أرشيف التصنيف: ديداكتيك الفلسفة

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز-الجزء الأول

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز – الجزء الأول

إضافة إلى الأهداف/الكفايات المنهجية والقيمية للدرس الفلسفي، تعتبر الأهداف/الكفايات المعرفية أو الثقافية عنصرا أساسيا وحاسما، يتوقف عليه تحقيق الكفايات الأخرى المنشودة. فسواء تعلق الأمر بكفايات قيمية كالتسامح أو احترام الاختلاف أو الاستقلالية أو اكفايات منهجية كالمحاججة، لابد لكل ذلك من سند وحامل هو المعرفة الفلسفية.
تبدو عبارة “معرفة فلسفية” للوهلة الأولى واضحة المعنى جلية الدلالة، لكن لنغامر مع ذلك بطرح السؤال على الطريقة السقراطية: ماالمعرفة الفلسفية؟ انقصد بها حصريا مجموع المعارف التي حفظها لنا التراث الفلسفي أو تاريخ الفلسفة؟ والتي يمكن العثور عليها بشكل موجز ومركز في مصنفات تناول تاريخ الفلسفة أو المذاهب الفلسفية. ولكن هل هانك حقا معارف فلسفية أم مجرد تناول فلسفي للمعرفة!؟ إذا كانت مادة المعرفة الفلسفية مستمدة من نصوص الفلاسفة فمِمَ استمد الفلاسفة أصلا مادة نصوصهم تلك!؟
لكن السؤال “ما المعرفة الفلسفية؟” لايطرح فقط استجابة لنزعة سقراطية! بل لدواع متعلقة بديداكتيك الدرس الفلسفي نفسه. إذ نعتقد أن هاهنا مجالا بكرا، و ورشة مفتوحة للتفكير والتفكر، ودربا إن تم ارتياده واستكشاف آفاقه فربما نجد في نهايته أو في إحدة منعرجاته مخرجا لمآزق كل من الدرس الفلسفي (الذي ينجزه المدرس) وصورته المرآوية أي الإنشاء الفلسفي (الذي ينجزه التلميذ)

تشخيص المشكل بدءا من إنشاء التلميذ وصولا إلى ملخص مدرسه
يستشعر الكثير من المدرسين وجود “شيئ ما ليس على مايرام” :icon_scratch: في إنشاء تلامذته، ويصل الصفاء الذهني La lucidité ببعض المدرسين إلى الإحساس بأن “هذا الذي ليس على مايرام” يعتري درسهم أيضا !!
لنتأمل أولا إنشاءات تلامذتنا لأنها الصورة المرآوية التي تضخم صورة درسنا إلى حد الكاريكاتور:
يطرح التلميذ في مقدمة إنشائه أسئلة ما
إذا تعلق الأمر بتحليل نص،فإن التلميذ يخدش سطح النص خدشا رفيقا ثم تطل المواقف واحدة بعد أخرى على شاكلة:
من المواقف المؤيدة لصاحب النص نجد
وفي نفس السياق نجد..
ونجد…
ونجد مع فلان..
غير أن فلان يرى…
أما فلان الثاني فيرى ..
وفلان الرابع.. الخامس.. إلخ

أمام مثل هذه الإنشاءات يدون أغلب المصححين الملاحظات التالية: السقوط في السردية (سرد المواقف) و غياب ذات المتعلم وانعدام التفكير الشخصي، بحيث يبدو التلميذ غير قادر على الحديث إلا بلسان أحد الفلاسفة !!
ولكن مهلا..
هل يتحمل التلميذ وزر هذا الخطأ لوحده !؟ ألا يمكن ان نجد في دروسنا نفس البنية السردية وغياب التفكير الشخصي !!؟
لنتأمل الملخص التالي الذي وجدت في الأنترنت والذي طمست معالمه بشكل مقصود لئلا أحرج أحدا:
المحور الأول-الواجب والإكراه :
ما هو الواجب؟ وما هو مصدره؟ ومن يستمد مشروعيته؟
موقف كانط : إن كانط في سياق مشروعه (…) سعى إلى (…)
موقف غويو : إذا كان التصور الكانطي ينتهي إلي(…) فإن جون ماري غويو يقدر أن (…)
موقف هيوم : يميز دافيد هيوم بين نوعين من الواجبات الأخلاقية، (…)
موقف هيجل : يرجع هيجل الواجب إلى (…)

المحور الثاني-الوعي الأخلاقي :
ما هو مصدر الوعي الأخلاقي؟
موقف إريك فايل : إن الفعل الأخلاقي هو(…)
موقف برونتانو:تعتبر المدرسة الإمبريقية الوعي الأخلاقي(…)
موقف ابن مسكويه :من منظور التصور الإسلامي، يعتبر ابن مسكويه(…)

المحور الثالث-الواجب والمجتمع:
موقف إميل دوركايم :يعالج إميل دوركايم الواجب الأخلاقي من منظور (…)
موقف برجسون : إن المجتمع هو الذي يرسم للفرد (…)
موقف إنجلز : يؤكد إنجلز على أهمية مفهوم(…)

لا تشير نقط الحذف الذي استعملتها سوى إلى تفصييلات تعرض الموقف وتشرحه
إذن هاهنا مدرس فلسفة لكنه منسحب بدوره وشبه غائب عن ملخصه ، لا أثر لأي تفكير شخصي من قبله!؟ لا أثر لتأملات شخصية إضافية، وكأن الإكراه أو المجتمع أو مصدر الوعي الأخلاقي لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد !!
إذا كان المثل يقول: “هذا الشبل من ذاك الأسد” فيحق لنا القول: “هذا الإنشاء من ذاك الملخص” (قلبا وقالبا)
إنه مجرد “متحدث بإسم”..
وباستثناء تلك الجملة التي حاول فيها الربط بين ما قاله كانط وماسيقوله غويو، يبدو الملخص كما لو كان نسخا ولصقا لفقرات من كتاب في تاريخ الفلسفة أو معجم فلسفي
إزاء مثل هذه الملخصات، ألا يحق للمتعلم الشكوى من الأطروحات التي يدوّخ تشابهها العقل وترهق كثرتها الذاكرة، وذلك في غياب تحديد دقيق لأطروجتين رئيسيتين ومواقف تملأ هذه الأطروحات (بتعبير زارا) وتمدها بالقوة الحجاجية
سيقال أن هذا ملخص يضم عصارة الأطروحات الفلسفية لمحو “الأمية الفلسفية” للمتعلم أو لحشو عقله الفارغ بمعارف موضوعية بتعبير هيغل ! ولكن أخشى أن الملخص لايعكس في النهاية سوى الدرس، وأن تردي هذا يتجلى في تردي ذاك. وقد قلت في شريط آخر إن تحرير ملخصات أشق مهمة وأثقلها على النفس، لأنك مطالب بالمحافظة على الحياة والحيوية والتوتر الذي شهده الدرس المنجز داخل الفصل الدراسي واستعادة كل ذلك في بضع فقرات مكتوبة في مايسمى بالملخص !!
إن العَرَض الذي يعاني منه هذا الملخص بوصفه مرآة لعمل المدرس هو الانسحاب شبة الكلي للمدرس من درسه أو ملخصه: لا أثر للتفكير الشخصي في ما أنتجه، رغم أن هذا المدرس لا يفتأ يقصف عقول تلامذة الجذع المشترك بأن الفلسفة تفكير شخصي في المقام الأول

أين يمكن أن يتمظهر المجهود أو التفكير الشخصي للمدرس؟
يمكن للتفكير الشخصي للمدرس ويمكن لذاته أن تتجلى في مايلي:
أ- الطرح الإشكالي وهنا تظهر حوالي ثمانين في المائة من مجهود المدرس، لأن الإشكال ليس مجرد جملة في آخرها علامة استفهام. كأن يقول القائل في محور الحرية والإرداة: ماعلاقة الحرية بالإرداة؟ أو يقول في محور العقلانية العلمية: ماطبيعة العقلانية العلمية؟
الطرح الإشكالي ثمرة تفكير عقلي مرهق وشاق، يحاول الفكر أثناءه استكشاف المحير والمدهش والمفارقاتي في موضوع تفكيره.. الطرح الإشكالي أهم لحظات الدرس، لسبب بسيط ندرسه لتلامذتنا مفاده أن الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجوبة في الفلسفة!! :icon_biggrin:
ب- التمهيد لأطروحة الفيلسوف قبل عرضها
ج- التعقيب عليها بعد عرضها تعقيبا نقديا
د – نسج وشائج بينها وبين ما سبقها أو ما سيليها.. أي العثور على خيط إشكالي ناظم والمحافظة على درجة كافية من التوتر الإشكالي وإلا تحول البناء الإشكالي إلى عرض مريح لأجوبة ودوغمات!!
هـ- وأخيرا تأملات شخصية حول الإشكالات المثارة تغني أطروحات الفلاسفة وتمتزج بها أو تنضاف إليها كأطروحات فلسفية إضافية.

لكن مالذي يجعل ملخص المدرس وربما درسه أيضا مادة محنطة لا حياة فيها !؟ يعود ذلك في نظري إلى سببين (قد يستنتجان مما سبق):
1- التفريط في الطابع الإشكالي للتفكير الفلسفي بوصفه تفكيرا مسكونا بالمفارقات والتناقضات والحيرة والدهشة ..
2- تصورنا المغلوط لما يسمى “معرفة فلسفية”
سأركز فيما يلي على السبب الثاني، لأنه موضوع المقالة، على أن نفرد للسبب الأول موضوعا مستقلا.

التتمة:

Facebooktwitterredditmailby feather

مفهوم “الحق”في درس الفلسفة-عشر سنوات من الالتباس4

مفهوم “الحق”في درس الفلسفة:عشر سنوات من الالتباس
الجزء الأول الجزء الثاني الجزء الثالث الجزء الرابع

الجزء الرابع: رغم الاختلاف في التفاصيل، فإن أغلب نظريات الحق الطبيعي تنتهي إلى النظرية التعاقدية

سعينا في الأجزاء الثلاثة السابقة من هذا الموضوع إلى كشف الإلتباسات التي شابت الطرح الإشكالي وكذا البناء الإشكالي لمفهوم الحق في الكتاب المدرسي المقرر، ونحاول في هذا الجزء الرابع والأخير ان نقدم افكار الفلاسفة الثلاث : هوبز-اسبينوزا-روسو بشكل يتجاوز الالتباس وينسجم مع المعنى المتداول على اوسع نطاق لمفهوم الحق الطبيعي في أدبيات الفلسفة السياسية وبعض الكتب المدرسية الأجنبية (الفرنسية تحديدا)

اسبينوزا: الحق الطبيعي بين الطبيعة الشاملة والطبيعة الخاصة للإنسان
لو اكتفينا بنص اسبينوزا الوارد في الكتاب المدرسي نفسه: من يقرأ حديثه عن حق السمك في العوم في الماء والاستمتاع به، وعن حق كبيرها في التهام صغيرها بموجب حق طبيعي مطلق وبموجب طبيعة هذه الكائنات نفسها، سيخلص بشكل مشروع إلى أن “الحق الطبيعي” مرادف لحق القوة ولا يمكن لغير هذا الحق أن يسود بالنسبة للموجودات الطبيعية في سعيها للبقاء على وضعها بالنظر إلى نفسها فقط دون أي اعتبار لأي شيء أخر – وهو سعي منقوش في طبيعتها أيضا. ومن العبث مطالبة الموجودات الطبيعية بالعيش وفق نظام آخر، لأنها لم تختر هذا النظام المشتق حتميا من وجودها نفسه، ولذلك فمن العبث – كما يقول اسبينوزا- مطالبة القط بالعيش وفقا لطبيعة الأسد، لأن هذه المطالبة تعني انتفاءه كقط بكل بساطة!
هل يعني ذلك أن اسبينوزا يدعو البشر إلى العيش وفق هذا القانون الطبيعي، باعتبارهم موجودات طبيعية بدورهم؟
في سلسلة مقالات عن المرجعية الفلسفية لحقوق الإنسان على صفحات مجلة “فكر ونقد”، طرح محمد عابد الجابري نفس هذا السؤال وأجاب عنه كالتالي:

وهذا لا يعني أن سبينوزا يدعو الناس إلى العيش حسب طبيعتهم وحدها دون اعتبار لما تمليه عليهم عقولهم. كلا، إنه يؤكد: “أنه يظل من الصحيح دون شك أن من الأنفع للناس أن يعيشوا طبقا لقوانين عقولهم ومعاييرها اليقينية لأنها، كما قلنا، لا تتجه إلا إلى تحقيق ما فيه نفع حقيقي للبشر. وفضلا عن ذلك فإن كل إنسان يود العيش في أمان من كل خوف بقدر الإمكان. ولكن ذلك مستحيل ما دام كل فرد يستطيع أن يفعل ما يشاء وما دام العقل لا يعطي حقوقا تعلو على حقوق الكراهية والغضب. والواقع أنه لا يوجد إنسان واحد يعيش دون قلق وسط العداء والكراهية والغضب والمخادعة، ومن ثم لا يوجد إنسان واحد لا يحاول الخلاص من ذلك بقدر استطاعته”.

وبعبارة أخرى، فبجانب الطبيعة العامة للبشر التي تجمعهم ببقية الموجودات، يتوفر البشر على طبيعة ثانية تخصهم وهي الطبيعة العاقلة !
فالعقل كالشهوة والقوة كلاهما مبدآن طبيعيان أي مستمدان من طبيعة الكائن، ويمليان قواعدهما الخاصة على الكائنات، كل بحسب طبيعته.
ألم يطلق فلاسفة القرنيين 17 و 18 تعبير “النور الطبيعي” على العقل تمييزا له عن النور الإلاهي الذي تحتويه الكتب السماوية Ecritures
يقوا اسبينوزا:

” نستنتج من ذلك أن الحق و التنظيم الطبيعيين اللذين ينشأ فيهما جميع الناس ويعيشون بموجبهما طوال الجزء الأكبر من حياتهم، لا يحظران إلا ما لا يرغب فيه أو ما لا يستطيعه أحد؛ فهما لا يمنعان النزوع و لا الكراهية و لا الغضب و لا الخداع و لا أي شيء تدفع إليه الشهوة، ولا عجب في ذلك ؛ إذ أن الطبيعة لا تقتصر على قوانين العقل الإنساني الذي يعد هدفه الوحيد هو المنفعة الحقيقية و المحافظة على البشر، بل إنها تشمل على ما لا نهاية له من القوانين الأخرى المتعلقة بالنظام الأزلي للطبيعة بأكملها، التي لا يمثل الإنسان إلا جزءا ضئيلا منها”

يتضح مما سلف أن قوانين العقل الإنساني قوانين طبيعية لأنها جنس من قوانين الطبيعة التي تضم بطبيعة الحال ما لانهاية له من أجناس القوانين الأخرى. ولقد مثلت المطابقة بين قوانين العقل وقوانين الطبيعة الثورة المعرفية للقرن السابع عشر بامتياز كما يقول الجابري:

مع القرن السابع عشر أخذت الأمور تتغير: لقد قطع العلم الحديث وعلى رأسه علوم الطبيعة أشواطا جديدة تماما من التقدم والازدهار. وأصبح لفكرة “القانون الطبيعي” معنى آخر: لم تعد تعني، كما كان الشأن عند اليونان، مجرد النظام والترتيب الذين يسودان العالم، بل صار القانون الطبيعي وسيلة العقل البشري للسيطرة على الطبيعة: الإنسان هو الذي يكتشفه وهو الذي يستثمره لصالحه. العقل هو واضع القوانين، وقوانين العقل متطابقة مع قوانين الطبيعة، لأن الأمر يتعلق في الحقيقة بقانون واحد. لقد كانت الفكرة السائدة هي أن : “القانون كما هو في العقل الإلهي، يظهر في الطبيعة وفي العقل البشري معا، ولا تناقض بين الاثنين”. العقل البشري هو واضع القوانين والقيم، يكتشف قوانين الطبيعة بعقله، أو لنقل في عقله، ويحدد القيم التي يجب أن يعمل بها الإنسان وفقا لطبيعة الإنسان نفسه

علينا إذن أن نميز بين معنيين للحق الطبيعي: الأول مستنبطة مبادئه من قانون القوة السائد في الطبيعة وهو ليس شيئا آخر غير القوة بالمفهوم الذي تدرسه الفيزياء. ولعل المتأمل في عبارة اسبينوزا : ” كل شيء يحاول على قدر استطاعته البقاء على وضعه” لن يفوته أن يلاحظ بأن “البقاء على وضعه” ليست سوى تعبير آخر عن مبدأ العطالة الفيزيائي!! ؛ أما الحق الطبيعي في معناه الثاني فمستنبطة مبادؤه من قوانين العقل التي لا تأمر إلا بما فيه نفع حقيقي للبشر
ومن شأن عدم القيام بهذا التمييز أن يقودنا إلى التقابل الكاريكاتوري بين اسبينوزا (حق طبيعي=القوة) و روسو(حق ثقافي=التعاقد) وإلى عدم فهم كيف يوضع اسبينوزا بين منظري مقولة الحق الطبيعي وفكرة التعاقد التي قامت عليهما منذ العصور الحديثة فكرة حقوق الإنسان!
ومن المهم أن نلاحظ ان البشر باختيارهم العيش وفق قوانين العقل ومبادئه، فإنهم في الواقع يستمرون في العيش تحت مظلة الحق الطبيعي، ولكن بالمعنى الثاني. وفي هذه الحالة يفهم من الحق الطبيعي ذلك الحق المستمدة مبادؤه من العقل، وهو نفس المعنى الذي نجده عند كانط أيضا
لكن، ماذا يعني العيش وفق قوانين العقل؟ لايعني شيئا آخر غير تأسيس الحياة الاجتماعية على التعاقد والاتفاق على مبدأ عقلي بسيط لايمكن لأحد ان يتنصل من الوفاء به دون الوقوع في التناقض، أودون أن يبدو فاقدا للحس السليم بتعبير اسبينوزا، ومفاد هذا المبدأ العقلي: “عامل الآخرين بمثل ما تحب أن تعامل به” هذا المبدأ الذي يجعل وحده العيش المشترك ممكنا.
ومرة اخرى نكتشف تهافت التصور الذي يجعل روسو المفكر الوحيد الممثل للنظرية التعاقدية في درس الحق دون هوبز واسبينوزا !
لنلاحظ عند اسبينوز أن وصف حالة الطبيعة والحق السائد فيها يؤدي وظيفة منهجية أي أنه ليس سوى مقدمة منطقية لإعلان ضرورة التعاقد في ما يشبه الإستنباط العقلي والاستلزام المنطقي. يقول فيلسوف أمستردام:

” لنلحظ أيضا أن الناس يعيشون في شقاء عظيم إذا لم يتعاونوا، و يظلون عبيدا لضرورات الحياة إن لم ينموا عقولهم. و من ثم يظهر لنا بوضوح تام أنه لكي يعيش الناس في أمان و على أفضل نحو ممكن، كان لزاما عليهم أن يسعوا إلى التوحيد في نظام واحد، و كان من نتيجة ذلك أن الحق الذي كان لدى كل منهم، بحكم الطبيعة، على الأشياء جميعا، أصبح ينتمي إلى الجماعة”

ألا يتأسس الحق هنا في نهاية المطاف على ماهو ثقافي؟ إذا فهم من “الثقافي” تلك المبادئ والقيم التي تسفر عنها المواضعة والاتفاق داخل جماعة ما ويتواتر العمل بها واحترامها كقاعدة (ليفي شتراوس)
ولكننا قررنا كذلك سابقا أن العقل نور طبيعي ومن ثم تكون مبادئ الحق المؤسس عليه طبيعية بمعنى من المعاني؟ أليس ذلك وقوعا في التناقض؟ كلا، إذ ليس لهذا التناقض الظاهري سوى أن التقابل أو الزوج المفاهيمي: “طبيعي / ثقافي” هو تقابل مصطنع، أو لنقل بأنه قدم به في الكتاب المدرسي بشكل غير ملائم وغير وجيه (impertinent) ولا يسمح ببناء الأطروحات الفلسفية – التي يمدنا بها تاريخ الفلسفة – ضمن تصورات منسجمة ومتماسكة ،تتحاشى السقوط في الالتباس وفي التلبيس على المتعلمين !

