أرشيف التصنيف: قضايا الدرس الفلسفي

التصحيح في مادة الفلسفة: النقطة الحقيقية والنقطة العادلة

أضع بين أيديكم مقالا من جزأين يتناول الجوانب الفلسفية والدوسيمولوجية وكذا الأخلاقية لعملية تصحيح مواضيع المترشحين في الامتحان الوطني.


 

 

 

إن مجرد وفاء مصححي الفلسفة لروح مادة تدريسهم مبرر كاف للأمل في نقط عادلة أثناء التصحيح ، لأن الفلسفة وعي تأملي انعكاسي ، حواري ، نقدي وحريص على قيم الحقيقة والصواب عندما يتعلق الأمر بالحكم ، وعلى قيم العدالة والإنصاف عندما يتعلق الأمر بتوزيع خيرات.

تمهيد النقطة الحقيقة والنقطة العادلة
يثار سؤالان بصدد كل نقطة تنالها ورقة المترشح سؤال حقيقة النقطة وسؤال عدالتها يفترض البحث عن النقطة الحقيقية وجود نقطة ما في مكان ما تكون المقابل الموضوعي أو الترجمة الكمية لإنجاز المتعلم لن ننشغل هنا بهذه النقطة لأن البحث عنها لن يختلف عن البحث عن حجر الفلاسفة، إذ تبين – حسب هنري بييرون – أن العثور على هذه النقطة يحتاج في الفلسفة إلى تصحيح الورقة الواحدة من طرف 127 مصححا الامتحانات والدوسيملوجيا 1969 ص 23 وإذا كان تكميم خواص فيزيلوجية كالطول مثلا يتضمن قدرا من الارتياب ويقتضي تكرار القياس ويُكتفى فيه ببضع أعداد بعد الفاصلة، فما بالك بتكميم قدرات عقلية تجند خلالها كفايات منهجية معقدة، بل ومواقف أخلاقية كمحبة الحكمة مثلا.
بخلاف النقطة الحقيقية، يحيل مفهوم النقطة العادلة على فكرة توزيع خيرات وفق إجراءات وقواعد يعم صوابها يمس ضلالها الجميع على قدم المساواة فقد نقبل كون تصحيحنا لإنجازات المترشحين صارما أو متساهلا أو حتى خاطئا، ولكن لا يسعنا التفريط – لأسباب أخلاقية في مبدأ تكافؤ حظوظ المترشحين أمام صرامتنا أو تساهلنا أو خطئنا…

لقراءة بقية المقال، برحى الضغط على الصورة أدناه 

نقد ملكة التصحيح في مادة الفلسفة

Facebooktwitterredditmailby feather

بومة مينارفا تطير في الصباح الباكر. تلميذ الجذع مؤرخا للفلسفة

“بومة مينارفا تطير في الصباح الباكر. تلميذ الجذع مؤرخا للفلسفة

كيف يمكن للفلسفة أن تثير اهتمام الناشئة من تلامذة الجذع المشترك الخارجين للتو من ضباب المرحلة الإعدادية؟
كيف يمكن أن نجعل عقول الصغار تستوعب ما أنتجته عقول العمالقة وأساطين الفكر الإنساني؟
يحاول المقال التالي المنشور بجريدة الأحداث المغربية أن يتناول بالتحليل النقدي الإجابة التي قدمها المنهاج والكتب المدرسية المعتمدة على السؤالين أعلاه.. لينتهي إلى أن المنهاج والكتب تعرض على تلميذ الجذع خلال هذا اللقاء الأول قضايا وإشكالات كما لو كان هذا الأخير مؤرخا للفلسفة !!
في ما يلي مقال من جزأين نشر على التوالي في العدد رقم 4249 بتاريخ 14 يناير 2011 والعدد رقم 4255 بتاريخ 21 يناير 2011 في ملحق ملتقى الفكر لجريدة الأحداث المغربية

الجزء الأول (اضغط على الصورة لقراءة المقال):

الجزء الثاني (اضغط على الصورة لقراءة المقال):

Facebooktwitterredditmailby feather

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز – الجزء الثالث

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز – الجزء الثالث

في أنه ينبغي تثوير تصورنا للبناء الإشكالي
لنفترض ان المدرس قد طرح إشكالية مشروعية الدولة طرحا مستوفيا لشرط التوتر والمفارقة، فبم سيملأ هذا الفراغ المرعب الذي خلقه السؤال الفلسفي -على حد تعبير الصديق زارا- ؟
سيتحسس المدرس كراسته، ليتكلم بإسم ابن مسكويه أو جون لوك او روسو أو هيغل أو ماركس !!
ولكن لِم يفكر اولا -وخارج كل نسق فلسفي وبإعمال بسيط للعقل- في أن المشروعية قد تكون مشروعية ثورية (الانقلاب)، أو مشروعية ديموقراطية تفرزها صناديق الاقتراع أو مشروعية تاريخية، او حتى دينية لاهوتية أو مشروعية عرقية كشرف النسب.. إلخ وهكذا يبدأ التفكير الشخصي بالدخول في صلب الموضوع الحي عوض تحنيطه، ولننفتح بعد ذلك على لوك ا روسو او مونتيكسيو أو أرسطو أو ابن تومرت أو الحجاج بن يوسف ..

من غير المستبعد أن يكون الكثير من المدرسين قد وجدوا نفسهم في مثل هذه الوضعيات مضطرين لقول “شيء ما” إضافي غير ما تتضمنه النصوص والأطروحات الفلسفية، ولعل الواقعتين التاليين توضحان المقصود، إحداهما شخصية والأخرى عامة:
أذكر أنني قبل سنة 2003 وفي معرض معالجة إشكالية معرفة الغير وبالضبط أثناء الحديث عن استحالة معرفة الغير، كنت في الغالب أحتج للتلاميذ بمفهوم الحميمية بوصفها جانبا م نالعالم الداخلي مغرق في الخصوصية والغرابة يخص الذات ويصعب الإفصاح عنه أو إيجاد كلمات مناسبة للتعبير عنه … وسنة 2003 عثرت -أثناء البحث- عن نص لغاستون بيرجي ! فجعلته جزءا من درسي تلك السنة، وتشاء الأقدار أن يطرح هو نفسه كنص للاختبار في الامتحان الوطني تلك السنة! ولعل بعض تلامذتي السابقين في ثانوية ابن زهر بوزان لايزالون يذكرون هذه الواقعة أو المصادفة السعيدة التي جعلت بعضهم يتجرأ ويذكر بكل ثقة إسم صاحب النص: غاستون بيرجي! أثناء التحليل في الامتحان الوطني… :icon_biggrin:
لم تكن الحميمية في البداية غير تفكير وتأمل شخصي ضمنته في درسي لسنوات قبل أن ا‘ثر على نص فلسفي يعضّده ! لذا أرى أن بإمكاننا بل علينا أن نغذي دروسنا وملخصاتنا بمواد من التفكير الشخصي، عسى تلامذتنا يفعلون الشيء نفسه في الإنشاء !!
أما إذا لم أكن أجرؤ على ممارسة تفكير شخصي أثناء إنجاز درسي او تحرير ملخصي، فكيف لتلميذي أن يجرؤ على ذلك !!؟

أما الواقعة الثانية، العامة، فتتمثل في مايلي:
في المقرر القديم كنا نفتتح درس اللغة بمحور أو إشكالية ” اللغة كخاصية إنسانية” وحيث أن البناء الإشكالي يقتضي على الأقل موقفين متعارضين بدرجة من درجات التعارض أو تربطهما علاقة ما باستثناء علاقة التجاور، فقد كنا نقف كمدرسين امام الإحراج التالي:
هل في المتن الفلسفي من زعم أن اللة ليست خاصية إنسانية كي نقابله بالتصور الديكارتي !؟
بلغ الأمر حدا أن الإحراج طرح في لقاء تربوي بحضور مفتشين، فكانت الفتوى التي لم تكن بالنسبة لي ضرورية لأن الحس السليم قادر على اكتشافها دو ن الحاجة إل فتوى من مؤطر:
يمكن ان تكون الأطروحة الأولى هي موقف الحس المشترك :icon_scratch: الذي يعتقد أن للحيوان لغة وأن الحيوانات تتلكم ولها لغتها الخاصة !
أما الأطروحة الثانية المعارضة فهي طبعا الأطروحة الديكارتية !!

أخلص من الواقعتين السابقتين إلى أن المدرس غير مطالب على الدوام بضرورة استحضار أطروحتين متعارضتين من تاريخ الفلسفة لينجز بناءا إشكاليا جديرا بها الإسم! وإلا فما العمل في حالة عدم العثور على “موقفين” أو “نصين”. طبعا لن نكون محتاجين إلى شيء من هذا وستكون مهمتنا سهلة لو أن واضعي المنهاج لم يصوغوا الإشكالات وعنواين المحاور إلا بعد استقراء ومسح للمتن الفلسفي للتأكد أن القضايا المقترحة للتفكير في إطار المقرر قد تم فعلا تناولها من منظورات فلسفية مختلفة، ولكن ليس هذا هو واقع الحال !!
في حالة تعذر العثور على موقفين او بالأحرى أطروحتين إثنتين متحاورين، يمكننا الاكتفاء بعرض الأطروحة الأولى لفيلسوف ثم نقدها وتنسيبها ومناقشتها والكشف عن مفترضاتاها والتناقض المحتمل لنتائجها مع الواقع أو مع التجربة الذاتية أو مع معطيات التاريخ أو العلم طبيعيا كان أو إنسانيا…، فيكون مجهودنا وتفكيرنا الشخصي هو المكون الثاني للبناء الإشكالي (وقد خصص ميشال غورينا أزيد من عشر صفحات في كتابه السالف الذكر لعرض مختلف إمكانيات وأشكال “دحض” أطروحة فلسفية ما)
ويمكن القيام بالعكس: أي تحويل الموقف الأول إلى أطروحة من خلال بنائه حجاجيا ومفاهيميا ثم معارضته بالأطروحة الفلسفية مثلما اقترح بعض المشرفين التربويين للتعامل مع إشكالية اللغة كخاصية إنسانية في المقرر القديم.
إذن للبناء الإشكالي ثلاث إمكانيات:
-الإمكانية الأولى: (وهي الإمكانية المثالية)
1- أطروحة فلسفية أولى
2- أطروحة فلسفية ثانية تحاورها أو تدحضها أو تتجاوزها
-الإمكانية الثانية:
1-موقف نحوله إلى أطروحة من خلال بنائه حجاجيا ومفاهيميا (مجندين الثقافة الفلسفية بمعناها الواسع المعرّف أعلاه)
2- أطروحة لفيلسوف تحاور أن تدحض أو تتجاوز الأطروحة/الموقف الذي تم بناؤه
-الإمكانية الثالثة:
1-أطروحة لفيلسوف
2- بناء أطروحة ثانية قوامها نقد ودحض وتجاوز وتنسيب الأطروحة الفلسفية السابقة (مجندين أيضا الثقافة الفلسفية بمعناها الواسع المعرّف أعلاه)

هنا بالضبط ألتقي مع اجتهاد الصديق محمد الخلفي الذي اقترح التمييز بين الموقف و الأطروحة
بيد أنني مضطر في النهاية لإعلان اختلاف بسيط معه في مايخص المصطلحات التي استخدمها لبسط هذا التمييز

