاج هي المحركة للصيرورة التاريخية

ماهذه الفكرة أو الروح المطلق التي تستعمل البشر – شعوبا وقادة – لتحقق نفسها !؟
في هذه النقطة بالذات تمثل فلسفة التاريخ الماركسية تجاوزا لفلسفة التاريخ الهيغيلية، إذ أن الفكرة أو الروح المطلق التي كانت تتجلى تدريجيا عبر التاريخ وتحرك خيوطه وتسير أبطاله، حلت محلها – في الماركسية – عوامل مادية هي ظروف الإنتاج المادي للحياة بيد أن موقع الذات الإنسانية في التاريخ ظل في الماركسية على ماهو عليه، : ففي الوقت الذي يعتقد الفاعل التاريخي أنه يتصرف وفق ما يختاره من معتقدات دينية أو ما يتبناه من مبادئ سياسية يبين التحليل المادي للتاريخ أن المعتقدات الدينية والمبادئ السياسية ماهي إلا انعكاس للبينة التحتية الإقتصادية، أي لمستوى معين من تطور قوى الإنتاج. وعلى ضوء التحليل الماركسي، لاتعدو أن تكون بطولات نابليون وروبيسبيير حماس جماهير وأحزاب الثورة الفرنسية سوى إنجاز لمهام عصرهم المتمثلة في انبثاق المجتمع البرجوازي وتفكيك المؤسسات الفيودالية.
وإذا كان الوعي هو النمط الوحيد الذي يمكن من خلاله إثبات فعل الإنسان في التاريخ، فإن هذا الوعي نتاج للوجود الاجتماعي وليس العكس

3- سارتر- الإنسان صانع تاريخه

ولكن إذا كانت الماركسية تقدم نفسها كتحليل علمي للتاريخ يكشف النقاب عن القاعدة المادية المسؤولة في الواقع عن الصيرورة التاريخية، ألا تتيح هذه المعرفة للإنسان الانفلات حتمية هذه الصيرورة؟
يرى سارتر أن الماركسية قد أسيء تأويلها بشكل تبسيطي أو أن إمكانيتها لم تستثمر بشكل كامل: إن الماركسية فلسفة للحرية أو بالأحرى للتحرر ليس فقط للإنسان الفرد بل للطبقة المستغلة بأسرها، ذلك أن التاريخ لايكون قوة غريبة تستلب البشر إلا مادامت دلالة مجهوداتهم غريبة عنهم والحال أن التحليل الماركسي يقدم الأدوات الكفيلة بالتعرف على المنتوج وفهم سيرورته، من خلال مفاهيم قوى الإنتاج ، علاقات الانتاج،الصراع الطبقي، وأشكال الاستيلاب والايديولوجيا… وبذلك تصبح الممارسة الإنسانية ممارسة مستنيرة بالوعي لاممارسة عمياء قد تنقلب نتائجها ضدها.

Facebooktwitterredditmailby feather

الحرية – مجزوءة الأخلاق

لا تجد كالحرية كلمة دلت على معان مختلفة كما يقول مونتيكسيو، ويتجسد ذلك في الأبعاد الكثيرة للحرية
سنتناول الحرية في هذا الملخص من زاويتين أو بعدين فقط:
– البعد الميتافيزيقي للحرية؛
– البعد السياسي الملموس للحرية.
أما عن البعد الأخلاقي للحرية، فلتراجع درسالواجب وخصوصا المحور الأول (الواجب والإكراه)
أما عن البعد أو التناول العلمي للحرية، فأنظر المحور الثالث من درس الشخص ( الحتميات النفسية والاجتماعية الشارطة للشخص التي كشفت عنها العلوم الإنسانية)
– أما عن البعد التاريخي للحرية، فيرجى الرجوع إلى درس التاريخ وخصوصا المحور الثالث: دور الإنسان في التاريخ

المحور الأول: الحرية بين الإرادة والحتمية أو البعد الميتافيزيقي للحرية.

ملحوظة:يسمى هذا البعد ميتافيزيقيا لأنه يتناول الحرية بشكل مجرد من حيث المبدأ العام لا في وضعية محددة ومخصوصة، أي حرية ذات من حيث أنها تتمتع بالإرادة.

مفاهيم لابد من استيعاب دلالتها قبل المضي قدما:
الحتمية:
وجود علاقات ضرورية ثابتة في الطبيعة توجب ان تكون كل ظاهرة من ظواهرها مشروطة بما يتفدمها او يصحبها من الظواهر الأخرى، وأن كل حادث يسبقه سبب يحتم وجوده على نحو دون آخر؛ والحتمية بالمعنى الفلسفي مذهب يرى ان جميع حوادث العالم وبخاصة أفعال الإنسان، مرتبطة ببعضها ارتباطا محكما
الإرادة و حرية الاختيار:
حرية الاختيار :libre arbitre القدرة على الاختيار بين أحد المقدورين أو اتصاف الإرادة بالقدرة على الفعل دون التقيد بأسباب خارجية. وهذا يدل على وجود تلازم بين معاني الحرية واللاتعين واللاحتمية، وإذا سلمنا بحرية الاختيار، وجعلناها مقصورة على الأحوال التي تتساوى فيها الأسباب المتعارضة، حصلنا على معنى آخر للحرية وهو حرية اللامبالاة وقد عرفوها بقولهم: هي القدرة على الاختيار من غير مرجح

طرح الإشكال:

الحرية خاصية موجود خالص من القيود، عامل بإرادته أو طبيعته، وتقابلها مفاهيم القيد والحتمية والضرورة والخضوع والعبودية. والإنسان يستشعر في نفسه أحيانا القدرة على الاختيار والترجيح أو فعل الشيء أو الامتناع عنه بإرادته، لكنه يعلم من جهة أخرى أن لحوادث العالم الطبيعي نظاما عِليّا حتميا لا مكان فيه للصدفة أو العبث، أفلا تخضع حرية اختياره لعلل وأسباب تشرطها بدورها؟ هل الحرية هي الاستقلال عن المحددات والحتميات أم مجرد وعي بها؟ كيف يستقيم القول بحرية الإرادة مع القول بحتمية الحوادث؟

معالجة الإشكال:

1- الإرادة بوصفها علة أولى وابتداءا مطلقا

الحرية أولا هي حرية الإرادة بوصفها مصدر الفعل الحر. والإرادة أن يشعر الفاعل بالغرض الذي يريد بلوغه، وأن يتوقف عن النزوع إليه توقفا مؤقتا، وأن يتصور الأسباب الداعية إليه، و الأسباب الصادة عنه وأن يدرك قيمة هذه الأسباب، ويعتمد عليها في عزمه، وأن ينفذ الفعل في النهاية أو يكف عنه. وقدرته على الاختيار بين التنفيذ والكف هي جوهر الإرادة، أو ما يسمى بــ “حرية الاختيار” وهي القول أن فعل الإنسان متولد من إرادته. قال بوسييه Bossuet: “كلما بحثت في أعماق نفسي عن السبب الذي يدفعني إلى الفعل لم أجد فيها غير إرادتي”، بمعنى أن اختبار حرية الإرادة يتم في الغالب عن طريق استبطان داخلي للنفس اعتمد عليه ديكارت بدوره ليعلن أنه يجد في نفسه حرية الاختيار أو إرادة لا يماثلها شيء في لا محدوديتها بل هي الدليل على أن الإنسان على صورة الله ومثاله؛ ويعرف ديكارت الإرادة بأنها القدرة على فعل الشيء او الامتناع عنه، إثبات أو نفي ما يعرض للذهن من أفكار أو تصورات بمحض الاختيار دون الإحساس بضغط من الخارج يملي هذه أو تلك. وقد اختبر ديكارت لا محدودية حرية الإرادة في فعل الشك الذي أقدم عليه! ذلك أنه وجد في نفسه القدرة على رفض كل الحقائق والشك في كل المعارف التي تشبثت بنفسه منذ الطفولة… بل إن الخطأ أوضح صور حرية الإرادة: فنحن لا نخطئ إلا لكوننا أحرارا لأن الخطأ ناجم عما تتمتع به الإرادة من قدرة على الحكم بشيء لا تتوفر بصدده على الدلائل الكافية من العقل.

2- حرية الإرادة وهم ناتج عن جهل بسلسلة الحتميات
يقوم التصور الديكارتي على فرضية مفادها أن الإنسان مملكة داخل مملكة الطبيعة، مستقل عن سلطانها. وهو ما ترفضه كل فلسفات الحتمية التي تنطلق من وجود علاقة سببية ضرورية بين حوادث العالم بما في ذلك الحوادث النفسية (الرغبات، الأفكار، الاختيارات…) التي هي بدورها معلولات لأسباب خارجية، فحوادث العالم الخارجي عند ابن رشد مثلا تجري على نظام محدود ترتيب منضود لا تخرج عنه، والإرادة والأفعال لا تتم إلا بموافقة الأسباب الخارجية، لأن أفعالنا ناتجة عن تلك الأسباب الخارجية، وكل معلول إنما يكون عن أسباب محدودة ومقدرة، يكون بالضرورة محدودا ومقدرا بدوره. ومثال ذلك أن أنه إذا ورد علينا أمر مشتهى من خارج اشتهيناه بالضرورة من غير اختيار، مثلما أنه إن ورد أمر مكروه من خارج كرهناه وهربنا منه بالضرورة
ولكن من أين ينبع هذا الإحساس الداخلي القوي بالحرية رغم ذلك !؟
ينطلق اسبينوزا في جوابه على هذا السؤال من نفس ما انطلق منه ابن رشد، وهو أن كل شيء كيفما كان محدد بعلة خارجية تتحكم في وجوده وفعله باستثناء الجوهر أو الله الذي هو علة وجوده، فلا يتصرف إلا وفق الضرورة التي تمليها طبيعته، أما بقية الموجودات وخصوصا البشر، فإن الحرية التي يتفاخرون بامتلاكها لا تعدو أن تكون وهما ناتجا عن الجهل: أي عن وعيهم برغباتهم وجهلهم بالعلل التي تجعلهم يرغبون في شيء من الأشياء.
لا وجود إذن لفعل حر بمعنى فعل لاعلة له تحدده، والحرية الوحيدة الممكنة هي وعي هذه الضرورة، والتصرف وفق الطبيعة الجوهرية للإنسان أي الطبيعة العاقلة، لذلك قيل إن الحرية هي الحد الأقصى لاستقلال الإرادة العالمة بذاتها المدركة لغاياتها. وقيل أيضا إن الحرية هي علية النفس العاقلة. ومعنى ذلك أن الفاعل الحر هو الذي يقيد نفسه بعقله وإرادته، ويعرف كيف يستعمل ما لديه من طاقة وكيف يتنبأ بالنتائج وكيف يقرنها ببعضها البعض وكيف يحكم عليها ، فحريته ليست مجردة من كل قيد ولا هي غير متناهية، بل هي تابعة لشروط متغيرة توجب تحديدها وتخصيصها

فقرة انتقالية من المحور الأول إلى المحور الثاني:

لقد أخطأ الثراث الفلسفي عند مقاربته لإشكالية الحرية من خلال مفاهيم الإرادة والاختيار والحتمية حسب حنا آرندت : فبدل توضيح هذه الإشكالية، عمل على نقلها من حقلها الأصلي أي مجال التجربة الإنسانية و مجال السياسة إلى مجال داخلي يتمثل في الإرادة، وبذلك أذيبت الحرية ضمن بقية القضايا الميتافيزيقية كالزمان والعدم والنفس… والحال أنه من غير الممكن أن نختبر الحرية ونقيضها أثناء الاستبطان أي ذلك الحوار الذي يجري بيني وبين ذاتي والذي تتولد من خلاله القضايا الفلسفية والميتافيزيقية الكبرى

المحور الثاني: الحرية والقانون أو البعد السياسي للحرية

طرح الإشكال:
رأينا مع حنا آرندت في معرض نقدها للتناول الميتافيزيقي للحرية: إننا لا نعي الحرية في إطار علاقتنا بذواتنا، بل في خضم تفاعلنا مع الغير. إذا صح ذلك، ألن يكون وجود هذا الغير في حد ذاته حدا من حريتي بفعل القانون الذي ينظم علاقتي به؟ إذا كانت الحرية نقيضا للقيود والموانع، فكيف لها أن تتعايش مع القانون الذي هو مرادف لفكرة القيود؟

معالجة الإشكال:

1-القانون كشرط لوجود الحرية ( ما ينبغي أن يكون)

قد يحلم الواحد منا بحرية مطلقة دون حدود، يفعل بواسطتها ما يشاء دون قيد من مجتمع أو قانون، بيد أننا ننسى بأن وجودنا الطبيعي نفسه يقتضي الخضوع لقوانين ! مثل قوانين الفيزياء كالجاذبية وقوانين البيولوجيا كاندثار الخلايا؛ ثم إن هذا الحلم يتضمن تناقضا غالبا ما لا يعييه صاحبه: صحيح أن كل فرد يتمتع خارج القانون أو المجتمع المدني بحرية كاملة – كما يقول توماس هوبز – لكنها حرية غير مجدية، لأنها في الوقت الذي تمنحنا امتياز فعل كل ما نهواه، تمنح الآخرين بدورهم قوة إيذائنا كما يريدون.
إذن فلا وجود قطعا لحرية بدون قوانين. بل إن وجود قوانين يخضع لها الجميع هو الذي يضمن الحرية للفرد والشعب معا. سيكون للشعب الحر رؤساء، لا مفر من ذلك فهذا مما تقتضيه ضرورات التنظيم والعيش الجماعي المشترك ولكن لن يكون له أسياد، كما قال روسو، إنه يخضع للقوانين، وللقوانين وحدها، وبفضل قوة القانون لا يخضع للبشر. وحيث أن القانون تعبير عن الإرادة العامة، فإنني عندما أخضع للجميع، فأنا في الواقع لا أخضع لأي أحد، وإنما أخضع لكيان معنوي أنا نفسي جزء منه. وإذا كان الخضوع للقانون يحد من سلطاننا وقدراتنا، فقد كشف مونتيكسيو عن النزوع الدفين الذي يسكن كل ذي سلطة أو قدرة ألا وهو الميل إلى الشطط في استعمال قدرته وسلطته، وسيسترسل في ذلك إلى أن يلاقي حدودا. لابد إذن للحرية من حدود. والحرية كما قال مونتيكسيو هي حق فعل كل ما تبيحه القوانين، ولا يمكن للحرية أن تقوم في الدولة على غير القدرة على فعل ما يجب أن نريده وعلى عدم الإكراه على فعل ما لا يجب أن نريده.