هوبز والتمييز بين الحق الطبيعي والقانون الطبيعي
لنتأمل حالة هوبز والذي لايختلف عن فيلسوف امستردام إلا قليلا في مسعاه المنهجي لأنهما ينتميان إلى نفس الباراديغم السائد في القرن السابع عشر:
يقول هوبز:

“إن الحق الطبيعي، الذي يسميه الكتاب عادة بالعدل الطبيعي Jus Naturals معناه: حرية كل واحد في العمل بكامل قوته، وكما يحلو له، من أجل الحفاظ على طبيعته الخاصة، وبعبارة أخرى على حياته الخاصة، وبالتالي القيام بكل ما يبدو له، حسب تقديره الخاص وعقله الخاص، أنه أنسب وسيلة لتحقيق هذا الغرض”.

عند هذا الحد، سيكون هوبز فعلا منظرا ومدافعا عن التصور الطبيعي للحق باعتباره حق القوة، لو لم يكن يحرص على التمييز بين مفهومي ” الحق الطبيعي” بالمعنى السابق ذكره و ” القانون الطبيعي” الذي يعرفه كالتالي:

“القانون الطبيعي هو قانون، بمعنى قاعدة من صميم العقل البشري، يمنع الناس من القيام بما يقودهم إلى الهلاك الذي لابد أن يجرهم إليه تمسك كل منهم بحقوقه كاملة”

ويعلق الجابري على هذا التمييز المفاهيمي بالقول:

“الحق الطبيعي”، الذي تعطيه الطبيعة، يعطي الإنسان كل شيء. أما “القانون الطبيعي”، الذي يصدر من طبيعة عقل الإنسان نفسه فهو يعين ويحدد الطريقة الأكثر ملاءمة للحفاظ على الحقوق الطبيعية وعلى رأسها حق البقاء. إن العقل يملي على الإنسان فكرة على درجة كبيرة من الأهمية، فكرة التنازل عن حقه الطبيعي، الذي يعني حرية التصرف بدون قيود، والدخول مع الآخرين في حال من السلم، قوامها الكف عن الاقتتال والتحرر من الخوف. هذا التنازل عن “الحق الطبيعي” هو أساس الدولة وهو العقد الاجتماعي

هكذا، وبعد وصفه لحالة الطبيعة و” أهوالها” ينتهي هوبز إلى ضرورة التعاقد والاتفاق على “شيء ما” بدونه لاتقوم للحياة الاجتماعية الآمنة أية قائمة. نقول “شيء ما” لأن مضمون التعاقد يختلف باختلاف الفلاسفة وباختلاف تاويلات مؤرخي الفلسفة لفكر هؤلاء الفلاسفة: هناك اتفاق على صورة “التعاقد” دون “مادته”.
يقول هوبز في الفصل السابع عشر من الليفياتان:”

أتخلى لهذا الرجل او لهذه الجماعة من الرجال عن حقي في أن أفعل بنفسي ما أشاء، شريطة أن تفعل أنت الشيء نفسه. بهذه الوسيلة يكون الأفراد شخصا أو كيانا واحدا هو الدولة او الجماعة community ، ويخرج إلى الوجود هذا الليفياتان او الإله الفاني الذين ندين له بالسلام والحماية”

—-
هناك إذن عند هوبز كما عند اسبينوزا استخدام مزدوج لمفهوم الحق الطبيعي: يوضع المعنى الأول كمعطى بدئي تستنبط نتائجه الكارثية (حالة حرب الكل ضد الكل) ليحل محله المعنى الثاني كشرط لتجاوز حالة الحرب وقيام الحياة الاجتماعية
وقد أرجع الجابري هذه الإزدواجية إلى أن أوربا القرن السابع عشر شهدت تيارين في موضوع الحق الطبيعي : تيار يتخذ الطبيعة الإنسانية، وبالتالي العقل البشري نفسه، مرجعية له، وتيار يتمسك بالطبيعة بمعنى نظام الكون وقوانينه.

هل يصح بعد هذا أن نضع هوبز ضمن ” التصور الطبيعي” للحق -المختزل إلى حق القوة- ضد فلاسفة التعاقد والتأسيس الثقافي للحق؟
صحيح أن هناك من يرى في أفكار هوبز تبريرا وشرعنة وتنظيرا للحكم المطلق، ولكن حتى في هذه الحالة ألم ينجم هذا الحكم المطلق عن تعاقد؟ هل هو استمرار يستنسخ حرفيا مبدأ القوة المعمول به في حالة الطبيعة الافتراضية؟
ثم الا نعثر عند هوبز نفسه عما يمكن اعتبارها تأسيسا لفكرة المساواة الطبيعية المبدئية بين البشر، التي سيطورها مواطنه جون لوك بشكل خاص، تلك المساواة التي تحجبها المواضعات والأعراف الاجتماعية:
يقول هوبز في الفصل الثالث عشر من الليفياتان:

“لقد خلقت الطبيعة البشر متساوين إلى أبعد الحدود فيما يتعلق بقدراتهم الجسمانية والعقلية. قد نعثر أحيانا على رجل أقوى جسما من الآخرين أو أسرع بديهة وأكثر ذكاءا منهم، ولكن هذا الفرق لا يبلغ درجة تجوز له ان يدعي لنفسه امتيازا لا يحق للآخرين إدعاء مثله”

في جميع الأحوال، وكيفما كان تأويلنا للفلسفة السياسية لطوماس هوبز، فإن من الصعب أن نضع هوبز بجانب السوفسطائي غلوكون الذي يجعل سيطرة القادر على غير القادر واستئثار القوي بنصيب أكبر من نصيب الضعيف هو عين العدالة الطبيعية؛ وليس من اليسير كذلك أن ننسب له تصورا فلسفيا يتأسس الحق بموجبه على ماهو طبيعي بيولوجي، في الوقت الذي يثبت فيه إستحالة هذا التأسيس ولا يتردد في وصف وضعية الإنسان في حالة الطبيعة بالحياة البائسة، بل إن وصف حالة الطبيعة والحق الطبيعي السائد فيها إنما يقصد منه البرهنة – عند هوبز كما عند اسبينوزا – بأنه لاوجود لخير او عدالة في ذاتهما وبشكل طبيعي، وأن أفعال الإنسان لاتخضع للتقويم الأخلاقي ولايمكن ان توصف بالخير او الشر، بالفضيلة او الرذيلة إلا بعد التعاقد والاتفاق على مبادئ ومعايير التصرف والسلوك بين أفراد الجماعة
لمزيد من الاطلاع أنظر نص هوبز هنا: نص طوماس هوبز: الإنسان ذئب للإنسان

كما انه من قبيل التبسيط مقابلة حق طبيعي قائم على حق القوة بحق ثقافي قائم على قوة الحق، لسبب بسيط أن ما سمي في الكتاب المدرسي “حقا ثقافيا” يفرزه التعاقد نظريا ومثاليا وتصونه الدولة والمؤسسات عمليا ، قد لايكون سوى إحتكار للإستعمال المشروع للعنف حسب تعريف “فيبر” للدولة. وللأسف الشديد فقد ترسخ عند غالبية المتعلمين تصور تبسيطي يقضي بأن الحق الطبيعي مرادف للقوة في حين أن احترام الطبيعة النوعية الأخلاقية للإنسان لايتأتى إلا في ظل “الحق الثقافي” !!

مقولة “الحق الطبيعي” عند روسو
بقي لنا الآن ان ننظر في الفلسفة السياسية عند روسو وفي موقفه من مقولة الحق الطبيعي.
قُدِم روسو في الكتاب المدرسي في فقرة بُدأت بإعلان ” إفلاس الحق الطبيعي” والذي استنتج منه

استحالة تأسيس الحق بكيفية قبلية (؟) وتجذيره في الطبيعة وأنه لايستقيم إلا باعتبار الغايات التي يخدمها من تعايش وتعاقد وانطلاقا من الميزة النوعية للإنسان والمتمثلة في كونه حيوانا عاقلا واجتماعيا وثقافيا.

إن إدراج الطرح الروسوي بعد هذه العبارات يوحي بانه من أنصار التأسيس الثقافي للحق تأسيسا يتجاوز ما سمي “إفلاس الحق الطبيعي”.
إذا كان دفاع روسو عن فكرة العقد الاجتماعي والتعاقد كأصل للجسم الاجتماعي وللسلطة السياسية ليس موضوع خلاف، فإن وضعه خارج نظرية الحق الطبيعي يثير أكثر من علامة استفهام، خصوصا وأن روسو يصف في الكثير من نصوصه بعض حقوق الإنسان الحرية بكونها حقا طبيعيا.
كيف يمكن ان نفهم هذه العبارة الواردة في مؤلف موازي موجه للمتعلمين هو كتاب ” الكتابة الفلسفية في الامتحان الوطني للباكالوريا”، في الصفحة 45:

“أكد روسو على فكرة التعاقد رافضا كل تأسيس للحق على القوة والعنف، مثلما رفض الحديث عن حقوق طبيعية مستمدة من العقل”

إذا كان مضمون الشق الأول من العبارة غير مختلف حوله، فإن الشق الثاني لايمكن ألا يثير الإندهاش: كيف يرفض روسو الحديث عن حقوق طبيعية مستمدة من العقل؟
إذا لم تستمد من العقل، فمن أين تستمد إذن؟ من التعاقد؟ ولكن مالذي يبرر التنصيص في بنود التعاقد على حق الحرية عوض العبودية؟ مالذي يبرر التنصيص أثناء التعاقد على المساواة عوض نظام تراتبي من النوع الأرستقراطي؟ وباختصار، مم تستمد مبادئ الحق المنصوص عليها في التعاقد؟ ألم تظهر مقولة الحق الطبيعي وحالة الطبيعة المفترضة لحل هذه المعضلة الفلسفية بامتياز أي معضلة الأسس؟ والتي انتبهت إلى أهميتها مؤخرا توجيهات نونبر2006 فجعلتها الإشكالية المحورية لدرس الحق العدالة
سأكتفي بإيراد هذا الاقتباس من كتاب روسو ” أصل التفاوت بين الناس” تاركا للقارئ مهمة الاستنتاج، لأن لاشيء يمكن أن يفصح عن فكر الفيلسوف أفضل من نصوصه:

“لن أقف قط عند البحث في أن الحرية إذا كانت أشرف خصائص الإنسان، فإنه من باب تشويه الطبيعة والانحطاط إلى مستوى البهائم عبيد الغريزة، والإهانة لباري وجوده، أن يتنازل هذا الإنسان دون تحفظ عن أثمن نعم ربه ليطيع سيدا ضاريا أحمق (…)
يقول “بوفندورف” إنه كما ينقل الإنسان ملكية ماله إلى الآخرين بموجب عقود وعهود، كذلك يمكنه ان يجرد نفسه من حريته لمصلحة غيره؛ ويلوح لي ان هذا قياس فاسد، وذلك لأن المال الذي اتنازل عنه يصبح غريبا عني ويغدو سوء استعماله أمرا لايعنيني، ولكن مما يهمني ألا يساء استعمال حريتي، ولايكمنني أن أكون أداة لجريمة أرغم على اقترافها وأنا عبد مملوك دون ان أتحمل وزر ذلك. وزد على ذلك : فإنه لما كان حق الملكية ليس سوى نتيجة عهود ومما أنشأه الناس، فإن كل إنسان يمكنه ان يتصرف فيما يحوزه كما يطيب له، ولكن الأمر مختلف في ما يتعلق بهبات الطبيعة الجوهرية مثل الحياة والحرية اللتين يباح لكل إنسان التمتع بهما (…) لأن التنازل عن أحدهما أيا كان الثمن هو إهانة للطبيعة والعقل. ولكن على افتراض إمكان تصرف الإنسان في حريته كما يتصرف في ماله، فإن الفرق يظل بينا جدا في ما يتعلق بالأولاد الذين لايتمتعون بمال أبيهم إلا بانتقال حقه إليهم، بينما أن الحرية لما كانت هبة من الطبيعة قد وهبت لهم لكونهم بشرا، فليس لآبائهم أي حق في تجريدهم منها (عن طريق بيعهم)… والفقهاء الذين قضوا بكل وقار بأن ولد العبد يولد عبدا، كأنهم قضوا بأن الإنسان لايولد إنسانا !”

يتبين إذن أن القول برفض روسو الحديث عن حقوق طبيعية مستمدة من العقل هو قول يصعب الدفاع عنه أمام ما تنطق به نصوص فيلسوف جنيف نفسه
كما يتبين أيضا أن معارضة هوبز واسبينوزا بروسو على محور طبيعي/ثقافي تبدو معارضة فيها الكثير من التكلف والاصطناع، الذي حاول البرنامج الجديد نونبر2006 التخلص منه. وذلك لأن التعارض الأساسي في إشكالية الحق لايقوم بين الأساس الطبيعي (القوة) والأساس الثقافي(التعاقد) بل بين مقولتي الحق الطبيعي والحق الوضعي، من حيث ان الأولى تؤسس الحق على ماهية او طبيعة إنسانية كونية او مبادئ عقلية سابقة على ظهور المجتمع ومستقلة عن الخصوصيات الثقافية، بينما ترفض الثانية -كما عند هتنز كيلسن – هذا التأسيس بدعوى ميتافيزيقيته لتجعل من الملابسات التاريخية وموازين القوى داخل تشكيلة اجتماعية معينة الأصل الموضوعي والنسبي والقابل للمعاينة لكل مبادئ الحق
وبعبارة أخرى، فالتقابل، عند النظر في إشكالية الحق، لا يقوم بين الطبيعة والثقافة أو بين الهمجية والحضارة، بل يقع التقابل في قلب الثقافة والحضارة نفسها: فهذه المؤسسات ، مم تستمد شرعيتها؟ وهذه والقوانين المكتوب منها وغير المكتوب مم استنبطت ؟ علام أعتمد المشرعون في وضعها؟ هل يمكن أن تشرعن القوانين الوضعية ذاتها بذاتها؟ وتؤازر بعضها بعضا أو تحيل على نفسها بشكل دائري؟ وفي هذه الحالة كيف يمكن المقارنة والمفاضلة بين الأنظمة القانونية كما تساءل كل من هانز كيلسن وليو ستراوس؟ أوليست الحق السائد في ظل الثقافة وحالة الاجتماع مجرد استمرار للهمجية والعنف والقوة بشكل مقنع ومقنن codifié

Facebooktwitterredditmailby feather

مفهوم “الحق”في درس الفلسفة-عشر سنوات من الالتباس3

مفهوم “الحق”في درس الفلسفة:عشر سنوات من الالتباس
الجزء الأول الجزء الثاني الجزء الثالث الجزء الرابع

الجزء الثالث: المعنى الغائب لمقولة ” الحق الطبيعي”

لابد من التنويه بداية بأن التصور الجديد لدرس الحق كما هو وارد في التوجيهات التربوية الجديدة الخصة بالسنة الثانية (نونبر2006) قد تدارك الأمر ورفع الالتباس جزئيا بأن جعل المحاور المقترحة كالتالي:
– الحق بين الطبيعي والوضعي
-العدالة كأساس للحق
– العدالة بين المساواة والانصاف
كما أن الإشكالية الأساسية أصبحت هي:
مشروعية قواعد الحق التي تنظم الحياة داخل مجتمع ما