خلاصة: أهمية التمييز بين الأطروحة والموقف
يميز صديقي الأستاذ محمد الخلفي بين:
– الأطروحات هي الأجوبة المحتملة على الإشكال المطروح، وهي أجوبة يمكن استنباطها عقلا وقبلا من صيغ السؤال نفسه
مثلا: هل معرفة العير ممكنة أم مستحيلة؟
الصيغة التناوبية للإستفهام توجي أصلا بوجود أطروحيتن: ممكنة/مستحيلة
-المواقف: مابه “نملأ” تلك الأطروحات سواء كانت مواقف فلسفية/مذهبية أو معارف غير-فلسفية مستقاة من حقول معرفية أخرى أو حتى من الواقع المعيش، شريطة الالتزام بروح الأشكلة في عرض هذه المفاهيم وبنائها حجاجيا ومفهمة المعاني والكلمات والألفاظ المعبرة عن الموقف !!
أرى من جهتي أن الأجوبة المحتملة على إشكال ما ينبغي ان تعد مواقفا Posistions لأن الموقف يوحي لي بفكرة التخندق أو تحيز ضمن معسكر ما أو وجهة نظر ما: Prendre position
يبدو ان الموقف يعبر عن الاختيار ويرتسم داخل اللحظي والقطعي categorique، في حين أن الأطروحة تضم Des nuances أي فروقا وتحديدات دقيقة مما يفسر تعدد الطروحات كما انها ترتسم داخل ديمومة التي هي ديمومة فكر يبني استدلالاته وسلاسل حججه les chaines de raisons.
لذا نقول : عليك ان تتخد موقفا، لكننا نقول عليك أن تبني أو تؤلف أطروحة.
إذن اقترح للمعارف الفلسفية وغير-الفلسفية المستدعاة لـ “ملأ” هذه المواقف ان تسمى “أطروحات” خصوصا وأننا درجنا على الحديث عن أطروحة نص فلسفي، ثم إن الأطروحة تستدعي عرضا نسقيا حجاجيا في حين أن الموقف يعني قرارا بالانحياز إلى هذا الاختيار أو ذاك
وهناك مسوغ آخر وجدته عند ميشيل غورينا في كتابه “دليل الإنشاء والتعليق على النصوص في الفلسفة” الذي يستخدم، محتجا بأرسطو، “الأطروحة” للحديث عن قضية proposition لفيلسوف من كبار الفلاسفة un grand philosophe

العودة إلى:

ملاحظة: تولدت فكرة هذا المقال من خلال حوار مع الصديق محمد الخلفي على صفحات منتدى الحجاج هنا الفلسفة : تدريس مواقف ام تدريس أطروحات

Facebooktwitterredditmailby feather

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز- الجزء الثاني

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز- الجزء الثاني

إعادة تعريف مايسمى بالمعرفة الفلسفية: المعرفة الفلسفية ليست هي المواقف الفلسفية

للخروج من المأزق الذي بدأنا بتشخيصه في بداية المقالة، يتعين علينا إعمال النظر في مايسمى بــ المعرفة الفلسفية. والتي يتم عادة الخلط بينها وبين المواقف الفلسفية
مم تتكون هذه المعرفة الفلسفية؟ ما قوامها !؟ هل تتكون فقط من مجموع الأقوال التي تفوه بها الفلاسفة المكرّسون؟ (أقول المكرسون، لأن تلميذة جذع مشترك سألتني ذات مرة: من يعلن أن كاتبا ما (تقصد مفكر) هو فيلسوف؟ من يكرسه كفيلسوف la consécration ” وأضافت: “كيف يعرف شخص ما أنه فيلسوف !؟”
أقول إذا كانت المعرفة الفلسفية تتكون فقط من مجموع الأقوال التي تفوه بها الفلاسفة المكرّسون، فلماذا نستدعي نصا لفان غوغ في درس الفن؟ ونصا لهيتلر أو حتى لغوبلز وزيره في الدعاية في درس الدولة، ونصا لفقيه في مناقشتنا لإشكاليات الفلسفة الإسلامية، ونصا لكلود برنارد في درس حول النظرية العلمية…
إذا كان غرانجي يقول: لا وجود للغة فلسفية، بل مجرد استعمال فلسفي للغة، كذلك يحق لنا القول: لا وجود لمعرفة فلسفية وإنما مجرد تناول فلسفي للمعرفة (تناول إشكالي بالدرجة الأولى، ومفاهيمي وحجاجي بدرجة ثانية )
إذا أضفنا إلى ما سبق شمولية التفكير الفلسفي وصعوبة التحديد الدقيق لموضوعه الذي يقال أنه يشمل كل شيء قابل للتفكير !! فلا أجد حرجا في القول إن المعرفة الفلسفية تحتوي في الواقع أصنافا شتى من “المعارف الأخرى” : معرفة تاريخية، أدبية شعرية، طبية فيزيولوجية (كيفية عمل الدماغ أثناء دراستنا للوعي)، فيزيائية، رياضية (المبرهنات والمسلمات)، سيكلوجية، سوسيولوجية، انثريلوجية…
والنصوص الفلسفية نفسها حافلة بأشكال متنوعة من استعمال هذه المعارف ! تجد في نصوص فلسفية استشهادا بشعراءو ادباء (هيدغر يستشهد بأندريه جيد!)، استشهادا بأشعار بل وبأشعار لهوميروس! معطيات من الفيلولوجيا، اللسانيات، علم النفس، الاقتصاد… إلخ
إذا صح ماسبق، نستطيع أن نستخلص مايلي:
أولا- لا تنتج الفلسفة معارف بالمعنى الوضعي positive بقدر ما تتخد المعارف المنتجة في مجالات أخرى موضوعا لها، تفكر في أسسها ومنطقها ومفترضاتها و (أحيانا)أوهامها.. ! لعل هذا ما حذا بكانط إلى القول: لا يمكن أن نتعلم الفلسفة، بل التفلسف أي تمرين ملكة العقل على بعض الموضوعات، لأن الفلسفة هي فكرة علم ممكن غير متحقق أبدا في أي مكان”

ُثانيا- إذا صح أن الفلسفة غير منفصلة عن الحياة، فهل يمكن للموتى (الفلاسفة) أن يفكروا عوض الأحياء !؟
لقد سمعت مرارا ان الغرض من استحضار نصوص الفلاسفة في الدرس الفلسفي، ليس التفكير بواسطة الفلاسفة بل التفكير مع الفلاسفة، لكن الذي يحدث هو أننا في النهاية ننتج ملخصات وينتج تلامذتنا إنشاءات هي في الواقع تفكير بواسطة الفلاسفة !!!

يبدو أن التوجيهات الرسمية نفسها تصادق على خلاصاتنا السابقة: نجد تعريفا للمعرفة الفلسفية في مايسميه المنهاج الكفايات الثقافية، أي المعارف المفترض إكتسابها وترصيدها في حصة الفلسفة
يقول المنهاج/التوجيهات ص9 (بعد ذكر الكفايات الاستراتيجية، التواصلية والمنهجية):
3.1.4.كفايات ثقافية:
-اكتساب معارف فلسفية أساسية واستيعابها استيعابا جيدا
– استدعاء معارف متنوعة رافدة للتفكير الفلسفي (أدبية، فنية، علمية سياسية..)
– تنمية القدرات الخيالية الإبداعية من خلال إنتاجات شخصية تستثمر الأفكار والنظريات الفلسفيبة المكتسبة أو اشكال الثقافية الأخرى (التراث، الثقافة الشفوية، الابداعات الفنية، القصة،الشعر، المسرح،الرواية..إلخ)

لا أعتقد أن هذا الاقتباس يحتاج إلى تعليق، هناك تنصيص واضح وصريح على أن المعارف الفلسفية الأساسية -ولعل المقصود بنعت “الأساسية” هو الأطروحات الفلسفية كما حفظها لنا تاريخ الفلسفة- ليست كل المعرفة أو الثقافة الفلسفية، بل تدخل في ذلك حتى الثقافة الشفوية !!

في المذكرة رقم 159 التي تعرف بمذكرة الأطر المرجعية والتي تسعى إلى تحديد إطار مرجعي تعاقدي لتوحيد الرؤى حول التقويم، نقرأ في صفحتها الرابعة تحديدا لــ المضامين التي يشملها الاختبار:
1.1.المضامين
تحدد المضامبين الفلسفية في العناصر التالية:-
إشكاليات فلسفية
– أطروحات فلسفية
– أقوال فلسفية
– أقوال أو مضامين أدبية وفنية وعلمية
– أمثلة من المعيش اليومي أ وتجارب مشتركة بين اللبشر، ومن تاريخ الفلسفة او من مجالات أخرى

لا أظن أن هذا الاستشهاد يحتاج بدوره إلى تعليق !!

وحتى لو لم تكن المذكرات والتوجيهات الرسمية تؤكد على ذلك، فالأمر لا يحتاج إلى ذكاء لنعرف أن المعرفة الفلسفية المقصودة في الثانوي -على الأقل- لن تكون سوى مزيج مما هو فلسفي بالمعنى التقني والثقافة العامة التي نفترض امتلاكها من طرف المتعلم !!
لسنا إذن في تكوين في سلك الدكتوراة seminaire مخصص لفلسفة التاريخ عند هيغل، حيث لن تسمع غير نصوص هيغل وتعليقات الشراح المبرزين على هيغل !! :icon_biggrin:

التمييز داخل المعرفة الفلسفية بين القضايا المذهبية والعناصر المفاهيمية والاستدلالية

ميزنا سابقا بين المعرفة الفلسفية الأساسية أو المعرفة الفلسفية بالمعنى التقني وبين المعارف الرافدة بوصفهما مكونيين لما يسمى بالثقافة الفلسفية التي يفترض في المتعلم أكتسابها وتطويرها وتجنيدها في المرحلة الثانوية، ورغم كل هذه التوضيحات، لا تزال المعرفة الفلسفية بحاجة إلى مزيد من التحليل،
لننظر الآن إلى المعرفة الفلسفية الأساسية فقط وأقصد بها مجموع المعارف التي حفظها لنا تاريخ الفلسفة La vulgate
في الواقع تتكون هذه المعرفة من:
أ- قضايا/توكيدات (تتخد لدى أتباع المذاهب الفلسفية المتعصبين شكل دوغما)
ب- استعمال خاص للغة أثناء عرض القضايا، أي شحن مفاهميم اللغة الطبيعية بدلالات خاصة (الخاصية المفاهميمية للخطاب الفلسفي)
ج -استدلات لإثبات القضايا (بسبب حجاجية الخطاب الفلسفي)

لم هذا التمييز الجديد؟ أريد به تسويغ والمحاججة على صحة هذه الفكرة التي عبر عنها زميلي الصديق محمد الخلفي في منتدى الحجاج في معرض رده على تلميذ يشتكي من عجزه عن ضبط 16 أطروحة في كل درس، ضمن مقرر يحتوي على 12 درسا!!

لكنني لست ملزما بهم جميعا يكفيني موقف واحد أدعم به أفكاري حين أكون بصدد الدفاع عن هذه الأطروحة أو تحليلها، و قد لا أحتاج إلى أي موقف فلسفي بعينه إذا كنت أمتلك القدرة على تقديم الحجج الكافية لبيان أن معرفة الغير ممكنة، وقد أتبنى حجج فلاسفة كثيرين دون أن أشير إلى أي واحد منهم على اعتبار أن أفكار الفلاسفة لا تظل دائما ملكيات خاصة لهم، ففور نشرها تصبح ممتلكات عمومية يمكن لأي كان أن يتبناها و يتحدث بها ناسبا إياها إلى نفسه، فأنا لست في حاجة إلى ذكر كانط كلما أردت أن أقول إن للإنسان قيمة مطلقة ، كما لست في حاجة إلى الاستشهاد بأرسطو أو ديكارت كلما أردت أن أقول إن الإنسان كائن عاقل و هكذا. و على نفس المنوال، يمكنني تحليل الأطروحة القائلة بأن معرفة الغير مستحيلة من غير الاستشهاد بأحد بعينه، بل كل ما يلزمني هو امتلاك أفكار تسير في هذا الاتجاه قد تكون لفلاسفة أو لكتاب آخرين من غير الفلاسفة و قد تكون أفكار مشهورة و سائدة أو خلاصات لتجارب من الحياة اليومية

طرح جريء بدون شك ! سيثير رعب الكثيرين :icon_eek: ، وسيرفضه آخرون :icon_confused: ، فلندع المرعوبين ورعبهم، ولكن أناشد المعترضين المحاججة على إقناعنا بتهافت هذا الطرح!