2- القانون والدولة كإلغاء للحرية: نموذج الأنظمة الكليانية ( ما هو كائن)

لا وجود قطعا لحرية بدون قوانين. هذا المبدأ هو خلاصة المواقف السابقة التي التي اتخدت من الديمقراطية وحقوق الإنسان رهانا لها. ومن المفارقات أن الاستبداد والطغيان يستعمل بدوره مبدأ ضرورة القانون لوجود الحرية من أجل إلغاء هذه الأخيرة بحجة أن السلم أثمن من الحرية، وأن الغاية القصوى لوجود القانون نفسه هو حماية السلم من الحرية التي تهدده بفوضاها. وقد رد روسو ساخرا ذات مرة على من يدعي أن تقليص الحرية يهدف إلى الحفاظ على السلم والأمن: نعم، سنحصل على السلم والهدوء ولكنه هدوء المقابر !
يكمن سر هذه المفارقة في أن علاقة القانون بالحرية تقوم على نوع من المقايضة عبر عنها بنيامين كونسطان بقوله: “يقبل كل فرد التضحية بجزء من ثروته على شكل ضرائب لسد النفقات العمومية والتي يكون هدفها ضمان تمتعه بما تبقى من ثروته بسلام، و بنفس الشكل يقبل المرء التضحية بجزء من حريته لضمان ما تبقى منها، ولكن إن اكتسحت الدولة كل مجال لحريته فلتن يعود للتضحية معنى، كأنها تطالبه بدفع كل ثروته ! إن المذهب القائل بالامتثال اللامحدود للقانون في عهد الاستبداد والانقلابات الثورية قد أضر بالناس أكثر مما أضرت بهم الأخطاء والضلالات الأخرى”
و هذا المذهب الذي حذر منه كونسطان في بدايات القرن 19 تجسد في القرن العشرين في ظاهرة الأنظمة الشمولية الكليانية التي تصفها حنا آرندت بالظاهرة الفريدة غير المسبوقة في كتابها ” أصول الكليانية”: تعمد هذه الأنظمة الاستبدادية إلى اعتقال رعاياها وحبسهم داخل بيوتهم الضيقة، مانعة بذلك ميلاد حياة عمومية، لا يمكن للحرية أن تتجلى بدونها، مستعملة من أجل ذلك الدعاية والأيديولوجيا والتأطير المذهبي لتحول المواطن إلى مجرد رقم نكرة، إلى فرد داخل الجمع homme de masse

قد يقال أن الحرية تظل مع ذلك رغبة أو إرادة أو طموحا يسكن أفئدة الناس، بيد أن الحرية و قبل أن تكون صفة للفكر أو سمة من سمات الإرادة، فإنها أولا وقبل كل شيء وضع للإنسان الحر. لا يوجد في نظر آرندت سوى شكل وحيد للحرية وهي الحرية الملموسة في العالم: حرية التنقل و الخروج من المنزل والالتقاء بالغير

Facebooktwitterredditmailby feather

الواجب – مجزوءة الأخلاق

 

ملاحظة تقنية (موجهة -ربما- لزملائي المدرسين) : تم الاعتماد في الدرس ومن ثم في هذا الملخص على نصوص فلسفية من الكتب المدرسية الثلاث ومن مصادر أخرى إضافية
وقد حاولت قدر الإمكان أن أعكس في هذا الملخص سيرورة الدرس المنجز في القسم،
نتوقف في البداية عند تعريف الواجب، ليس لأن تعريف الواجب مدخل إلى الدرس، فالدرس بأكمله بمثابة تعريف للواجب في تعالقه مع مفاهيم أخرى، ولكن لأن من مقتضيات دراسة قضية ما امتلاك تصور أولي حول دلالة المفردة المعبرة عن القضية…
يعرفه جميل صليبا في معجمه الفلسفي (ج2 ص 541-542)كالتالي: ” الواجب ما تقتضي ذاته وجوده اقتضاءا تاما” بيد أن هذا تعريف عام يشمل المنطق والأنطلوجيا معا، أما التعريف الخاص الأقرب إلى مجزوءة الأخلاق فهو: ” الواجب بوجه عام هو الإلزام الأخلاقي الذي يؤدي تركه إلى مفسدة… والواجب بوجه خاص قاعدة عملية معينة، أو إلزام محدد يتعلق بموقف إنساني معين كواجب الموظف في أداء عمله”
ونضيف مع إيريك فايل بأن الواجب يشكل المقولة الأساسية والوحيدة للأخلاق

المحور الأول: الواجب والإكراه

طرح الإشكال:

الواجبات كثيرة: أسرية، دينية، عرفية، وطنية، مهنية… وما إن يذكر الواجب، أو يتم تذكيرنا به وهذا هو الغالب، حتى يتبادر إلى ذهننا الإلزام والإكراه. وفي اللغة: وجب الشيء إذا ثبت ولزم؛ والواجب هو ما يقابل الجائز والممكن. وحيث أن الذات خاضعة لدوافع شتى، فإن ضرورة الواجب تنقلب إكراها وينقلب تصورها إلى أمر نسميه بالأمر الأخلاقي. بيد أن الواجب، من جهة أخرى، لا يُتصور دون حرية: فحرية الفاعل الأخلاقي هي التي نرتب عليها واجباتها، ولامعنى للواجب بالنسبة لحجر ساقط خاضع لقوانين حتمية و حيوان أعجم تقوده الغريزة!!
الإكراه إذن خاصية محايثة للواجب والحرية شرطه! فكيف نجمع بينهما؟ وإذا كان الواجب إكراها، والواجبات كثيرة، ألن يجعل ذلك من حياتنا جحيما لا يطاق ومعاناة للإكراه المستمر؟ وحيث أن الواجب يشكل المقولة الأساسية والوحيدة للأخلاق، فأي قيمة لهذه الأخلاقية التي ترزح تحت الإكراه وتتعارض مع أخص خصائص الإنسان أي الحرية؟ وبعبارة أخرى: هل المصالحة بين الواجب والحرية ممكنة؟

معالجة الإشكال:
ملاحظة: يتفق أغلب الفلاسفة على أن الواجب (الأخلاقي) لا يخلو من إكراه، فهو ليس فعلا تلقائيا عفويا، ليس غريزة أو رد فعل! وتنحصر المشكلة عندها في إعادة التوفيق بين الواجب والحرية

1-الحل الكانطي: الواجب إكراه يحقق استقلالية الإرادة

يقر كانط بأن “الضرورة الأخلاقية هي إكراه أي إلزام وكل فعل مؤسس عليها، يجب أن نتمثله بوصفه واجبا، وليس مجرد طريقة للفعل نرغب فيها الآن أو قد نرغب فيها مستقبلا”
فالواجب إذن إكراه بل قهر يمارسه العقل العملي على الميولات، لكنه إكراه حر لأنه يخلص الإرادة من ضغط وإلحاح هذه الميول ،فلا تخضع إلا لنفسها أو للواجب من حيث هو واجب. فتغدو بذلك إرادة طيبة حقا.
يرى كانط أن الإنسان حينما يخضع للقوانين التي يمليها الواجب الصادر عن العقل، فإنه حر مادام لا يخضع سوى لتشريعه الخاص، فهو يمنح نفسه قانونها في حين تتلقى الموجودات المادية قانونها من خارج على شكل حتمية طبيعية. لذلك تنص إحدى الأوامر المطلقة الكانطية على وجوب التصرف كما لو كنت مشرع القانون؛ ولما كان هذا الأمر كونيا، فإن الفرد يشارك بذلك في مملكة الإرادة بوصفها مملكة للحرية. هذه الإرادة التي تتميز بالاستقلال الذاتي، لأنها تشرع لنفسها في استقلال عن أية شروط أو غايات خارجية،
ولفهم الشرط الأخير لابد أن نميز – مع كانط – بين نوعين من الأوامر الأخلاقية؛ أوامر أخلاقية شرطية يتوقف أداؤها على النتائج التي المتوقعة منها كاللذة أو السعادة أو تقدير الآخرين.. أو أية منفعة أخرى، فتكون الواجبات في هذه الحالة مجرد وسائل لتحقيق غايات معينة؛ كأن نقول الصدق من أجل أن نكسب ثقة الناس؛ والنوع الثاني هو الأوامر الأخلاقية القطعية أو المطلقة، وهي تلك التي تنظر إلى الأفعال في ذاتها لا من حيث النتائج المترتبة عنها: كأن نقول الصدق دائما احتراما للواجب نفسه.
إذن فالقيام بالواجب من حيث هو واجب هو عين الحرية لأنه يخلص الإرادة من ضغط الميولات الحسية ولا يرهن غاياتها ودوافعها بالنتائج المترتبة عن الفعل الأخلاقي. ولكن هل تتوجه الأخلاق والواجبات الكانطية إلى الإنسان الواقعي، أم إلى صورة مجردة ومثالية للإنسان !؟

2- دوركايم: الواجب اكراه خارجي لكنه يتحول إلى موضوع رغبة
يتفق دوركايم مع كانط بأن الواجب يحمل قدرا من الإلزام والإكراه، لكنه لا يقتنع بالحل الكانطي لمشكلة الإكراه والمتمثل في تحويل الواجب إلى أمر مطلق وغير مشروط، بحيث نقوم بالواجب امتثالا للواجب، ذلك أنه من المستحيل حسب دوركايم السعي نحو هدف نكون فاترين تجاهه ولا يحرك حساسيتنا، وهكذا يجب أن نقبل بقسط من أخلاق اللذة لنفسر كيف أننا نشعر بنوع من الرضي والإغراء أثناء قيامنا بواجبات تحددت خارجنا وقبلنا.
وبعبارة أخرى، ففي الوقت الذي يعترف فيه دوركايم أن الوقائع الاجتماعية ومن أهمها الواجبات تتميز بالخارجية والقسر، لا يفوته أن يلاحظ أن الفاعل الاجتماعي لا يعي هذا الإكراه أو القسر المسلط عليها لأن الواجبات تحولت إلى موضوع رغبة، وعلى سبيل المثال، فالمقبل على الزواج مطالب بتنظيم طقوس الزواج والزفاف بطريقة معينة مفروضة ، ولكن الفاعل يتماهى مع الدور بحيث يصبح في امتثاله شيء من الرضي و اللذة والمتعة ونفس الشيء يمكن أن نقوله عن انتعال الحذاء الذي كان بالنسبة للطفل الصغير واجبا ثقيلا، فتحول لاحقا إلى موضوع رغبة واستمتاع، بل انضافت إلى قيمته الاستعمالية قيمة جمالية! أو ذاك الذي يهب في زمن الحرب بكل حمية وحماس للتطوع في الجيش امتثالا لواجب الوطنية… وغيرها من الأمثلة التي تظهر امتزاج الواجب بالرغبة وتطابقه أحيانا مع العواطف الشخصية، ولذلك يقول دوركايم في كتابه قواعد المنهج السوسيولوجي: “إنني حين أؤدي واجب كأخ أو زوج او مواطن … أقوم بأداء واجبات خارجية حددها العرف والقانون وعلى الرغم من أن هذه الواجبات لا تتعارض مع عواطفي الشخصية (…) إن هذه الضروب من السلوك والتفكير لا توجد خارج شعور الفرد بل تمتاز أيضا بقوة آمرة قاهرة هي السبب في أنها تفرض نفسها على الفرد شاء أم أبى. حقا إني لا أشعر بهذا القهر حين أستسلم له بمحض إرادتي”
ينتج عن ذلك صفتان للواجب الأخلاقي: الصفة الأولى هي الإلزام لكن الصفة الثانية الملازمة له هي كونه موضع رغبة

خلاصة:

: إن الواجب الناتج عن الأمر الأخلاقي الكانطي المطلق ليس إذن إلا مظهرا مجردا من مظاهر الواقع الأخلاقي يغفل المظهر الملموس لهذا الواقع الذي ينكشف بالتحليل السوسيولوجي، لا مجرد التأمل العقلي. وبذلك فموقف دوركايم يختلف عن موقف كانط اختلاف المقاربة السوسيولوجية المنصتة إلى دروس الوقائع عن المقاربة الفلسفية المتسمة غالبا بنظرة تجريدية تقتضيها شمولية المنظور الفلسفي

المحور الثاني: الوعي أو الحس الأخلاقي

طرح الإشكال:
يمكن للأخلاق أن “تتموضع” في الخارج، فتكون موضع خطب ووعظ، كما يمكن تدوينها بالحبر على الأوراق أو بالنقش على الحجر، لكنها توجد قبل هذا وذاك على شكل وعي تمتلكه الذات به تميز بين الخير والشر وتضفي صبغة أخلاقية على أفعالها أو أفعال غيرها. ويبدو هذا الوعي الأخلاقي حسا داخليا عميقا على شكل ضمير أخلاقي أو صوت منطلق من أعماق النفس، يأمر وينهى، يؤنب و ويرضى.. هل يعني ذلك أن الحس الأخلاقي غريزة منقوشة في جبلة الإنسان ومن ثمة خالدة ولازمنية، ام أنه ظاهرة إنسانية كباقي الظواهر لها نشأة وتاريخ؟ وبعبارة مختصرة: ما مصدر الحس الأخلاقي؟

معالجة الإشكال:

1-الحس الأخلاقي فطري مطبوع في الجبلة-روسو

في إطار فلسفة الأنوار ونزعتها الإنسية الرامية إلى جعل الإنسان الفرد مرجعا لكل القيم بما فيها القيم الأخلاقية، يندرج التصور الروسوي الذي يرجع الحس الأخلاقي إلى مبادئ فطرية خالدة مطبوعة في الجبلة. وقد عبر كانط عن فطرية الوعي الأخلاقي في قولته الشهيرة التي استلهم فيها روسو: “شيئان يملآن القلب إعجابا متجددا متزايدا: السماء المرصعة بالنجوم فوقي والقانون الأخلاقي بداخلي”
يقول روسو إذن بوجود مبدأ فطري للعدالة والفضيلة في أعماق النفس البشرية، تقوم عليه رغم مبادئنا الشخصية أحكامنا التي نصدرها على أفعالنا وأفعال الغير فنصفها بالخيرة أو الشريرة.
لا ينكر روسو بأن الأحكام الأخلاقية مكتسبة وخارجية المصدر، لكن الإحساس الذي بموجبه نقدر ونقوم هذه الأفكار يظل فطريا، ثم إن هذا الوعي الأخلاقي أحاسيس وجدانية وليس أحكاما عقلية، إذ لو انتظرت الأخلاق نشوء التفكير العقلي لهلكت البشرية!! ويتصل هذا الإحساس بغريزتين أو عاطفتين أصيلتين هما حب الذات التي يحفظ الفرد بقاءه؛ ثم الشفقة التي تتجه إلى حفظ النوع إذ تمنع المرء من إلحاق الأذى بالغير مجانا أو رؤية الكائنات الحاسة تتألم. وقد ظلت هاتان الغريزتان مرشدتا الإنسان الوحيدتين طيلة حالة الطبيعة استغنى بهما عن القوانين و الأخلاق والفضيلة.
إن الوعي أو الحس الأخلاقي ليس فطريا فحسب، بل خالد وأزلي وصائب على الدوام، ولذلك يخاطبه روسو قائلا: ” أيها الوعي ! أنت أيتها الغريزة الإلهية الخالدة، والمرشدة المضمونة لإنسان جاهل ومحدود النظر، أيتها الغريزة المعصومة في تمييزها بين الخير والشر”
ومن المنطقي أن يخلص روسو إلى فطرية الضمير الأخلاقي مادام ينظر إلى الإنسان ككائن طيب بالطبيعة شرير بالاجتماع الذي أفقده براءته و طيبوبته الأصليتين. ولكن ألا يسقط هذا التصور في اللاتاريخية من خلال تجاهله لنسبية الوعي الأخلاقي وللظروف التاريخية والعوامل الاجتماعية التي تقف وراء نشأة هذا الوعي؟ وهي العوامل التي تشدد عليها كل من المقاربتين الفرويدية والماركسية للوعي الأخلاقي.