لكننا الآن بصدد المقرر “القديم”…
قبل أن يفسح الكتاب المدرسي المجال للوضعية القانونية لتنتقد فكرة الحق الطبيعي، كانت هذه الأخيرة قد جردت فعليا من أية قيمة عند مقابلتها سابقا بمقولة “الحق الثقافي”!!ء
وهناك مفارقة صارخة. تتمثل في ان الكتاب المدرسي اورد بالفعل نصوصا تقدم تصورا واضحا لمقولة الحق الطبيعي ، ويتعلق الأمر تحديدا بنص لـــ شيشرون ص185 و آخر لــــ ستراوس ص193، ولكن العرض المؤطر للدرس تجاهل هذين النصين وأغرق مقولة الحق الطبيعي في جدال عقيم مصطنع مبني حول التعارض حق طبيعي/حق ثقافي. والأدهى من ذلك ان يتم توظيف النصين المذكورين بعد ذلك ضمن محور/إشكالية ” الحق بين الإلزام والالتزام”!!ء

يحدد الكتاب المدرسي الدلالة الأولى “للطبيعة” و ” الطبيعي” من حيث هي مكون لماهية الإنسان كعضوية يشترك فيها مع سائر الحيوانات، وتبعا لذلك كمجموعة من القوى العمياء: غرائز ونزوات..”ء
ومن المنطقي أن يخلص الكتاب المدرسي إنطلاقا من مثل هذا التعريف وبعد صفحتين من التحليل إلى حدود وتناقض فكرة الحق الطبيعي، وإلى إفلاس القول بــ “الحق الطبيعي” القائم على المقومات الجسدية للفرد
وأن الحديث عن الحق لايستقيم إلا انطلاقا من الميزة النوعية للإنسان والمتمثلة في كونه حيوانا عاقلا واجتماعيا.. وثقافيا
ليس هناك اعتراض على التعريف أو الفهم السابق للطبيعة، وصحيح أن الكتاب المدرسي يذكر مرتين أن في أساس كل حق مدني يوجد حق طبيعي محايث لذات الإنسان…، ولكن كيف تم التوصل إلى هذه الخلاصة انطلاقا من التحليل السابق الذي اختزل الطبيعي في البيولوجي؟ و هل يحتاج الأمر فعلا إلى ثلاث او أربع صفحات لإتثبات استحالة تأسيس الحق على الطبيعة بمعنى القوة والعنف والاندفاع؟ ألم نهمش الدلالة الأخرى، الدلالة الأهم لمفهوم “الطبيعي” في عبارة ” الحق الطبيعي” ألا وهي الطبيعي بمعنى المستقل والسابق على الثقافة والمواضعة، ماهو كوني، مايشتق من طبيعة الشيء، ما ينبغي أن يتمتع به الإنسان لمجرد كونه إنسانا بغض النظر عن ملابسات المواضعة الثقافية

ذلك هو المعنى الذي عبر عن منذ القديم شيشرون ، و الذي يمكن ان نقرأه واضحا في النص النص المذكور أعلاه. يقول شيشرون:

لايوجد عبث أكبر من الاعتقاد بأن كل ماهو منظم بواسطة المؤسسات أو قوانين الشعوب عادل (…)ولو كانت إرادة الشعوب ومراسيم الرؤساء وأحكام القضلاة تحدد الحق ، لكان كافيا التصويت على إعطاء المشروعية للزنا واللصوصية وتزوير الوصايا وقبولها من قبل الجمهور لتصبح حقا(…) فلكي نميز قانونا حسنا عن آخر قبيح، لانتوفر على قاعدة غير الطبيعة

ذلك أيضا هو المعنى الذي يشدد عليه – في الفلسفة المعاصرة – ليو ستراوس في كتابه “الحق الطبيعي والتاريخ”. يقول ستراوس في نصه المذكور أعلاه:

“إن رفض الحق الطبيعي يعني ان كل حق فهو وضعي، وبعبارة أخرى أن الحق من وضع المشرعين ومحاكم مختلف البلدان دون سواهم. ومن البدييهي ان يكون معقولا تماما وأحيانا من الضروري الحديث عن قوانين وقرارات جائرة, وإقرار مثل هذه الأحكام يلزمنا بإقرار وجود معيار لما هو عادل ولما هو ظالم يكون مستقلا عن الحق الوضعي ويسمو عليه: معيار يمكن بواسطته تقييم الحق الوضعي”

ومن المهازل التي ترسخت بالتقادم وانتشرت بسبب الكسل المعرفي، أن تصدر رغم هذا النص الصريح مجموعة من المؤلفات الموازية الموجهة للمتعلمين تنسب إلى ليو ستراوس رفضه لمقولة الحق الطبيعي!!!وربما صنف ضمن التيار الوضعي..

نقرأ في “Encyclopedia Britanica” مايقلي:

“يشير الحق الطبيعي في الفلسفة إلى الحق والعدالة التي لاتستثني أي فرد من النوع البشري والمشتقة من الطبيعة لا من قواعد المجتمع أو القانون الوضعي”

.
وتبدأ هذه الموسوعة البريطانية في عرضها لمقولة الحق الطبيعي بالفلسفة اليوناننية، مرورا بآباء الكنيسة وصولا إلى تعريف Grotius الأب الفعلي للنظرية في شكلها المعاصر والذي يؤكد على ” أن صلاحية الحق الطبيعي تظل قائمة، حتى لو افترضنا عدم وجود إلاه أو عدم مبالاته بشؤون البشر”
وتتابع الموسوعة قائلة:

” يقف هوبز وغروثيوس على رأس مايعرف بمدرسة الحق الطبيعي التي حاولت- في إطار المنحى العام لفلسفة الأنوار – أن تشيد نسقا حقوقيا كاملا مستنبطا عقليا من حالة طبيعة مفترضة أعقبها تعاقد اجتماعي”

ونقرأ أيضا في معجم لاروس للفلسفة ص:72 تحت مادة “حق” :

” يتقابل الحق مع الواقعي تقابل المشروع مع الأمر الواقع، ونميز بين الحق الطبيعي الذي تنتسب إليه كل النظريات التي تؤسس العلاقات الإنسانية على طبيعة الإنسان وميولاته وتطلعاته الوجدانية (روسو، فيخته) مع الحق الوضعي القائم على التقاليد والأعراف والقوانين المكتوبة”ء

بيد أن الكتاب المدرسي لايكتفي بتجاهل هذه الدلالات الأساسية لمقولة الحق الطبيعي، ولا يقف عند حد مقابلة ما يسميه “التصور الطبيعي” بــ “التصور الثقافي” على النحو الذي ذكرنا، بل يعمق الالتباس المفاهيمي فيضيف حدا ثالثا هو “التصور التعاقدي”، قبل أن يضع كل هؤلاء مقابل التصور الوضعي كما يمثله “كيلسن” والمدرسة الوضعية القانونية
لكننا بيننا سابقا بأن مايسمى “التصور الطبيعي” – وبالمعنى الذي قدم به للمتعلمين كحق القوة والغرائز العمياء -لايشير إلى موقف فلسفي أو حتى وجهة نظر داخل الفكر السياسي، فما من أحد تجرأ على الزعم بأن الحق يتأسس أو ينبغي أن يتأسس على القوة الصرفة العارية من كل تبرير ثقافي.
يبدو انه قد حدث في الكتاب المدرسي انزياح دلالي خفي من “حق القوة” إلى “الحق الطبيعي”. بالنسبة للحد الأول، فقد بين روسو جيدا ان فكرة “حق القوة” فكرة متناقضة على المستوى المنطقي و عارضة زائلة على المستوى الواقعي. ولكن روسو يستخدم مع ذلك كما سنرى لاحقا مقولة “الحقوق الطبيعية” ويستخدم نعت ” طبيعي” لوصف حقوق أساسية محايثة لماهية الإنسان لايتصور تجريده منها !!! فهل وقع روسو في التناقض؟؟!!

بعد هذا التوضيح لدلالة “الحق الطبيعي” التي تم تغييبها في درس الحق، لأسباب ايديولوجية ربما، سنحاول أن نفهم كيف نُسِب إلى كل من هوبز واسبينوزا تصور فلسفي يؤسس الحق على ماهو طبيعي بمعنى العنف والعدوان والقوة؟
الحقيقة أن ما كان عند هوبز واسبينوزا مجرد استنباط عقلي من حالة مفترضة، هي حالة الطبيعة، بما هي حالة زائلة ومدعوة إلى الزوال، وضرورة زوالها هي مقدمة منطقية للبرهنة على ضرورة التعاقد في المرحلة اللاحقة كمصدر وحيد لشرعية التنظيم الاجتماعي والسلطة السياسي، كل هذا تحول في الكتاب المدرسي إلى نظرية فلسفية قائمة توضع في مقابل نظريات أخرى. والحال كما نقرأ في
Encylopedia Universalis
تحت مادة ” حق طبيعي”، :

“تنحدر بالتدريج فعالية الحق الطبيعي، المحدد بقدرة ورغبة الفرد، إلى الدرجة الصفر بسبب حالة الصراع المعمم واللاستقرار والخوف التي ينشرها، وهنا يلتقي هوبز واسبينوزا: إذ لايمكن تصور الحق الطبيعي عندهما إلا داخل فضاء أسطوري، فضاء متخيل أكثر منه واقعي”

سنحاول، في الجزء التالي، أن نسلط بعض الضوء على الفلسفة السياسية لكل من هزبز واسبينوزا وروسو ومشكلة تصنيفها
يتبع…

Facebooktwitterredditmailby feather

مفهوم “الحق”في درس الفلسفة:عشر سنوات من الالتباس2

مفهوم “الحق”في درس الفلسفة:عشر سنوات من الالتباس
الجزء الأول الجزء الثاني الجزء الثالث الجزء الرابع

الجزءالثاني: مقولتا “الحق” و “الحق الطبيعي” كما تمت معالجتهما في بعض الكتب المدرسية

قبل الخوض في المشروعية الفلسفية للتقابل الذي أقامه الكتاب المدرسي المقرر بين تصور كل من هوبز واسبينوزا من جهة و روسو من جهة أخرى، لابأس أن نعرض في البداية لنماذج من المعالجات التي خضعت لها مقولة الحق الطبيعي في بعض الكتب المدرسية مركزين بالخصوص على كتابين مدرسيين فرنسيين و ثالث مغربي.

1/

أما الكتاب المدرسي الفرنسي الأول فهو:
Parcours philosophiques, Terminal A, Nathan 1985
تأليف
Denis Huisman et autres

يقسم الدرس في هذا الكتاب عادة إلى أبواب تابثة:
pre-texte == استهلال
extrait === مقتطفات
grand texte === نصوص أساسية
leçon === الدرس

في هذا الكتاب، قدمت مقولة الحق الطبيعي على النحو التالي:

تحت باب الاستهلال :

يفتتح الدرس (الصفحتان 376 و 377) باعلان “حقوق الانسان والمواطن” للثورة الفرنسية،
مع تعليق تتخلله جملة من الأسئلة. نلخص كل ذلك كما يلي:
-من خلال ديباجته التي تستوحي نظرية الحق الطبيعي ومن خلال بنوده السبعة عشر، يكون هذا الاعلان قد حدد أهم حقوق الانسان وحقوق الأمة (…)

ثم نقرأ أسطرا بعد ذلك:
– هل الحق نقيض القوة؟ ألا يمثل بالأحرى أحد ادواتها؟

ومن خلال استعراض مختلف التناقضات التي واجهها إعلان الثورة داخليا (تعارض مصالح طبقات المجتمع الفرنسي)وخارجيا (الموقف من الرق وكونية الحق)، يطرح الكتاب الأسئلة التالية:

هل الحق طبيعي أم نتاج لمواضعة؟ هل تنحصر قيمته بالنسبة لمجتمع معين؟ أم أن هناك قانونا عادلا وأزليا تحاول القوانين الوضعية محاكاته بدرجات نجاح متفاوتة؟
ويضيف الكتاب:
– ينص إعلان 1789على أن حقوق الانسان طبيعية مقدسة وغير قابلة للتفويت، وإذا لم تكن الجمعية الوطنية تدعي بهذا الإعلان، اختراع حقوق، بل مجرد الكشف عنها و ونزع ماتراكم فوقها بسبب النسيان والجهل والاهمال،، فلأن المؤتمرين يستوحون روسو وايديولوجية الحق الطبيعي: من حيث أنهم ينيطون بالمشرع مهمة الاهتداء بالقانون الطبيعي الذي ليس شيئا آخر غير القانون الذي يمليه العقل. ومما ينص عليه هذا القانون العقلي- في المقام الأول – أنه لاحق لأحد بموجب الطبيعة في حكم شخص آخر أو السيطرة عليه

أما تحت باب ّنصوص أساسية”، فقد أورد الكتاب المدرسي المذكور نصا أساسيا بالفعل لصمويل بوفندورف من كتابه ” واجبات الانسان والمواطن”، وعلى هامشه ثمان فقرات قصيرة من الكتاب نفسه لإضاءة النص المركزي
وقد قدم الكتاب لكل ذلك على النحو التالي:

مثل باقي منظري مدرسة الحق الطبيعي، يقول الفقيه الألماني صامويل بوفندورف بوجود “قانون طبيعي سابق على كل المواضعات الخاصة” وبهذا المعنى ستكون منهجية البحث عقلية مثالية صرفة، لأن اكتشاف هذا القانون الطبيعي يتم من خلال التأمل في مكونات الطبيعة الانسانية
ومن أجل تصور القوانين أو العقد الاجتماعي الذي سيختاره البشر لو استرشدوا بالعقل وحده، يتخيل بوفندورف – شأنه في ذلك شأن غروسيوس، هوبز،لوك، روسو،…إلخ – حالة طبيعة سابقة على حالة الاجتماع، حيث يفترض أن الناس عاشوا بدون أي نوع من المؤسسات

أما تحت باب “الدرس” فقد تناول الكتاب المدرسي مفهوم الحق من خلال ثلاث محاور:الحق والأخلاق-الحق الطبيعي والحق الوضعي- الحق والسياسة

2/

أما الكتاب المدرسي الفرنسي الثاني فهو:
philosophie, Terminal A et B, Hatier 1989
تحت إسراف
Laurence HANSEN-LOVE et Florence KHODDES .

وقد تناول هذا الكتاب مفهوم الحق عبر المحاور التالية:
-ما هو حق وماهو فعلي واقعي؛
-حق القوة: حيث تمت الإحالة على كاليكليس وميكيافيلي والنقد الروسوي المعروف؛
-تعدد وتعقد مصادر الحق والتشريع؛
-القانون كقاعدة للحق؛
-القانوني والمشروع؛
– “بأي حق؟” وفي هذا المحور بالضبط نعثر على مقولة “الحق الطبيعي”.
يقول الكتاب:
” عند تصديهم لمشكلة المرجعية والتأسيس، صاغ الفلاسفة مفهوم الحق الطبيعي، ووضعوه مقابل الأنساق الاصطناعية النسبية للحق الوضعي (…) وقد شكل مفهوم الحق الطبيعي دعامة لكل الحركات الاحتجاجية ضد الانظمة القائمة (…) وهذا ماعبرت عنه ديباجة إعلان 1789 (…)

ولم يفت مؤلفي هذا الكتاب المدرسي الإشارة إلى:

” أن مفهوم الحق الطبيعي مفهوم إشكالي، فكبير الأسماك محتم عليها بحكم الطبيعة أن ياكل صغيرها (…) كما قال اسبينوزا، فهل هذا هو الحق الذي ندعي تأسيسه؟ ألا يجدر بنا أن نقول مع كيلسن بأننا لانقبل بوجود معايير محايثة للطبيعة إلا إذا جعلنا هذه الأخيرة محلا لإرادة إلاهية”

3/

أما الكتاب الثالث فهو كتاب مغربي يحمل عنوان ” دليل مرجعي في مجال حقوق الإنسان” أصدرته وزارة التربية الوطنية بالاشتراك مع وزارة حقوق الإنسان، وقد صدر عن مطبعة المعارف الجديدة، بدون تاريخ

رب معترض يقول: بأن ” الدليل المرجغي..” ليس “مرجعا ” فلسفيا ! نعم، ولكنه دليل أصدرته نفس الوزارة التي أصدرت الكتاب المدرسي وكلا الكتابين موجهان للمتعلم ويطمحان في المساهمة في تكوين النشء في نفس المجال ” حقوق الإنسان”.