هل ينبغي أن أذكر كانط كلما قلت إن للإنسان قيمة مطلقة، او ذكر إسم ديكارت كلما قررت أن أفتح فمي لأقول أن البحث عن الحقيقة يقتضي اولا الشك ..!؟ أو ذكر مونتيسكيو كلما تحدثت عن فصل السلطات.. إلخ
لقد غدت هذه الأفكار الآن جزءا من الثقافة العامة وبعضها دخل الفضاء العمومي والنقاش السياسي.. ومن الجيد نسبة هذه الأفكار الى أصحابها، لكن ذلك لن يزيد عن كونه نوعا من الحجاج بالسلطة لتدعيم الاستدلال، وكبرهان على الاطلاع وقوة الذاكرة أو ربما لمنح المفاهيم دلالات خاصة مستوحاة من النسق الفلسفي للإسم المستشهد به

لهذا السبب أقترحت قبل قليل التمييز داخل المعرفة الفلسفية الأساسية بين الأطروحات الفلسفية والتي تتخد شكل قضايا حملية توكيدية من جهة والعناصر المفاهيمية والاستدلالية من جهة ثانيا
تتجلى القضايا الحملية التوكيدية في أفكار قبيل:
– الوجود صدر عن الواحد نتيجة الفيض (الفارابي)
– السببية مجرد اقتران ناتج عن العادة (هيوم)
– العقل صفحة بيضاء (لوك)
– النفس فكرة الجسم (اسبينوزا)
– العالم المحسوس نسخة وظلال لعالم المثل(أفلاطون)
– التاريخ تجل للروح المطلق في سعيه لوعي ذاته (هيغل)
– الصيرورة الاجتماعية نتيجة للتناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج (ماركس)
– التاريخ سيرورة بدون ذات (ألتوسير)
– نهاية التاريخ (فوكو ياما)
– محرك الوجود إرادة عمياء لا عقلانية (شوبنهاور)
إلخ…
سأسمي هذا الجزء من المعرفة الفلسفية الجزء المذهبي الدوغمائي او الجزء الصلب أو الدوحة (الشجرة) العظيمة الذي لا تستطيع اقتلاعها من تاريخ الفلسفة لاستعمالها دون أن تقتلع معها إسم الفيلسوف، لكن بجانب الجزء المذهبي الصلب هناك الجزئيات الاستدلالية والمفاهيمية والتي تشبه شجيرات صغيرة يمكن اقتلاعها واستنباتها في تربة أخرى لأنها لا تحمل طابع الفيلسوف أو مذهبه، إنها ملك مشاع كما قال الصديق زارا. يتعلق الأمر بتحليلات واستدلالات ومفمهة من قبيل:
– “نظرة الغير قد تخجلني أحيانا” ! هل أنا مضطر لذكر هذه الجملة مقرونة بإسم سارتر، ألا أرى بدوري أن نظرة اللغير تخجلني !؟ وكذلك الأمر بالنسبة لكون الغير هو الآنا الذي ليس أنا
-“يتكون المجتمع من طبقات”، هل من الضروري أن أستعمل هذا المنظور لتحليل البنية الاجتماعية في إنشاء فلسفي مقرونا بإسم ماركس
– “لا يوجد الشيء ولا يعرف إلا بنقيضه” ! هل من الضروري ذكر هذه الفكرة مقرونة بإسم هيغل؟ ألا يقول المثل السائر: بضدها تعرف الأشياء
– “كل شيء في صيرورة والثبات وهم”. هل من الضروي قولها منسوبة غلى هيراقليط؟ ألآ نقول: دوام الحال من المحال !؟
– “لفحص سلة فواكه تضم الصالح والطالح التالف،يحسن بنا إفراغها أولا من كل مافيها”، وعزل الفواكه خارجها في فسحة، عوض محاولة انتقائها وهي مكدسة داخل السلة… هل ينبغي نسبة هذا المثال إلى ديكارت على الدوام !؟

لنحاول الآن أن نستخلص النتائج المرتبة عن كل التمييزات السابقة فيما يخص تصورنا للدرس الفلسفي

التتمة:

Facebooktwitterredditmailby feather

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز-الجزء الأول

المعرفة الفلسفية، الأطروحات والمواقف: محاولة للتمييز – الجزء الأول

إضافة إلى الأهداف/الكفايات المنهجية والقيمية للدرس الفلسفي، تعتبر الأهداف/الكفايات المعرفية أو الثقافية عنصرا أساسيا وحاسما، يتوقف عليه تحقيق الكفايات الأخرى المنشودة. فسواء تعلق الأمر بكفايات قيمية كالتسامح أو احترام الاختلاف أو الاستقلالية أو اكفايات منهجية كالمحاججة، لابد لكل ذلك من سند وحامل هو المعرفة الفلسفية.
تبدو عبارة “معرفة فلسفية” للوهلة الأولى واضحة المعنى جلية الدلالة، لكن لنغامر مع ذلك بطرح السؤال على الطريقة السقراطية: ماالمعرفة الفلسفية؟ انقصد بها حصريا مجموع المعارف التي حفظها لنا التراث الفلسفي أو تاريخ الفلسفة؟ والتي يمكن العثور عليها بشكل موجز ومركز في مصنفات تناول تاريخ الفلسفة أو المذاهب الفلسفية. ولكن هل هانك حقا معارف فلسفية أم مجرد تناول فلسفي للمعرفة!؟ إذا كانت مادة المعرفة الفلسفية مستمدة من نصوص الفلاسفة فمِمَ استمد الفلاسفة أصلا مادة نصوصهم تلك!؟
لكن السؤال “ما المعرفة الفلسفية؟” لايطرح فقط استجابة لنزعة سقراطية! بل لدواع متعلقة بديداكتيك الدرس الفلسفي نفسه. إذ نعتقد أن هاهنا مجالا بكرا، و ورشة مفتوحة للتفكير والتفكر، ودربا إن تم ارتياده واستكشاف آفاقه فربما نجد في نهايته أو في إحدة منعرجاته مخرجا لمآزق كل من الدرس الفلسفي (الذي ينجزه المدرس) وصورته المرآوية أي الإنشاء الفلسفي (الذي ينجزه التلميذ)

تشخيص المشكل بدءا من إنشاء التلميذ وصولا إلى ملخص مدرسه
يستشعر الكثير من المدرسين وجود “شيئ ما ليس على مايرام” :icon_scratch: في إنشاء تلامذته، ويصل الصفاء الذهني La lucidité ببعض المدرسين إلى الإحساس بأن “هذا الذي ليس على مايرام” يعتري درسهم أيضا !!
لنتأمل أولا إنشاءات تلامذتنا لأنها الصورة المرآوية التي تضخم صورة درسنا إلى حد الكاريكاتور:
يطرح التلميذ في مقدمة إنشائه أسئلة ما
إذا تعلق الأمر بتحليل نص،فإن التلميذ يخدش سطح النص خدشا رفيقا ثم تطل المواقف واحدة بعد أخرى على شاكلة:
من المواقف المؤيدة لصاحب النص نجد
وفي نفس السياق نجد..
ونجد…
ونجد مع فلان..
غير أن فلان يرى…
أما فلان الثاني فيرى ..
وفلان الرابع.. الخامس.. إلخ

أمام مثل هذه الإنشاءات يدون أغلب المصححين الملاحظات التالية: السقوط في السردية (سرد المواقف) و غياب ذات المتعلم وانعدام التفكير الشخصي، بحيث يبدو التلميذ غير قادر على الحديث إلا بلسان أحد الفلاسفة !!
ولكن مهلا..
هل يتحمل التلميذ وزر هذا الخطأ لوحده !؟ ألا يمكن ان نجد في دروسنا نفس البنية السردية وغياب التفكير الشخصي !!؟
لنتأمل الملخص التالي الذي وجدت في الأنترنت والذي طمست معالمه بشكل مقصود لئلا أحرج أحدا:
المحور الأول-الواجب والإكراه :
ما هو الواجب؟ وما هو مصدره؟ ومن يستمد مشروعيته؟
موقف كانط : إن كانط في سياق مشروعه (…) سعى إلى (…)
موقف غويو : إذا كان التصور الكانطي ينتهي إلي(…) فإن جون ماري غويو يقدر أن (…)
موقف هيوم : يميز دافيد هيوم بين نوعين من الواجبات الأخلاقية، (…)
موقف هيجل : يرجع هيجل الواجب إلى (…)

المحور الثاني-الوعي الأخلاقي :
ما هو مصدر الوعي الأخلاقي؟
موقف إريك فايل : إن الفعل الأخلاقي هو(…)
موقف برونتانو:تعتبر المدرسة الإمبريقية الوعي الأخلاقي(…)
موقف ابن مسكويه :من منظور التصور الإسلامي، يعتبر ابن مسكويه(…)

المحور الثالث-الواجب والمجتمع:
موقف إميل دوركايم :يعالج إميل دوركايم الواجب الأخلاقي من منظور (…)
موقف برجسون : إن المجتمع هو الذي يرسم للفرد (…)
موقف إنجلز : يؤكد إنجلز على أهمية مفهوم(…)

لا تشير نقط الحذف الذي استعملتها سوى إلى تفصييلات تعرض الموقف وتشرحه
إذن هاهنا مدرس فلسفة لكنه منسحب بدوره وشبه غائب عن ملخصه ، لا أثر لأي تفكير شخصي من قبله!؟ لا أثر لتأملات شخصية إضافية، وكأن الإكراه أو المجتمع أو مصدر الوعي الأخلاقي لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد !!
إذا كان المثل يقول: “هذا الشبل من ذاك الأسد” فيحق لنا القول: “هذا الإنشاء من ذاك الملخص” (قلبا وقالبا)
إنه مجرد “متحدث بإسم”..
وباستثناء تلك الجملة التي حاول فيها الربط بين ما قاله كانط وماسيقوله غويو، يبدو الملخص كما لو كان نسخا ولصقا لفقرات من كتاب في تاريخ الفلسفة أو معجم فلسفي
إزاء مثل هذه الملخصات، ألا يحق للمتعلم الشكوى من الأطروحات التي يدوّخ تشابهها العقل وترهق كثرتها الذاكرة، وذلك في غياب تحديد دقيق لأطروجتين رئيسيتين ومواقف تملأ هذه الأطروحات (بتعبير زارا) وتمدها بالقوة الحجاجية
سيقال أن هذا ملخص يضم عصارة الأطروحات الفلسفية لمحو “الأمية الفلسفية” للمتعلم أو لحشو عقله الفارغ بمعارف موضوعية بتعبير هيغل ! ولكن أخشى أن الملخص لايعكس في النهاية سوى الدرس، وأن تردي هذا يتجلى في تردي ذاك. وقد قلت في شريط آخر إن تحرير ملخصات أشق مهمة وأثقلها على النفس، لأنك مطالب بالمحافظة على الحياة والحيوية والتوتر الذي شهده الدرس المنجز داخل الفصل الدراسي واستعادة كل ذلك في بضع فقرات مكتوبة في مايسمى بالملخص !!
إن العَرَض الذي يعاني منه هذا الملخص بوصفه مرآة لعمل المدرس هو الانسحاب شبة الكلي للمدرس من درسه أو ملخصه: لا أثر للتفكير الشخصي في ما أنتجه، رغم أن هذا المدرس لا يفتأ يقصف عقول تلامذة الجذع المشترك بأن الفلسفة تفكير شخصي في المقام الأول