2- نشوء الحس الأخلاقي وتاريخيته:

من الصعب القبول بفطرية الضمير الأخلاقي انطلاقا من التحليل الفرويدي، لأن الفطري هو “الهو” الذي يمثل الشكل الأصلي للجهاز النفسي كما يظهر عند الميلاد، وهو المادة الأولية للتمييزات اللاحقة. وهذا الهو يخضع فقط لمبدأ اللذة ويجهل تماما مبدأ الواجب الذي هو عنوان الضمير الأخلاقي. لذلك لا يمكننا الحديث عن ضمير أخلاقي قبل ظهور الأنا الأعلى التي ينتج عن اصطدام الأنا بالقيم والضوابط الأخلاقية للمحيط الاجتماعي.
وبنمو الوعي الأخلاقي يظهر الإحساس بالذنب وأشكال التوتر والقلق الذي تتولد في النفس نتيجة التعارض القائم بين متطلبات الأنا الأعلى وميولات الأنا المدفوع بالهو. كما أن الأشكال المرضية الدالة على قسوة الأنا الأعلى وسلطته كالسوداء والمازوشية والوسواس… هي أيضا مؤشرات على ضمير أخلاقي لكنه ضمير متضخم.
إذا كان فرويد يقدم مقاربة لنشوء الضمير الأخلاقي الفردي كانعكاس للوعي الأخلاقي للمجتمع، فإن الماركسية تفسر كيف ينشأ هذا الوعي على مستوى المجتمع نفسه. وبما أنه جزء من البنية الفوقية، فإنه لن يكون غير انعكاس للبنية التحتية أي لمستوى معين من تطور قوى الإنتاج، لذلك تحمل الأنظمة الأخلاقية بدون شك مدلولا طبقيا فتصبح جزءا من الأيديلوجية وظيفتها تبرير الهيمنة وتزييف الوعي الاجتماعي.
لكل مرحلة من مراحل التطور الاقتصادي نظريات أخلاقية مطابقة لها. وعلى سبيل المثال، فانطلاقا من اللحظة التي تطورت فيها الملكية الفردية للأشياء المنقولة صار لزاما على المجتمعات أن تعرف الأمر الأخلاقي القائل: ” لا تسرق” ولكن لا معنى لهذا الأمر في مجتمع تغيب عنه الملكية الخاصة كما في المشاعية البدائية ! كما يقول انجلز؛ كما أن أمرا باحترام الملكية الفكرية للأعمال الفنية لا معنى له إلا عندما تتحول الأعمال الفنية إلى سلع خاضعة لقوانين الإنتاج والتسويق.
على هذا الأساس يرفض انجلز كل رأي مزعوم يحاول فرض نظام أخلاقي دوغمائي كيفما كان باعتباره قانونا خالدا ، ثابتا ونهائيا يعلو على التاريخ.

المحور الثالث: الواجب والمجتمع

طرح الإشكال:
مادام المجتمع هو منبع الواجبات ومصدر القوة التي تصاحبها، فهل ينتج عن ذلك أن واجباتنا مقتصرة على أبناء مجتمعنا أو جماعتنا التي لقنتنا لائحة واجباتنا، و أن الواجبات نسبية ومحلية، أم أن الواجبات كونية و أننا ملزمون بواجبات تجاه الإنسانية جمعاء الحاضرة والمقبلة أي تجاه الأجيال القادمة بدورها ؟ ألا تتعارض واجباتنا والتزاماتنا تجاه جماعتنا ومجتمعنا مع واجباتنا والتزاماتنا تجاه الإنسانية

معالجة الإشكال:

1- الواجب صوت المجتمع

إذا كان الإنسانية قد مالت إلى تفسير القوة الآمرة الرهيبة لصوت الواجب الذي يتردد مجلجلا بداخل الفرد تفسيرا أسطوريا يربطه بكائنات علوية، فإن صوت الواجب والضمير عند دوركايم ليس شيئا آخر غير صوت المجتمع الذي هو كائن معنوي يتجاوز الأفراد ويؤثر فيهم ويحيى داخل ذواتهم، ويمارس عليهم نوعا من القهر والإكراه الخفي. إن المجتمع بهذا المعنى ، هو جزء لا يتجزأ من الذوات الفردية التي لا تستطيع أبدا الانفصال عنه؛ فهو الذي بث فيها تلك المشاعر والمعايير التي تمنح بالضرورة لقواعد السلوك الفردي صفة الإكراه المميزة للإلزام الأخلاقي كما تحدد لها واجباتها الأخلاقية، أي ما ينبغي عليها فعله وما يجب تجنبه. لكن إذا كان الواجب يرتبط بالمجتمع و بإكراهاته، فإنه بذلك يسقط في الانغلاق والنسبية؛ مادام أن لكل مجتمع خصوصيته الثقافية والحضارية التي تميزه عن باقي المجتمعات. كما أن الواجب في هذه الحالة من شأنه أن يؤدي نوع من الصدام الحضاري، والصراع الفكري والأخلاقي بين الأمم والشعوب. وهذا صحيح إلى حد ما، فالأمر الأخلاقي “لا تقتل!” غالبا ما يفقد صلاحيته إذا تعلق الأمر بفرد من خارج الجماعة التي لقنت للفرد هذا الأمر. وهناك ثقافات تجيز صراحة لأفرادها قتل أو استعباد أو التنكيل بمن لا ينتمون إلى الجماعة! ولذلك يقول داروين: “تعد الأفعال لدى المتوحشين وربما كذلك لدى الإنسان البدائي خيرة أو شريرة فقط إذا كانت تؤثر بوضوح في حسن حال القبيلة -وليس النوع البشري أو العضو الفرد في القبيلة. تتفق هذه النتيجة مع اعتقاد فحواه أن الحس الخلقي في منبته مشتق من الغرائز الاجتماعية، لأن كليهما يرتبط أولا وحصريا بالمجتمع”. وبالمثل فإن شعور المرء بالشفقة وبوجوب الإحسان للفقير يختلف حسبما إذا كان هذا الأخير من ذوي القربى أو من نفس المجتمع أو فردا في مجتمع مخالف لي في الملة أو العرق او اللغة. ولكن، وفي ظل مناخ العولمة الاقتصادية والثقافية وتحول الكوكب إلى قرية صغيرة بفضل ثورة وسائل الاتصال، وتوحد مصائر البشرية والكوكب… ألم يعد ملحا التشديد على الطابع الكوني للواجبات الأخلاقية وإخراجها من انغلاقها لتنفتح على القيم والواجبات الإنسانية حفظا لمصالح البشرية؟

2- واجباتنا نحو الإنسانية والكوكب والأجيال القادم

كيف يمكن أن نرتقي بالأخلاق إلى مستوى الكونية ونخرجها من انغلاقها لتنفتح على القيم والواجبات الإنسانية؟ لا يكاد هذا السؤال يطرح بالنسبة لأخلاق على الطراز الكانطي، فالواجبات بالتعريف كونية تتخذ الإنسانية موضوعا لها في شخص كل فرد على حدة. ولكن المطلب الكانطي يشكل في الحقيقة تحديا كبيرا لمفهوم الواجب نفسه، فهذا الأخير يحمل آثار أصله – أي المجتمع – ويتقوقع بالضرورة داخل حدوده. وإذا كان المجتمع وبعد جهد جهيد قد استطاع أن ينتزع من الفرد سلوكا غيريا نحو أبناء الجماعة كما يقول فرويد، فكيف له أن يطمع في مطالبته بسلوك غيري يشمل الإنسانية جمعاء !؟
ومع ذلك، يبدو أن كونية الواجبات لم تعد مجرد مطلب نظري في الفلسفة الأخلاقية، بل غدت ضرورة حيوية ملحة تشغل غير الفلاسفة بدورهم: فالتهديدات البيئية والاجتماعية والسياسية أصبحت تتجاوز حدود دولة أو مجتمع أو جيل، مما دفع جون راولز مثلا إلى أن يفرد لواجباتنا تجاه الأجيال القادمة حيزا داخل نظريته حول العدالة. يقول راولز: ” من البديهي أنه إذا كان على الأجيال القادمة أن تستفيد، فإن على الشركاء أن يتفقوا على مبدأ توفير يضمن لكل جيل أن يتلقى ما يستحق من سابقيه، كما أن عليه أن يلبي بطريقة منصفة متطلبات لاحقيه. ومن أجل تحقيق توفير عادل، يتعين على الشركاء أن يتساءلوا عن الكمية التي يقبلون بتوفيرها في كل مرحلة من مراحل النمو [لمصلحة الأجيال القادمة]”
هناك إذن واجب على أفراد الجيل الحالي يقتضي التوفير أي عدم الإسراف و استنزاف كل الموارد المتاحة جريا وراء مستويات من الرفاهية لا تعرف الحدود لأن من شأن ذلك أن يغامر بمستقبل الأجيال القادمة.
ثم إن الواجبات تجاه الإنسانية لا تقتصر على المحافظة على البيئة الطبيعية الكوكب التي هي ملك مشترك لسكانه ولأجياله، بل المحافظة أيضا على تراثه، وهذا ما تجلى في تعيين مواقع أثرية أو طبيعية كتراث إنساني من طرف اليونسكو.

Facebooktwitterredditmailby feather

الحق والعدالة – مجزوءة السياسة

المحور الأول: الحق بين الطبيعي والثقافي

طرح الإشكال:

ما الذي يشرعن ويبرر إعلان الحرية أو المساواة أو غيرها حقا من حقوق الإنسان؟ أيرتبط ذلك بإرادة المشرعين والقوانين الوضعية أم لأنها حقوق محايثة للطبيعة الإنسانية؟ وبعبارة أخرى، يمكن تأسيس وتأصيل الحق خارج كل ثقافة وتشريع ومواضعة أم أن الحق يظل نسبيا بنسبية القوانين الوضعية التي تجسده على أرض الواقع؟

معالجة الإشكال:

1- بحثا عن مرجعية كونية مؤسسة للحق: فكرة الحق الطبيعي

أ- تمهيد: لماذا تأسيس الحق على ما هو طبيعي؟
لقد لوحظ على الدوام أن الحق المستمد مما هو ثقافي يسري عليه ما يسري على الثقافة من تنوع واختلاف باختلاف المجتمعات والحقب التاريخية، مما دفع باسكال أن يكتب ذات مرة ساخرا: “يا لبؤس العدالة التي يحدها نهر ! أفكار صائبة هنا، خاطئة وراء جبال البرانس” هنا بالضبط تكمن الأهمية النظرية لمقولة الحق الطبيعي التي تؤصل للحق في الطبيعة وفي الطبيعة الإنسانية خاصة، بشكل مستقل عن الثقافة وإرادة المشرعين، لأن الطبيعة مرجع كوني و سابق منطقيا وزمنيا على المجتمع والثقافة..

ب- معلومات إضافية: ثلاث نماذج لفلسفات الحق الطبيعي:
قدم هوبز واحدة من أهم صياغات نظرية الحق الطبيعي في كتابه التنين، حيث عرَّفه بأنه الحرية التي لكل إنسان في أن يتصرف كما يشاء في إمكاناته الخاصة للمحافظة على طبيعته وحياته الخاصة، وأن يفعل كل ما يرتئيه نظره وعقله ناجعا لذلك. وعليه فالحق الطبيعي أو حق الطبيعة هو الحق في الحياة والحق في المحافظة عليها والحرية المطلقة في حماية الوجود البيولوجي والدفاع عنه.
ونجد عند جون لوك التعبير الأكثر وضوحا عن الأساس المنهجي العام لنظريات الحق الطبيعي إذ يقول:” حالة الطبيعية هي حالة الحرية الكاملة للناس في تنظيم أفعالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم … وهي أيضا حالة المساواة (…) إذ ليس هناك حقيقة أكثر بداهة من أن المخلوقات المنتمية إلى النوع والرتبة نفسها المتمتعة كلها بالمنافع نفسها التي تمنحها الطبيعة وباستخدام الملكات نفسها، يجب أيضا أن يتساوى بعضهم مع بعض”
أما روسو فيقول في كتابه “أصل التفاوت بين الناس”: ” إن التنازل عن الحياة أو الحرية وأيا كان الثمن هو إهانة للطبيعة والعقل، ولكن على افتراض إمكان التصرف الإنسان في حريته كما يتصرف في ماله، فإن الفرق يظل بينا جدا … أن الحرية، إذ هي هبة من الطبيعة وقد وهبت لهم بصفة كونهم بشرا، … وهكذا فمادام إنشاء العبودية يقتضي إكراه الطبيعة بالشدة والعنف، فقد وجب أيضا أن تغير الطبيعة لتأييد هذا الحق: والفقهاء الذين قضوا بكل وقار بأن ولد العبد يولد عبدا، كان معنى قضائهم هذا أن الإنسان لا يولد إنسانا”

ج- حقوق الإنسان الطبيعية أساس حقوقه المدنية:
تؤكد نظريات الحق الطبيعي على وجود حقوق أساسية محايثة لطبيعة الإنسان مثل الحياة والحرية والمساواة، بوصفها حقوقا سابقة على كل اجتماع أو مواضعة نسبية مشروطة ثقافيا أو تاريخيا، و لا يمكن تصور الإنسان كإنسان بدونها. ورغم ما نلاحظه من إختلاف بين منظري الحق الطبيعي في فهم الطبيعة الإنسانية وكذا حالة الطبيعة، إلا أنهم يتبعون نفس الإجراء المنهجي المتمثل في تجريد الإنسان من كل المحددات الثقافية والتاريخية من أجل استنباط حقوق محايثة لطبيعته؛ ثم إن هذا الإختلاف يتلاشى، لأن نظريات الحق الطبيعي تتحول في النهاية إلى نظرية للعقد الإجتماعي ذلك أن تأسيس الحق على ما هو طبيعي، لا يعني استبعاد الثقافة والاجتماع والتعاقد، فإذا كانت الطبيعة تعطي للحق مصدره ومشروعيته، فإن التعاقد هو الذي يضمن استمراريته. وواضح أن الإحالة على “الطبيعة” هنا لايعني سوى تأسيس الحق على مرجعية سابقة على كل مرجعية تاريخية: فالطبيعة سابقة على كل ثقافة وحضارة، على كل مجتمع ودولة، وبالتالي ، فهي مرجعية كلية مطلقة، ومن ثَمّ فالحقوق التي تتأسس عليها هي حقوق كلية مطلقة كذلك

2- الحق الوضعي: حق نسبي بنسبية مبادئه

رغم القوة النظرية والجاذبية التي تتمتع بها نظرية الحق الطبيعي، إلا أن البعض لا يرى في مرجعية الطبيعة سوى مفهوم إفتراضي يفتقد إلى الإجماع حول مضمونه: إذ يبدو أن البشر عرفوا على الدوام أشكالا من التنظيم مَهْما كانت بدائية بسيطة، مما يشكك في حالة الطبيعة المستخدمة كفرضية للإستنباط الحقوق الطبيعية؛ إضافة إلى صعوبة تحديد محتوى الطبيعة الإنسانية الذي تعرض في القرن العشرين للمراجعة سواء من طرف العلوم الإنسانية أو الفلسفة الوجودية. مما يجعل الإجماع حول مبادئ عقلانية كونية أمرا مستبعدا، لأن هذه المبادئ نفسها تتجاهل المحددات الثقافية النسبية. ألا ينبغي بالأحرى الحديث عن الحق في بعده النسبي الثقافي؟
تأسيسا على هذه الملاحظات، لاترى الوضعية القانونية في أطروحة الحق الطبيعي سوى إنشاءات ميتافيزيقية لاتحقق شروط العلمية كما تفهمها الإبستملوجيا الوضعية الملتزمة بأحكام الواقع (ماهو كائن) لابأحكام القيمة (ماينبغي أن يكون). وهكذا فالحق عند هانز كيلسن مثلا لايستمد قوته ومصدره إلا من القوانين التي تبلوره وتحتم العمل به، لأن القانون يقول الحق تبعا للإختيارات والأولويات بما يعكس خصوصية المجتمع وتطوره التاريخي وبما يترجم موازين القوى داخل البنية الإجتماعية وهي موازين ديناميكية متغيرة بتغير التشكيلات الإجتماعية. ومن وجهة نظر فقه القانون والدراسة العلمية، فلا وجود لحق أو عدالة خارج القانون الوضعي الذي يوفر قوة الإلزام الضرورية لتحويل الحق إلى واقع معيش مستعينا بالمؤسسات التنفيذية والقضائية.