يقول هذا الدليل في الصفحة 137:
وأصحاب الإتجاه العقلي في مدرسة ( الحق الطبيعي) وضعوا نصب أعينهم تخليص الفلسفة السياسية من تأثير الكنيسة الكاثوليكية وكذا تأسيس الحق على الإرادة والعقل البشريين. كما أنهم جميعا تقريبا يقولون بفكرة العقد الاجتماعي بل إن أصحاب المدرسة التعاقدية ( هوبز – لوك -روسو) قد استعاروا منهم الكثير من الأفكار. ولعل هذين الاتجاهين يلتقيان في جعل العقل أساس الحق، وفي إفساح المجال للإرادة والفعل البشريين، وكذا في تأسيس كل من السلطة واللمجتمع على أساس التعاقد”

أما في الصفحة 135 فنقرأ:
” وبغض النظر عن الفروق التي تفصل بين رواد نظرية العقد الاجتماعي (بوفندورف- هوبز-لوك-روسو)، فإن بالامكان إبراز بعض السمات المشتركة (…)”ء

4/ خلاصة عامة:

أين هو إذن التعارض المزعوم بين حق طبيعي، حيواني، مختزل إلى حق القوة وحق ثقافي، إنساني؟
أين نعثر على ذلك التأويل الذي انفرد به الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة، والذي تم بموجبه إعلان “إفلاس مقولة الحق الطبيعي” لصالح “حق ثقافي” ؟
ألا نلاحظ أن قيمة مقولة الحق الطبيعي في الفلسفة السياسية لاتدرك إلا بوضعها في تقابل مع أو على ضوء نظرية الحق الإلاهي أولا، ثم على محك الحق الوضعي، وكذا تيار الوضعية القانونية ممثلا في هانز كيلسن؟
هذا ما سنفصل فيه القول في الجزء الموالي من بحثنا

Facebooktwitterredditmailby feather

مفهوم “الحق”في درس الفلسفة-عشر سنوات من الالتباس1

مفهوم "الحق"في درس الفلسفة:عشر سنوات من الالتباس
الجزء الأول الجزء الثاني الجزء الثالث الجزء الرابع

الجزء الأول: من المعرفة العالمة إلى المعرفة المدرسية: مخاطر الالتباس

تحاول هذه المقالة أن تقف – من خلال مثال ملموس- عند إشكالية " وضع المعرفة الفلسفية داخل الدرس الفلسفي"

بشيء من الكاريكاتورية الدالة، يمكن أن نزعم بأن كل ما يبقى عالقا بذهن المتعلم من نظرية الحق الطبيعي الثورية هي صورة (وفكرة) الأسماك الكبيرة وهي تلتهم الأسماك الصغيرة الواردة في الصفحة 175 من الكتاب المدرسي للفلسفة، السنة الثانية من الشعبة الأدبية!! بالإضافة إلى فكرة أخرى، مجردة وغامضة، عن الإلزام والإلتزام…

عند نقل المعرفة من المستوى " العالٍم" إلى المستوى " المدرسي"،تحدث بالضرورة أشكال متعددة من التبسيط والاجتزاء والتقطيع وإعادة بناء وترتيب للمتن المعرفي موضوع " التحويل الديداكتيكي". ولاشك ان كل مادة دراسية تعالج مشاكل التحويل بطريقة الخاصة، بيد أن التحويل الديداكتيكي في مادة الفلسفة بالذات يواجه اكثر من غيره تحديات ومحاذير كثيرة بسبب شساعة وتنوع المتن المعرفي الممتد دياكرونيا عبر تاريخ الفلسفة الطويل وسانكرونيا غبر التنوع الهائل للمذاهب والأنساق الفلسفية، يضاف إلى ذلك تعدد القراءات والتأويلات التي يخضع لها المذهب الفلسفي الواحد
نود في هذه المقالة أن نسلط الضوء على حالة " تحويل ديداكتيكي" أفضت طوال عشر سنوات – وهي مدة المقرر الدراسي الذي انتهى عمره الافتراضي هذه السنة – أفضت إلى التباسات بل وتناقضات معرفية كثيرة، حرمت الفلسفة من الاطلاع الفعلي بوظيفتها التنويرية كأحد الفضاءات المتميزة للتربية على القيم، كما فوتت على المتعلمين فرصة الخروج بتصور للحق، واضح ومفيد من وجهة نظر أخلاقيات المواطنة،

يتعلق الأمر بدرس الحق وهو الدرس الثامن في ترتيب الدروس التي يحتويها الكتاب المدرسي للسنة الثانية من سلك الباكالوريا، هذا الكتاب المدرسي الذي ينفرد عن غيره من الكتب المدرسية – الفرنسية تحديدا والتي كثيرا ماحاكى تصوراتها وترسيماتها وطريقة بنائها الإشكالي في الكثير من الدروس – انفرد عنها هذه المرة بتقديم تصور فلسفي للحق وبالأخص لمقولة " الحق الطبيغي" ،نجمله في ما يلي:
"الحق الطبيعي، كما نجده عند كل من هوبز واسبينوزا، هو ذلك الحق الذي لايراعي من الماهية الإنسانية سوى بعدها البيولوجي الحيواني أي الأهواء والغرائز ، وبناءا عليه لابد من تجاوزه بحق ثقافي يستحضر، هذه المرة، المكون العقلاني والأخلاقي كالذي عبر عنه روسو
على الأقل هذا ماانعكس بشكل مرآوي في التآليف الموازية التي تملأ الأسواق وكذا في الملخصات المدرسية التي يمكن للمرء أن يعاين صداها وهو يقوم بتصحيح اوراق المترشحين القادمة بالضرورة من مدن أو مناطق أخرى
لن يفوت القارئ الحصيف طرح الأسئلة التالية:
هل فعلا يؤسس كل من هوبز واسبينوزا الحق على ماهو طبيعي (المختزل هنا إلى القوة !) في مقابل روسو الذي يؤسسه على ماهو ثقافي (أي التعاقد)ء؟
هل يطابق هوبز واسبينوزا بين الحق الطبيعي وحق القوة والعنف والعدوان؟ والأخطر من ذلك هل ينظران لهذا الحق ويثمنانه ويرفعانه إلى مستوى المرجعية والمثل الأعلى مثلما يرفع روسو العقد الاجتماعي إلى مقام المثل الأعلى والفعل المؤسس للحق؟
ألا تنسحب عبارة "فلاسفة الحق الطبيعي" على روسو مثلما تنسحب على هوبز واسبينوزا ؟ وبالمقابل ألا ينسحب تعبير " فلاسفة العقد الإجتماعي" على هوبز واسبينوزا مثلما ينسحب على روسو؟

ومن أجل استحضار الوزن الحقيقي لمقولة الحق الطبيعي وقوتها النظرية في تاريخ الفلسفة السياسية، وكذا قوتها التحريضية الاحتجاجية في التاريخ السياسي، من خلال تصدرها لأكثر من إعلان من إعلانات حقوق الإنسان، هل ينبغي أن نقابل الحق الطبيعي بالحق الثقافي؟ أم بالحق الإلاهي اولا ثم بالحق الوضعي ثانيا؟ وإلا كيف نفهم النقد الموجه لمقولة الحق الطبيعي من طرف الوضعية القانونية؟

يتبع…

Facebooktwitterredditmailby feather

منزلة ” الوضعية المشكلة” في الكتاب المدرسي

منزلة “الوضعية المشكلة في الكتاب المدرسي أو في شروط الوضعية المشكلة ووظائفها البيداغوجية

أخدت بيداغوجيا الوضعية-المشكلة تتبوأ شيئا فشيئا مكانة مهمة داخل بنية الكتب المدرسية الجديدية لمادة الفلسفة، لمواكبة التغييرات التي طرأت على المناهج الدراسية والتوجهات التربوية العامة كما وردت في الكتاب الأبيض. وسنتوقف هنا عند تجربة كتاب “في رحاب الفلسفة” على أساس أن نستخلص منها ما يمكن أن يساهم في التحديد الدقيق لخصائص ووظائف الوضعية-المشكلة في درس الفلسفة

ماليس وضعية مشكلة:
بذل مؤلفوا الكتاب المدرسي (رحاب الفلسفة) بدون شك جهودا محمودة في إخراج كتاب مدرسي يراعي شكلا ومضمونا المستوى المعرفي والخصائص السيكلوجية للذين يتوجه إليهم الكتاب، ويقطع مع تصور “الأبراج العاجية” التي تمترس خلفه سلفه السابق ؛ بيد أنهم سقطوا -فيما يتعلق بالوضعية المشكلة – في نوع من التنميط الذي لامبررر له:
فقد اختزلت الوضعيات المشكلة المستهلة للدروس في صيغة نصية “عالمة” تمثلت في مقتطفات من كتب تنتمي إلى سجلات أدبية وجمالية تحتاج بدورها إلى “توسط” بيداغوجي لفهمها من قبل المتعلمين واستيعاب دلالاتها فما بالك بإدراك الاستشكالات الثاوية خلفها: إن نصوص جبرا ابراهيم جبرا ومحمد برادة وخليل المرابط وأحمد عيدون الباحث في التراث، تعني الشيء الكثير للمطلع، ولكنها “لاتقول” شيئا لمتعلمين مبتدئين، خصوصا وأنها ليست نصوصا للتحليل ترد كمثيلاتها أثناء البناء الإشكالي للمفهوم. حيث يفترض التوقف عندها وتقريب دلالاتها من أفهام المتعلمين
ومن واقع تجربتنا الفصلية المتواضعة، نستطيع أن نزعم انها لاتضع المتعلم في أية وضعية مشكلة حقيقية، ومقلقلة تستنفر مداركه وتعلماته السابقة، وتدفعه إلى الإنخراط الفعال في عملية التعلم الذاتي بحثا عن حلول للوضعية.. وبالمقابل فإن نص السفير-الرحالة ادريس العمراوي مثلا حيث يصف بكل اندهاش “البابور” أي القطار البخاري أثناء رحلته إلى باريز حوالي سنة 1867 – هذا النص يثير بالفعل نواة وضعية مشكلة لأن بإمكان المتعلم أن يتمثل الموقف ويضع نفسه مكان سلفه , وهو وفي وضعية “صدمة التقنية”!
مواصفات الوضعية المشكلة:
إن المستهدف بيداغوجيا من الوضعية المشكلة، وبكل بساطة، هو أن “تضع” المتعلم “في مشكلة” !
ولن يتأتى ذلك مثلا بنص جبرا ابراهيم جبرا وهو يصف تجربة وجودية رفيعة ينذر أن يعيشها المتعلم على الأقل بالألفاظ التي قدمت بها في النص؛ صحيح أن نص برادة يقدم تجربة “طازجة” من تجاويف الذاكرة حيث يمتزج الحنين إلى الأم بصور إيروسية، ولكن ماهي الوضعية المشكلة المقلقة والمحرجة هنا؟
إن وضعية مشكلة في الرياضيات لن تكون سلسلة معادلات رياضية عددية، وإنما على سبيل المثال، مشكلة البقال وهو يحاول أن يقسم شيئا بين زبونتين؛ وفي حصة للفيزياء عن الكتلة الحجمية، لن تكون الوضعية-المشكلة نصا من كتاب نيوتن بل وضعية نريد ان نعرف فيها الحليب المغشوش من الخالص!
أريد ان أخلص من كل ما سبق إلى انه لابد للوضعية-المشكلة:

  • أن تكون أولا – “وضعية” أي موقفا أو تجربة حياة يمكن للمتعلم بكل يسر أن يدركها في كليتها وأن يختبرها أو يتماهى مع صاحبها، وليست تأملات لأن التأملات خلاصة تجربة وليست تجربة في بعدها الخام الأول au premier degré
  • – أن تكون ثانيا “مشكلة” أي أن تكون إما مأزقا منطقيا (مفارقة) أو مأزقا سيكلوجيا (حيرة وإحراج) يطرح نفسه بإلحاح بحيث لايمكن للتلميذ ان يتخد إزاءه موقف اللامبالاة، بل يسارع إلى الانخراط في لعبة البحث عن الحل!
    ولاشيء يشحذ همة الفكر ويزعجه ويوقظه من سباته ونزوعه التلقائي إلى الكسل واللامبالاة أفضل من المفارقات والمواقف المحرجة.
Facebooktwitterredditmailby feather

الوضعية المشكلة في تدريس الفلسفة: مدخل نظري

مدخل نظري (يمكنك أيضا الإنتقال إلى النماذج التطبيقية مباشرة)

problematicSitution
ننطلق في هذه الوضعيات التعليمية المقترحة من إعتبارين أحدهما بيداغوجي يهم عملية التعلم والآخر ديداكتيكي-فلسفي يقترن بطبيعة التفكير الفلسفي نفسه.

  • فأما الإعتبار البيداغوجي فيتجلي في أهمية المعنى داخل فعل التعلم: فما لم يدرك التلميذ معنى ودلالات التعلمات فإن دافعية التلقي والإستيعاب تتضاءل ناهيك عن قدرته على التعلم الذاتي أو الإبداع: فالذات المتعلمة تبحث دائما عن نسق تفسيري يناسب الأسئلة المطروحة عندها أساسا وليس “الأسئلة المثارة –في أحسن الأحوال- عبر خدع بيداغوجية قد تدفع التلميذ إلى مواجهة جهله”، لكنها لا تولد لديه أسئلة حقيقية نابعة من انتظاراته الخاصة. إن دور المدرسة يصبح بهذا المعنى هو إثارة الدهشة والتساؤل لدى التلاميذ وذلك انطلاقا من ربطهم بمعارف حية يجدون فيها إجابات عن حيرات وأسئلة يحسون أنها نابعة من حياتهم. إن المعنى الذي نعطيه للمعارف – نحن الكبار وخصوصا المدرسين – نابع من علاقة خاصة بالمادة المعرفية، علاقة نسجت عبر تاريخ شخصي طويل من الدرس والتحصيل، فتحولت إلى علاقة عشق أو “إدمان”!! ولذلك فليس من المستغرب ألا يتطابق بالضرورة معنى المادة المعرفية لدينا مع المعنى الذي قد تكتسبه المادة المعرفية بالنسبة للتلميذ ، هذا إن اكتسبت فعلا معنى ما !! وحدهم المتعلمون يمكنهم إعطاؤها معانيهم الخاصة ويكيفونها مع انتظاراتهم، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا باستثمار هذه العلاقة الخاصة وتهيئ المتعلم ضمن وسط مساعد ومحرك للرغبة والدهشة وعبر برامج ووضعيات تترجم حقيقة ما يحتاج إليه التلاميذ ويحفزهم على العمل والإبداع (1) وإذا مااستثنينا قلة من التلاميذ الذين تجمعهم علاقة خاصة بالمعرفة بحيث تبدو لهم منشودة ومطلوبة لذاتها بسبب تاريخهم الخاص أو ثقافتهم الأسرية التي قد تثمن المعرفة لذاتها، هل يستطيع غالبية المتعلمين أن يمنحوا المعنى لمعارف تقدم لهم كنتائج نهائية مطلوبة لذاتها وليس كتجربة إنسانية نتجت عن مخاض من الأسئلة والدهشة ومغامرة البحث والرغبة في الفهم؟ لايعني ذلك إنتهاء دور الأستاذ كأحد مصادر المعرفة أو أن التلميذ مدعو أو قادر بطرقة توليدية على بناء صرح المعرفة الفلسفية من ألفه إلى يائه!!، بقدر مايعني أن تقدم له المعرفة في الوقت الذي يطلبها ويحس فعلا بالحاجة إليها من أجل فهم وضعية أو حل مشكلة.
    وبعبارة أخرى، هل أخلق لدى اللميذ رغبة حقيقية وصادقة في المعرفة عندما أدعوه في بداية الدرس إلى استعراض تمثلاته حول اللغة أو البحث عن الدلالة المعجمية للحق، في غياب وضعية مشكلة أو قضية ملحة ذات معنى ودلالة تبرر اللجوء إلى مثل هذه الأبحاث، بإعتبارها وسائل وليس غايات؟
  • أما الإعتبار الثاني فذو طبيعة ديداكتيكية-فلسفية، قائم على حقيقة بسيطة وردت عن أرسطو تقول إن الدهشة هي التي دفعت الناس أول الأمر إلى التفلسف. والدهشة إنما تكون أمام ظواهر وضمن وضعيات تمس كيان الإنسان كل وتخاطبه بإلحاح وتحد مما يخلق عنده هذا التوتر المصحوب بشيء من التضايق واللارتياح، والذي يتعين علبنا إستثماره لدفع التلميذ إلى لقاء المعرفة، هذا اللقاء الذي غالبا مايحول دونه موقفنا البرغماتي إزاء العالم.
    لنتأمل الممارسة السقراطية نفسها: متى وكيف طرق سقراط موضوع الحب مثلا في محاورة “المأدبة”؟ ألم يفعل ذلك بعد أن انتهت المأدبة وقد أكل الندماء وشربوا، فرأوا أن يلقي كل واحد منهم خطابا في حق إله الحب؟!!
    كيف طرق سقراط قضية تعريف الجمال في محاورة “هيبياس الكبرى”؟
    لقد بدأ الحديث عاديا، (281a)حول انشغلات هيبياس وأسفاره الكثيرةكممثل لمدينته لدى المدن الأخرى، وعلاقة ذلك بحدق هيبياس وفصاحته وعلمه(283a)، لينتقل إلى قضية الحكمة والتربية (284a)والممارسة السوفسطائية للتعليم مقابل أجر، والتكريم والتقدير الذي تلقاه خطبهم ، وصولا إلى التكريم الذي حظي به أحد خطابات هيبياس(286 a) حول … الجمال
    وبعبارة اخرى، فإن فحص القضايا الفلسفية وتحديد دلالات الألفاظ والمفاهيم المستخدمة، يظهر على الدوام منغرسا ضمن وضعية حياتية يحاول المتحاورون فهمها وتفسيرها. وليس لحظة معزولة تبدأ بالعبارة التالية: ” سندرس اليوم القضية <س> ، فما ذا تعني لكم <س> ياترى ؟”، وعليه فإن التحدي المطروح على مدرس الفلسفة هو كيفية إعداد مثل هذه الوضعيات التي تدهش المتعلم، وتخرجه من سبات وطمأنينة الوضوح والبداهة الظاهريين، تجعل من فعل التفكير الفلسفي فعلا ضروريا، وليس مجرد مناقشة لقضايا مجردة لايرى فيها المتعلم غير تركة فكرية حفظها تاريخ الفلسفة،، أو لائحة من المشاكل التي لايدرك غير الأستاذ منشأها ورهانها؟
    كيف عالجت التوجيهات الرسمية مثل هذه الصعوبات والتحديات؟