أين يمكن أن يتمظهر المجهود أو التفكير الشخصي للمدرس؟
يمكن للتفكير الشخصي للمدرس ويمكن لذاته أن تتجلى في مايلي:
أ- الطرح الإشكالي وهنا تظهر حوالي ثمانين في المائة من مجهود المدرس، لأن الإشكال ليس مجرد جملة في آخرها علامة استفهام. كأن يقول القائل في محور الحرية والإرداة: ماعلاقة الحرية بالإرداة؟ أو يقول في محور العقلانية العلمية: ماطبيعة العقلانية العلمية؟
الطرح الإشكالي ثمرة تفكير عقلي مرهق وشاق، يحاول الفكر أثناءه استكشاف المحير والمدهش والمفارقاتي في موضوع تفكيره.. الطرح الإشكالي أهم لحظات الدرس، لسبب بسيط ندرسه لتلامذتنا مفاده أن الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجوبة في الفلسفة!! :icon_biggrin:
ب- التمهيد لأطروحة الفيلسوف قبل عرضها
ج- التعقيب عليها بعد عرضها تعقيبا نقديا
د – نسج وشائج بينها وبين ما سبقها أو ما سيليها.. أي العثور على خيط إشكالي ناظم والمحافظة على درجة كافية من التوتر الإشكالي وإلا تحول البناء الإشكالي إلى عرض مريح لأجوبة ودوغمات!!
هـ- وأخيرا تأملات شخصية حول الإشكالات المثارة تغني أطروحات الفلاسفة وتمتزج بها أو تنضاف إليها كأطروحات فلسفية إضافية.

لكن مالذي يجعل ملخص المدرس وربما درسه أيضا مادة محنطة لا حياة فيها !؟ يعود ذلك في نظري إلى سببين (قد يستنتجان مما سبق):
1- التفريط في الطابع الإشكالي للتفكير الفلسفي بوصفه تفكيرا مسكونا بالمفارقات والتناقضات والحيرة والدهشة ..
2- تصورنا المغلوط لما يسمى “معرفة فلسفية”
سأركز فيما يلي على السبب الثاني، لأنه موضوع المقالة، على أن نفرد للسبب الأول موضوعا مستقلا.

التتمة:

Facebooktwitterredditmailby feather

مفهوم “الحق”في درس الفلسفة-عشر سنوات من الالتباس4

مفهوم “الحق”في درس الفلسفة:عشر سنوات من الالتباس
الجزء الأول الجزء الثاني الجزء الثالث الجزء الرابع

الجزء الرابع: رغم الاختلاف في التفاصيل، فإن أغلب نظريات الحق الطبيعي تنتهي إلى النظرية التعاقدية

سعينا في الأجزاء الثلاثة السابقة من هذا الموضوع إلى كشف الإلتباسات التي شابت الطرح الإشكالي وكذا البناء الإشكالي لمفهوم الحق في الكتاب المدرسي المقرر، ونحاول في هذا الجزء الرابع والأخير ان نقدم افكار الفلاسفة الثلاث : هوبز-اسبينوزا-روسو بشكل يتجاوز الالتباس وينسجم مع المعنى المتداول على اوسع نطاق لمفهوم الحق الطبيعي في أدبيات الفلسفة السياسية وبعض الكتب المدرسية الأجنبية (الفرنسية تحديدا)

اسبينوزا: الحق الطبيعي بين الطبيعة الشاملة والطبيعة الخاصة للإنسان
لو اكتفينا بنص اسبينوزا الوارد في الكتاب المدرسي نفسه: من يقرأ حديثه عن حق السمك في العوم في الماء والاستمتاع به، وعن حق كبيرها في التهام صغيرها بموجب حق طبيعي مطلق وبموجب طبيعة هذه الكائنات نفسها، سيخلص بشكل مشروع إلى أن “الحق الطبيعي” مرادف لحق القوة ولا يمكن لغير هذا الحق أن يسود بالنسبة للموجودات الطبيعية في سعيها للبقاء على وضعها بالنظر إلى نفسها فقط دون أي اعتبار لأي شيء أخر – وهو سعي منقوش في طبيعتها أيضا. ومن العبث مطالبة الموجودات الطبيعية بالعيش وفق نظام آخر، لأنها لم تختر هذا النظام المشتق حتميا من وجودها نفسه، ولذلك فمن العبث – كما يقول اسبينوزا- مطالبة القط بالعيش وفقا لطبيعة الأسد، لأن هذه المطالبة تعني انتفاءه كقط بكل بساطة!
هل يعني ذلك أن اسبينوزا يدعو البشر إلى العيش وفق هذا القانون الطبيعي، باعتبارهم موجودات طبيعية بدورهم؟
في سلسلة مقالات عن المرجعية الفلسفية لحقوق الإنسان على صفحات مجلة “فكر ونقد”، طرح محمد عابد الجابري نفس هذا السؤال وأجاب عنه كالتالي:

وهذا لا يعني أن سبينوزا يدعو الناس إلى العيش حسب طبيعتهم وحدها دون اعتبار لما تمليه عليهم عقولهم. كلا، إنه يؤكد: “أنه يظل من الصحيح دون شك أن من الأنفع للناس أن يعيشوا طبقا لقوانين عقولهم ومعاييرها اليقينية لأنها، كما قلنا، لا تتجه إلا إلى تحقيق ما فيه نفع حقيقي للبشر. وفضلا عن ذلك فإن كل إنسان يود العيش في أمان من كل خوف بقدر الإمكان. ولكن ذلك مستحيل ما دام كل فرد يستطيع أن يفعل ما يشاء وما دام العقل لا يعطي حقوقا تعلو على حقوق الكراهية والغضب. والواقع أنه لا يوجد إنسان واحد يعيش دون قلق وسط العداء والكراهية والغضب والمخادعة، ومن ثم لا يوجد إنسان واحد لا يحاول الخلاص من ذلك بقدر استطاعته”.

وبعبارة أخرى، فبجانب الطبيعة العامة للبشر التي تجمعهم ببقية الموجودات، يتوفر البشر على طبيعة ثانية تخصهم وهي الطبيعة العاقلة !
فالعقل كالشهوة والقوة كلاهما مبدآن طبيعيان أي مستمدان من طبيعة الكائن، ويمليان قواعدهما الخاصة على الكائنات، كل بحسب طبيعته.
ألم يطلق فلاسفة القرنيين 17 و 18 تعبير “النور الطبيعي” على العقل تمييزا له عن النور الإلاهي الذي تحتويه الكتب السماوية Ecritures
يقوا اسبينوزا:

” نستنتج من ذلك أن الحق و التنظيم الطبيعيين اللذين ينشأ فيهما جميع الناس ويعيشون بموجبهما طوال الجزء الأكبر من حياتهم، لا يحظران إلا ما لا يرغب فيه أو ما لا يستطيعه أحد؛ فهما لا يمنعان النزوع و لا الكراهية و لا الغضب و لا الخداع و لا أي شيء تدفع إليه الشهوة، ولا عجب في ذلك ؛ إذ أن الطبيعة لا تقتصر على قوانين العقل الإنساني الذي يعد هدفه الوحيد هو المنفعة الحقيقية و المحافظة على البشر، بل إنها تشمل على ما لا نهاية له من القوانين الأخرى المتعلقة بالنظام الأزلي للطبيعة بأكملها، التي لا يمثل الإنسان إلا جزءا ضئيلا منها”

يتضح مما سلف أن قوانين العقل الإنساني قوانين طبيعية لأنها جنس من قوانين الطبيعة التي تضم بطبيعة الحال ما لانهاية له من أجناس القوانين الأخرى. ولقد مثلت المطابقة بين قوانين العقل وقوانين الطبيعة الثورة المعرفية للقرن السابع عشر بامتياز كما يقول الجابري:

مع القرن السابع عشر أخذت الأمور تتغير: لقد قطع العلم الحديث وعلى رأسه علوم الطبيعة أشواطا جديدة تماما من التقدم والازدهار. وأصبح لفكرة “القانون الطبيعي” معنى آخر: لم تعد تعني، كما كان الشأن عند اليونان، مجرد النظام والترتيب الذين يسودان العالم، بل صار القانون الطبيعي وسيلة العقل البشري للسيطرة على الطبيعة: الإنسان هو الذي يكتشفه وهو الذي يستثمره لصالحه. العقل هو واضع القوانين، وقوانين العقل متطابقة مع قوانين الطبيعة، لأن الأمر يتعلق في الحقيقة بقانون واحد. لقد كانت الفكرة السائدة هي أن : “القانون كما هو في العقل الإلهي، يظهر في الطبيعة وفي العقل البشري معا، ولا تناقض بين الاثنين”. العقل البشري هو واضع القوانين والقيم، يكتشف قوانين الطبيعة بعقله، أو لنقل في عقله، ويحدد القيم التي يجب أن يعمل بها الإنسان وفقا لطبيعة الإنسان نفسه

علينا إذن أن نميز بين معنيين للحق الطبيعي: الأول مستنبطة مبادئه من قانون القوة السائد في الطبيعة وهو ليس شيئا آخر غير القوة بالمفهوم الذي تدرسه الفيزياء. ولعل المتأمل في عبارة اسبينوزا : ” كل شيء يحاول على قدر استطاعته البقاء على وضعه” لن يفوته أن يلاحظ بأن “البقاء على وضعه” ليست سوى تعبير آخر عن مبدأ العطالة الفيزيائي!! ؛ أما الحق الطبيعي في معناه الثاني فمستنبطة مبادؤه من قوانين العقل التي لا تأمر إلا بما فيه نفع حقيقي للبشر
ومن شأن عدم القيام بهذا التمييز أن يقودنا إلى التقابل الكاريكاتوري بين اسبينوزا (حق طبيعي=القوة) و روسو(حق ثقافي=التعاقد) وإلى عدم فهم كيف يوضع اسبينوزا بين منظري مقولة الحق الطبيعي وفكرة التعاقد التي قامت عليهما منذ العصور الحديثة فكرة حقوق الإنسان!
ومن المهم أن نلاحظ ان البشر باختيارهم العيش وفق قوانين العقل ومبادئه، فإنهم في الواقع يستمرون في العيش تحت مظلة الحق الطبيعي، ولكن بالمعنى الثاني. وفي هذه الحالة يفهم من الحق الطبيعي ذلك الحق المستمدة مبادؤه من العقل، وهو نفس المعنى الذي نجده عند كانط أيضا
لكن، ماذا يعني العيش وفق قوانين العقل؟ لايعني شيئا آخر غير تأسيس الحياة الاجتماعية على التعاقد والاتفاق على مبدأ عقلي بسيط لايمكن لأحد ان يتنصل من الوفاء به دون الوقوع في التناقض، أودون أن يبدو فاقدا للحس السليم بتعبير اسبينوزا، ومفاد هذا المبدأ العقلي: “عامل الآخرين بمثل ما تحب أن تعامل به” هذا المبدأ الذي يجعل وحده العيش المشترك ممكنا.
ومرة اخرى نكتشف تهافت التصور الذي يجعل روسو المفكر الوحيد الممثل للنظرية التعاقدية في درس الحق دون هوبز واسبينوزا !
لنلاحظ عند اسبينوز أن وصف حالة الطبيعة والحق السائد فيها يؤدي وظيفة منهجية أي أنه ليس سوى مقدمة منطقية لإعلان ضرورة التعاقد في ما يشبه الإستنباط العقلي والاستلزام المنطقي. يقول فيلسوف أمستردام:

” لنلحظ أيضا أن الناس يعيشون في شقاء عظيم إذا لم يتعاونوا، و يظلون عبيدا لضرورات الحياة إن لم ينموا عقولهم. و من ثم يظهر لنا بوضوح تام أنه لكي يعيش الناس في أمان و على أفضل نحو ممكن، كان لزاما عليهم أن يسعوا إلى التوحيد في نظام واحد، و كان من نتيجة ذلك أن الحق الذي كان لدى كل منهم، بحكم الطبيعة، على الأشياء جميعا، أصبح ينتمي إلى الجماعة”

ألا يتأسس الحق هنا في نهاية المطاف على ماهو ثقافي؟ إذا فهم من “الثقافي” تلك المبادئ والقيم التي تسفر عنها المواضعة والاتفاق داخل جماعة ما ويتواتر العمل بها واحترامها كقاعدة (ليفي شتراوس)
ولكننا قررنا كذلك سابقا أن العقل نور طبيعي ومن ثم تكون مبادئ الحق المؤسس عليه طبيعية بمعنى من المعاني؟ أليس ذلك وقوعا في التناقض؟ كلا، إذ ليس لهذا التناقض الظاهري سوى أن التقابل أو الزوج المفاهيمي: “طبيعي / ثقافي” هو تقابل مصطنع، أو لنقل بأنه قدم به في الكتاب المدرسي بشكل غير ملائم وغير وجيه (impertinent) ولا يسمح ببناء الأطروحات الفلسفية – التي يمدنا بها تاريخ الفلسفة – ضمن تصورات منسجمة ومتماسكة ،تتحاشى السقوط في الالتباس وفي التلبيس على المتعلمين !

هوبز والتمييز بين الحق الطبيعي والقانون الطبيعي
لنتأمل حالة هوبز والذي لايختلف عن فيلسوف امستردام إلا قليلا في مسعاه المنهجي لأنهما ينتميان إلى نفس الباراديغم السائد في القرن السابع عشر:
يقول هوبز:

“إن الحق الطبيعي، الذي يسميه الكتاب عادة بالعدل الطبيعي Jus Naturals معناه: حرية كل واحد في العمل بكامل قوته، وكما يحلو له، من أجل الحفاظ على طبيعته الخاصة، وبعبارة أخرى على حياته الخاصة، وبالتالي القيام بكل ما يبدو له، حسب تقديره الخاص وعقله الخاص، أنه أنسب وسيلة لتحقيق هذا الغرض”.

عند هذا الحد، سيكون هوبز فعلا منظرا ومدافعا عن التصور الطبيعي للحق باعتباره حق القوة، لو لم يكن يحرص على التمييز بين مفهومي ” الحق الطبيعي” بالمعنى السابق ذكره و ” القانون الطبيعي” الذي يعرفه كالتالي:

“القانون الطبيعي هو قانون، بمعنى قاعدة من صميم العقل البشري، يمنع الناس من القيام بما يقودهم إلى الهلاك الذي لابد أن يجرهم إليه تمسك كل منهم بحقوقه كاملة”

ويعلق الجابري على هذا التمييز المفاهيمي بالقول:

“الحق الطبيعي”، الذي تعطيه الطبيعة، يعطي الإنسان كل شيء. أما “القانون الطبيعي”، الذي يصدر من طبيعة عقل الإنسان نفسه فهو يعين ويحدد الطريقة الأكثر ملاءمة للحفاظ على الحقوق الطبيعية وعلى رأسها حق البقاء. إن العقل يملي على الإنسان فكرة على درجة كبيرة من الأهمية، فكرة التنازل عن حقه الطبيعي، الذي يعني حرية التصرف بدون قيود، والدخول مع الآخرين في حال من السلم، قوامها الكف عن الاقتتال والتحرر من الخوف. هذا التنازل عن “الحق الطبيعي” هو أساس الدولة وهو العقد الاجتماعي

هكذا، وبعد وصفه لحالة الطبيعة و” أهوالها” ينتهي هوبز إلى ضرورة التعاقد والاتفاق على “شيء ما” بدونه لاتقوم للحياة الاجتماعية الآمنة أية قائمة. نقول “شيء ما” لأن مضمون التعاقد يختلف باختلاف الفلاسفة وباختلاف تاويلات مؤرخي الفلسفة لفكر هؤلاء الفلاسفة: هناك اتفاق على صورة “التعاقد” دون “مادته”.
يقول هوبز في الفصل السابع عشر من الليفياتان:”

أتخلى لهذا الرجل او لهذه الجماعة من الرجال عن حقي في أن أفعل بنفسي ما أشاء، شريطة أن تفعل أنت الشيء نفسه. بهذه الوسيلة يكون الأفراد شخصا أو كيانا واحدا هو الدولة او الجماعة community ، ويخرج إلى الوجود هذا الليفياتان او الإله الفاني الذين ندين له بالسلام والحماية”

—-
هناك إذن عند هوبز كما عند اسبينوزا استخدام مزدوج لمفهوم الحق الطبيعي: يوضع المعنى الأول كمعطى بدئي تستنبط نتائجه الكارثية (حالة حرب الكل ضد الكل) ليحل محله المعنى الثاني كشرط لتجاوز حالة الحرب وقيام الحياة الاجتماعية
وقد أرجع الجابري هذه الإزدواجية إلى أن أوربا القرن السابع عشر شهدت تيارين في موضوع الحق الطبيعي : تيار يتخذ الطبيعة الإنسانية، وبالتالي العقل البشري نفسه، مرجعية له، وتيار يتمسك بالطبيعة بمعنى نظام الكون وقوانينه.

هل يصح بعد هذا أن نضع هوبز ضمن ” التصور الطبيعي” للحق -المختزل إلى حق القوة- ضد فلاسفة التعاقد والتأسيس الثقافي للحق؟
صحيح أن هناك من يرى في أفكار هوبز تبريرا وشرعنة وتنظيرا للحكم المطلق، ولكن حتى في هذه الحالة ألم ينجم هذا الحكم المطلق عن تعاقد؟ هل هو استمرار يستنسخ حرفيا مبدأ القوة المعمول به في حالة الطبيعة الافتراضية؟
ثم الا نعثر عند هوبز نفسه عما يمكن اعتبارها تأسيسا لفكرة المساواة الطبيعية المبدئية بين البشر، التي سيطورها مواطنه جون لوك بشكل خاص، تلك المساواة التي تحجبها المواضعات والأعراف الاجتماعية:
يقول هوبز في الفصل الثالث عشر من الليفياتان:

“لقد خلقت الطبيعة البشر متساوين إلى أبعد الحدود فيما يتعلق بقدراتهم الجسمانية والعقلية. قد نعثر أحيانا على رجل أقوى جسما من الآخرين أو أسرع بديهة وأكثر ذكاءا منهم، ولكن هذا الفرق لا يبلغ درجة تجوز له ان يدعي لنفسه امتيازا لا يحق للآخرين إدعاء مثله”

في جميع الأحوال، وكيفما كان تأويلنا للفلسفة السياسية لطوماس هوبز، فإن من الصعب أن نضع هوبز بجانب السوفسطائي غلوكون الذي يجعل سيطرة القادر على غير القادر واستئثار القوي بنصيب أكبر من نصيب الضعيف هو عين العدالة الطبيعية؛ وليس من اليسير كذلك أن ننسب له تصورا فلسفيا يتأسس الحق بموجبه على ماهو طبيعي بيولوجي، في الوقت الذي يثبت فيه إستحالة هذا التأسيس ولا يتردد في وصف وضعية الإنسان في حالة الطبيعة بالحياة البائسة، بل إن وصف حالة الطبيعة والحق الطبيعي السائد فيها إنما يقصد منه البرهنة – عند هوبز كما عند اسبينوزا – بأنه لاوجود لخير او عدالة في ذاتهما وبشكل طبيعي، وأن أفعال الإنسان لاتخضع للتقويم الأخلاقي ولايمكن ان توصف بالخير او الشر، بالفضيلة او الرذيلة إلا بعد التعاقد والاتفاق على مبادئ ومعايير التصرف والسلوك بين أفراد الجماعة
لمزيد من الاطلاع أنظر نص هوبز هنا: نص طوماس هوبز: الإنسان ذئب للإنسان

كما انه من قبيل التبسيط مقابلة حق طبيعي قائم على حق القوة بحق ثقافي قائم على قوة الحق، لسبب بسيط أن ما سمي في الكتاب المدرسي “حقا ثقافيا” يفرزه التعاقد نظريا ومثاليا وتصونه الدولة والمؤسسات عمليا ، قد لايكون سوى إحتكار للإستعمال المشروع للعنف حسب تعريف “فيبر” للدولة. وللأسف الشديد فقد ترسخ عند غالبية المتعلمين تصور تبسيطي يقضي بأن الحق الطبيعي مرادف للقوة في حين أن احترام الطبيعة النوعية الأخلاقية للإنسان لايتأتى إلا في ظل “الحق الثقافي” !!

مقولة “الحق الطبيعي” عند روسو
بقي لنا الآن ان ننظر في الفلسفة السياسية عند روسو وفي موقفه من مقولة الحق الطبيعي.
قُدِم روسو في الكتاب المدرسي في فقرة بُدأت بإعلان ” إفلاس الحق الطبيعي” والذي استنتج منه

استحالة تأسيس الحق بكيفية قبلية (؟) وتجذيره في الطبيعة وأنه لايستقيم إلا باعتبار الغايات التي يخدمها من تعايش وتعاقد وانطلاقا من الميزة النوعية للإنسان والمتمثلة في كونه حيوانا عاقلا واجتماعيا وثقافيا.