معلومات إضافية (ملخص نص هانز كيلسن من كتابه نظرية خالصة في الحق):
تترتب عن هذه المقاربة نتيجتان: الأولى هي إستبعاد كل حديث عن الحق في بعده الأخلاقي المثالي المُعوِّل على الإلتزام الذاتي للفرد، والحرص على ألا يدعي النص القانوني صفة الإطلاقية بإشهاره للصفة الأخلاقية. فالقانون والأخلاق دائرتان منفصلتان. لأن القانون نسق تراتبي من القواعد التي تستمد قيمتها من هذا النسق لا من مرجعية متعالية مفارقة؛ تترتب عن ذلك عضويا نتيجة ثانية، وهي استحالة المفاضلة بين الأنظمة القانونية، لعدم وجود معيار أسمى يسمح بالمفاضلة: فقد يعتبر أحدهم النظام الليبرالي عادلا والشيوعي ظالما إعتمادا على معيار الحرية الفردية، في حين يغدو النظام الليبيرالي ظالما والشيوعي عادلا من منظور الأمان الإجتماعي ! ولكن مالسبيل للمفاضلة بين الحرية والأمان الإجتماعي؟ لاسبيل للمفاضلة حسب كيلسن إلا اعتمادا على معايير سيكلوجية ذاتية لاتحظى بأي إجماع، إذ يصعب الإجماع على معايير بديهية للعدل والكرامة والحق.
المصدر: الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة-الشعبة الأدبية-طبعة 1996 ص 192

3- خلاصة نقدية: إذا كانت العدالة هي المثل الأعلى للحق، فإنها لا تختزل إلى القوانين الوضعية

من منظور الوضعية القانونية، يصبح الحق وضعيا متجذرا في الثقافة بمحدداتها الإجتماعية والإقتصادية والتاريخية، غير مطلق بل نسبي بنسبية هذه المحددات. ولكن إلى أي حد يمكن المضي في المطابقة بين الحق والقانون الوضعي، أي بين المشروع والقانوني؟ يرى ليو ستراوس أن رفض فكرة الحق الطبيعي يعني أن كل حق فهو وضعي من صنع المشرعين ومحاكم مختلف البلدان، لكن وجود قوانين وقرارات جائرة كقوانين المستعمر والطغاة، يلزم عنه وجود معيار للعدل والظلم يستقل عن الحق الوضعي ويسمح بتقييمه. وقديما أعلن شيشرون أنه ما لم يقم الحق على الطبيعة فإن جميع الفضائل ستتلاشى، لأننا لانملك قاعدة غير الطبيعة لتمييز حَسَنِ القوانين عن قبيحها.
يتبين مما سبق أن الحق قيمة مركبة شأنها شأن باقي القيم الأساسية التي تحكم الفاعلية البشرية: فهو طبيعي وثقافي، كوني ونسبي في نفس الوقت. طبيعي كوني لأنه يمس الماهية الإنسانية، ويخاطب الإنسان بما هو إنسان؛ وثقافي نسبي لأن بتحوله من فكرة ومبدأ إلى واقع معيش يتجذر في القيم والمؤسسات والتاريخ الخاص بهذا المجتمع أو ذاك.

المحور الثاني: العدالة كأساس للحق

أنظر الفقرة السابقة وكذا المحور الموالي

المحور الثالث: العدالة بين المساواة والإنصاف

طرح الإشكال:

للعدالة عدة معان، يعرفها المعجم الفلسفي لجميل صليبا كالتالي:”المبدأ المثالي او الطبيعي او الوضعي الذي يحدد معنى الحق… وتنقسم إلى عدالة تبادلية قائمة على أساس المساواة؛ وعدالة توزيعية تتعلق بقسمة الأموال والكرامات بين الأفراد بحسب ما يستحقه كل واحد منهم” ونستخدمها هنا كمرادفة للحق، منظورا إليه من حيث تعلقه لا بالذات في فرديتها، بل في علاقتها بأقرانها داخل جماعة بشرية ما من حيث كونهم ذوات حقوقية متكافئة ومتماثلة. وبهذا المعنى ولذلك قيل بأن العدالة تهدف إلى خلق المساواة بين هذه الذوات، ولكن هل الجميع متساوون فعلا؟ إذا كانوا متساوين في الاعتبار القانوني فعل هم متساوون في المواهب والحهد المبذول؟ بعبارة أخرى هل يمكن للعدالة كمساواة أن تنصف جميع أفراده؟ وماذا نقصد بالإنصاف أولا؟

في الوقت الذي تهدف فيه المساواة إلى تحقيق التماثل والتكافؤ الرياضي بين الأفراد بغض النظر عن اختلافاتهم وتفاوتاتهم محاولة طمس هذه االتفاوتات أو تحييدها، فإن الإنصاف يهدف إلى إعطاء كل ذي حق حقه مراعيا بذلك مبدأ الاستحقاق، أي أنه يسعى إلى مكافأة التفاوتات من جهة ، أو الحد من الهوة التي قد تنتج عنها من جهة أخرى.

معالجة الإشكال:

1- العدالة كمساواة

إذا كانت أغلب الدساتير والإعلانات والنظم الأخلاقية المعاصرة تنص اليوم وبصراحة على المساواة الاعتبارية لجميع أفراد النوع الإنساني كحق طبيعي، فإن هذا الاعتراف الذي يبدو اليوم بديهيا، لم يكن كذلك في الماضي: إذ اعتبر المواطن أفضل من الأجنبي، والرجل أسمى من المرأة والأطفال، والسيد أرقى من العبد
ولذلك يقول الفيلسوف الفرنسي آلان Alain: “ما الحق؟ إنه المساواة (…) لقد ابتكر الحق ضد اللامساواة. والقوانين العادلة هي التي يكون الناس أمامها سواسية، نساءا كانوا أم رجالا أو أطفالا أو مرضى أو جهالا. أما أولئك الذين يقولون إن اللامساواة من طبيعة الأشياء، فهم يقولون قولا بئيسا”
وبعبارة أخرى، فجوهر العدالة يكمن في هذه الحالة في التماثل والمساواة بل في المساواة الرياضية A=B
ومن أمثلة ذلك: المساواة أمام القضاء، تكافؤ الحظوظ في نيل المناصب، الترشح والتصويت، المساواة بين الرجل والمرأة…
وليس من الغريب أن يستأثر مبدأ المساواة بجاذبية خاصة بحيث رفعته الكثير من الحركات النضالية كمطلب وأيديولوجيا تعبوية، ولكن المآل الفاشل لتجربة الأنظمة الاقتصادية الاشتراكية في إصرارها على تحقيق نوع من المساواة واللاطبقية، من خلال سياسة توحيد الأجور وتقزيم الملكية الخاصة لدرء الفورارق والتي أدت إلى إبطال حوافز الإنتاج والابتكار وإضعاف القدرة التنافسية… هذا الفشل يدعونا إلى التفكير مجددا في مدى ملاءمة المساواة كمثل أعلى للعدالة

2-العدالة كإنصاف

يتضح مما سبق أن فكرة المساواة تتضمن مبدءا عاما وبسيطا بساطة العلاقات الرياضية كما يرى إرنست بلوخ، ولكنها لا تنشغل بمدى قدرة الناس على الاستفادة الفعلية من مبدأ المساواة، وباحتمال أن ينتج عن تطبيق المساواة خلاف المقصود أي الظلم أو خراب النظام!

لذلك يرى جون راولز –بناءا على فرضية الوضعية الأصلية وحجاب الجهل – أن نظاما عادلا لابد يقوم على مبدأي المساواة واللامساواة معا: المساواة في الحقوق والواجبات الأساسية، واللامساوة الاجتماعية والاقتصادية، مثل اللامساواة في الثرورة والسلطة
بيد أن اللامساواة لا تكون عدلا وإنصافا إلا إذا استوفت شرطا وحققت غاية. فأما الشرط فهو استفادة الأقل حظا من ثمار هذه الثروة والسلطة، بواسطة مبدأ تكافؤ الفرص في لإمكانية جمع الثروة أو تبوأ المناصب كما يتجلى ذلك أيضا في دولة الرعاية من خلال تقديم خدمات ومساعدات اجتماعية للذين يعيشون الإقصاء على هامش نظام الرخاء لهذا السبب أو ذاك. وأما الغاية، فهي ضمان التعاون الإرادي والعمل المشترك من أجل الرخاء، ضمن ما يسميه راولز بالنظام المنصف للتعاون الاجتماعي.
نقول إذن أن الإنصاف – بخلاف المساواة- يهدف إلى مراعاة الفروق والتفاوتات وعدم طمسها أو تجاهلها إما بهدف مكافأة المجدين والمستحقين وتشجيع المنافسة، أو مساعدة الأقل حظا ونصيبا. وقد سبق لأرسطو في كتاب “الأخلاق إلى نيقوماخوس”، أن ذهب إلى “أن العدالة مساواة، ولكن فقط بين المتكافئين؛ واللامساواة عدالة ولكن بين غير المتكافئين”. ولكن ما مصدر عدم تكافئهما؟ أن الاستحقاق والتميز قد يدين بالفضل للانتماء الاجتماعي والرأسمال الرمزي أو المادي الذي يجد بعض المحظوظين أنفسهم مزودين به دون غيرهم وهم يخوضون غمار المنافسة مع الأنداد.
يختلف الإنصاف عن المساواة على مستوى آخر كما يختلف العام عن الخاص. يقول أرسطو: “تتجلى الطبيعة الخاصة للإنصاف في تصحيح القوانين كلما بدت هذه الأخيرة غير كافية بسبب عموميتها” ويدخل في هذا الإنصاف ما يسمى مثلا بــ “الاجتهاد القضائي” الذي يترك للقاضي في بعض الأحيان فرصة تكييف القوانين وفق ظروف النازلة ومستجدات العصر أو إعمال مبدأ الإنصاف عند سكوت النص القانوني؛ كما يدخل في باب الإنصاف أيضا “الميز الإيجابي” مثل تخصيص نسب مئوية من مقاعد المجالس النيابية للنساء، لأن تطبيق المساواة أظهر أن النساء ولأسباب سوسيوثقافية وتاريخية لا يستطعن أن يحرزن على أكثر من عشر المقاعد رغم أنهن يشكلن عدديا نصف المجتمع !
إذا كان الإنصاف فضيلة للمؤسسات لتجاوز عيوب المساواة، فإن الإحسان Charité هو تلك الفضيلة المطلوبة من الفرد عندما لاتفلح إجراءات المساواة والانصاف معا

Facebooktwitterredditmailby feather

العنف – مجزوءة السياسة

تمهيد لفهم إشكالات الدرس:
عن العنف: ننطلق في هذا الملخص من تعريف العنف كما وردفي”المعجم الفلسفي” لــ “جميل صليبا”: “كل فعل يخالف طبيعة الشيء، ويكون مفروضاً عليه، من خارج فهو، بمعنى ما، فعل عنيف. والعنيف هو أيضاً القوي الذي تشتد صورته بازدياد الموانع التي تعترض سبيله كالريح العاصفة، والثورة الجارفة”

المحور الأول: أشكال العنف

طرح الإشكال:
هل تقتصر أشكال العنف على العنف المادي الفيزيائي العضلي كما يظهر للوهلة الأولى أم تشمل أيضا أشكالا من العنف الخفي الرمزي و اللطيف؟ ولكن كيف للعنف أن يكون خفيا لطيفا دون أن يفقد صفته كعنف والحال أن سمة العنف هو القوة التي تكسر كل مقاومة !؟ هل العنف محتاج للتخفي والتنكر ؟

1- العنف المادي: عنف على منوال الطبيعة ولكنه يتجاوزها

لا تعرف الطبيعة غير العنف المادي، وحيث أن الإنسان كائن طبيعي بدوره، ذو جسم وعضلات، فإن أحد أشكال العنف التي يمكن تصورها هي اصطدام هذه الأجسام والعضلات بهدف كبح حركة بعضها البعض أو إلحاق الأذى بها. يقول فرويد: ” كانت القوة العضلية الأكثر تفوقا هي التي تقرر من يملك الأشياء ومن تسود إرادته، وسرعان ما أضيف إلى القوة العضلية واستعيض عنها باستخدام الأدوات: فالفائز هو من يملك الأسلحة الأفضل أو يستخدمها بالطريقة الأمهر. ومن اللحظة التي أدخلت فيها الأسلحة بدأ التفوق العقلي يحل محل القوة العضلية”. لقد أصبحت الأدوات وهي استمرار لأعضاء الجسم أدوات العنف المادي الفعال بلا منازع، وقد ساهمت التكنولوجيا كما يقول إيف ميشو YVES MICHAUD في تطوير وسائل هذا العنف المادي مستفيدا من تحول هذه الوسائل إلى سلع تخضع ككل سلعة إلى مبدأ الربح في إنتاجها وتبادلها، وهكذا عملت التجارة الدولية للأسلحة على نشر وسائل العنف وجعله أكثر تخريبا وفتكا، وفي متناول كل الأفراد والجماعات. كما ساهم التقدم التقني في تطوير الآلات والأسلحة المستخدمة في العنف، مما جعل هذا الأخير مختلفا عما كان عليه في السابق، سواء من الناحية الكمية أو من الناحية الكيفية والنوعية.
بيد أن العنف المادي ومهما بلغ جبروت وسائله يظل عنفا مكلفا للطرفين لأنه يستدعي مقاومة متناسبة مع القوة الأولية وفق مبدأ الفعل ورد الفعل في الفيزياء. مما يضطر العنف إلى التخفي لتكون نتائجه أبلغ تأثيرا وأقل تكلفة خصوصا إذا ضمن تواطؤ الضحايا: إنه عنف يخفي عنفه ! مما يفسر تخلي الدول الاستعمارية مثلا عن الغزو العسكري لصالح غزو ثقافي أكثر تأثيرا وأقل انكشافا.