تتوزع لحظات الدرس الفلسفي وفق الخطاطة الرسمية إلى طرح إشكالي وبناء إشكالي؛ فأما الطرح الإشكالي فيستهل بالإشتغال على الدلالات الإجتماعية فاللغوية وصولا إلى الفلسفية التي يفترض أن تسمح عناصرها ومفارقاتها بطرح مختلف إشكاليات الدرس التي سيتولى البناء الإشكالي معالجتها الواحدة بعد الأخرى.
يبدو هذا التصور سليما ومتماسكا من الناحية النظرية لكنه يفضي إلى بعض المفارقات على المستوى العملي:
هل من المفروض مثلا أن نعلن أو نكتشف كل إشكالات الدرس في البداية إنطلاقا من التقابلات التي تتضمنها الدلالة الفلسفية، ماهي الوظيفة البيداغوجية لإثارة كل هذه الأسئلة متراكمة مجتمعة الواحدة تلو الأخرى؟ وهل يحمل مثل هذا الإجراء دلالة أو معنى في نظر التلميذ عل نحو يحثه على الإنخراط الفعلي في عملية ومغامرة التفكير الفلسفي؟
إنه إجراء يراعي منطق تعليم المادة المعرفية لامنطق التعلم، منطق المعرفة المكتملة لا منطق المعرفة وهي في طور البناء من طرف المتعلم المبتدئ. والفرضية الضمنية هنا أن المشاكل الفلسفية تثار بمناسبة التفكير في دلالة الكلمات، وليس من خلال مواجهة وضعيات الحياة اليومية وأسئلة الوجود وقلق المصير … بكامل تعقدها وراهنيتها وإلحاحها ومحاولة حلها/ فهمها. عند هذه اللحظة وفقط عندها، نقترح عليه لحلها وفهمها التوسل بمختلف آليات التفكير الفلسفي ، ومن بينها استكشاف ومساءلة معاني الألفاظ التي نفكر بواستطها في المشكلة أو الوضعية، وإضفاء بعض النسقية والتماسك والنظام على أفكارنا، وفحص معتقداتنا وتأكيداتنا، ثم إستكشاف ( والإستفادة من ) الطريقة التي فكر بها الآخرون – أي الفلاسفة – في مثل هذه الإشكالات…؛
أما الفرضية الضمنية الثانيةالتي تقوم عليها التوجيهات الرسمية، فهي أن الإشكالات الفلسفية لاتبنى، وأن معالجتها الفلسفية لاتبدأ إلا بعد القطيعة مع الدلالات المتداولة، والحال أن العمل الفلسفي – بما هو إستعمال خاص للغة الطبيعية – ليس شيئا آخر غير اشتغال مستمر على الدلالات بغية فحص مسلماتها وفرضياتها الضمنية، والتمييز بين مكوناتها،والتنقيب عن آفاق جديدة للمعنى قد تحملها..،إن فعل التفلسف إستعمال خاص للغة الطبيعية، وكثيرا ما تم بناء مواقف فلسفية كاملة إنطلافا من التمييز بين الدلالات
وكما أشار أحد المهتمين (2)، فإن الإشتغال على التمثلات أمر محمود فلسفيا ولكن ماالمستهدف من هذا الإشتغال: هل هذا التمرين أو ” التطهر” الذهني ضروري قبل الولوح إلى محراب الفكر الفلسفي؟
سنضرب هنا مثالين لإظهار إمكانية ” معالجة” الإشكال معالجة أولية دون ” الإصطدام ” مباشرة بالتحديدات الدلالية:
هل من الضروري التعرف أولا على الدلالة الفلسفية لمفهوم اللغة وضبط هذه الدلالة قبل الشروع في مناقشة خصوصية اللغة الإنسانية مقارنة بأشكال التواصل الحيواني – وهي موضوع المحور الثاني في درس اللغة – ، والحال أن تعريف اللغة هذا يتضمن من العناصر ما يثير ضمنيا مفهوم “اللغة” الحيوانية، خصوصا عندما نقرأ تعريف لاروس الوارد في الكتاب المدرسي: ” اللغة قدرة خاصة بالنوع البشري على التواصل بواسطة…” ألا يصبح التعريف مصادرة على المطلوب، فتغدو المقدمة نتيجة في حد ذاتها؟! ألا نستطيع من خلال مقارنة أنماط التواصل البشري والحيواني بناء التعريفين العام والخاص للغة أي كنسق للتواصل وكوظيفة للتعبير عن الفكر تمييزا لها عن الإستجابات الغريزية؟أنظر نموذجا تطبيقيا هنا ؟وبالتالي نبني مقهوم اللغة أثناء هذه المقارنة نفسها؟
هل ينبغي تحديد الدلالة العلمية لمفهوم الشخصية ( تعريف آلبورت في الكتاب المدرسي) كهدف في حد ذاته دون الإنطلاق من واقعة أو مشكلة أو ظاهرة ما نحتاج في فهمها إلى ضبط دلالة المفهوم، مثل ظاهرة تعدد انماط الشخصيات بتعدد الأفراد أو ظاهرة المرض النفسي أو العقلي؟ أنظر نموذجا تطبيقيا هنا
إن إلحاح مثل هذه الأسئلة هو الذي دفعنا إلى ابتكار واقتراح عدد من الوضعيات التعليمية التعلمية لجعل دراسة الإشكاليات الفلسفية حاجة شخصية أو وجودية وليس مجرد استجابة لمنطق واكراهات المؤسسة المدرسية
==========
(1) نور الدين العمارتي، التلميذ والمعنى. مجلة فكر ونقد عدد42
(2) عزيز لزرق، قراءة في الإحراجات الخفية للدرس الفلسفي. جريدة الاتحاد الاشتركي 22-04-1999

(نماذج تطبيقية هنــــــــــــــــا)

Facebooktwitterredditmailby feather

التلاميذ ومشكلة المعرفة بمذاهب الفلاسفة وجنسياتهم وعصورهم.

التلاميذ ومشكلة المعرفة بمذاهب الفلاسفة وجنسياتهم وعصورهم.. مقترحات للتعاقد حول الحد الأدنى المعرفي، أو المعلوم من الفلسفة بالضرورة

little_think

ما أهمية معرفة التلاميذ بمذاهب الفلاسفة من عقلانية وتجريبية وظاهراتية ووجودية.. وجنسياتهم من يونانية وعربية وألمانية وأمريكية.. وعصورهم من قديم ووسيط ومعاصر…؟ سنعمل على معالجة هذه الأسئلة مستلهمين تمييزا كانطيا بين “المعرفة بالتواريخ” (cognitio ex datis) و“المعرفة بالمبادئ” (cognitio ex principüs)
يعمد عدد لا بأس به من الأساتذة الجدد أثناء الحصة الأولى إلى اختبار التلاميذ بخصوص هذه المعرفة كنوع من التقويم التشخيصي يمكنهم من معرفة مستوى المتعلمين وحصيلتهم المعرفية فيبنوا على أساسها دروسهم ومستوى خطابهم
في الغالب يصعق المدرسون الجدد عندما يفاجئهم تلامذة السنة الاولى وهم يعلنن بكل براءة وغفلة أن ديكارت يوناني، وأن أرسطو فرنسي، وأن الفلسفة ظهرت في القرن 16 أو 17، وأن ابن رشد من الفلاسفة الطبيعيين الأوائل..! مثلما قد يفاجئهم تلامذة السنة الثانية بأن ديكارت تجريبي..! ويبلغ وقع المفاجأة درجة أن يعمد المدرس الجديد عن حماس وحسن نية إلى تكليف التلاميذ بتمارين “علاجية” من قبيل إحصاء وجرد أسماء فلاسفة المقرر وإنجاز ثبت بمذاهبهم وجنسياتهم وتواريخ وفياتهم..
لكن ما صدقية مثل هذا التشخيص؟ هل سيجلي فعلا تعلمات المتعلمين ويكشف النقاب عن تعثراهم؟ وهل يمكن أن نبني على نتائجه لاحقا ممارستنا التدريسية؟
أزعم أن هذا الإجراء التقويمي مفهوم ومبرر تماما بالنظر إلى وضعية المدرس الجديد وإلى المنهاج، ولكن مصداقيته كتقويم تشخيصي ليست مع ذلك بديهية.
بالنسبة لمدرس جديد لا خبرة له بالمستوى المعرفي للمتعلمين، ولا بالمضامين المعرفية للدروس التي تلقوها، أقصد الدروس كما تنجز واقعا في الفصول وليس كما هي معروضة في الكتب المدرسية، تبدو هذه الاستمارة مناسبة، ويبدو ما تقيسه موضوعيا، إذ مهما تنوعت دروس من سبقه من المدرسين، فكلهم على الأرجح قد علموا تلامذهم -بمناسبة حديث عام أو عن التقديم لنص من النصوص – أن طاليس يوناني وأن ديكارت عقلاني.. وفضلا عن ذلك فإن نظرة سريعة إلى المنهاج من طرف المدرس الجديد لا يمكنها إلا أن تزكي اختياره: ففقرتان من الفقرات الأربع المرصودة لمجزوءة الفلسفة لمستوى الجذوع ذات خلفية تاريخية واضحة (نشأة الفلسفة ثم لحظات أساسية في تطور الفلسفة)، يضاف إلى ذلك كون “القدرة على وضع المعرفة الفلسفية في سياقها التاريخي والثقافي العام” هي إحدى القدرات المنصوص عليها في المنهاج.
هذا عن المدرس الجديد والمنهاج، لكن ماذا عن الدرس الفلسفي ومنطق التعلم؟ هل السؤال في الحصة الأولى عن مذاهب الفلاسفة وجنسياتهم سيقيس لنا فعلا تعلمات المتعلمين؟ ما تعلموه أو ما يفترض أنهم تعلموه أو ما ينبغي أن يتعلموه؟ ثم هل هذه “المعرفة التاريخية” هي مبتدأ التعلم وأدناه أم منتهاه وأعلاه؟ أقصد هل استيعاب الأنساب المذهبية للفلاسفة وحقبهم التاريخية.. هل هو مما يترسخ ويكتسب معناه في نهاية التعلم ومع مرور الوقت أم ما ينبغي حفظه وترصيده منذ البداية؟ هل يمكن للتلاميذ خلال نصف أسدس واحد في مستوى الجذوع أن “يحلقوا” فوق تاريخ الفلسفة من اليونان وصولا إلى المعاصرين مرورا بالوسيطيين والمحدثين؟ ويتذكروا بعد ذلك هذا الكم من الأسماء الجديدة جدة مطلقة؟ مع العلم أن المقاربة المعتمدة في المنهاج الحالي هي مقاربة موضوعاتية-إشكالاتية، تجمع فلاسفة مختلف العصور والمذاهب بدون تمييز، لتقيم بينهم حوارا حول الإشكال، أكثر منها مقاربة تاريخية، ترصد مقاربات الإشكال متتبعة تاريخ الفلسفة ومذاهبه المتعاقبة. على سبيل المثال لا الحصر: تجد في كتاب رحاب للسنة أولى علوم الأسماء التالية على التوالي في درس الوعي: شونجو، عالم أعصاب من المذهب الاختزالي (ق21)، برغسون (ق 20) فيلسوف حدسي، راسل، رياضي ذي نزعة تحليلية (ق20)، آلان، فرويد، لاكان، ماركس..
ضمن هذه الشروط، وعندما يضع المتعلمون بداية الفلسفة في القرن 17م وينسبون ديكارت إلى التجريبيين.. فهل الخطأ هنا فظيع حقا بحيث نستنتج منه أنهم ما فقهوا البسيط والأدنى، فكيف لهم بالمعقد والأعلى؟
هل معرفة اللحظات والمذاهب أمر أولي بسيط؟ وهل سيكون مفيدا تكليفهم بالجرد واﻹحصاء لرد الفلاسفة إلى بلدانهم والوفيات إلى سنواتها واﻷعلام إلى مذاهبها..؟ ماذا تعني حقا لتلميذ سنة أولى “العقلانية النقدية” إذا رد إليها كانط؟ وماذا تعني “الفلسفة الوسيطة” إن رد إليها ابن رشد؟ هذه مقوﻻت وتبويبات واضحة لنا كمتمرسين ولكن هل لها محتوى ومضمون بالنسبة للتلاميذ؟ هل معرفتهم بأن أرسطو يوناني وأن ديكارت فرنسي وان ابن رشد من أعلام الفلسفة العربية اﻹسلامية.. هل هذه المعرفة “الصحيحة” دليل على تعلم صحيح مطمئن. ألن تكون هذه مجرد معرفة بالتواريخ كما يقول كانط!؟
مما لاشك فيه أن التوفر على تصور ذهني للخط الزمني لتاريخ البشرية هو عماد الثقافة العامة وإحدى الأهداف الاستراتيجية للمدرسة ولمختلف موادها الدراسية (حقب ما قبل التاريخ وخصوصا العصر الحجري – حقب التاريخ وخصوصا الحقبة القديمة، الوسيطة، الحديثة ثم المعاصرة)، ومما لاشك فيه أيضا أن امتلاك المتعلم لتصور ذهني للحظات الكبرى لتاريخ الفلسفة والتي توازري حقب التاريخ، فضلا عن جنسيات الفلاسفة هو أمر بالغ الأهمية لجهة استيعاب أفضل للأفكار الفلسفية، لأن دلالات هذه الأخيرة وأبعادها ورهاناتها متأتية جزئيا من شروط إنتاجها أي من السياق التاريخي والحضاري.. ولكن..
ولكن أمام شساعة تاريخ الفلسفة وتعدد أسماء أعلامه وتشعب مذاهبه وفرقه ونحله، فاﻷهم من جنسية ديكارت هو أن يعرف تلاميذ الجذع مثلا أن الشك تعليق للحكم في انتظار الدليل، وأن الشك الديكارتي علامة على رغبة في تأسيس المعرفة انطلاقا من الذات وتجاوز الموروث.. ووضع أكثر اﻷشياء بداهة موضع شك. بل هذه المعارف هي الشرط الذي سيسمح لهم بفهم وتذكر انتماء ديكارت إلى بدايات حقبة هي الحقبة لحديثة وانتهاء أخرى وهي الوسيطة؛ وعوض جنسية أرسطو حبذا لو كانوا يعرفون شيئا من الموروث المفاهيمي اﻷرسطي من قبيل العلل اﻷربعة او تمييزه بين القوة والفعل..؛ واﻷهم من معرفة كون ابن رشد ليس من الحكماء الطبيعيين هو ان يتذكر التلاميذ محاججات ابن رشد لتبرير اﻻشتغال بالحكمة والنظر العقلي بوصفه من أوجب الواجبات الشرعية المنصوص عليها في القرآن الكريم نفسه، وأن الحق ﻻ يضاد الحق، وكذا تمييزاته الشهيرة بين ما هو بالعرض وما هو بالجوهر.. وتشبيهاته اﻷشهر حول الشَرَق والعطش والسكين والتذكية..؛ واﻷهم من معرفة جنسية الحكماء الطبيعيين والمناطق التي ينحدرون منها في آسيا الصغرى، أن يحتفظ التلاميذ بالجدة والجذرية التي طبعت تفكير هؤﻻء الحكماء من قبيل رد الكثرة إلى المبدأ الواحد، الحرص على التبرير العقلاني للأجوبة، تفسير الطبيعة بالطبيعة…
إذا استعرنا لهذه المعارف إسم “معرفة بالمبادئ” أو لنقل “معرفة بالمبادئ والمفاهيم”، فمعرفة أسماء المذاهب التي ينتسب إليها الفلاسفة، جنسياتهم ووفياتهم هي “معرفة بالتواريخ”. ودون الانتقاص من هذه الأخيرة، فهي ليست حجر الزاوية في التعلم الفلسفي، وليست مما ينبغي الحرص على ترسيخه لدى المتعلم والحرص على تشخيص مدى اكتسابه لها في بداية السنة. إنها في أسوأ الأحوال معارف عاطلة من الصعب تجنيدها في سياقات أخرى. وهي لا تكتسب معناها ووظيفيتها إلا من خلال المعرفة الأخرى، المعرفة بالمبادئ والمفاهيم.
لعل هذه الخواطر تكون أرضية للنقاش حول تعاقد ممكن على ما يمكن تسميته “الحد الأدنى المعرفي”، أو المعلوم من الفلسفة بالضرورة، الملزم للمتعلمين وللمعلمين، حتى وإن اختلفت طرائق تدريس هؤلاء والبناءات الإشكالية التي يختارونها أوالنصوص التي يشتغلون عليها.