إن إدراج الطرح الروسوي بعد هذه العبارات يوحي بانه من أنصار التأسيس الثقافي للحق تأسيسا يتجاوز ما سمي “إفلاس الحق الطبيعي”.
إذا كان دفاع روسو عن فكرة العقد الاجتماعي والتعاقد كأصل للجسم الاجتماعي وللسلطة السياسية ليس موضوع خلاف، فإن وضعه خارج نظرية الحق الطبيعي يثير أكثر من علامة استفهام، خصوصا وأن روسو يصف في الكثير من نصوصه بعض حقوق الإنسان الحرية بكونها حقا طبيعيا.
كيف يمكن ان نفهم هذه العبارة الواردة في مؤلف موازي موجه للمتعلمين هو كتاب ” الكتابة الفلسفية في الامتحان الوطني للباكالوريا”، في الصفحة 45:

“أكد روسو على فكرة التعاقد رافضا كل تأسيس للحق على القوة والعنف، مثلما رفض الحديث عن حقوق طبيعية مستمدة من العقل”

إذا كان مضمون الشق الأول من العبارة غير مختلف حوله، فإن الشق الثاني لايمكن ألا يثير الإندهاش: كيف يرفض روسو الحديث عن حقوق طبيعية مستمدة من العقل؟
إذا لم تستمد من العقل، فمن أين تستمد إذن؟ من التعاقد؟ ولكن مالذي يبرر التنصيص في بنود التعاقد على حق الحرية عوض العبودية؟ مالذي يبرر التنصيص أثناء التعاقد على المساواة عوض نظام تراتبي من النوع الأرستقراطي؟ وباختصار، مم تستمد مبادئ الحق المنصوص عليها في التعاقد؟ ألم تظهر مقولة الحق الطبيعي وحالة الطبيعة المفترضة لحل هذه المعضلة الفلسفية بامتياز أي معضلة الأسس؟ والتي انتبهت إلى أهميتها مؤخرا توجيهات نونبر2006 فجعلتها الإشكالية المحورية لدرس الحق العدالة
سأكتفي بإيراد هذا الاقتباس من كتاب روسو ” أصل التفاوت بين الناس” تاركا للقارئ مهمة الاستنتاج، لأن لاشيء يمكن أن يفصح عن فكر الفيلسوف أفضل من نصوصه:

“لن أقف قط عند البحث في أن الحرية إذا كانت أشرف خصائص الإنسان، فإنه من باب تشويه الطبيعة والانحطاط إلى مستوى البهائم عبيد الغريزة، والإهانة لباري وجوده، أن يتنازل هذا الإنسان دون تحفظ عن أثمن نعم ربه ليطيع سيدا ضاريا أحمق (…)
يقول “بوفندورف” إنه كما ينقل الإنسان ملكية ماله إلى الآخرين بموجب عقود وعهود، كذلك يمكنه ان يجرد نفسه من حريته لمصلحة غيره؛ ويلوح لي ان هذا قياس فاسد، وذلك لأن المال الذي اتنازل عنه يصبح غريبا عني ويغدو سوء استعماله أمرا لايعنيني، ولكن مما يهمني ألا يساء استعمال حريتي، ولايكمنني أن أكون أداة لجريمة أرغم على اقترافها وأنا عبد مملوك دون ان أتحمل وزر ذلك. وزد على ذلك : فإنه لما كان حق الملكية ليس سوى نتيجة عهود ومما أنشأه الناس، فإن كل إنسان يمكنه ان يتصرف فيما يحوزه كما يطيب له، ولكن الأمر مختلف في ما يتعلق بهبات الطبيعة الجوهرية مثل الحياة والحرية اللتين يباح لكل إنسان التمتع بهما (…) لأن التنازل عن أحدهما أيا كان الثمن هو إهانة للطبيعة والعقل. ولكن على افتراض إمكان تصرف الإنسان في حريته كما يتصرف في ماله، فإن الفرق يظل بينا جدا في ما يتعلق بالأولاد الذين لايتمتعون بمال أبيهم إلا بانتقال حقه إليهم، بينما أن الحرية لما كانت هبة من الطبيعة قد وهبت لهم لكونهم بشرا، فليس لآبائهم أي حق في تجريدهم منها (عن طريق بيعهم)… والفقهاء الذين قضوا بكل وقار بأن ولد العبد يولد عبدا، كأنهم قضوا بأن الإنسان لايولد إنسانا !”

يتبين إذن أن القول برفض روسو الحديث عن حقوق طبيعية مستمدة من العقل هو قول يصعب الدفاع عنه أمام ما تنطق به نصوص فيلسوف جنيف نفسه
كما يتبين أيضا أن معارضة هوبز واسبينوزا بروسو على محور طبيعي/ثقافي تبدو معارضة فيها الكثير من التكلف والاصطناع، الذي حاول البرنامج الجديد نونبر2006 التخلص منه. وذلك لأن التعارض الأساسي في إشكالية الحق لايقوم بين الأساس الطبيعي (القوة) والأساس الثقافي(التعاقد) بل بين مقولتي الحق الطبيعي والحق الوضعي، من حيث ان الأولى تؤسس الحق على ماهية او طبيعة إنسانية كونية او مبادئ عقلية سابقة على ظهور المجتمع ومستقلة عن الخصوصيات الثقافية، بينما ترفض الثانية -كما عند هتنز كيلسن – هذا التأسيس بدعوى ميتافيزيقيته لتجعل من الملابسات التاريخية وموازين القوى داخل تشكيلة اجتماعية معينة الأصل الموضوعي والنسبي والقابل للمعاينة لكل مبادئ الحق
وبعبارة أخرى، فالتقابل، عند النظر في إشكالية الحق، لا يقوم بين الطبيعة والثقافة أو بين الهمجية والحضارة، بل يقع التقابل في قلب الثقافة والحضارة نفسها: فهذه المؤسسات ، مم تستمد شرعيتها؟ وهذه والقوانين المكتوب منها وغير المكتوب مم استنبطت ؟ علام أعتمد المشرعون في وضعها؟ هل يمكن أن تشرعن القوانين الوضعية ذاتها بذاتها؟ وتؤازر بعضها بعضا أو تحيل على نفسها بشكل دائري؟ وفي هذه الحالة كيف يمكن المقارنة والمفاضلة بين الأنظمة القانونية كما تساءل كل من هانز كيلسن وليو ستراوس؟ أوليست الحق السائد في ظل الثقافة وحالة الاجتماع مجرد استمرار للهمجية والعنف والقوة بشكل مقنع ومقنن codifié

Facebooktwitterredditmailby feather

مفهوم “الحق”في درس الفلسفة-عشر سنوات من الالتباس3

مفهوم “الحق”في درس الفلسفة:عشر سنوات من الالتباس
الجزء الأول الجزء الثاني الجزء الثالث الجزء الرابع

الجزء الثالث: المعنى الغائب لمقولة ” الحق الطبيعي”

لابد من التنويه بداية بأن التصور الجديد لدرس الحق كما هو وارد في التوجيهات التربوية الجديدة الخصة بالسنة الثانية (نونبر2006) قد تدارك الأمر ورفع الالتباس جزئيا بأن جعل المحاور المقترحة كالتالي:
– الحق بين الطبيعي والوضعي
-العدالة كأساس للحق
– العدالة بين المساواة والانصاف
كما أن الإشكالية الأساسية أصبحت هي:
مشروعية قواعد الحق التي تنظم الحياة داخل مجتمع ما

لكننا الآن بصدد المقرر “القديم”…
قبل أن يفسح الكتاب المدرسي المجال للوضعية القانونية لتنتقد فكرة الحق الطبيعي، كانت هذه الأخيرة قد جردت فعليا من أية قيمة عند مقابلتها سابقا بمقولة “الحق الثقافي”!!ء
وهناك مفارقة صارخة. تتمثل في ان الكتاب المدرسي اورد بالفعل نصوصا تقدم تصورا واضحا لمقولة الحق الطبيعي ، ويتعلق الأمر تحديدا بنص لـــ شيشرون ص185 و آخر لــــ ستراوس ص193، ولكن العرض المؤطر للدرس تجاهل هذين النصين وأغرق مقولة الحق الطبيعي في جدال عقيم مصطنع مبني حول التعارض حق طبيعي/حق ثقافي. والأدهى من ذلك ان يتم توظيف النصين المذكورين بعد ذلك ضمن محور/إشكالية ” الحق بين الإلزام والالتزام”!!ء

يحدد الكتاب المدرسي الدلالة الأولى “للطبيعة” و ” الطبيعي” من حيث هي مكون لماهية الإنسان كعضوية يشترك فيها مع سائر الحيوانات، وتبعا لذلك كمجموعة من القوى العمياء: غرائز ونزوات..”ء
ومن المنطقي أن يخلص الكتاب المدرسي إنطلاقا من مثل هذا التعريف وبعد صفحتين من التحليل إلى حدود وتناقض فكرة الحق الطبيعي، وإلى إفلاس القول بــ “الحق الطبيعي” القائم على المقومات الجسدية للفرد
وأن الحديث عن الحق لايستقيم إلا انطلاقا من الميزة النوعية للإنسان والمتمثلة في كونه حيوانا عاقلا واجتماعيا.. وثقافيا
ليس هناك اعتراض على التعريف أو الفهم السابق للطبيعة، وصحيح أن الكتاب المدرسي يذكر مرتين أن في أساس كل حق مدني يوجد حق طبيعي محايث لذات الإنسان…، ولكن كيف تم التوصل إلى هذه الخلاصة انطلاقا من التحليل السابق الذي اختزل الطبيعي في البيولوجي؟ و هل يحتاج الأمر فعلا إلى ثلاث او أربع صفحات لإتثبات استحالة تأسيس الحق على الطبيعة بمعنى القوة والعنف والاندفاع؟ ألم نهمش الدلالة الأخرى، الدلالة الأهم لمفهوم “الطبيعي” في عبارة ” الحق الطبيعي” ألا وهي الطبيعي بمعنى المستقل والسابق على الثقافة والمواضعة، ماهو كوني، مايشتق من طبيعة الشيء، ما ينبغي أن يتمتع به الإنسان لمجرد كونه إنسانا بغض النظر عن ملابسات المواضعة الثقافية

ذلك هو المعنى الذي عبر عن منذ القديم شيشرون ، و الذي يمكن ان نقرأه واضحا في النص النص المذكور أعلاه. يقول شيشرون:

لايوجد عبث أكبر من الاعتقاد بأن كل ماهو منظم بواسطة المؤسسات أو قوانين الشعوب عادل (…)ولو كانت إرادة الشعوب ومراسيم الرؤساء وأحكام القضلاة تحدد الحق ، لكان كافيا التصويت على إعطاء المشروعية للزنا واللصوصية وتزوير الوصايا وقبولها من قبل الجمهور لتصبح حقا(…) فلكي نميز قانونا حسنا عن آخر قبيح، لانتوفر على قاعدة غير الطبيعة

ذلك أيضا هو المعنى الذي يشدد عليه – في الفلسفة المعاصرة – ليو ستراوس في كتابه “الحق الطبيعي والتاريخ”. يقول ستراوس في نصه المذكور أعلاه:

“إن رفض الحق الطبيعي يعني ان كل حق فهو وضعي، وبعبارة أخرى أن الحق من وضع المشرعين ومحاكم مختلف البلدان دون سواهم. ومن البدييهي ان يكون معقولا تماما وأحيانا من الضروري الحديث عن قوانين وقرارات جائرة, وإقرار مثل هذه الأحكام يلزمنا بإقرار وجود معيار لما هو عادل ولما هو ظالم يكون مستقلا عن الحق الوضعي ويسمو عليه: معيار يمكن بواسطته تقييم الحق الوضعي”

ومن المهازل التي ترسخت بالتقادم وانتشرت بسبب الكسل المعرفي، أن تصدر رغم هذا النص الصريح مجموعة من المؤلفات الموازية الموجهة للمتعلمين تنسب إلى ليو ستراوس رفضه لمقولة الحق الطبيعي!!!وربما صنف ضمن التيار الوضعي..