2-العنف الرمزي: عنف يتخفى ليضمن تواطؤ الضحايا

يتحدث بيير بورديو عن العنف الرمزي الذي هو عنف غير فيزيائي، يتم أساسا عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة و الإيديولوجيا، وهو شكل لطيف وغير محسوس من العنف، و غير مرئي حتى بالنسبة لضحاياهم أنفسهم. وينتقد بورديو الفكر الماركسي الذي لم يول اهتماما كبيرا للأشكال المختلفة للعنف الرمزي، مهتما أكثرا بأشكال العنف المادي والاقتصادي. كما أشار بورديو إلى أن العنف الرمزي يمارس تأثيره حتى في المجال الاقتصادي نفسه، فالسلع المعلن عنها عبر الإشهار في وسائل الإعلام أو المعروضة في واجهات المتاجر بقدر ما تؤجج الرغبة، بقدر ما تمارس عنفا اقتصاديا وإنهاكا مستمرا للقدرة الشرائية العاجزة أصلا.
إن العنف الرمزي يمارس على الفاعلين الاجتماعيين بموافقتهم وتواطئهم. ولذلك فهم غالبا ما لا يعترفون به كعنف؛ بحيث أنهم يستدمجونه كبديهيات أو مسلمات من خلال وسائل التربية والتنشئة الاجتماعية وأشكال التواصل داخل المجتمع. وعلى سبيل المثال، فالعنف يتسلل حتى إلى قلب العلاقات العاطفية بين الجنسين، إذ يرى عالم الاجتماع الأنجلييزي غيدنز أن المرأة كانت في الماضي بمنزلة أحد المنقولات في حيازة الرجل ومن ثم عوملت بالعنف الذي تقتضيه هذه الحيازة، غير أن الاحترام والحب يمكن أن يكون أيضا صورة من صور الهيمنة الأقوى أكثر من استخدام القوة المجردة. فلقد عوملت المرأة الفاضلة بروح المودة والتصديق والتقدير لتستمر في إلزام نفسها بالفضيلة والعفة في المجتمع الأبوي!
ومن هذه الزاوية يمكن، حسب بورديو فهم الأساس الحقيقي الذي تستند إليه السلطة السياسية في بسط سيطرتها وهيمنتها؛ فهي تستغل بذكاء التقنيات والآليات التي يمرر من خلالها العنف الرمزي، والتي تسهل عليها تحقيق أهدافها بأقل تكلفة وبفعالية أكثر، خصوصا وأن هناك توافقا بين البنيات الموضوعية السائدة على أرض الواقع وبين البنيات الذهنية الحاصلة على مستوى الفكر.
وفي سعيه الدؤوب إلى إخفاء نفسه كعنف، قد يتخد أيضا شكل عنف طقوسي أو مقدس، عندما يصبح جزءا من طقوس أو شعائر دينية: صحيح أن القرابين تقتصر اليوم على الأضاحي الحيوانية لكنها كانت في ما مضى قرابين بشرية. فياله من عنف يواري باتخاده شكل التقوى والقربات للآلهة !

المحور الثاني: العنف في التاريخ

طرح الإشكال:
كان قتل قابيل لهابيل أول حدث يقصه علينا القرآن الكريم و يكسر حالة اللاحدث التي أعقبت نزول سيدنا آدم إلى الأرض، ليكون بذلك أول حدث عرفه تاريخ الإنسانية. ما دلالة أن يستفتتح التاريخ الإنساني بحادثة قتل وعنف؟ هل كان العنف مجرد فاتحة للتاريخ كما توحي بذلك هذه الواقعة؟ أم أنه استمر ملازما للصيرورة التاريخية؟ وكيف للعنف أن يضطلع بدور في التاريخ رغم أنه خراب وهدم وإفناء ؟
هل العنف مجرد ظاهرة عابرة و نتيجة لأسباب محددة كما تذهب إلى ذلك الماركسية حين أرجعت أصل العنف إلى التفاوت الطبقي ؟ أم أنه على العكس من ذلك عنف مؤسس و محايث للتاريخ الإنساني؟

1-العنف المؤسس و المدشن للتاريخ: طوماس هوبز، فرويد

ماذا نقصد بكون العنف مؤسسا و مدشنا للتاريخ؟ نقصد بذلك أن ما هو إنساني، ما يميز الإنسان عن الحيوان من قبيل المؤسسات والأخلاق والتقديس… لا يظهر إلا عقب العنف وبفضله.
أسوة بباقي منظري العقد الاجتماعي، يتصور هوبز أن الإنسانية مرت بحالة الطبيعة قبل ولوجها حالة الاجتماع. ولما كان العدوان والحذر والتنافس غالبا على طبيعة الإنسان لدرجة تجعل منه ذئبا لأخيه الإنسان، فإن حالة الطبيعة المذكورة، وفي غياب سلطة عليا، تتحول إلى حالة حرب الكل ضد الكل، أي حالة من العنف المعمم الذي يحيل حياة الإنسان إلى حياة حيوانية بئيسة لا ينعم فيه أحد بالأمن والأمان مهما بلغت قوته، وحتى في الحالة التي يهدأ في الاقتتال ظاهريا فإنه يظل مخيما على شكل إرادة صراع واضحة ومؤكدة، مثل سحابة كثيفة مخيمة تنذر بالعاصفة والمطر.
في مثل هذه الأحوال ولد الاجتماع و الدولة كخيار قسري للخروج من حالة العنف المعمم، فيكون العنف بذلك مؤسسا للتاريخ إذا افترضنا أن هذا الأخير لا يبدأ إلا مع الاجتماع و المؤسسات والدولة.
إن العنف لا يدشن التاريخ السياسي فحسب كما رأينا مع هوبز، بل التاريخ الأخلاقي والديني أيضا: يخبرنا فرويد في كتابيه: “الطوطم والطابو” و ” موسى والتوحيد” بأن قتل الأب هي الواقعة التي تؤرخ لبداية المؤسسات وحظر المحارم وقواعد التحريم بصفة عامة: لقد كان هذا الأب ذكرا قويا، أبا للعشيرة مستحوذا على نسائها، مقصيا باقي الذكور من أبنائه، الذين لم يجدوا أمامهم من حل سوى الاتحاد لقتله و “أكله”. ولكن مشاعر الذنب التي أعقبت قتله ومشاعر الخوف من عودته وانتقامه، دفعتهم إلى تحويله إلى طوطم أي تمثال أو رمز للعبادة، كما حرموا على أنفسهم القتل و التشبه بالأب في الاستحواذ الجنسي على الأم وبناتها أي حظر المحارم… وهي على الجملة عماد الحياة الأخلاقية والدينية.
هكذا يبتبدى العنف كحدث مؤسس للتاريخ، كظاهرة قبل-تاريخية، تسبق التاريخ وتفتتحه، ولكن ألا يمكن للسيرورة التاريخية نفسها أن تفرز العنف أثناء نموها ؟

2- العنف كظاهرة عابرة في التاريخ: الماركسية

خلافا لهوبز و فرويد، فالعنف لم يظهر حسب ماركس إلا كنتيجة للانقسام الطبقي الذي أعقب المشاعة البدائية، وبعبارة أخرى فالصراع الطبقي هو المولد لظاهرة العنف في التاريخ. يقول ماركس: ” لم يكن تاريخ أي مجتمع لحد الآن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات، لقد كان المضطهدون والمضطهدون في حالة تعارض ومواجهة وأقاموا بينهم حروبا لا تتوقف تنتهي بتغيير المجتمع برمته أو هلاك الطبقتين المتصارعتين معا”
وفي مسرح الصراع هذا، تغير المتصارعان المتواجهان و لكن الصراع ظل قائما: نجد في المجتمع الروماني القديم طبقتين متمايزتين: هما السادة والفرسان من جهة والأقنان والعبيد من جهة أخرى. كما نجد في القرون الوسطى السادة والشرفاء من جهة، والأقنان والحرفيون العاديون من جهة أخرى؛ وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث، نجد البورجوازية (الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج) في مقابل البروليتاريا. ولن يتسنى إلغاء هذا الصراع العنيف إلا بإلغاء أسبابه ودواعيه وهي الطبقية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، عندها سيحل استغلال الإنسان للطبيعة محل استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. ولكن ألن تصبح هذه الأخيرة موضوعا و ضحية للعنف بدورها !؟
بين ماركس إذن أن العنف مجرد ظاهرة تاريخية ناتجة عن الصراع الطبقي الذي هو المحرك الأول لعجلة التاريخ، والمسؤول عن الصيرورة التاريخية والعامل الحاسم في الانتقال من نمط إنتاجي لآخر لدرجة أن انجلز يشبه الصراع بالمرأة القابلة التي تستطيع توليد مجتمع ولو كان هرما La violence est l’ accoucheuse de toute vielle societé! وهذا ما دفع بالماركسيين إلى شرعنة ما يسمى بــ “العنف الثوري” أي تلك الأشكال من العنف التي تستهدف تقويض النظام وبث الفوضى في أوصاله وتخريب بنيته التحتية و منشئاته للتعجيل بزواله عندما تعجز الآليات الديمقراطية عن تحقيق الانتقال المنشود.

المحور الثالث: العنف والمشروعية

ترتد إشكالية العنف والمشروعية في نهاية التحليل إلى إشكالية الدولة بين الحق والعنف التي سبق أن عالجناها في المحور الثالث من درس الدولة، وذلك لأن مشروعية العنف أو عدم مشروعيته تتحدد دائما بالقياس إلى قوانين أو مؤسسات قائمة أو مبادئ أخلاقية،
ثم أي عنف هذا الذي نبحث في مشروعيته؟ هل هو عنف الأفراد ضد بعضهم البعض؟ كلا. فهذا العنف يفقد مبرره ومشروعيته منذ اللحظة التي يظهر فيها المجتمع. وحيث أن الدولة هي الطرف الوحيد التي بات يحتكر اليوم إستعمال العنف، فإن العنف الذي نتحدث عن مشروعيته إما أن يكون عنفا صادرا عن الدولة وأجهزتها تجاه مواطنيها أو بين الدول ضد بعضها البعض، ولايمكن أن يكون عنفا صادرا من الفرد اللهم إلا إذا كان موجها ضد الدولة نفسها، ينازعها السيادة أو السلطان. وبناءا عليه يمكن الرجوع إلى محور الدولة بين الحق والعنف من أجل تبين هذه العلاقة الملتبسة القائمة بين العنف والمشروعية

ملحق: اللاعنف عند غاندي كرفض مطلق للعنف:

اكتفت المواقف التي أتينا على ذكرها بالبحث في أشكال العنف أو دوره في التاريخ، في حين أن غاندي يرفضه جملة وتفصيلا وبشكل مطلق وراديكالي مهما كان شكله أو غايته!
يعرف غاندي اللاعنف كموقف كوني تجاه الحياة، إنه “الغياب التام لنية الإساءة تجاه كل ما يحيا” بمعنى أن اللاعنف مثله مثل العنف لا يقع على مستوى الفعل فقط بل والنية أيضا. ولكن كيف نتعامل مع العنيفين والمستبدين و الظلمة؟ يجيب غاندي: عن طريقة المقاومة الأخلاقية والذهنية، أي رفض العنف والامتناع عن ممارسته بالفعل أو بالنية مهما كانت الغايات والأهداف. فمواجهتي لسيف المستبد كما يرى غاندي لا تكون باستلال سيف أكثر مضاءا وحدة يفله، بل بأن أخيب أمله في أن يراني أواجهه بمقاومة مادية، فهو سيراني بدلا من ذلك أواجهه بمقاومة روحية تفلت من تقديره وتحكمه.
يذكرنا موقف غاندي بموقف المسيح عليه السلام الذي ينصح الإنسان بأن يدير خده الأيمن لمن يلطمه على خده الأيسر !، ولكن ما هي فعالية مثل هذا الموقف في عالم يبتكر يوما بعد يوم أسئلة أكثر فتكا وأشد تنكيلا !؟

Facebooktwitterredditmailby feather

الدولة – مجزوءة السياسة

المحور الأول: مشروعية الدولة وغاياتها

طرح الإشكال:

السلطة ظاهرة محايثة للاجتماع البشري. ومادامت السلطة تقتضي الامتثال والخضوع، فإنها تحتاج دوما إلى تبرير وشرعنة، بما في ذلك سلطة الأب على أبنائه! هكذا يجد كل ذي سلطة نفسه مطالبا دائما بتبرير سلطته، وعندما تتخذ السلطة شكل دولة، فإنها تواجه بدورها سؤال التبرير والمشروعية:
لماذا الدولة؟ وما غايتها؟ ما علاقتها بالأفراد المكونين لها؟ هل تستمد الدولة من الفرد مبدأ وجودها أم أن الفرد هو الذي يستمد من الدولة مبدأ وكمال وجوده؟ هل الدولة في خدمة الفرد أم الفرد في خدمة الدولة؟

معالجة الإشكال:

1- موقف التصور التعاقدي والمذهب الفرداني: الفرد غاية الدولة
للبحث في مشروعية الدولة وتعيين غاياتها يلجأ التصور التعاقدي إلى البحث أولا في منشئها، انطلاقا من فرضية حالة الطبيعة. يقول لوك: ” لكي نفهم السلطة السياسية فهما صحيحا ونستنتجها من أصلها ينبغي أن نتحرى الحالة الطبيعية التي وجد عايها جميع الأفراد” هنا تظهر الدولة كمجرد اتحاد بين أفراد يتمتعون بحقوق طبيعية سابقة زمنيا على ظهور الدولة رغبوا لهذا السبب أو ذاك في تيسير العيش المشترك، وأولى حقوقهم هي إرادتهم التي جسدوها في هذا العقد. ينتج عن ذلك أن لا حقيقة ولا وجود للدولة قبل الفرد، الفرد مقدم و سابق عليها، منه تستمد مبرر وجودها ومن ضمان مصالحه تشتق غاياتها. ولذلك يقترن التصور التعاقدي أحيانا بالمذهب الفردي وأحيانا أخرى بالليبرالية
ماذا ينتظر من الدولة؟ وما غاياتها؟
يميز جون لوك بين الخيرات المدنية والخيرات الدينية أو نجاة الأرواح. وتتمثل الأولى في خيرات ذاتية كالحياة والحرية وسلامة البدن وخيرات خارجية كالأرض والنقود وما سواها من الممتلكات، أما الخيرات الدينية فهي تقوى النفس ونجاتها من الضلال والشقاء الأبدي في الآخرة. و اختصاص الدولة بوصفها سلطة مدنية يقتصر على حماية الخيرات المدنية أما ترامي سلطانها إلى الخيرات الدينية فلن ينجم عنه سوى الحرب وتقويض السلم المدني