Facebooktwitterredditmailby feather

احراق طار ق ابن زياد للسفن وحراكَة اليوم في قوارب الموت

احراق طار ق ابن زياد للسفن وحراكَة اليوم في قوارب الموت: التاريخ يعيد نفسه!؟

وضعية مشكلةوضعية مشكلة: ما العلاقة بين إحراق طارق بن زياد للسفن عند عبوره إلى إلاندلس، وحراكَة اليوم محاولين العبور إلى اسبانيا في قوارب الموت !؟؟
إليك هذا الحوار الطريف بين جد وحفيده حول تاريخ المسلمين وعلاقتهم بالغرب، والذي يمكن من خلاله أن يكتشف التلميذ بشكل بسيط، ويطرح بنفسه إشكاليات المحاور الثلاث: المعرفة التاريخية، التاريخ وفكرة التقدم، ودور الإنسان في التاريخ
 طارق والقوارب وإسبانيا
ذاك هو الشاطئ الإسباني هذا هو القارب ..!مرة ركبه المغربي طارق بن زياد واليوم يركبه المغربي المهاجر السري.لكن لماذا تمر علاقة المغربي، ماضيا وحاضرا، بذلك الشاطئ عبر عملية الحريكَ (أي الإحراق)!!؟
اانتبه م1- عوامل فشل الوضعية المشكلة: الحل المتسرع للمشكل
حيث أن الهدف من الوضعية المشكلة هو "وضع" التلميذ في "مشكلة"، فما أشبهها هنا بقنبلة ينتظر ان تحدث زوبعة ذهنية تخرج المتعلمين من لامبالاتهم وطمأنينتهم وإحساسهم بوضوح العالم و خلوه من أي جديد أو ألغاز محيرة!! باستثناء جديد التكنلوجيا وألغازها طبعا: جوال، MP4 ، دراجات نارية… والتي تبهرهم وتدهشهم وتخرجهم بالفعل من لامبالاتهم!
ولم يكن اختيار مجاز القنبلة عبثا! فانفجار القنبلة حدث يثير الاهتمام لدرجة الفزع، كما أنه يرغم المرء على "التصرف" و فعل شيء ما! وبالمثل يتعين على الوضعية-المشكلة أن تكون مثيرة فعلا للاهتمام والانتباه أولا ومحفزة على التفكير ثانيا،
ينتج عن ذلك أن المدرس مطالب -قبل بدء الحصة- بانتقاء وضعية مشكلة مثيرة للاهتمام حقا، تنطلق من معيش التلميذ وتمسه بشكل مباشر وتخاطب انشغالاته التي حتى لو حكمنا عليها بالتفاهة وأصررنا على انتشاله من شرنقتها، فلابد من مخاطبتها أولا لأنها مدخلنا الضروري إلى وجدان المتعلم المتعلم ومن ثم عقله، بحيث لا نترك له فرصة لعدم المبالاة، وهنا يتعين التمييز بين "الانشغالات العالِمة" و"انشغلات المعيش" وهكذا فالسؤال: هل توجد علاقة ثابتة بين كتلة الجسم وحجمه (الكتلة الحجمية)؟ هو انشغال عالم، انشغال ارخميدس فقط، في حين أن السؤال: كيف نعرف أن تاج الملك مصنوع من ذهب خالص هو "إنشغال معيش" أي انشغالل الملك صاحب التاج. لكن هذا لا ينفي أن هذا يقود إلى ذاك. وسنقول في هذه الحالة إن معرفة ما إذا كان تاج الملك من ذهب خالص أم مزيف هو الوضعية المشكلة؛
هذا عن دور المدرس وهو يعد الحصة وينتقي الوضعية، أما عن دوره أثناء الحصة، فيتمثل بالدرجة الأولى في الحفاظ على على أعلى درجات التوتر أثناء مسار الوضعية المشكلة
لذا أرجو ان يتجنب المدرس ما أمكن -في ما يخص الوضعية الحالية-أن تصل جماعة القسم إلى خلاصات من قبيل: "هناك تقدم في التاريخ" أو "إنها قرصنة أو جهاد بحري" أو "الرجال/الأبطال يصنعون الظروف او الظروف تصنع الرجال/الأبطال"… وإلا سنكون قد أبطلنا مفعول القنبلة بأيدينا ونقضنا غزلنا !! لأنه إن حصل ذلك، فقد تحولت الوضعية المشكلة إلى وضعية مريحة، او تحولت إلى لحظة من لحظات البناء الإشكالي حيث يتم تقديم موقف فلسفي من خلال نص كإجابة ممكنة على السؤال المفترض (طبعا، قبل مناقشته ومساءلته لاحقا للانفتاح على غيره)

2- عوامل نجاح الوضعية المشكلة:
أ-تأزيم كل جواب ممكن

لكي تكون الوضعية المشكلة وضعية-مشكلة بالفعل، على المدرس أن يحاول بكل الوسائل الممكنة البرهنة على استحالة الجواب أو تأجيله على الأقل ! ألم يقل برغسون: إن الفلسفة هي فن طرح السؤال وتأجيل الجواب باستمرار، ولا يفعل المدرس في هذه الحالة غير لعب دور سقراط: إثبات التناقضات أو الإحراجات الممكنة التي تنجم عن قبولنا بجواب المحاور !!
ينبغي أن نمنع بكل وسيلة ممكنة اللقاء الذي يحاول التلاميذ جاهدين إقامته بين السؤال وجواب ما، للتخلص من حالة التوتر التي احدتثها الوضعية المشكلة، للعودة على حالة التوازن والطمأنينة الأولى

لأجل ذلك، على المدرس أن يكون مستعدا لتأزيم أي جواب قد يقترحه التلميذ !؟ وهذا يتطلب يقظة ذهنية وحضور بديهة تستنزف الطاقة الفكرية للمدرس والتلاميذ على السواء

ب-وضوح الإشكال في ذهن المدرس
بيد أن تأدية الوضعية المشكلة لوظيفتها البيداغوجية والمتمثلة في انبثاق السؤال بشكل تلقائي وطبيعي وغير مصطنع يتوقف على مدى وضوح الإشكالات أصلا في ذهن المدرس، أقصد الإشكالات التي يفترض أن تمضي نحوها الوضعية-المشكلة، لأننا نخوض غمار حصة الوضعية المشكلة ونحن على علم مسبق بما نود طرحه والتساؤل عنه دون أن ينفي ذلك إمكانية توصل الجماعة المفكرة/جماعة القسم إلى استنتاجات وأسئلة لم تكن متوقعة، ويمكن استدماجها في الصياغة النهائية للإشكال حسب درجة ملاءمتها!
وقد يعترص علي بالقول: بأن هذه لعبة مصطنعة مادمت تعرف مسبقا إلى أين تود قيادة تلامذتك !!
وأجيب نعم، ولا إمكانية لخلاف ذلك !! لايمكن للمرء أن يحسن "قيادة العقل" مالم يعرف إلام يقود عقله! وليس ذلك بقادح في وظيفة الوضعية المشكلة، خصوصا وأن الإشكال المصاغ في النهاية لايتجسد بالضرورة في نفس العبارات والأسئلة والتراكيب في كل الأقسام التي نقوم بتدريسها، بل يتلون بشيء من المسار الخاص الذي عرفه النقاش مع كل قسم على حدة. و.. من الممكن أن تكتسب أسئلتنا التي نحمل في أذهاننا مسبقا خصوبة إشكالية غير متوقعة من قسم لآخر او من سنة لأخرى، لكن لا أحد يستطيع الادعاء بالخروج عن الإطار الإشكالي العام الذي يرسمه المنهاج أو المؤسسة

نص الحوار:

الجد: ألا تكف عن مشاهدة هذه الأفلام الوثائقية يا بني !
الحفيد: إنها مهمة جدا يا جدي ! إن هذا البرنامج مثلا يتحدث عن نشأة الكون والانفجار العظيم، وكيف كان الكون عبارة عن غاز وكيف كانت الأرض في البداية مجرد كرة ملتهبة…
الجد: ولكن كل ذلك …
الحفيد(مقاطعا): نعم، نعم ستقول إن كل ذلك موجود في الكتاب والسنة
الجد: بل وأكثر من ذلك، فهذه العلوم إنما أخدوها عن المسلمين الذين كانوا سباقين إلى دراستها في أيام مجدهم الغابر
الحفيد: الذين اخدوها عن اليونان، الذين أخدوها عن البابليين والآشوريين والفراعنة.. المهم أن كل من يأخد عن سابقه يطور ما وصل إليه ويزيد فيه
الجد: يطور؟! أي تطور هذا!؟ إنهم يسيرون نحو الهاوية
الحفيد (مبتسما) نعم ! أعرف يا جدي : الزنا، التبرج، التفكك الأسري… ولكن اعترف ولو مرة واحدة أن الإنسانية بوجه عام قد تقدمت حتى من الناحية الأخلاقية. خد مثلا إلغاء الرق، تحسين الوضع القانوني للمرأة، ثم من الناحية المادية: القضاء على بعض الأوبئة، اكتشاف لقاحات الأطفال، الحد من خطر المجاعات والكوارث الطبيعية
الجد: هذا كله صحيح، ولكنهم فرطوا في دينهم ، وقد تبعناهم في ذلك مقلدين، بحيث لو دخلوا جحر ضب لدخلناه وراءهم !! ألا ترى معي يا بني أن أفضل القرون هو قرن الرسول (ص) والصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ولن نفلح إلا بالاقتداء بهم والرجوع إليهم، أنظر إلى التاريخ تجد الأمة تتهاوى فيظهر مصلح مجدد يحيي السنة ويرفع شأن الأمة ، ثم ما تلبث أن يدب فيها التخاذل
الحفيد: نعم يا جدي ! ولكن أنت دائما تنظر إلى أحداث الماضي من زاوية خاصة فقد عرف أجدادنا أيضا الفتنة الكبرى وقتل علي وبنوه، ودخل المغول بغداد، ونصب محمد علي للمماليك مذبحة القلعة الشهيرة… ثم ألا ترى معي أن هناك تقدما أخلاقيا ودينيا رغم كل ذلك: ازدادت اعمال الخير والتبرعات، و عدد المساجد وكثرت نسخ المصحف الشريف،وكثر حفظة القرآن ودارسوه مع أن جدتي مثلا كانت بالكاد تحفظ سورتين صغيريتين من القرآن بشق الأنفس… أما عن حب المال والجشع والأنانية، فهذه سنة الله في أرضه
الجد: كلا يابني ! كان أجدادنا أقل إقبالا على الدنيا وأكثر اهتماما بالآخرة، لذلك أقبلت عليهم الدنيا وفتحت لهم مشارق الأرض ومغاربها. خد مثلا فتح الأندلس، أنظر إلى شجاعة طارق بن زياد الذي أحرق السفن حتى لايفكر جنوده في التراجع أو التخاذل!!
الحفيد: لقد تغير العالم ياجدي! لم يعد ممكنا الانتصار عليهم بحرق السفن.
الجد: نعم لأن الرجال لم يعودوا هم الرجال! لم أقل اننا سننتصر عليهم بحرق السفن ولكننا نحتاج رجالا من طراز أولئك الذين أحرقوا السفن..
الحفيد: لا أتفق معك إلا جزئيا، لأن المسألة ليست مسألة رجال، بل ظروف تتجاوز الرجال! عندما اكتشف الأوروبيون طريق رأس الرجاء الصالح استغنوا من وساطة المسلمين، وعندما اكتشفوا أمريكا تضاعفت ثرواتهم، وعندما بدأت نهضتهم اخترعوا المدفع والبارود… هل يمكن للرجال إن وجدوا أن يتحدوا كل هذه المعطيات التي ساهمت في إضعافنا وفي تقويتهم، وينتصروا على أوروبا؟
الجد: لعلك تريد القول أن الظروف لم تعد مواتية لنصرنا، بيد أن الرجال هم الذين يصنعون الظروف المواتية ويكسرون شوكة الظروف المعاندة..
الحفيد: أرى أننا سنعود مرة أخرى إلى نقاشنا الشهير، لن أجادلك أكثر (مبتسما)… بالنسبة لقصة حرق السفن، هل هناك دليل مادي على حرقه لجميع السفن؟ هل تم إنجاز تنقيب أثري في عرض البحر حيث المكان المفترض لهذه الحادثة؟ رأيت مثلا منذ أيام وفي أحد هذه البرامج الوثائقة التي لا أكف عن مشاهدتها (مبتسما) أنهم عثروا مؤخرا قبالة الساحل الإنجليزي على بقايا سفينة مغربية تعود إلى عدة قرون خلت ووجدوا أغراض البحارة وأسلحتهم بما في ذلك نقودا تحمل نقوشا عربية إسلامية، واستغرب المؤرخون كيف أن القراصنة الموريسكيين وصلوا حتى هذه النقطة!!
الجد: أولا لم تكن قرصنة، بل جهادا بحريا؛ وبالعودة إلى قصة طارق بن زياد فلا يمكن أن يتطرق إليها الشك، فقد تناقلها الرواة والمؤرخون ولا يمكن أن يجتمعوا على الكذب، ولو لم تحدث القصة أصلا ماذكروها
الحفيد: صدقت، ولعل أعمال الحفريات والتنقيب تكشف عنها يوما ما . ولكن (مازحا) ألا تلاحظ يا جدي أن حفدة طارق بن زياد لا زالوا يقتدون به في تعاملهم مع الشاطئ الإسباني؟!هم أيضا "يحْركَون" أي يحرقون، ولكن ماذا يحرقون؟!
الجد: آه منك أيها الشقي !!!
:icon_biggrin:

بعض امكانيات استثمار الحوار في أفق طرح إشكالات مفهوم التاريخ (كما يحددها المنهاج):

دفع التلميذ إلى أن يكون طرفا في الحوار بين الجد وحفيده، وذلك في مرحلتين:
أولا- استخراج وتحديد القضايا الخلافية بين الجد وحفيده مثل:
1- هل أبدع الأوروبيون في نهضتهم ام نقلوا واستغلوا ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية ماضيا؟
2- ماهو المسار الذي تمضي نحوه الحضارة العاصرة (الحضارة الغربية)؟ مسار تقدم ام انحطاط؟
3-هل الأفضل هو لحظة نمضي نحوها أم لحظة مضينا منها وعلينا استعادتها؟ هل الأفضل أمامنا أم وراءنا؟
4- هل تخلفنا يعود إلى ظروف موضوعية أم إلى غياب "الرجال" أي ضعف الإيمان والعزيمة؟
5-كيف نتحقق من بعض الوقائع في تاريخنا؟ كيف نعرف ان القصة الفلانية أو الحدث الفلاني قد وقع فعلا وبالشكل الذي يروى به اليوم؟
6-كيف نقوم بتوصيف المعارك الحربية التي شهدها الماضي بين سفن المسلمين والسفن الأوروبية؟ هل يتعلق الأمر بقرصنة أم بجهاد بحري؟
7-هل يمكن القول أن التاريخ يعيد نفسه من خلال المماثلة بين إحراق طارق بن زياد للسفن وحراكَة اليوم في قوارب الموت؟

ثانيا-مناقشة هذه القضايا الخلافية، وإبداء الرأي فيها، ومن الممكن تكوين مجموعتين من التلاميذ تضم كل مجموعة من اختار هذا لجواب او ذاك، وتحاول كل مجموعة بسط حججها ودلائلها…
ويمكن للمدرس في نهاية هذه المناقشات أو أثناءها أن يساعد التلاميذ على اكتشاف أن السؤالين 2و 3 تتعلق بمنطق السيرورة التاريخية، في أي اتجاه تمضي هذه السيرورة (محور: التاريخ وفكرة التقدم)
وأن السؤال رقم 4 ينفتح بنا على إشكالية دور الإنسان والذات في صناعة الأحداث التاريخية ومن م صناعةالتاريخ وتوجيه دفته،وهو إشكال قريب إلى حد ما من إشكال المحور الأخير في درس الشخص: الشخص بين الضرورة والحرية، والفرق الوحيد هو ان الشخص أصبح تحديدا الفاعل التاريخي (محور: دور الإنسان في التاريخ)
وأن السؤالين 5 و 6 يتعلقان بمشكلة المعرفة التاريخية؟ وشروط علمية هذه المعرفة: الدقة، الواقعية، الموضوعية، أساليب التحقق من حدث ولى وانقضى… (إمحور: شكالية المعررفة التاريخية)

Facebooktwitterredditmailby feather

الشك الفلسفي في مواجهة الأشباح

من رسائل اسبينوزا الفلسفية (حول موضوع الأرواح والأشباح)

تقديم حول الرسائل وتوظيفها الديداكتيكي

من المفروض أن يكون درس الفلسفة – وهو أول درس مقرر للسنة الأولى بكالوريا (أنظر الكتاب المدرسي للسنة الأولى ،الطبعة الأولى 1995) – فرصة يلتقي فيها التلميذ لأول مرة بهذه المادة الدراسية الجديدية التي يملك عنها مسبقا عددا لابأس به من التصورات والتمثلات.
في ظل هذه الشروط يكون اللقاء الأول حاسما في رسم العلاقة المعرفية والوجدانية التي ستربط المتعلم بهذه المادة الدراسية مستقبلا.
لكن الملاحظ أن هذا الدرس – وعوض ان يكون فرصة لممارسة التفكير الفلسفي والإستئناس به وإكتشاف خصائصه على نحو إستقرائي ينتقل من الخاص والمحسوس إلى العام والمجرد، فإن المادة المعرفية وكذا النصوص التي يحفل بها الكتابب المدرسي تراهن على إختيار ديداكتيكي مغاير: فعوض الدخول في الفلسفة حسب عبارة هيدغر يتم الإكتفاء بالوقوف على عتباته، وعوض التعرف على التفكير الفلسفي وهو يشتغل En acte ، يتم الإكتفاء بخطاب ميتافلسفي لايفهمه الأستاذ إلا لأنه على إضطلاع على المتن الفلسفي الأول الذي تحاول هذه النصوص وصفه و وإبراز آليات إشتغاله…
ومن الملاحظات الصفية ذات الدلالة أن بعض التلاميذ يستعلجون أحيانا نهاية درس الفلسفة للشروع في درس الطبيعة حيث تتاح لهم للمرة الأولى ان يمارسوا او يتابعوا الأستاذ وهو يحوض بهم مغامرة التفكير الفلسفي في موضوع محدد وهو مفهوم الطبيعة عامة والطبيعة الإنسانية خاصة.
وبعبارة أخرى، هناك حضور قوي للمنهج الإستنباطي على حساب المنهج الاستقرائي: حيث نلقن التلميذ خصائص ومميزات الخطاب الفلسفي، قبل أن يتعرف على هذا الخطاب ذاته، يقرأ الميتا-فلسفة قبل الفلسفة. كأننا نعلمه قواعد لغة ما قبل أن يسمع أية جملة في هذه اللغة! ، في حين أن نظريات “بناء المعرفة” تلح على ضرورة مد المتعلم بالمعطيات والمواد و تكليفه بمهمة بنينة هذه المعطيات أو بناء قواعد إشتغالها وانتظامها ..
تقدم لنا رسائل اسبينوزا حول الأشباح والأرواح متنا فلسفيا تعليميا فريدا من نوعه من حيث أنه يقدم للمتعلم مادة التفكير الفلسفي تاركا له مهمة استخراج “صورتها” أي آليات اشتغال هذا الخطاب
تبادل اسبينوزا هذه الرسائل مع صديقه “بوكسيل” الطالب في كلية الحقوق، وقد جاءت المبادرة من هذا الأخير عندما بعث لفيلسوف أمستردام رسالة قصيرة يستفسر أو “يستفتي” حول صحة وجود الأشباح والأرواح
فيم إذن تساعد رسائل إسبينوزا الفلسفية على تجاوز هذه المعضلة؟
يتميز هذا المتن الفلسفي الفريد بالخصائص التالية:

  • — الأهمية الوجدانية للموضوع، فإذا كانت الفلسفة رغبة في المعرفة فإن هذا الموضوع الغامض والغريب insolite يوفظ هذه الرغبة ويذكيها. مستدعيا من التلميذ استثمارا وجدانيا يذكي الرغبة في التعلم.
  • — أن هذه الرسائل وعلى خلاف النص – المجتزأ بالضرورة من سياقه وهو النص الأكبر أي الكتاب – تقدم متنا مكتملا لانحتاج أبدا إلى معرفة مسبقة بسياقه.
  • — أن اسبينوزا يقدم مثالا حيا للفكر الفلسفي وهو يشتغل بدءاً من تلقي القضية مرورا بأشكلتها وصياغتها ضمن لغة ومفاهيم فلسفية، وانتهاءا بمعالجتها وفحص مختلف جوانبها وأبعادها
  • — أن هذه الرسائل تقدم بشكل ملموس مختلف حصائص التفكير الفلسفي: البناء المفاهيمي والإشتغال على اللغة من أجل التحديد الدقيق لدلالات الألفاظ والحدود دفعا لكل لبس، أشكلة القضية على نحو يقصي المعالجات السطحية المباشرة ويظهر عدم كفايتها، توظيف مختلف أشكال المحاجة والجدل بما فيها : البرهان بالخلف، الإستدلال بالمماثلة ، التهكم والسؤال الإحراجي، النقد سوا تعلق الأمر بنقد الحجاج بالسلطة أو نقد المصادر والروايات التي يسوقها مخاوره لإثبات دعواه…

تتبع خصائص التفكيير الفلسفي في الرسائل

ملاحظات متن الرسائل التمفصلات الكبرى
(1)صياغة أولية للقضية أو الإشكال: حيث يتوجه بوكسيل بأسئلته إلى الفيلسوف حول طبيعة الأرواح وخصائصها
(2) لكنه ينتبه في الأخير إلى أن اسبينوزا سينكر وجودها أصلا- حجج بوكسيل في هذه المرحلة:
(أ) السلطة المعرفية لعلماء اللاهوت والفلاسفة؛
(ب) عدد هائل من الوقائع والقصص التي يستحيل الشك فيها
من بوكسيل إلى اسبينوزا14 شتنبر 1674

سيدي المحترم،
إليك السبب الذي دفعني لمراسلتك: فقد أحببت أن أستطلع رأيك في موضوع الأشباح والأرواح، وإذا صح وجودها فكم يدوم ظهورها؟ ومارأيك في قول البعض بخلودها وقول آخرين بفنائها(1). مما جعلني في حيرة من أمري. لكن، من الأكيد ان القدماء قد اعتقدوا بوجودها، كما أن علماء الدين والفلاسفة المحدثين (أ)يعتقدون بوجود كائنات من هذا القبيل رغم اختلافهم حول ماهيتها وطبيعتها. فالبعض يرى أنها مخلوقة من مادة لطيفة شفافة، بينما يصرح آخرون أنها أرواح خالصة بدون أجسام أو مادة.
وإني لأتوقع مسبقا أنك ستخالفني الرأي في وجود الأشباح والأرواح(2) رغم هذا العدد الهائل من القصص والوقائع التي خلفها لنا القدماء والتي يستحيل الشك فيها أو إنكارها (ب). وحتى لو أقررت بوجود الأشباح والأرواح، فلاأخالك توافق أنصار العقيدة الكاثوليكية في كونها أرواح الموتى عادت تجول بيننا.
أكتفي بهذا القدر، ولاداعي أن أثقل عليك بأنباء الحرب والأخبار السيئة الأخرى المتداولة بين الناس في الآونة الأخيرة.

طرح القضية موضوع المراسلة، والتي ستغدو موضوع جدل لاحقا.
(3) شمولية الخطاب الفلسفي: ما من موضوع، شيئا ماديا كان أو فكرة، حقيقة أو وهما إلا ويتناوله التفكير الفلسفي.
(4) إعادة صياغة القضية أو الإشكال بطرقة استفهامية تذكرنا بالجهل المنهجي على شاكلة الجهل السقراطي!
(5) معرفة الشيء تقتضي تحديد ماهيته .والحواس أحد مصادر هذه المعرفة
(6)الفلسفة تحليل لأنماط التفكير والخطابات السائدة: هنا تحليل نمط التفكير المتبع لإثبات وجود الأشباح: قصة —> معطيات غامضة—> استنتاج وجود شيء ما —> اطلاق إسم الأشباح عليه!
(7) التهكم الذي يذكرنا بالتهكم السقراطي
(8) تحليل ” نفسي” لوجود الأشباح: إنها الرغبة في الشهرة والرغبة في تشكيل الأحداث وفق أهوائنا.
(9) التعامل النقدي مع مصادر المعرفة: و يتجلى هنا بوضوح كيف ينظر  الفكر الفلسفي فيما وراء الوقائع  والظواهر باحثا عن عللها الخفية
من إسبينوزا إلى بوكسيل:

لقد سرتني كثيرا رسالتك الأخيرة، فإضافة إلى كونها طمأنتني على أحوالك، فقد أثبتت انك لم تنس صديقك بعد.
من المؤكد ان كثيرا من الناس سيتشاءمون ويتطيرون، إذا علموا أن  الأشباح والأرواح هي موضوع مراسلتك لي، لكن الموضوع عندي لايخلو من أهمية، إذ لاتفيدني معرفة الحقيقة وحدها، بل أستفيد من معرفة ودراسة الأوهام والخيالات أيضا (3).
لندع جانبا البحث في ما إذا كانت الأشباح مجرد أوهام وخيالات، لأن إنكار وجودها أو حتى مجرد الشك فيه أمر مهول غير مقبول في نظرك ونظر كل أولئك الذين اقتنعوا تماما بقصص القدماء والمحدثين ورواياتهم.
صحيح إن التقدير والإحترام الكبيرين اللذين أكنهما لك يمنعاني من مناقضتك، لكنهما أيضا لايسمحان لي بمجاملتك. ولذلك فمن بين كل قصص الأشباح والأرواح التي قرأتها، أود أن تختار لي واحدة يستحيل الشك فيها، يتبين منها بجلاء وجود الأشباح والأرواح. فعلى حد علمي، لم أقرأ لأي كاتب جدير بالثقة مايثبت وجودها. ولاأعرف لحد الآن بالضبط ماعسى أن تكون هذه الأشباح (4)؟ ولم أجد أحدا قادرا على إخباري بحقيقة أمرها. من المؤكد أن ماثبت بالتجربة والحواس لابد من معرفة ماهيته (5)، وإلا فمن الصعب أن نستنتج من قصة ما وجود الأشباح. صحيح انهم يستنتجون وجود شيء ما (6). لكن من ذا لي يخبرني بماهية هذا الشيء؟ إذا أحب الفلاسفة ان يسموا مانجهله اشباحا فلا مانع عندي، فهناك مالايحصى من الأمور التي أجهلها.
وأخيرا، سيدي، أود لو أنك تشرح لي جيدا ماهية هذه الأشباح أو الأرواح:هل هي أرواح الحمقى أم الأطفال أم السذج ؟ (7) فما سمعته لحد الآن مما تتناقله الأفواه لايصدر إلا عن ناقصي العقل او معتوهين لاعن الذين يتمتعون بالحس السليم. إنها أشبه ماتكون بالسخافات وطرائف الحمقى.
وقبل الختام أدعوك إلى ملاحظة مايلي: إن الرغبة (8) هي التي تدفع الناس إلى رواية الأحداث لاكما تقع بالفعل بل كما يرغبون في أن تقع. تحذوهم رغبة خفية في أن يذيع صيتهم بين الناس من خلال قصص الأشباح والأرواح بطريقة أسهل من رواية الأمور الجادة.
لكن ماسبب ذلك ياترى؟
ليس على هذه القصص من شهود غير رواتها (9) الذين ابتكروها. فما أسهل أن يضيفوا أو يحذفوا مايروقهم دون خشية معترض أو مكذب: هكذا يخترع بعضهم قصصا ليبرر ماحصل له من فزع في أحلامه، بينما يختلق آخر مايثبت جرأته وسلطته أو رأيه بين الناس.
وبالإضافة إلى هذه الأسباب، فقد وجدت مبررات أخرى تدفعي إلى الشك في مثل هذه القصص أو على الأقل في تفاصيل وظروف حدوثها.
أكتفي بهذا القدر إلى حين أن تذكر بعض هذه القصص التي أقنعتك بإستحالة الشك قي وجود الأشباح والأرواح.

معالجة أولية للموصوع حيث تظهر بجلاء خصائص التفكير الفلسفي ومتطلباته
(10) يعتقد بوكسيل أن إنكار الفيلسوف لوجود الأشباح ليس سوى عبارة عن حكم مسبق صادر عن الشك القبلي لدى الفلاسفة.
(11) هذه المرة، يطور بوكسيل حججه :
(أ) استدلال قائم على فكرة الكمال والجمال؛
(ب) استدلال احتمالي؛
(ج) استدلال استلزام منطقي؛
(د) استدلال يستثمر معطيات فيزيائية
(12) يعود بوكسيل إلى حجاجه المفصل: القصص وشهادات المؤلفين ذائعي الصيت.
(13) تعبير بوكسيل عن شيء من الحس النقدي في تعامله مع الروايات
من بوكسيل إلى اسبينوزا:21 شتنبر 1674


لم أكن أتوقع من صديق صريح مثلك جوابا آخر غير الذي تلقيت منك. فإختلاف الرأي لايفسد للود قضية. لقد سألتني قبل أن الإفصاح عن رأيك أن أخبرك عن حقيقة هذه الأشباح. هل هي أرواح أطفال أم أرواح سذج أو مجانين؟ وأضفت أن كل ماسمعته لحد الآن لايصدر عن ذوي الحس السليم وإنما عن المعتوهين والمخبولين.
لكن تمهل .ولاتنس الحكمة القائلة بأن الأحكام المسبقة (10) تحول دون بلوغ الحقيقة. والآن، إليك الأسباب (11)التي تدعوني إلى الإعتقاد في وجود الأشباح والأرواح:

  • – أولا، وجودها ضروري لجمال الكون وكماله؛ (أ)
  • – ثانيا، لايبعد أن يكون الخالق قد أوجد مثل هذه الكائنات الروحانية، فهي أقرب إلى طبيعته من الكائنات المادية ذوات الأجسام؛ (ب)
  • – ثالثا، وكما توجد أجسام بدون أرواح، فلا يبعد أن توجد أرواح من غير أجسام؛ (ج)
  • – وأخيرا، فلاشك أن الفضاءات الشاسعة الفاصلة بيننا وبين النجوم ليست فارغة بل مأهولة ومسكونة.ومن المحتمل أن تكون الفضاءات الأعلى مسكونة بالأرواح الخالصة بينما تمتلئ الفضاءات الأدنى بكائنات من مادة لطيفة دقيقة وغير مرئية. (د)


أستنتج من ذلك وجود أشباح وأرواح من كل نوع وصنف، ربما، باستثناء الجنس المؤنث. قد لاتقنع هذه الحجج أولئك الذين يعتبرون الكون موجودا بالصدفة. فلندعها جانبا. وللنظر إلى تجربتنا اليومية، ألا تدلنا على وجود الأشباح والأرواح؟ ألا تسمع من حولك قصصا كثيرة قديمة وحديثة بشأنها؟ (12)
أنظر مثلا في كتاب بلوتاركPlutarque ستجد في كتابه ” مشاهير الرجال” كما في كتبه الأخرى قصصا كثيرة عنها. وفي كتاب “حياة القياصرة” لـــ سيتيونSétuone وفي كتاب “الأشباح” لـــفييرWeir و لافاطارLavatar . أما كادرانCadran المعروف بغزارة علمه فقد ذكر الأشباح والأرواح في بعض كتبه، وأثبت من خلال بعض التجارب أنها تراءت له ولوالديه وأصدقائه. وقد شهد ميلانكتون Melanchton المعروف بمحبته للحكمة والحقيقة وآخرون كثيرون بنفس الشيء.
وقد قص علي أحد القناصل المعروف بعلمه واتزانه أنه سمع ذات ليلة في مختبر أمه صوت عمليات تحضيرالنبيذ بنفس الطريقة التي ينجز بها نهارا حين وضعه فوق النار، وقد تكرر الحادث غير ما مرة.
هذه إذن هي الحجج التي تدعوني إلى الإعتقاد بوجود الأشباح والأرواح كما ذكرت لك. أما فيما يخص الأرواح الشريرة التي تطارد البائسين في الحياة الدنيا أو الآخرة، فإنها تخص السحرة وأعدها مجرد خرافات. إضافة إلى ذلك ستجد قصصا وحالات أخرى كثيرة في رسالة بلين الصغير إلى سورا sura ،و سيتيونSuéton في كتابه “حياة يوليوس قيصر” و فالير ماكسيم في الكتاب الأول وخصوصا الفصل الثامن؛ ثم أليساندرو أليساندري في مؤلفه “أيام الأعياد”. وكلها كتب توجد في حوزتك على ماأعتقد.
إني لاأتحدث هنا عما يرويه الرهبان والقساوسة (13) بخصوص الأرواح الشريرة أو لنقل أساطير الأشباح الكثيرة المملة كما نجد في كتاب “رؤى الأرواح” لصاحبه اليسوعي ثيووسThyaus فهؤلاء لايهدفون سوى إلى إثبات وجود المطهر Purgatoire  [ ليسنى لهم بيع صكوك الغفران]، ذلك المنجم الذي يدر عليهم ذهبا وفضة كثيرة. في حين أن المؤلفين الذين أتيت على ذكرتهم بعيدون ومنزهون عن هذه الأغراض الدنيئة ومن فهم يستحقون الثقة والإحترام.
لن أرد على كلامك المتعلق بالحمقى والسذج، بل سأكتفي بهذه الخلاصة التي أنقلها عن لافاطار من كتابه حول الأشباح والأرواح: ” إن من يتجرأ على إنكاركل هذه الشهادات المتواترة للمتقدمين والمتأخرين غير جدير بالثقة . فإذا كان التصديق المتسرع لكل من يدعي رؤية الأرواح ضربا من الحماقة، فأن الإصرار والمجازفة بتكذيب كل الروايات الصادرة عن الكتاب الموثقين هو أيضا ضرب من التهور.”

يطور بوكسيل حجاجه لإكسابه مزيدا من القوة  والصرامة والتماسك
(14) التهكم الذي يهدف إلى إظهار تهافت معتقدات الخصم
(15) تحليل حجج الخصم أو بالأحرى تفكيكها بحثا عن أسسها وافتراضاتها الضمنية.
(16) الإشتغال على المفاهيم: هنا، تحليل مفهومي الكمال والجمال,
(17) أسماء لحيوانات ومخلوقات أسطورية موغلة في الغرابة.
(18) الجهل أو التجاهل المنهجي مرة أخرى !
(19) معيار الوضوح والتميز الذي نجده أيضاعند ديكارت: المعرفة الحقة هي تلك التي نملك حول موضوعاتها أفكارا يدركها العقل بوضوح وتميز.
(20) عكس حجة الخصم أو الدفع بها إلى نتائجها القصوى لإظهار عدم تماسكها او عدم صلاحيتها او استحالة تعميمها أو تناقض ما يترتب عنها.
(21) تعامل الفكر الفسفي مع الإعتقادات المتداولة بالكشف عن فرضياتها الضمنية ،
من إسبينوزا إلى بوكسيل:( لاهاي في شتنبر 1674)