نقرأ في “Encyclopedia Britanica” مايقلي:

“يشير الحق الطبيعي في الفلسفة إلى الحق والعدالة التي لاتستثني أي فرد من النوع البشري والمشتقة من الطبيعة لا من قواعد المجتمع أو القانون الوضعي”

.
وتبدأ هذه الموسوعة البريطانية في عرضها لمقولة الحق الطبيعي بالفلسفة اليوناننية، مرورا بآباء الكنيسة وصولا إلى تعريف Grotius الأب الفعلي للنظرية في شكلها المعاصر والذي يؤكد على ” أن صلاحية الحق الطبيعي تظل قائمة، حتى لو افترضنا عدم وجود إلاه أو عدم مبالاته بشؤون البشر”
وتتابع الموسوعة قائلة:

” يقف هوبز وغروثيوس على رأس مايعرف بمدرسة الحق الطبيعي التي حاولت- في إطار المنحى العام لفلسفة الأنوار – أن تشيد نسقا حقوقيا كاملا مستنبطا عقليا من حالة طبيعة مفترضة أعقبها تعاقد اجتماعي”

ونقرأ أيضا في معجم لاروس للفلسفة ص:72 تحت مادة “حق” :

” يتقابل الحق مع الواقعي تقابل المشروع مع الأمر الواقع، ونميز بين الحق الطبيعي الذي تنتسب إليه كل النظريات التي تؤسس العلاقات الإنسانية على طبيعة الإنسان وميولاته وتطلعاته الوجدانية (روسو، فيخته) مع الحق الوضعي القائم على التقاليد والأعراف والقوانين المكتوبة”ء

بيد أن الكتاب المدرسي لايكتفي بتجاهل هذه الدلالات الأساسية لمقولة الحق الطبيعي، ولا يقف عند حد مقابلة ما يسميه “التصور الطبيعي” بــ “التصور الثقافي” على النحو الذي ذكرنا، بل يعمق الالتباس المفاهيمي فيضيف حدا ثالثا هو “التصور التعاقدي”، قبل أن يضع كل هؤلاء مقابل التصور الوضعي كما يمثله “كيلسن” والمدرسة الوضعية القانونية
لكننا بيننا سابقا بأن مايسمى “التصور الطبيعي” – وبالمعنى الذي قدم به للمتعلمين كحق القوة والغرائز العمياء -لايشير إلى موقف فلسفي أو حتى وجهة نظر داخل الفكر السياسي، فما من أحد تجرأ على الزعم بأن الحق يتأسس أو ينبغي أن يتأسس على القوة الصرفة العارية من كل تبرير ثقافي.
يبدو انه قد حدث في الكتاب المدرسي انزياح دلالي خفي من “حق القوة” إلى “الحق الطبيعي”. بالنسبة للحد الأول، فقد بين روسو جيدا ان فكرة “حق القوة” فكرة متناقضة على المستوى المنطقي و عارضة زائلة على المستوى الواقعي. ولكن روسو يستخدم مع ذلك كما سنرى لاحقا مقولة “الحقوق الطبيعية” ويستخدم نعت ” طبيعي” لوصف حقوق أساسية محايثة لماهية الإنسان لايتصور تجريده منها !!! فهل وقع روسو في التناقض؟؟!!

بعد هذا التوضيح لدلالة “الحق الطبيعي” التي تم تغييبها في درس الحق، لأسباب ايديولوجية ربما، سنحاول أن نفهم كيف نُسِب إلى كل من هوبز واسبينوزا تصور فلسفي يؤسس الحق على ماهو طبيعي بمعنى العنف والعدوان والقوة؟
الحقيقة أن ما كان عند هوبز واسبينوزا مجرد استنباط عقلي من حالة مفترضة، هي حالة الطبيعة، بما هي حالة زائلة ومدعوة إلى الزوال، وضرورة زوالها هي مقدمة منطقية للبرهنة على ضرورة التعاقد في المرحلة اللاحقة كمصدر وحيد لشرعية التنظيم الاجتماعي والسلطة السياسي، كل هذا تحول في الكتاب المدرسي إلى نظرية فلسفية قائمة توضع في مقابل نظريات أخرى. والحال كما نقرأ في
Encylopedia Universalis
تحت مادة ” حق طبيعي”، :

“تنحدر بالتدريج فعالية الحق الطبيعي، المحدد بقدرة ورغبة الفرد، إلى الدرجة الصفر بسبب حالة الصراع المعمم واللاستقرار والخوف التي ينشرها، وهنا يلتقي هوبز واسبينوزا: إذ لايمكن تصور الحق الطبيعي عندهما إلا داخل فضاء أسطوري، فضاء متخيل أكثر منه واقعي”

سنحاول، في الجزء التالي، أن نسلط بعض الضوء على الفلسفة السياسية لكل من هزبز واسبينوزا وروسو ومشكلة تصنيفها
يتبع…

Facebooktwitterredditmailby feather

مفهوم “الحق”في درس الفلسفة:عشر سنوات من الالتباس2

مفهوم “الحق”في درس الفلسفة:عشر سنوات من الالتباس
الجزء الأول الجزء الثاني الجزء الثالث الجزء الرابع

الجزءالثاني: مقولتا “الحق” و “الحق الطبيعي” كما تمت معالجتهما في بعض الكتب المدرسية

قبل الخوض في المشروعية الفلسفية للتقابل الذي أقامه الكتاب المدرسي المقرر بين تصور كل من هوبز واسبينوزا من جهة و روسو من جهة أخرى، لابأس أن نعرض في البداية لنماذج من المعالجات التي خضعت لها مقولة الحق الطبيعي في بعض الكتب المدرسية مركزين بالخصوص على كتابين مدرسيين فرنسيين و ثالث مغربي.

1/

أما الكتاب المدرسي الفرنسي الأول فهو:
Parcours philosophiques, Terminal A, Nathan 1985
تأليف
Denis Huisman et autres

يقسم الدرس في هذا الكتاب عادة إلى أبواب تابثة:
pre-texte == استهلال
extrait === مقتطفات
grand texte === نصوص أساسية
leçon === الدرس

في هذا الكتاب، قدمت مقولة الحق الطبيعي على النحو التالي:

تحت باب الاستهلال :

يفتتح الدرس (الصفحتان 376 و 377) باعلان “حقوق الانسان والمواطن” للثورة الفرنسية،
مع تعليق تتخلله جملة من الأسئلة. نلخص كل ذلك كما يلي:
-من خلال ديباجته التي تستوحي نظرية الحق الطبيعي ومن خلال بنوده السبعة عشر، يكون هذا الاعلان قد حدد أهم حقوق الانسان وحقوق الأمة (…)

ثم نقرأ أسطرا بعد ذلك:
– هل الحق نقيض القوة؟ ألا يمثل بالأحرى أحد ادواتها؟

ومن خلال استعراض مختلف التناقضات التي واجهها إعلان الثورة داخليا (تعارض مصالح طبقات المجتمع الفرنسي)وخارجيا (الموقف من الرق وكونية الحق)، يطرح الكتاب الأسئلة التالية:

هل الحق طبيعي أم نتاج لمواضعة؟ هل تنحصر قيمته بالنسبة لمجتمع معين؟ أم أن هناك قانونا عادلا وأزليا تحاول القوانين الوضعية محاكاته بدرجات نجاح متفاوتة؟
ويضيف الكتاب:
– ينص إعلان 1789على أن حقوق الانسان طبيعية مقدسة وغير قابلة للتفويت، وإذا لم تكن الجمعية الوطنية تدعي بهذا الإعلان، اختراع حقوق، بل مجرد الكشف عنها و ونزع ماتراكم فوقها بسبب النسيان والجهل والاهمال،، فلأن المؤتمرين يستوحون روسو وايديولوجية الحق الطبيعي: من حيث أنهم ينيطون بالمشرع مهمة الاهتداء بالقانون الطبيعي الذي ليس شيئا آخر غير القانون الذي يمليه العقل. ومما ينص عليه هذا القانون العقلي- في المقام الأول – أنه لاحق لأحد بموجب الطبيعة في حكم شخص آخر أو السيطرة عليه

أما تحت باب ّنصوص أساسية”، فقد أورد الكتاب المدرسي المذكور نصا أساسيا بالفعل لصمويل بوفندورف من كتابه ” واجبات الانسان والمواطن”، وعلى هامشه ثمان فقرات قصيرة من الكتاب نفسه لإضاءة النص المركزي
وقد قدم الكتاب لكل ذلك على النحو التالي:

مثل باقي منظري مدرسة الحق الطبيعي، يقول الفقيه الألماني صامويل بوفندورف بوجود “قانون طبيعي سابق على كل المواضعات الخاصة” وبهذا المعنى ستكون منهجية البحث عقلية مثالية صرفة، لأن اكتشاف هذا القانون الطبيعي يتم من خلال التأمل في مكونات الطبيعة الانسانية
ومن أجل تصور القوانين أو العقد الاجتماعي الذي سيختاره البشر لو استرشدوا بالعقل وحده، يتخيل بوفندورف – شأنه في ذلك شأن غروسيوس، هوبز،لوك، روسو،…إلخ – حالة طبيعة سابقة على حالة الاجتماع، حيث يفترض أن الناس عاشوا بدون أي نوع من المؤسسات

أما تحت باب “الدرس” فقد تناول الكتاب المدرسي مفهوم الحق من خلال ثلاث محاور:الحق والأخلاق-الحق الطبيعي والحق الوضعي- الحق والسياسة

2/

أما الكتاب المدرسي الفرنسي الثاني فهو:
philosophie, Terminal A et B, Hatier 1989
تحت إسراف
Laurence HANSEN-LOVE et Florence KHODDES .

وقد تناول هذا الكتاب مفهوم الحق عبر المحاور التالية:
-ما هو حق وماهو فعلي واقعي؛
-حق القوة: حيث تمت الإحالة على كاليكليس وميكيافيلي والنقد الروسوي المعروف؛
-تعدد وتعقد مصادر الحق والتشريع؛
-القانون كقاعدة للحق؛
-القانوني والمشروع؛
– “بأي حق؟” وفي هذا المحور بالضبط نعثر على مقولة “الحق الطبيعي”.
يقول الكتاب:
” عند تصديهم لمشكلة المرجعية والتأسيس، صاغ الفلاسفة مفهوم الحق الطبيعي، ووضعوه مقابل الأنساق الاصطناعية النسبية للحق الوضعي (…) وقد شكل مفهوم الحق الطبيعي دعامة لكل الحركات الاحتجاجية ضد الانظمة القائمة (…) وهذا ماعبرت عنه ديباجة إعلان 1789 (…)

ولم يفت مؤلفي هذا الكتاب المدرسي الإشارة إلى:

” أن مفهوم الحق الطبيعي مفهوم إشكالي، فكبير الأسماك محتم عليها بحكم الطبيعة أن ياكل صغيرها (…) كما قال اسبينوزا، فهل هذا هو الحق الذي ندعي تأسيسه؟ ألا يجدر بنا أن نقول مع كيلسن بأننا لانقبل بوجود معايير محايثة للطبيعة إلا إذا جعلنا هذه الأخيرة محلا لإرادة إلاهية”

3/

أما الكتاب الثالث فهو كتاب مغربي يحمل عنوان ” دليل مرجعي في مجال حقوق الإنسان” أصدرته وزارة التربية الوطنية بالاشتراك مع وزارة حقوق الإنسان، وقد صدر عن مطبعة المعارف الجديدة، بدون تاريخ

رب معترض يقول: بأن ” الدليل المرجغي..” ليس “مرجعا ” فلسفيا ! نعم، ولكنه دليل أصدرته نفس الوزارة التي أصدرت الكتاب المدرسي وكلا الكتابين موجهان للمتعلم ويطمحان في المساهمة في تكوين النشء في نفس المجال ” حقوق الإنسان”.