2- موقف التصورات الكليانية: الدولة غاية ذاتها
بيد أن تقديم الفرد على الدولة – كما رأينا مع التصور التعاقدي والليبرالي- لا يعني عند بعض الفلاسفة سوى خراب هذه الأخيرة! إذ كيف يعقل أن يستمد مبدأ الكل من الجزء والدائم من العرضي؟
تتمثل غاية الدولة عند أفلاطون في تحقيق السعادة، لا بوصفها سعادة الفرد، بل بوصفها نظام وانسجام الكل: وعليه لا يعدو الأفراد عن كونهم مجرد لوالب في جوف هذه الآلة الضخمة المسماة دولة، يقومون بمهام تتناسب وطبائعهم التي ولدووا بها، ينتجون وينجبون ويحاربون من أجل الدولة. فلا قيمة لرغباتهم أو مسراتهم أو أحزانهم أو عواطفهم إلا بما يحقق لهذه الأخيرة النظام والانسجام.
وفي العصر الحديث، يرفض “هيجل” بدوره التصور التعاقدي السابق لكونه يجعل غاية الدولة “خارجية ” عندما يحصرها في تحقيق السلم والحرية وحماية ممتلكات الأفراد. فالدولة بهذا المعنى ستكون مجرد وسيلة لتحقيق أهداف خارجة عنها، أهداف يعتبرها “هيجل” خاصة بالمجتمع المدني، كمجال لإشباع حاجيات الأفراد اليومية والانتاج الاقتصادي وللتنافس بينهم في ظل تعارض مصالحهم الخاصة، في حين أن الدولة تمثل غاية في ذاتها بوصفها تجسيدا للمطلق. و ككيان ينتزع الفرد من الخصوصية والأنانية ليسمو به إلى مستوى الكونية ويحقق اكتماله الأخلاقي، وذلك لأنها هي الجوهر الأخلاقي وقد وصل إلى الوعي بذاته.
نخلص إلى أن هيغل يقدم الدولة على الفرد ويجعلها سابقة على الأسرة والمجتمع المدني نفسيهما لأن فكرتها محتوية لهذين العنصرين معا: ففي حضن الدولة فقط تستطيع الأسرة أن تتحول إلى مجتمع مدني.
ويبدو أن الماركسية لم ترث عن الهيغيلية منهجها الدياليكتيكي فحسب، بل تصورها الكلياني للدولة بإسم أولوية الجماعة على الفرد، وانتهت إلى صهر هذا الأخير وإلغائه لصالح الدولة وأجهزتها البيروقراطية والبوليسية: لقد غدت الدولة فعلا غاية في ذاتها وهذا ما تجلى واضحا في بعض الأشكال الواقعية للدولة في الكثير من البلدان الاشتراكية ودول العالم الثالث

المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية

طرح الإشكال:
وفق أي منطق وبموجب أي مبدأ تمارس السلطة السياسية؟ هل يمكن أن تنضبط هذه السلطة للمبادىء الأخلاقية، أم أن منطق العمل السياسي وإكراهاته يتعارض كليا مع منطق الأخلاق وإلزاماتها وقيودها، على أساس أن السياسة مجال الممكن، والأخلاق مملكة الواجب؟ ماهي غاية الفعل السياسي؟ الفضيلة أم الفعالية ؟

معالجة الإشكال:

1- التصور الأخلاقي لطبيعة السلطة السياسية: السياسة رفق واعتدال
بتأثير من أرسطو، وإلى حدود الفلسفة الحديثة، سيطرت على الفلسفة السياسية مقولة الاعتدال ضمن تصور يعتقد في وحدة الأخلاق والسياسة على أساس أن السياسة هي المجال الأوسع للممارسة الأخلاقية وأنها كمال الفلسفة العملية بوصفها تدبيرا للمدينة يتوج تدبير النفس و تدبير للمنزل معا. وقد عبر عن ذلك أستاذه أفلاطون حينما تمنى أن يكون الحاكم فيلسوفا أو أن يصير الفلاسفة حكاما ليحصل الجمع بين السلطة والحقيقة، مادام الفلاسفة على حد تعبير أفلاطون هم أصدقاء وحلفاء الحقيقة والعدالة والشجاعة والعفاف، أصحاب العقول المولعة دائما بالعلم الذي يتناول الدولة بكاملها ليقيم تنظيمها الداخلي على أفضل وجه ممكن مستلهما قوانين الجمال والخير والعدل
في إطار هذا التصور الأخلاقي للمجال السياسي وللسلطة السياسية، يوصي ابن خلدون أن تكون العلاقة بين السلطان والرعية مبنية على الرفق في التعامل: فقهر السلطان للناس وبطشه بهم يؤدي إلى إفساد أخلاقهم، بحيث يعاملونه بالكذب والمكر والخذلان، أما إذا كان رفيقا بهم ، فإنهم يطمئنون إليه ويكنون له كل المحبة والاحترام، ويكونون عونا له أوقات الحروب والمحن.
كما يتوجب عليه التحلي بالاعتدال الذي هو الوسط بين الذكاء بما هو إفراط في الفكر والبلادة بما هي إفراط في الجمود مثلما أن الكرم وسط بين التبذير والبخل، والشجاعة وسط بين التهور والجبن من جهة أخرى.
← هكذا فإن ابن خلدون يحدد طبيعة السلطة السياسية في التشبث بمكارم الأخلاق المتمثلة أساسا في الرفق والاعتدال. ولكن إلى أي حد تستطيع الأخلاق أن تنسجم وطبيعة السلطة السياسية في الممارسة العملية؟

2- التصور البراغماتي الواقعي لطبيعة السلطة السياسية:
أحدث كتاب “الأمير” قطيعة مع الفلسفة السياسية السابقة ذات المنحى الطوباوي المثالي، فلم يعد السؤال عند ميكيافيلي هو “كيف تمارس السلطة وفق المبادئ الأخلاقية أو الدينية؟” ، بل السؤال هو: “كيف يمكن الحصول على السلطة والمحافظة عليها؟” لذلك ينصح ميكيافليي الأمير باستخدام طريقتين من أجل تثبيت سلطته السياسية: الأولى تعتمد القوانين ولكنها غير موفية بأغراض الحكم، أما الثانية فتعتمد على القوة والبطش، جنبا إلى جنب مع المكر و الدهاء. وإذا استخدمنا استعارة لا تخلو من دلالة من مملكة الحيوان، فعلى الأمير أن يكون أسدا قويا لكي يرهب الذئاب، وأن يكون ثعلبا ماكرا لكي لا يقع في الفخاخ.
وقد تبين من شواهد التاريخ حسب ميكيافلي أن هناك أمراء أصبحوا عظماء دون أن يلتزموا بالمبادئ الأخلاقية السامية، كالمحافظة على العهود مثلا، بل قد استخدموا كل وسائل القوة والخداع للسيطرة على الناس والتغلب على خصومهم.
يعترف ميكيافيلي بأن مبادئ السلطة السياسية التي يبشر بها ستكون شريرة، ولكن في حالة واحدة وهي تلك التي يكون فيها جميع الناس أخيارا ! والواقع أنهم ليسوا كذلك، ومن ثم لا يلزم أن ينضبط الأمير للمبادىء الأخلاقية في تعامله معهم، بل لا بد أن تكون له القدرة الكافية على التمويه والخداع، وسيجد من الناس من ينخدع بسهولة. وقد صور شكسبير بشكل رائع سهولة انخداع العامة في مسرحية “يوليوس قيصر” حيث تناوب الخطيبان بروتوس وأنطونيوس على تجييش مشاعر العامة لصالحه رغم أن أولهما قاتل قيصر والثاني صديقه المنادي بالثأر له !!
هكذا يتبين أن السياسة، مع ماكيافيلي، تنبني على القوة والمكر والخداع.

المحور الثالث: الدولة بين الحق والعنف

طرح الإشكال:
يمثل العنف العدو المعلن لكل دولة. فما من دولة في الماضي أو الحاضر إلا ورفعت شعار استتباب الأمن والنظام والعدالة والحق ، وبعبارة أخرى محاصرة نواتج العنف من رعب وفوضى وظلم ، ولكن هل يمكن للدولة أن تحاصر العنف وتواجهه إلا بعنف مضاد أشد هولا ؟ وفي هذه الحالة كيف نضمن مشروعية هذا العنف وقد غدت الدولة خصما وحكما في نفس الوقت ؟

معالجة الإشكال:

1- الدولة واحتكار الاستعمال المشروع للعنف
من المفيد في البداية أن نرفع بعض اللبس: لا تمثل الدولة المصدر الوحيد للعنف، فالمجتمع ينتج ويفرز بدوره عنفه الخاص، سواء تعلق الأمر بالعنف المعزول للأفراد كالمجرمين أو عنف الجماعات ضد بعضها البعض بسبب الطابع الانقسامي للمجمتع ( انقسامه إلى طبقات اقتصادية، أحزاب سياسية، إثنيات، مشجعي الفرق الرياضية…)
ورغم أن الدولة تعلن العنف عدوها اللدود، فإنها لا تستطيع مع ذلك مواجهته إلا بمثله أي بعنف مضاد، ولذلك لم يجد ماكس فيبر من خاصية يعرف بها الدولة غير هذه الخاصية: “احتكار الاستعمال المشروع للعنف”. صحيح أن العنف ليس الوسيلة الوحيدة للدولة لكنه وسيلتها الخاصة بحيث تقوم بينها وبينه علاقة حميمة، خصوصا بالنسبة للدولة المعاصرة التي خلقت لنفسها طبقة بيروقراطية ينفصل فيها المنصب عن الموظف الذي يسميه فيبر “خادم الدولة الحديثة”، فغدت الدولة من حيث هي أجهزة متمايزة عن المجتمع، مما اقتضى تجريد جميع أفراد المجتمع وهيئاته من حق استخدام العنف: وهكذا لم يعد هناك سيد ليجلد عبده أو إقطاعي يعاقب أقنانه، أو زوج ليضرب زوجته وأبناءه، وتزامن كل ذلك مع نزع الطابع العنيف عن العقوبات القضائية الماسة بالسلامة الجسدية والاكتفاء بتلك العقوبات السالبة للحرية.

2- الدولة والعنف: علاقات ملتبسة
لا مراء في أن الدولة المعاصرة تدعي لنفسها قانونيا احتكار الاستعمال المشروع للعنف، ولا يوجد اعتراض على مبدأ الاحتكار في حد ذاته، بيد أن ممارستها لهذا الشيء المحتكر لا تخلو واقعيا من مفارقات حتى في أكثر الدول ديموقراطية.
تتعلق المفارقة الأولى بثنائية الشرعية والمشروعية: من اليسير على الدولة أن تثبت أن العنف الممارس ضد فرد أو جماعة كان شرعيا محتجة بحفظ النظام أو استباق المخاطر… ولكن هل كان عنفا مشروعا؟ بل هل كان ضروريا؟ وفي هذه الحالة، هل مورس ضمن الحدود التي لا تتعارض فيها مع حقوق الإنسان وكرامته؟
تقحمنا هذه الأسئلة في قلب المفارقة الثانية المتعلقة بكمية العنف اللازم لمواجهة عنف الأفراد والجماعات: كيف يمكن تقدير كمية العنف لوقف عنف مشجعي فريق رياضي غاضبين؟ هل يحتاج الأمر إلى عنف أكبر من عنفهم أم أقل منه أو مساو له ؟ تلك هي الأسئلة التي تواجه السلطة القضائية باستمرار.
ومن جهة أخرى، وبسبب احتكارها وتكديسها لوسائل وتقنيات العنف المعززة بتكنلوجيا تزداد تطورا يوما بعد يوم، تتحول الدولة إلى نوع من الليفياتان/التنين، إلى عنف بدون حق خصوصا في غياب إمكانية اللجوء إلى قاض ضمن فصل واضح للسلطات.
وأخيرا فإن احتكار الدولة للعنف المشروع لا يكتسي كامل معناه عند فيبر إلا من واقعة استقلالها عن المجتمع وتناقضاته، ولكن ما حقيقة استقلال الدولة عن المجتمع وحيادها؟ هل تقتصر وظيفتها على التنظيم والتدبير المحايدين والمستقلين عما يعرفه المجتمع من نزعات وانقسامات وتناقضات؟
تشكك الماركسية في هذه الاستقلالية المزعومة، لتخلص أن العنف المحتكر من قبل الدولة لن يكون مشروعا أبدا في ظل مجتمع منقسم طبقيا. ذلك إن تناقض المصالح الطبقية وما ينجم عنه من صراع يهدد بتيديد المجتمع قد فرض الحاجة إلى الدولة كسلطة عليا تضع نفسها ظاهريا فوق المجتمع لتقلل من حدة الصراع وتبقيه ضمن حدود النظام أي فرملة التناقضات القائمة بين طبقات المجتمع. غير أن الدولة وقد تولدت في قلب الصراع، فلن تكون سوى دولة الطبقة المسيطرة اقتصاديا وأداة أخرى من أدوات تيسير مهمة الاستغلال بالوسائل العنيفة ان اقتضى الأمر. إنها عنف طبقة ضد أخرى

Facebooktwitterredditmailby feather

علمية العلوم الإنسانية- مجزوءة المعرفة

بين يدي الإشكال: مقدمة لابد منها- العلوم الإنسانية بين الفلسفة والعلوم الحقة:

هذه بعض الأبجديات التي سنستخدمها مرارا في الدرس، فوجب استيعابها منذ البداية
صحيح أن العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع أو علم النفس أو الانثربلوجيا أو الاقتصاد، حديثة النشأة في القرن التاسع عشر، بيد أن الدراسات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية قد وجدت دوما مبثوثة في ثنايا المصنفات الفلسفية؛ بل إننا إذا تأملنا علما إنسانيا خاصا هو علم التاريخ نجده علما عريقا عراقة علم الرياضيات نفسه. ولكننا نلاحظ أيضا أن علم التاريخ نفسه ورغم عراقته لم يطرح وجوده أية إشكالية منهجية أو ابستملوجية إلا منذ القرن الثامن عشر. لماذا؟
لقد تزامن ذلك مع الميلاد الحديث للعلوم التجريبية التي قدمت نموذجا باهرا للعلمية سواء من حيث دقة المناهج والنتائج أو نجاعتها لما وفرته من قدرة على التحكم في الظواهر الطبيعية، ولن يكف هذا النموذج عن ممارسة تأثيره وجاذبيته منذ ذلك الوقت.
هكذا سيكون وجود العلوم الإنسانية موسوما منذ البداية بالتوتر بين قطبين، موجودان أصلا في الاسم نفسه “علوم / إنسانية

  • -“علوم” يحيل هذا المكون بشكل لا مفر منه على العلوم التجريبية التي تمثل كما أسلفنا- النموذج المثالي للعلمية؛
  • إنسانية“: يحيل هذا النعت إلى الفلسفة من حيث أن هذه الأخيرة تتخذ بدورها الإنسان كموضوع لها

ويتضح ذلك في الجدول التالي:

طرح أولي للإشكال:
هل تستطيع العلوم الإنسانية أن تنأى عن الفلسفة ؟ وفي هذه الحالة هل ستسعى إلى التطابق مع العلوم الحقة؟ أم أنها ستزاوج بين مناهج الفلسفة ومناهج علوم الطبيعة؟ أم ستبدع لنفسها منهجها الخاص ها بحيث يلاءم خصوصية الظواهر الإنسانية؟
ماهي خصوصيات الظواهر الإنسانية أولا؟

  • ظواهر فريدة، غير قابلة للتكرار وما يستخلص من دراسة ظاهرة واحدة يصعب تعميمه لنذرة الظواهر المماثلة،
  • ظواهر معقدة، متعددة ومتداخلة الأبعاد يصعب عزلها بيسر أو تعيين دور كل منها في تحديد الظاهرة. والأبعاد المقصودة هي: البعد البيولوجي، الاجتماعي، الثقافي، النفسي، التاريخي، الاقتصادي…

إعادة صياغة الطرح الإشكالي:

إذا علمنا أن العلم، كيفما كان، يتحدد من خلال موضوع ومنهج. فيمكننا طرح إشكالية “مسألة العلمية في العلوم الإنسانية” من زاويتين: زاوية الموضوع وزاوية المنهج

  • إشكالية الموضوع: كيف يمكن للظاهرة الإنسانية أن تغدو موضوعا للعلم أي موضوعا لدراسة منهجية ؟ والحال أنها ظاهرة واعية و الدارس والمدروس معا هو الإنسان !
  • إشكالية المنهج: بعد أن تعين العلوم الإنسانية موضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أ ي شرط نتحدث ؟ إذا كان النموذج الذي أتبث فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم الحقة، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد استبدادية نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟

المحور الأول: إشكالية موضعة الظاهرة الإنسانية

يقصد بالموضعة مختلف الإجراءات المنهجية الهادفة إلى تعيين ظاهرة ما أو طائفة من الظواهر كموضوع علمي متمايز عن الذات الدارسة.
كيف يمكن للظاهرة الإنسانية أن تغدو موضوعا للعلم أي موضوعا لدراسة منهجية ؟ والحال أنها ظاهرة واعية والدارس والمدروس معا هو الإنسان !