لقد سرني قولك بأن إختلاف الرأي لايفسد للود قضية، وشجعني لأعبر لك بكل صراحة عن رأيي في الحجج والروايات الكثيرة التي سقتها لتستنتج منها وجود أنواع لاتحصى من الأشباح والأرواح بإستثناء الجنس المؤنث.
وإذا كنت قد تأخرت في الرد عليك، فلأن يدي لم تقع على الكتب التي أشرت إليها بإستثناء كتابي بلين و سيتيون، بيد أني مقتنع بأني غير محتاج إلى البقية، فهم جميعا يبالغون بنفس الطريقة و يتمادون في رواية القصص العجيبة التي تملأ الناس دهشة وإبهارا.
وأنني لاأتعجب من هذه القصص بقدر ماأتعجب لهؤلاء المؤلفين ذووي العقول الراجحة والذين يستغلون بل ويسيئون استعمال كل مواهبهم لإقناعنا بمثل هذه الترهات. لكن لندع المؤلفين جانبا ولننتقل إلى صلب الموضوع مبتدءا بالخلاصة التي انتهيت إليها في رسالتك الأخيرة.
حسنا: هل أنا الذي ينكر وجود الأشباح والأرواح هو العاجز عن فهم هؤلاء الكتاب أم أنت الذي تحمل شهاداتهم أكثر مما تطيق عندما تصر على إثبات وجود الأشباح والأرواح؟
إذا كنت لاتشك أبدا في وجود أشباح وأرواح من الجنس المذكر وتستبعد وجود أشباح وأرواح من الجنس المؤنث، فهذا شك أقرب إلى الهوى منه إلى الشك الحقيقي. وإذا صح أنه رأيك بالفعل، فهو لايختلف مثلا عن إعتقاد العامة والحس المشترك بأن جنس الله مذكر لامؤنث !. وإني لأستغرب كيف أن الذين يدعون رؤية الأشباح عارية – على مايبدو- لم يحسموا الأمر فينظروا إلى أعضائها الجنسية؟ أمنعهم الخوف أم الجهل؟ (14)
حسنا، لقد جنحت إلى الدعابة المزاح (14)، ليس لعجزي عن الإستدلال، ولكن لآن إستدلالاتك بدت لي أقرب إلى الظن والتخمين منها إلى الحجج البرهانية.
ومع ذلك، دعنا نفحص حججك(15):
تقول إن ” وجودها ضروري لجمال الكون وكماله” فاسمح لي أن أوجه عنايتك سيدي إلى أن الجمال ليس صفة للموضوع الملاحظ، بقدر ما هو انطباع نابع من الملاحظ: فلو أن حدة إبصارنا كانت أقوى أو أضعف، أو لو أن تكوين أجسامنا كان مختلفا، لبدا لنا مانحسبه الآن جميلا ذميما والعكس صحيح. وإن أجمل كف لتبدو في غاية البشاعة تحت المجهر. وبالمثل تبدو بعض الأشياء جميلة رائعة عن بعد، بشعة قبيحة عن قرب. وبالتالي فالأشياء في حد ذاتها أو بالنسبة للذات الإلاهية ليس لا بالجميلة ولا بالقبيحة.
أما أولئك الذين يعتقدون أن الله قد خلق الكون ليكون جميلا، فعليهم أن يفترضوا أحد أمرين: إما أن الله قد خلق الكون ليتوافق مع رغبات الإنسان وعيونه؛ أو أن رغبات الإنسان وعيونه قد خلقت لتتوافق والكون.وكيفما كان الحال، فإني لاأستطيع أن أتصور كيف يحقق خلق الأشباح والأرواح هذه الفرضية أو تلك؟
من جهة ثانية، فالكمال أو عدم الكمال لايختلفان كثيرا عن مفهومي الجمال والقبح، وتجنبا للإطالة، دعني أسألك سؤالا واحدا: ماذا يضيف إلى كمال الكون ورونقه خلق الأشباح؟ أو هذه المسوخ الكثيرة مثل القنطورس أو الهدرة أو البعنق أو الستير أو العنقاء (17) وآلاف الترهات الأخرى؟ صحيح أن الكون سيكون أكثر زخرفا لو رتب وفق نزوات أهوائنا وزين بكل هذه الكائنات التي يحلم بها ويتخيلها دون عناء كثير من الناس وما من أحد منهم يستطيع فهمها.
تقول في حجتك الثانية: ” مادامت الأرواح ثعكس الطبيعة الإلاهية أفضل من الكائنات الجسمية، فلا يستبعد أن يكون الله قد خلقها”
إني لحد الآن أجهل فيم تعكس الأرواح الطبيعة الإلاهية أفضل من الكائنات المادية؟ (18) وكل ماأعلمه هو أنه لاوجه للمقارنة بين المتناهي وااللامتناهي، بحيث أن الفرق بين الله وأعظم الكائنات وأضخمها كالفرق بينه وبين أضعفها وأصغرها. ثم لو أني كنت أملك فكرة واضحة  (19) عن الأشباح والأرواح كتلك التي أملكها عن الدائرة أو المثلث مثلا لما ترددت في موافقتك الرأي بأنها من مخلوقات الله. بيد أن ماأجده في فكري لايختلف عما تصوره لي مخيلتي حول الهدرة والبعنق والعنقاء…فهي إذن مجرد أوهام تختلف عن الله كما يختلف الوجود عن العدم.
أما حجتك الثالثة، فليست أقل سخفا من سابقتها: لقد قلت بأنه مادام ممكنا وجود أجسام بدون أرواح، كذلك لايبعد أن توجد أرواح بدون أجسام.
لكن، أجبني رجاءا  ألا يحتمل كذلك أن نعثر على سمع أو ذاكرة أو بصر إلخ… بدون جسم لآننا نجد أجساما دون ذاكرة أو سمع أو بصر إلخ…؟ أو نجد قرصا بدون دائرة نظرا لوجود دائرة بدون قرص؟
(20)
أما حجتك الخامسة والأخيرة فمادامت لا تختلف عن حجتك الأولى، فإني أحيلك إلى جوابي على هذه الأخيرة، وأعترف لك أني حقيقة أجهل هذه الفضاءات العليا والدنيا التي تتجدث عنها اللهم إلا إذا كنت تعتبر الأرض مركز الكون (21). ولو كانت الشمس أو المشتري هو المركز لكان أحدهما هو المكان الأدنى أو الأعلى لا الأرض.
أستنتج إذن أن هذه الحجج وأمثالها لن تقنع بوجود الأشباح والأرواح إلا أولئك الذين يولون ظهورهم للعقل ويستسلمون للخرافات. والخرافة أشد أعداء العقل السليم بحيث أنها تعلي من شأن العرافين والمشعوذين لتنتقص من قدر الفلاسفة. أما بخصوص القصص والروايات، فقد سبق أن ذكرت في رسالتي السالفة أني لاأنكرها جملة وتفصيلا، بل أنكر النتائج التي تستخلص منها؛ أضف إلى ذلك أني لاأعتبرها جديرة بالثقة إجمالا خصوصا وأني أشك في بعض التفاصيل التي يروق للبعض أن يضيفها إليها من باب الزخرف لاحرصا على الحقيقة.
وكم كنت أود لو أنك إخترت من بين كل القصص التي تعرفها واحدة او إثنتين يستحيل علي الشك فيهما ويقنعاني بكل وضوح بوجود الأشباح والأرواح. أما ماذكرت من أمر ذلك القنصل فإنه في الواقع يبعث على الضحك والإستهزاء.
أكتفي بهذا القدر، لأننا لن ننتهي أبدا إذا ما شئنا أن نفحص كل مايروى عن هذه الحماقات.

الخاصية النقدية والمفاهيمية في التفكير الفلسفي، مع أمثلة لآليات الدحض والتفنيد
(22) تمييز في غاية الأهمية يقيمه بوكسيل بين منطق اليقين ومنطق الإحتمال، بين البرهان والحجاج، بين الرياضيات وقضايا الإنسان والإلاهيات.
(23) الدفاع عن الخاصية الموضوعية لصفة الجمال.
(24) هل يمكن تطبيق معيار الوضوح في مجال الميتايزيقا وما وراء الطبيعة؟
(25) الحجاج بالسلطة مرة أخرى.
من بوكسيل إلى إسبينوزا:

سيدي المحترم،
لقد تأخرت في الرد عليك بسبب مرض طارئ ألم بي فحال بيني وبين الدراسة والتأمل.أما وقد شفيت تماما الآن بحمد الله، فسأسلك نفس نهجك، وسأغض الطرف عن تهكمك واستغرابك من كل من كتب حول الأشباح.
أما عن إنكاري  أن يوجد بين الأشباح والأرواح جنس مؤنث، فذلك لأني أنكر توالدها. أما أمر شكلها وتكوينها فأدعه جانبا إذ لايهمني كثيرا في هذا المقام.
لقد طلبت مني أن أثبت لك وجود الأرواح والأشباح بحجج برهانية، لكن مثل هذه الحجج البرهانية لاتوجد في غير الرياضيات (22)، لذلك نكتفي بإستدلالات تقريبية تصبح بفضل درجة احتمالها الكبيرة أقرب ماتكون إلى الحقيقة. ولو كانت استدلالاتنا برهانية، لما أنكرها غير الحمقى أو الجاحدون، لكننا ياصديقي العزيز غير محظوظين إلى هذه الدرجة. وفي غياب البرهان، لامفر من الإستدلالات التقريبية. وهذا مايتجلى واضحا في الجدالات والخلافات والآراء التي تملأ علوم الإنسان والإلاهيات. وللسبب ذاته ظهر مايعرف بالشكاك والسوفسطائيين الذين لم يتوانوا عن الشك في جميع الحقائق: كانوا يفحصون القضية والنقيض ليستخلصوا المحتمل، وكل يعتقد مايراه حقا.
أما فبما يخص الجمال، فهناك بالتأكيد أشياء إذا ماقورنت بأخرى بدت أجزاؤها أكثر تناسبا وتناسقا (23)، وقد جعل الله العقل الإنساني ميالا إلى المتناسب منسجا معه ومبتعدا عن اللامتناسب متنافرا معه. وهذا مايحصل أيضا عند سماع الأصوات والنوتات المتناغمة أو المتنافرة، فالأذن تستطيع بكل سهولة أن تميز الأولى لما تجلبه من لذة وارتياح عن الثانية لما تسببه من تضايق وانزعاج. وبالمثل فالكامل جميل أيضا من حيث أنه لا ينقصه شيء من أجزائه، والأمثلة كثيرة لاداعي للإفاضة فيها مخافة الإطالة.
وللنظر إلى العالم باعتباره كونا أو كلا، لاأعتقد أن وجود المخلوقات اللامادية ينتقص من جماله أو كماله. أما كلامك عن السنطور والعنقاء والهيدرة فلاعلاقة له بموضوعنا. لأننا نتحدث عن الأجناس والأصناف العامة للأشياء والتي تندرج تحتها أنواع كثيرة لاحصر لها كالأبدي والمؤقت، السبب والنتيجة،المتناهي واللامتناهي، الجامدو الكائن الحي، الجوهر والعرض والجسم والروح…إلخ
أقول إن للأرواح شبها بالذات الإلاهية لأن الله روح. أما سؤالك لي عما إذا كنت أملك فكرة أو تصورا واضحا عن الأرواح والأشباح، فهو أمر مستحيل، وأسألك بدوري: ماهي فكرتك عن الله وهل هذه الفكرة واضحة في ذهنك كفكرة المثلث؟ (24) بالطبع لا، لذلك لسنا محظوظين بحيث ندرك الأشياء بطريقة برهانية قاطعة. وفي هذه الحالة، لامفر من الإكتفاء بالأحكام الإحتمالية.
بيد أني أصر بالمقابل على إمكانية وجود ذاكرة…إلخ بدون جسم مادام ممكنا وجود أجسام بدون ذاكرة…إلخ وكما توجد دائرة بدون قرص، يوجد قرص بدون دائرة. وعلى كل فإن نقاشنا لايمس هذه الموضوعات لأننا مهتمون بالأجناس الكلية العامة لابالحالات الخاصة.
وأقول بأن الشمس مركز العالم وأن النجوم الثابثة أبعد عنا من المشتري الذي هو أبعد من زحل الذي هو أبعد من المريخ وهكذا بحيث تكون بعض الأشياء في هذا الهواء اللامتناهي أقرب إلينا من أخرى، فنعتبرها أعلى أو أدنى. إنما ينتقص من قيمة الفلسفة من ينكرون وجود الأرواح والأشباح لامن يقرون بوجودها، فالفلاسفة القدماء والمحدثون مقتنعون بوجودها. ذلك مانقرؤه عند بلوتاركPlutarque في كتابيه ” حياة الفلاسفة ” و “عبقرية سقراط” ، وذلك ماأجمع عليه أيضا الفيثاغوريون والرواقين والأفلاطونيون والمشائيون أتباع أرسطو وأمبيدوكل Empedocle … أما المحدثون فلا أحد منهم ينكر وجودها.(25)
ومن العبث أن ترفض شهادات كل هؤلاء الحكماء والفلاسفة والمؤرخين وتنعتهم بالسخف وقلة العقل كعامة الناس. وإذا تأملنا أجوبتك أنت بدورك، فلا نجد فيها مايقنع، بل إنها لاتمس صميم الموضوع ولاتتضمن أي إثبات.

الرد على الإعتراضات، والتمييز بين منطق الإحتمال ومنطق اليقين: الفلسفة كفكر حواري
(26) مبدأ الإحتمال والترجيح يسرى على شؤون الحياة العملية لا على تأملات الفكر التي تظل دائما خضعة لمقتضيات منطق اليقين .
(27) الفلسفة كبحث عن الحقيقة.
(28) التمييز بين الفكرة الواضحة والصورة والواضحة، الأولى للعقل والثانية للمخيلة.
(30) الحرص على  وضوح اللغة والمفاهيم المستعملة.
(31) رفض الحجاج بالسلطة حتى لو كانت سلطة المعلم الأول أو أستاذه!! إنه رفض لكل السلط غير سلطة العقل نفسه، الذي يتوجب استخدامه بشكل شخصي.
(32) الخلاف أو الجدال الفلسفي حول قضية جزئية خاصة هو في الواقع خلاف فلسفي حول مبادئ أعم مثل معيار الحقيقة أو مصدرها أو منهج بلوغها… فوراء الخلاف القائم هنا حول وجود أو عدمه، يمتد خلاف منهجي أعمق يطال معيار الحقيقة نفسه وقيمة الروايات والسلطة المعرفية للمؤلفين، وحدود العقل ومكر المخيلة…
من اسبينوزا إلى بوكسيل:( لاهاي 1674)

لقد بادرت مسرعا بالرد على رسالتك، لأني لو تأخرت لأجلت الأمر يوم بعد آخر وهكذا إلى أجل غير مسمى. ولاأخفيك إني انشغلت كثيرا على حالتك الصحية إلى أنه بلغني تماثلك للشفاء، فأتمنى أن تكون الآن على خير مايرام.
من الصعب جدا على شخصين يتبعان أسلوبين مختلفين في التفكير ومبادئ مختلفة أن يتفاهما بصدد موضوع حساس ومتشعب كالذي يشغلنا.
إن مجال الرسالة لايتسع لأعرض بتفصيل رأيي في الطبيعة الإلاهية أو لأجيبك على كل الأسئلة التي طرحتها كما أعترف لك أن التشكيك وإثارة الصعوبات لايعني تقديم الحجج.
صحيح أننا في شؤون الحياة نعتمد الإحتمال أكثر من البرهان (26) ، لكن من الخطأ الإعتقاد بأن تأملات الفكر لاتتعدى حدود الإحتمال بدورها، وذلك لأن الأمر يتعلق بالحقيقة لابأشباهها. وصحيح أن المرء قد يهلك إذا رفض تناول الطعام والشراب قبل الحصول على برهان قاطع يثبت فائدتهما. بيد أن الأمر مختلف فيما يتعلق بتأملات الفكر، حيث ينبغي الحرص على الحقيقة (27) لاعلى أشباه الحقيقة. فما إن نقبل بخطأ واحد يتسلل بين أفكارنا حتي تستبعه أخطاء أخرى كثيرة.
أما كون العلوم المتعلقة بالإنسان والإلاهيات حافلة بالجدالات والمنازعات، فلا يعني أن كل موضوعاتها عرضة للشك واللايقين. فلو اطلقنا العنان للشك، لكنا مثل هؤلاء المهووسين بالجدل والنقائض الذين لم يتوانوا عن الشك حتى في الحقائق الرياضية والهندسية مثل سكتوس أمبيريكوس وأصحابه الذين يبطلون كون الكل أكبر من الجزء. ويجادلون في سائر المبرهنات.
اقبل قولك بضرورة الإكتفاء بالبراهين الإحتمالية  عند تعذر البراهين القاطعة، بيد أني أشترط فيها أن تكون من الدقة بحيث يتعذر نقضها وإن كان الشك فيها يظل جائزا. لأن مايمكن نقضه يعد أقرب إلى الخطأ منه إلى الحقيقة: فلو أني أعلنت مثلا أن فلانا حي، لأني لمحته البارحة بصحة جيدة، فإني أعلن واقعة تبدو صحيحة مالم تتم مناقضتها. أما إذا تقدم من يِِؤكد أنه لمحه البارحة يقع من الوهن وأنه يعتقد بموته، فإنه بيطل كل أقوالي السالفة.
أما تخميناتك بخصوص وجود الأشباح والأرواح، فقد بينت بطلانها.بل إنها لاترقى حتى إلى مستوى الإحتمال. أما عن سؤالك : ” هل تملك فكرة واضحة عن المثلث؟” (28) فأجيب عنه بنعم.
لكن لو سألتني: هل تملك صورة واضحة عن الله كوضوح صورتك عن المثلث؟” فأجيبك بالنفي. إذ لايمكن تصور الله بالمخيلة، وإنما يدرك بالعقل فقط: أي لايمكن تخيله بل تعقله. ولابأس أن تلاحظ أني لاأعرف من الصفات الإلاهية إلا القليل، ولاأدعي معرفتها كلها ولا أغلبها. غير ان جهلي بأغلبها لايمنعني من الإحاطة ببعضها. ولذلك فحين بدأت دراسة كتاب “العناصر” لـــأقليدس ، علمت أن مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين، وأدركت هذه الخاصية بكل وضوح رغم جهلي بخصائصه الأخرى الكثيرة. بينما لاأعرف للأشباح والأرواح أية خاصية يمكن للعقل تصورها؛ باستثناء بعض الخيالات والأوهام التي يعجز الجميع عن فهمها.
إن من يسمعك تعلن أن الأشباح والأرواح التي تسكن السماوات الدنيا مركبة من مادة لطيفة شفافة، سيخالك تتحدث عن الهواء او نسيج العنكبوت أو البخار. ثم مالفرق بين القول بأن الأشباح والأرواح لامرئية وبين القول بانها غير موجودة؟ (30) اللهم إلا إذا كنت تقصد ان هذه الأشباح والأرواح تظهر للناس وتختفي حسب هواها، مما جعل مخيلة البشر عاجزة عن تفسير الأمر.
إن احتجاجك وإستشهادك بأفلاطون أو أرسطو أو سقراط لايعني لي شيئا، (31) وكم تمنيت لو انك تستشهد بـــديموقريط أو أبيقور أو لوقريتوس أو غيرهم من الفلاسفة الذريين. ولاعجب أن الذين أفاضوا في الحديث عن الكائنات الخفية والظواهر الغريبة المثيرة قد اخترعوا قصة الأشباح والأرواح لينتقصوا من قيمة ديموقريط الذي بلغ حقدهم عليه أن ألقوا كتبه في النار رغم مابذله في تأليفها من جهد وعناية تستحق المديح.
وأخيرا سيدي، أتوقف عند هذا الحد، فقد أطلت في الموضوع أكثر من اللازم، كما أني لاأريد أن أسبب لك مزيدا من الإحراج في موضوع يتعذر علينا التوافق  حوله بسبب مبادئنا المختلفة التي نتبعها.(32)

Facebooktwitterredditmailby feather