يقول هذا الدليل في الصفحة 137:
وأصحاب الإتجاه العقلي في مدرسة ( الحق الطبيعي) وضعوا نصب أعينهم تخليص الفلسفة السياسية من تأثير الكنيسة الكاثوليكية وكذا تأسيس الحق على الإرادة والعقل البشريين. كما أنهم جميعا تقريبا يقولون بفكرة العقد الاجتماعي بل إن أصحاب المدرسة التعاقدية ( هوبز – لوك -روسو) قد استعاروا منهم الكثير من الأفكار. ولعل هذين الاتجاهين يلتقيان في جعل العقل أساس الحق، وفي إفساح المجال للإرادة والفعل البشريين، وكذا في تأسيس كل من السلطة واللمجتمع على أساس التعاقد”

أما في الصفحة 135 فنقرأ:
” وبغض النظر عن الفروق التي تفصل بين رواد نظرية العقد الاجتماعي (بوفندورف- هوبز-لوك-روسو)، فإن بالامكان إبراز بعض السمات المشتركة (…)”ء

4/ خلاصة عامة:

أين هو إذن التعارض المزعوم بين حق طبيعي، حيواني، مختزل إلى حق القوة وحق ثقافي، إنساني؟
أين نعثر على ذلك التأويل الذي انفرد به الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة، والذي تم بموجبه إعلان “إفلاس مقولة الحق الطبيعي” لصالح “حق ثقافي” ؟
ألا نلاحظ أن قيمة مقولة الحق الطبيعي في الفلسفة السياسية لاتدرك إلا بوضعها في تقابل مع أو على ضوء نظرية الحق الإلاهي أولا، ثم على محك الحق الوضعي، وكذا تيار الوضعية القانونية ممثلا في هانز كيلسن؟
هذا ما سنفصل فيه القول في الجزء الموالي من بحثنا

Facebooktwitterredditmailby feather

مفهوم “الحق”في درس الفلسفة-عشر سنوات من الالتباس1

مفهوم "الحق"في درس الفلسفة:عشر سنوات من الالتباس
الجزء الأول الجزء الثاني الجزء الثالث الجزء الرابع

الجزء الأول: من المعرفة العالمة إلى المعرفة المدرسية: مخاطر الالتباس

تحاول هذه المقالة أن تقف – من خلال مثال ملموس- عند إشكالية " وضع المعرفة الفلسفية داخل الدرس الفلسفي"

بشيء من الكاريكاتورية الدالة، يمكن أن نزعم بأن كل ما يبقى عالقا بذهن المتعلم من نظرية الحق الطبيعي الثورية هي صورة (وفكرة) الأسماك الكبيرة وهي تلتهم الأسماك الصغيرة الواردة في الصفحة 175 من الكتاب المدرسي للفلسفة، السنة الثانية من الشعبة الأدبية!! بالإضافة إلى فكرة أخرى، مجردة وغامضة، عن الإلزام والإلتزام…

عند نقل المعرفة من المستوى " العالٍم" إلى المستوى " المدرسي"،تحدث بالضرورة أشكال متعددة من التبسيط والاجتزاء والتقطيع وإعادة بناء وترتيب للمتن المعرفي موضوع " التحويل الديداكتيكي". ولاشك ان كل مادة دراسية تعالج مشاكل التحويل بطريقة الخاصة، بيد أن التحويل الديداكتيكي في مادة الفلسفة بالذات يواجه اكثر من غيره تحديات ومحاذير كثيرة بسبب شساعة وتنوع المتن المعرفي الممتد دياكرونيا عبر تاريخ الفلسفة الطويل وسانكرونيا غبر التنوع الهائل للمذاهب والأنساق الفلسفية، يضاف إلى ذلك تعدد القراءات والتأويلات التي يخضع لها المذهب الفلسفي الواحد
نود في هذه المقالة أن نسلط الضوء على حالة " تحويل ديداكتيكي" أفضت طوال عشر سنوات – وهي مدة المقرر الدراسي الذي انتهى عمره الافتراضي هذه السنة – أفضت إلى التباسات بل وتناقضات معرفية كثيرة، حرمت الفلسفة من الاطلاع الفعلي بوظيفتها التنويرية كأحد الفضاءات المتميزة للتربية على القيم، كما فوتت على المتعلمين فرصة الخروج بتصور للحق، واضح ومفيد من وجهة نظر أخلاقيات المواطنة،

يتعلق الأمر بدرس الحق وهو الدرس الثامن في ترتيب الدروس التي يحتويها الكتاب المدرسي للسنة الثانية من سلك الباكالوريا، هذا الكتاب المدرسي الذي ينفرد عن غيره من الكتب المدرسية – الفرنسية تحديدا والتي كثيرا ماحاكى تصوراتها وترسيماتها وطريقة بنائها الإشكالي في الكثير من الدروس – انفرد عنها هذه المرة بتقديم تصور فلسفي للحق وبالأخص لمقولة " الحق الطبيغي" ،نجمله في ما يلي:
"الحق الطبيعي، كما نجده عند كل من هوبز واسبينوزا، هو ذلك الحق الذي لايراعي من الماهية الإنسانية سوى بعدها البيولوجي الحيواني أي الأهواء والغرائز ، وبناءا عليه لابد من تجاوزه بحق ثقافي يستحضر، هذه المرة، المكون العقلاني والأخلاقي كالذي عبر عنه روسو
على الأقل هذا ماانعكس بشكل مرآوي في التآليف الموازية التي تملأ الأسواق وكذا في الملخصات المدرسية التي يمكن للمرء أن يعاين صداها وهو يقوم بتصحيح اوراق المترشحين القادمة بالضرورة من مدن أو مناطق أخرى
لن يفوت القارئ الحصيف طرح الأسئلة التالية:
هل فعلا يؤسس كل من هوبز واسبينوزا الحق على ماهو طبيعي (المختزل هنا إلى القوة !) في مقابل روسو الذي يؤسسه على ماهو ثقافي (أي التعاقد)ء؟
هل يطابق هوبز واسبينوزا بين الحق الطبيعي وحق القوة والعنف والعدوان؟ والأخطر من ذلك هل ينظران لهذا الحق ويثمنانه ويرفعانه إلى مستوى المرجعية والمثل الأعلى مثلما يرفع روسو العقد الاجتماعي إلى مقام المثل الأعلى والفعل المؤسس للحق؟
ألا تنسحب عبارة "فلاسفة الحق الطبيعي" على روسو مثلما تنسحب على هوبز واسبينوزا ؟ وبالمقابل ألا ينسحب تعبير " فلاسفة العقد الإجتماعي" على هوبز واسبينوزا مثلما ينسحب على روسو؟

ومن أجل استحضار الوزن الحقيقي لمقولة الحق الطبيعي وقوتها النظرية في تاريخ الفلسفة السياسية، وكذا قوتها التحريضية الاحتجاجية في التاريخ السياسي، من خلال تصدرها لأكثر من إعلان من إعلانات حقوق الإنسان، هل ينبغي أن نقابل الحق الطبيعي بالحق الثقافي؟ أم بالحق الإلاهي اولا ثم بالحق الوضعي ثانيا؟ وإلا كيف نفهم النقد الموجه لمقولة الحق الطبيعي من طرف الوضعية القانونية؟

يتبع…

Facebooktwitterredditmailby feather

منزلة ” الوضعية المشكلة” في الكتاب المدرسي

منزلة “الوضعية المشكلة في الكتاب المدرسي أو في شروط الوضعية المشكلة ووظائفها البيداغوجية

أخدت بيداغوجيا الوضعية-المشكلة تتبوأ شيئا فشيئا مكانة مهمة داخل بنية الكتب المدرسية الجديدية لمادة الفلسفة، لمواكبة التغييرات التي طرأت على المناهج الدراسية والتوجهات التربوية العامة كما وردت في الكتاب الأبيض. وسنتوقف هنا عند تجربة كتاب “في رحاب الفلسفة” على أساس أن نستخلص منها ما يمكن أن يساهم في التحديد الدقيق لخصائص ووظائف الوضعية-المشكلة في درس الفلسفة

ماليس وضعية مشكلة:
بذل مؤلفوا الكتاب المدرسي (رحاب الفلسفة) بدون شك جهودا محمودة في إخراج كتاب مدرسي يراعي شكلا ومضمونا المستوى المعرفي والخصائص السيكلوجية للذين يتوجه إليهم الكتاب، ويقطع مع تصور “الأبراج العاجية” التي تمترس خلفه سلفه السابق ؛ بيد أنهم سقطوا -فيما يتعلق بالوضعية المشكلة – في نوع من التنميط الذي لامبررر له:
فقد اختزلت الوضعيات المشكلة المستهلة للدروس في صيغة نصية “عالمة” تمثلت في مقتطفات من كتب تنتمي إلى سجلات أدبية وجمالية تحتاج بدورها إلى “توسط” بيداغوجي لفهمها من قبل المتعلمين واستيعاب دلالاتها فما بالك بإدراك الاستشكالات الثاوية خلفها: إن نصوص جبرا ابراهيم جبرا ومحمد برادة وخليل المرابط وأحمد عيدون الباحث في التراث، تعني الشيء الكثير للمطلع، ولكنها “لاتقول” شيئا لمتعلمين مبتدئين، خصوصا وأنها ليست نصوصا للتحليل ترد كمثيلاتها أثناء البناء الإشكالي للمفهوم. حيث يفترض التوقف عندها وتقريب دلالاتها من أفهام المتعلمين
ومن واقع تجربتنا الفصلية المتواضعة، نستطيع أن نزعم انها لاتضع المتعلم في أية وضعية مشكلة حقيقية، ومقلقلة تستنفر مداركه وتعلماته السابقة، وتدفعه إلى الإنخراط الفعال في عملية التعلم الذاتي بحثا عن حلول للوضعية.. وبالمقابل فإن نص السفير-الرحالة ادريس العمراوي مثلا حيث يصف بكل اندهاش “البابور” أي القطار البخاري أثناء رحلته إلى باريز حوالي سنة 1867 – هذا النص يثير بالفعل نواة وضعية مشكلة لأن بإمكان المتعلم أن يتمثل الموقف ويضع نفسه مكان سلفه , وهو وفي وضعية “صدمة التقنية”!
مواصفات الوضعية المشكلة:
إن المستهدف بيداغوجيا من الوضعية المشكلة، وبكل بساطة، هو أن “تضع” المتعلم “في مشكلة” !
ولن يتأتى ذلك مثلا بنص جبرا ابراهيم جبرا وهو يصف تجربة وجودية رفيعة ينذر أن يعيشها المتعلم على الأقل بالألفاظ التي قدمت بها في النص؛ صحيح أن نص برادة يقدم تجربة “طازجة” من تجاويف الذاكرة حيث يمتزج الحنين إلى الأم بصور إيروسية، ولكن ماهي الوضعية المشكلة المقلقة والمحرجة هنا؟
إن وضعية مشكلة في الرياضيات لن تكون سلسلة معادلات رياضية عددية، وإنما على سبيل المثال، مشكلة البقال وهو يحاول أن يقسم شيئا بين زبونتين؛ وفي حصة للفيزياء عن الكتلة الحجمية، لن تكون الوضعية-المشكلة نصا من كتاب نيوتن بل وضعية نريد ان نعرف فيها الحليب المغشوش من الخالص!
أريد ان أخلص من كل ما سبق إلى انه لابد للوضعية-المشكلة:

  • أن تكون أولا – “وضعية” أي موقفا أو تجربة حياة يمكن للمتعلم بكل يسر أن يدركها في كليتها وأن يختبرها أو يتماهى مع صاحبها، وليست تأملات لأن التأملات خلاصة تجربة وليست تجربة في بعدها الخام الأول au premier degré
  • – أن تكون ثانيا “مشكلة” أي أن تكون إما مأزقا منطقيا (مفارقة) أو مأزقا سيكلوجيا (حيرة وإحراج) يطرح نفسه بإلحاح بحيث لايمكن للتلميذ ان يتخد إزاءه موقف اللامبالاة، بل يسارع إلى الانخراط في لعبة البحث عن الحل!
    ولاشيء يشحذ همة الفكر ويزعجه ويوقظه من سباته ونزوعه التلقائي إلى الكسل واللامبالاة أفضل من المفارقات والمواقف المحرجة.
Facebooktwitterredditmailby feather