1-في سبيل موضعة الظاهرة الإنسانية:

غالبا ما تطرح إشكالية الموضعة في مرحلة نشأة علم ما، عندما ينشغل رواده بتعريف موضوع علمهم ليتسنى لهم دراسته. في هذا الإطار نفهم تعريف إميل دوركايم لموضوع السوسيولوجيا بوصفه مرافعة من أجل موضعة الظاهرة الإنسانية. يرى دوركايم أن هذه الموضعة ممكنة لأن الظاهرة الاجتماعية شيء كباقي الأشياء. وتعريف الشيء عنده هو الموجود وجودا خارجيا بحيث يعطى للملاحظة؛ ولذلك تنص أولى قواعد المنهج السوسيولوجي على معاملة الظواهر الاجتماعية كأشياء مادامت تتميز بالخارجية والوجود المستقل عن وعي الأفراد الذين يعونها ويتمثلونها ويخضعون لقسرها ولا يسعهم اختراعها أو تغييرها. وبذلك تتحقق مسافة وانفصال منهجي بين الذات ( عالم الاجتماع) و الموضوع وهو هنا الظاهرة الاجتماعية: إن ظاهرة الزواج مثلا أو الظاهرة الدينية وغيرها من ضروب السلوك والتفكير والشعور الاجتماعي لا توجد فقط خارج وعي الفرد، بل إنها تمتاز أيضا بقوة آمرة قاهرة بحيث تفرض نفسها على الأفراد.
وبذلك يظهر ان دوركايم يراهن على تحييد الوعي أي إفراغ الظواهر الإنسانية من خاصية الوعي ليتسنى موضعتها، لأن الوعي “عدو العلم” كما يقول ليفي شتروس

فقرة انتقالية: هل يكفي تعريف الظاهرة الاجتماعية / الإنسانية بالخارجية والقسر والاستقلال عن وعي الفرد لحل مشكلة الموضعة وتداخل الذات والموضوع؟

2- عوائق الموضعة
يرى جون بياجي أن موضعة الظاهرة أكثر تعقيدا نظرا لتداخل الذات والموضوع على أكثر من صعيد.

  • فالذات الملاحظة بقدر ما تلاحظ غيرها وتجرب على غيرها، فإنها في نفس الوقت تلاحظ ذاتها وتجرب على ذاتها، وينتج عن ذلك أن تفاعل الذات والموضوع في فعل الدراسة يؤثر في سير الظاهرة المدروسة مثلما يؤثر في الذات الدارسة
  • غالبا ما تكون الذات الدارسة حاملة لمعرفة عفوية، مسبقة وحدسية حول الظاهرة المدروسة. لأن الدارس وقبل أن يكون عالم اجتماع مثلا فهو فاعل اجتماعي يتعرض لتأثير المعرفة الاجتماعية المتداولة. نقول إذن إن تحقيق القطيعة الابستملوجية بين المعرفة العفوية والمعرفة العلمية ليس بالأمر اليسير كما هو حال في علوم الطبيعة
  • يضاف إلى كل ما سبق الالتزام الفلسفي أو الايديلوجي لعالم الإنسانيات بحيث قد يميل إلى التبرير أو الإدانة ويجانب الحياد فيتجاوز الوصف إلى التقييم، وهو ما يسمى بمشكلة “أحكام القيمة”

خلاصة: إن السعي الحثيث لعلماء الإنسانيات من أجل تعريف موضوع علمهم وتحيييد الوعي وابتكار تقنيات لتحقيق القطيعة مع المعرفة العفوية لدليل على خصوصية الموضوع وما تطرحه موضعته من عوائق.

المحور الثاني: العلوم الإنسانية أمام نموذج علوم الطبيعة: مشكلة الفهم والتفسير

بعد تعيين العلوم الإنسانية لموضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أي شرط نتحدث ؟ إذا كان النموذج الذي أتبث فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم التجريبية، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد استبدادية نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟

1- العلوم الإنسانية ومنهج التفسير:

يقصد بالتفسير هنا كشف العلاقات الثابتة الموجودة بين حادثتين أو أكثر، وإقامة علاقات سببية بينها بموجب ذلك. وهذا هو التفسير السببي، أما التفسير الغائي فقد أهمله العلم. ولايلائم التفسير السببي سوى الظواهر المتماثلة المطردة والقابلة للتكرار ليتم التعميم ( تفسير سقوط الأجسام بقانون الجاذبية)
وقد ارتبط منهج التفسير بالاتجاه الوضعي وخصوصا لدى المدرسة السوسيولوجية الفرنسية مع دوركايم ومارسيل موس. في محاولتها الرقي بعلم الاجتماع إلى مصاف العلم الدقيق بعيدا عن المناهج التأملية.
وبما أن التفسير يقوم – كما أسلفنا – على ربط ظاهرة بأخرى ربطا سببيا، فإننا نعثر في دراسة دوركايم لظاهرة “الانتحار” على حالة تكاد تكون نموذجية لمنهج التفسير في العلوم الإنسانية: فبناءا على إحصائيات الانتحار في عدد من الدول الأوروبية، خلص إلى أن معدلات الانتحار تتناسب عكسيا مع درجة التماسك الديني، لذلك ينتحر البروتستانت أكثر من الكاثوليك؛ و مع درجة التماسك الأسري، لذلك ينتحر العازبون أكثر من المتزوجين، والمتزوجون بدون أطفال أكثر من ذوي الأطفال؛ وأخيرا مع درجة التماسك السياسي، إذ ترتفع معدلات الانتحار في أوقات الهدوء السياسي والسلم الاجتماعي أكثر من فترات الحروب والأزمات الدبلوماسية .

مثال2: ينحصر موضوع علم النفس ، حسب المدرسة السلوكية، في دراسة السلوك الإنساني القابل للملاحظة، منظورا إليه كرد فعل على مثيرات قابلة للملاحظة بدورها، وكشف القوانين المتحكمة في علاقات المثيرات بالاستجابات، والامتناع عن صياغة فرضيات حول ما يقع داخل العلبة السوداء أي الوعي الإنساني

2-عوائق منهج التفسير وامكانيات منهج الفهم:

لقد لجأ دوركايم إلى المقاربة الإحصائية لظاهرة الانتحار من أجل غربلة المحددات الذاتية، والفردية للظاهرة والاحتفاظ فقط بالمكون الجمعي للظاهرة الذي يهم السوسيولوجيا، والذي يمكن الوصول بصدده إلى تفسير سببي قابل للتعميم.
ولكن ألا يؤدي تحليل الظواهر الإنسانية على غرار الظواهر الطبيعية إلى إفراغ الأولى من أهم مقوماتها، من مكونها الداخلي أي الدلالات والنوايا والمقاصد والاكتفاء بالمحددات الخارجية للفعل ؟
بهذه الأسئلة ننفتح على دعاة المنهج المقابل، منهج الفهم والذي صاغته عبارة ديلتاي الشهيرة: ” إننا نفسر الطبيعة، لكننا نفهم ظواهر الروح”
ولكن ماذا نقصد أولا بالفهم؟
لأن الفاعل الإنساني يمنح دلالة لأفعاله وللعالم من حوله ويسلك وقف غاية من حيث هو كائن واع، فالمقصود بالفهم – في مناهج العلوم أو الميتودلوجيا – إدراك الدلالة التي يتخدها الفعل بالنسبة للفاعل، وتتكون هذه الدلالات من المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل وتتحدد بالقيم التي توجهه، وغالبا ما يتم النفاذ إلى هذه الدلالات بواسطة فعل “التأويل”، الذي اقترن ظهوره بالدراسات اللاهوتية في سعيها إلى استكناه مقاصد النصوص المقدسة ودلالاتها الخفية.
ويقدم لنا التحليل النفسي مثالا نموذجيا لعلم إنساني يكاد يعتمد كلية على الفهم بمعنى التأويل : إذ تُتناول مختلف الظواهر النفسية السوية منها والمرضية، بما في ذلك الأحلام كعلامات حاملة لدلالات يتعين تأويلها وذلك بتجاوز المعاني الظاهرة والمقاصد الواعية، لدرجة دفعت الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كان التحليل النفسي علما أو فنا في نهاية المطاف !
أما في علم الاجتماع، فيقدم لنا ماكس فيبر في دراسته الرائدة حول “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” مثالا آخر لتطبيق منهج الفهم يتركيزه على القيم المشتركة بين كل من السلوك الرأسمالي والموقف الأخلاقي البروتستانتي. وليس غريبا أن يقع اختيار فيبر على ظاهرة فريدة هي نشأة الرأسمالية في أوروبا، لأن منهج الفهم لا يهدف أصلا إلى اكتشاف انتظامات أوعلاقات سببية قابلة للتعميم على نطاق واسع

– 3-حدود منهج الفهم وعوائقه:

يستدعي منا منهج الفهم بدوره بعض الملاحظات النقدية، وأهمها لامبالاته تجاه ضرورة التمييز، الذي يحرص منهج التفسير على إقامته، بين الذات والموضوع، ومادام الفهم ينصب على الدلالات ويقوم على ضرب من التعاطف والمشاركة الوجدانية بين الدارس وموضوع دراسته، ألا يخشى أن يسقط الدارس قيمه ودلالاته الخاصة على الظاهرة ؟ وكيف لنا آنذاك أن نميز بين دلالات الفعل لدى الفاعل/موضوع الدراسة ودلالاتها لدى الدارس؟
لعل هذا هو ما حذا بغاستون غرانجي إلى تشبيه منهج الفهم بالتفكير الأسطوري السحري حيث تسقط الذات خصائصها على الموضوع، وتنصهر فيه خلاصة عامة للدرس:
بأي معنى وضمن أية شروط يمكن الحديث عن “علوم إنسانية” ؟ يحاول بعض علماء الإنسانيات استلهام مناهج العلوم الطبيعية التي أثبتت فعاليتها، بينما يرافع آخرون من أجل ابتكار منهج أصيل بدعوى عدم وجود معيار أو نموذج وحيد للعلمية. وبعبارة أخرى، يسعى البعض إلى الاستفادة من المكتسبات المنهجية للعلوم الحقة، بينما يجتهد آخرون لتأسيس نموذج مغاير للعلمية. إن هذه الإشكالات الميتودولوجية التي تعترض العلوم الإنسانية نابعة أساسا من خصوصية الموضوع وهو الظاهرة الإنسانية

Facebooktwitterredditmailby feather

الحقيقة – مجزوءة المعرفة

المحور الأول: الحقيقة والرأي

تمهيد لفهم الإشكال:
ماهو التقابل أو المفارقة الموجهة لمسار تفكيرنا في هذا المحور؟
إذا كانت الحقيقة هي مطابقة الفكر لموضوعه، فماذا نقصد بالرأي؟
لا يقصد به في هذا المقام وجهة النظر الشخصية كما في قولك: ” رأيي أن نقوم عوض أن نجلس” أي وجهة نظري أو موقفي، بل يقصد به فكرة أو تمثل أولي أو اعتقاد يعوزه اليقين في مقابل الحقيقة التي يفترض أنها يقينية مبرهن عليها بطريقة من طرق التدليل والاثبات والتحقق.
بيد أن العلامة المميزة للرأي كخطاب وكنمط من المعرفة هو كونه متداولا ومتاحا للجميع، وبهذا المعنى الأخير يغدو الرأي مرادفا للحس المشترك أي الفهم الطبيعي المشترك بين الناس، المتاح مباشرة لكل فرد دونما حاجة إلى دراسات متخصصة أو منهجية.

طرح الإشكال:
دأبت الفلسفة على تقديم نفسها كخطاب للحقيقة والحقيقة المنزهة عن الغرض بالخصوص، تلك التي تنتج عن مجهود عقلي وروحي خاص. وإذا كانت الحقيقة نقيضا للخطأ والوهم والظن والتسرع والأحكام المسبقة، فإن كل هذه الأضداد تجتمع تحت مسمى واحد: الرأي !
ولكن من يقيم هذه التقابلات أولا؟ هل هناك رأي يشير إلى نفسه باعتباره رأيا!؟ وهذه الحقيقة اليقينية الناتجة عن منهج وتدليل ومجهود عقلي، هل هي استمرار للرأي أم أنها تشكل قطيعة معه؟

معالجة الإشكال:

1- تسفيه الرأي: الحقيقة كقطيعة مع الرأي

يميز أفلاطون بين الحقيقة من جهة والرأي أو الظن أو الدوكسا من جهة ثانية بحيث أن الأولى مرادفة لليقين والجوهر بينما يرادف الرأي الوهم والمظاهر وتقدم لنا محاورة مينون مثالا لشخصين أولهما يعلم الطريق إلى مدينة “لاريسا” علم اليقين وسبق له أن زارها بينما لا يعلم الثاني هذا الطريق إلا من جهة السماع والتخمين. من الممكن أن يهتدي الثاني إلى الطريق. إن معرفته لا تتجاوز الرأي بيد أنه “رأي سديد” ، ولكن بينما يصل ذو العلم إلى مبتغاه على الدوام وبشكل يقيني، يمكن لصاحب الرأي أن يبلغ مبتغاه حينا ويضل عنه حينا آخر.
سيتخد الحذر من الرأي عند ديكارت طابعا منهجيا راديكاليا: تقع الحقيقة في نهاية سرداب يبدأ بالشروع ولو مرة واحدة في حياتنا في الشك في جميع الآراء التي تلقيناها وصدقناها وفي الأشياء التي نجد فيها أدنى شبهة من عدم اليقين بغية التخلص من الأحكام المسبقة و الآراء المتداولة التي تعجلنا في إطلاقها والتي تتشبت بأنفسنا بقوة.
وتستمر فكرة القطيعة بين الحقيقة و الرأي في الفلسفة المعاصرة وبالضبط في الابستملوجيا الباشلارية: الرأي دائما خاطئ، الرأي نوع من التفكير السيء، بل إنه ليس تفكيرا على الاطلاق. وليس تاريخ العلوم إلا تاريخ دحض وهدم مستمرين للرأي أو بالأحرى لبادئ الرأي الذي يعد واحدا من أقوى العوائق الابستملوجية ومن حيث كونه فكرا تفرزه الحياة اليومية الغارقة في البراغماتية، فإن الرأي يكتفي بترجمة الحاجات إلى معارف من خلال تعيينه للأشياء وفق منفعتها فيحرم نفسه بذلك من معرفتها.

فقرة انتقالية: لأن الفلسفة لا تتوانى عن وضع كل شيء موضع تساؤل بما في ذلك نفسها وادعاءاتها، فلامناص من أن نتساءل: ما “حقيقة” القطيعة بين الحقيقة والرأي؟ إذا كانت الحقيقة تفضل الرأي بكونها مبناة وفق منهج ودليل، ألا تقوم بعض الحقائق بدورها على اعتقادات وآراء لا سبيل للبرهنة أو التدليل على صحتها؟ هل يصح أن نقارب علاقة الحقيقة الفلسفية بالرأي كمقاربتنا لعلاقة الحقيقة العلمية به؟
2- إعادة الاعتبار للرأي: أوجه الاستمرارية بين الحقيقة والرأي

يعتبر الاسكتلندي توماس ريد (1710-1796) مؤلف “بحث في الفكر الانساني وفق مبادئ الحس المشترك” من الفلاسفة القلائل الذين سعوا صراحة إلى اعادة الاعتبار إلى مقولات الحس المشترك وبداهاته والتي يرى أن افتراضاتها لا تقل قبولا عن الافتراضات الميتافيزية لأغلب المذاهب الفلسفية. بل إنها تتضمن من الصواب أكثر ما تحويه النظريات الفلسفية المنافسة والمبخسة لها. كما أن ما يدخله الفلاسفة في عداد الرأي او الحس المشترك أقدر ببداهاته على مقاومة مذاهب الشك الهدامة أكثر مما تستطيع أنساقهم الفلسفية نفسها. وتتميز اعتقادات الحس المشترك حسب توماس ريد بكونيتها، إذ لا يماري فيها سوى بعض الفلاسفة والحمقى، وببداهتها إذ أن نكرانها يوقع في التناقض
وقد في نفس الإطار يندرج كتاب جورج توماس مور (1873–1958) ” دفاع عن الحس المشترك”
ويذكر فيتجنشتاين في كتابه “في اليقين” أزيد من 300 من القضايا والاعتقادات التي لا يكاد يتطرق إليها الشك ولم يجر أبدا التحقق أو التفكير في التحقق منها، بل ويستحيل التحقق من بعضها شخصيا كالاعتقاد بأن للناس أدمغة في جماجمهم أو أن هذين هما والدي فعلا وأن لي أجدادا وأسلافا وأنه توجد قارة تدعى استراليا…تدخل هذه القضايا وغيرها ضمن ما يسميه فيتجنشتاين بــ “صورة العالم” وهي أساس لكل ما أبحث عنه وأود تأكيده لاحقا وكل القضايا التي تريد وصف تلك الصورة غير خاضعة بدورها للتحقق. وبذلك يتطابق الرأي مع البداهات والحدوس الأولية التي يملكها الفرد عن العالم

خلاصة: ماحقيقة التعارض بين الحقيقة والرأي؟

مما لا مراء فيه أن الحقيقة في العلم الذي يزداد موضوعه تخصصا ومناهجه دقة، تتعارض في أحيان كثيرة مع الرأي والحس والمشترك؛ والدوران البادي للشمس حول الأرض خير دليل على ذلك، ولكن ماذا عن حقائق الحياة اليومية والحقائق الأخلاقية والسياسية، وهي المجالات التي تنازع فيها الفلسفة الحس المشترك المشروعية وتنعته بالرأي؟
نسجل أولا أن الرأي أو الحس المشترك ليس كونيا أو لازمنيا كما اعتقد طوماس ريد، بل هو منتوج ثقافي يترجم القيم السائدة في حقبة أو مجتمع معين. ألم يكن الرق في وقت من الأوقات مقبولا من قبل الحس المشترك كممارسة لا غبار عليها من الناحية الأخلاقية ؟
ولكننا نسجل من جهة أخرى ميل الديمقراطيات الحديثة إلى إعادة الاعتبار للرأي فيما يسمى بالرأي العام واستطلاعات الرأي وكأن القرار السياسي أو الاقتصادي أو الأخلاقي الحق والصائب ليس سوى جماع الرأي السائد والمتداول على أوسع نطاق. قد نفسر ذلك بتعذر الحديث عن حقيقة يقينية في هذه المجالات التي يسود فيها الاحتمال والترجيح le plausible، ويبدو اليوم أن الحقيقة كمرادف لليقين البرهاني أصبحت مجرد وهم في النظرية الحجاجية المعاصرة، إذ لايتعلق الأمر ببرهنة على حقائق، بل بمنح اعتقدات ما أعلى درجات الاتساق والمعقولية لتحصل على إذعان العقول، أضف إلى ذلك أن الرأي والحس المشترك لم يعد مجرد اعتقادات ساذجة، بل اصبح “رأيا متنورا” منذ اختراع المطبعة وصولا إلى ثورة وسائل الإعلام. فهل يعني ذلك أن الفيلسوف مضطر تجنبا لتهمة النخبوية لعقد مصالحة بين الحقيقة كما ينشدها والرأي الذي طالما عمل على ازدرائه وتسفيهه؟

المحور الثاني: معايير الحقيقة

طرح الإشكال:
المعيار لغة هو المكيال أو وحدة أو مرجع القياس، نقول “عاير الميزان” إذا قايسه وامتحنه بغيره لمعرفة صحته، وعيار الشيء ما جعل قياسا ونظاما له. ونستعملها هنا بمعنى الشرط أو العلامة المميزة، فيكون التساؤل عن معيار الحقيقة تساؤلا عن العلامة التي تسمح بالتعرف على الفكرة الحقيقة وتمييزها أو الشرط الذي إن توفرت في فكرة ما نعتت بالحقيقة
لايتعلق الأمر هنا بالبحث عن معيار الحقيقة؟ بل بالبحث في إمكانية الحديث عن معيار بصيغة المفرد أو عن معيار كوني: أمام تعدد مواضيع الفكر الإنساني، ما وجاهة التساؤل عن معيار الحقيقة ؟

معالجة الإشكال:
1- محاولة لتحديد معيار كوني : الوضوح والتميز

عندما ينخرط المرء في مغامرة الشك الشامل وفي عملية مسح الطاولة، لابد له من معيار أو علامة يهتدي بها إلى بر الحقيقة من جديد حسب التعبير المجازي لهيغل. ولما كان هدف الفلسفة حسب ديكارت هو كشف المبادئ الأولى التي تستنبط منها كل معرفة ممكنة، وجب وضع معيار شامل لفحص حقيقة هذه المبادئ المؤسسة وما يستنبط منها.
لننظر في الكوجيطو مثلا: لا يمثل الكوجيطو الحقيقة الأولى في النسق الديكارتي فحسب، بل يقدم لنا نموذج الحقيقة بامتياز: فهو حقيقة بسيطة واضحة استخرجها الفكر من ذاته. لذلك يشترط في جميع الحقائق أن تكون حقائقا أولية بسيطة يدركها الفكر بالحدس بكل وضوح وتميز أو حقائقا مركبة مشتقة منها عن طريق الإستنباط. وبعبارة أخرى، فالحقائق إما موضوع حدس إذا كانت أفكارا ومعان عقلية بسيطة، بديهية وفطرية يدركها العقل مباشرة؛ أو موضوع استنباط إذا كانت أفكارا وقضايا مركبة ومشتقة. وفي جميع الأحوال فالحقيقة صفة ذاتية للفكرة ولا تخرج عن دائرة الفكر وكأن الأفكار الحقيقية تحمل في ذاتها دليل حقيقتها، لذلك يقول اسبينوزا : ” الحقيقة معيار ذاتها كالنور يعرف بذاته وبه يعرف الظلام ” ولعل ذلك صادق بالخصوص بالنسبة لحقائق الرياضيات حيث لا يهتم الفكر إلا بالتطابق مع ذاته أي احترام مبادئه ومعاييره.

2- لاوجود لمعيار كوني إلا بالنسبة للحقائق الصورية

بخلاف ديكارت واسبينوزا اللذين اعتقدا في وجود معيار كوني للحقيقة بصفة عامة، لا يمكن حسب كانط الحديث عن معيار كوني للحقيقة إلا بصدد الحقائق الصورية، فمادامت المعرفة تتطلب مادة وصورة: حدوسا حسية ومقولات عقلية، فإن الأحكام التي تتضمن حدوسا حسية وهي الأحكام التركيبية لا يمكن معرفة حقيقتها بمجرد تحليل مكوناتها أو النظر فيها بذاتها، لابد أن نتأكد من مطابقتها لموضوعها وهو مادتها. وهكذا وبتأمل القضايا الثلاث التالية “السماء غائمة ، ” الوقت متأخر” ، ” جميع المعادن تتمدد بالحرارة” نجد ثلاث أحكام لكل منها موضوع وفي كل مرة ينبغي فحص الموضوع/الواقع للتأكد من مطابقة الحكم له . والمواضيع تتعدد إلى ما لانهاية، لذلك يستحيل العثور على معيار كوني شامل للحقائق المادية أو لنقل للأحكام التركيبية.
لننظر الآن في الحقائق الرياضيات والمنطق : لا يتضمن هذان العلمان أحكاما متعلقة بالعالم الخارجي، ولذلك يكفي لفحص صدق أحكامهما النظر في عدم تناقضها مع قواعد العقل والاستدلال أو المنطق أي في صحة صورتهما .غير أن المنطق لا يستطيع أن يذهب بعيدا : فما من محك بوسعه أن يتيح للمنطق كشف الخطأ حين يتعلق الأمر بمادة المعرفة وليس بصورتها

المحور الثالث: قيمة الحقيقة

طرح الإشكال:
قيمة الشيء هي تلك الصفة التي تجعله موضع تقدير أو اهتمام أو رغبة او احترام. وعلى هذا الأساس نصوغ إشكالية قيمة الحقيقة على النحو التالي: لماذا نطلب الحقيقة ونرغب فيها ؟ مالذي يجعل الحقيقة محط نقاش وجدال وادعاء؟ هل تطلب الحقيقة لذاتها أم كوسيلة لنيل غايات تتجاوزها؟ هل تتمتع الحقيقة بقيمة أخلاقية أم بمجرد قيم أداتية

معالجة الإشكال:

1- القيمة الأداتية للحقيقة: نموذج التصور البراغماتي

يتساءل وليام جيمس (1842-1910) عن وظيفة الحقيقة وعن الغاية من امتلاك أفكار صحيحة ويجيب بكل بساطة: أن امتلاك الحقيقة ليس غاية في حد ذاته بل مجرد وسيلة يتوصل بها إلى إشباع حاجات حيوية، إنه يكافىء امتلاك أدوات ثمينة للعمل. وبعبارة أوجز: الحقيقى هو المفيد
ذلك هو التصور البراجماتي لقيمة الحقيقة، حيث يتوقف صدق القضية على قدرتها على تمكيننا من تناول الواقع ذهنيا أو عمليا وتوجيهنا بنجاح نحو الإستفادة من وجودنا، ونحن كما يقول برغسون نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود كما نخترع الأجهزة الصناعية لتسخير القوى الطبيعية. إن الحقائق ليست أكثر من مخترعات نافعة ووسائل مفيدة في تصور الأشياء واستخدامها؛ بل إن الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859-1952) يرى في نشأة التفكير العقلي عند النوع البشري استجابة لدواع عملية براغماتية وهي الرغبة في الحياة والبقاء، لأنه يسمح للإنسان بصنع شيء أوإنجاز فعل على نحو أفضل مما لو اعتمد على الغريزة والإندفاع وحدهما. وعليه، يعلن ديوي أن الفكرة التي لا تستهدف عملا يمكن إنجازه ليست فكرة بل ليست شيئا على الإطلاق إلا أن تكون وهما في ذهن صاحبها. وإذن، فليس للحقيقة من قيمة مطلقة، بل مجرد قيمة وظيفية عملية ونسبية بالضرورة.

2- الحقيقة كقيمة أخلاقية مطلقة: سقراط، كانط

ولكن ألا نسقط مرة أخرى في القول بتعدد الحقائق بتعدد وتعارض المنافع الفردية؟ ألا تنتهي البراغماتية إلى تصور لاأخلاقي تبرر فيه الغاية الوسيلة، مادام الصواب و الخطأ صفتان مؤقتتان متغيرتان ترتبطان بالنافع والضار أكثر من ارتباطهما بمبادئ عامة مجردة، ومادام أن الحقيقة لاتمثل غاية في حد ذاتها، بل مجرد وسيلة وأداة.
على العكس من التصور البرغماتي، تقدم لنا سيرة سقراط وفلسفته تصور أخلاقيا للحقيقة. فلم تكن غاية التفلسف عند سقراط تعلم المهارة الجدلية أو الحذق أو تكديس المعارف في الذهن، بل تدريب النفس على اكتساب الفضيلة، وبذلك تتطابق الحقيقة والكمال الأخلاقي، لقد كانت الحقيقة غاية في حد ذاتها، تعاش بصفة شخصية كما لاحظ كيركجارد، ولم يكتف سقراط بأن عاش الحقيقة فحسب، بل مات من أجلها! بمعنى ألا شيء مقدم على الحقيقة، بما في ذلك حياة المرء نفسها !
نجد نفس القيمة المطلقة اللامشروطة عند كانط حيث تتحول الحقيقة أو بالأحرى قول الحقيقة والصدق إلى واجب أخلاقي في ذاته، واجب مطلق غير مشروط ولايعرف الاستثناءات بغض النظر عن الظروف والملابسات حتى أنه يرفض حجة بنيامين كونسطان القائلة بأن قول الحقيقة ليس واجبا إلا نحو من لهم الحق أو يستحقون معرفة الحقيقة. ومادام كانط يقيس أخلاقية الفعل بمدى قدرتنا على تعميمه لجعله قانونا كونيا، فإن شرعنة الكذب تعني تعميمه أي تجريد التصريحات أو الأقوال من أية مصداقية وتجعل جميع الحقوق المؤسسة على العقود والوعود باطلة ولاغية وهذا ظلم وجور في حق الإنسانية جمعاء.
ماذا عنا نحن؟
غالبا ما تتعامل الذات مع الحقيقة بشكل براغماتي في أغلب مواقف الحياة، لكنها تطالب الغير بالتعامل مع الحقيقة.

Facebooktwitterredditmailby feather